أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث قانونية - أنس المرزوقي - مراحل بناء الإتحاد الأوروبي















المزيد.....



مراحل بناء الإتحاد الأوروبي


أنس المرزوقي

الحوار المتمدن-العدد: 4333 - 2014 / 1 / 13 - 04:17
المحور: دراسات وابحاث قانونية
    


تعتبر الوحدة الأوروبية أولاً وقبل كل شيء مشروع فكري تبلور في أذهان مفكرين وحكماء وفلاسفة وفقهاء ورجال قانون ومصلحين اجتماعيين، قبل أن يتحول إلى مشروع سياسي تسهم في بنائه مؤسسات تحظى بدعم رؤساء الدول والحكومات وقطاع كبير من النخب السياسية والاقتصادية والاجتماعية في مختلف الدول الأوروبية. هذا المشروع لم يظهر فجأة في صورة نص متكامل قابل للتطبيق على أرض الواقع، وإنما تبلور تدريجياً، وعلى مدى قرون طويلة، من خلال رؤى فكرية في البداية، تباينت دوافعها وأهدافها كما تباينت مضامينها وما انطوت عليه من وسائل وآليات لحل الإشكاليات والعقبات المتوقعة على طريق الوحدة. وشكلت هذه الرؤى مخزوناً نهلت منه النخبة السياسية عندما بدأت الظروف العالمية والإقليمية والمحلية تنضج. وبعد ذلك تتحول الفكرة إلى مشروع سياسي قابل للتطبيق على أرض الواقع، من خلال التجربة والخطأ، للتكيف مع الظروف والمتغيرات. ففكرة توحيد أوروبا تعود لأول مرة إلى عصر النهضة الأوروبية، في الوثيقة التي حملت اسم "تراكتاتوس" (Tractatus)، وكتبها في عام 1474 ملك بوهيميا "بوديبراد" (Podiebrad)، بعد 11 عاماً من سقوط القسطنطينية في أيدي الأتراك، من أجل مواجهة الإمبراطورية العثمانية. وقد طالب الملك البوهيمي بوضع ميثاق عدم الاعتداء بين الشعوب المسيحية، وإقامة سلطة قضائية ذات صلاحيات ونوع من البرلمان يضم الدول الأعضاء، وقد كان الباعث الأوضح لهذا المشروع الفكري الوحدوي الأوروبي في ذلك الوقت "دينياً" أي محاولة تقوية الغرب المسيحي في مواجهة الشرق الإسلامي، بالإضافة إلى الصراع المحتدم بين السلطة الروحية، التي كان يجسدها رأس السلطة الروحية الممثلة في "البابا"، والسلطة الزمنية التي كان يجسدها رأس الدولة ممثلاً في الإمبراطور أو الأمراء والملوك. واقترح بعد ذلك القس "دو سان بيار" (De Saint – pièrre) المفوض الفرنسي، الذي كان له دور كبير في وضع معاهدة "أوترخت" (Utrecht) 1713 – 1715، " مشروعاً لإقامة سلام دائم في أوروبا، ومشروعاً لإقامة سلام دائم بين الملوك المسيحيين". وجاء المفكر الفرنسي المعروف "جان جاك روسو" (Jean-Jacques Rousseau) ليكمل ما بدأه القس "دو سان بيار"، إذ دعا في كتابه "الحكم في السلام الدائم" الذي كتبه عام 1782، إلى إقامة فدرالية أو كونفدرالية بين الأمراء الأوروبيين.
وواصل المفكرون في أوروبا في القرن التاسع عشر، دعواتهم إلى إقامة أوروبا الموحدة، فقد دعا "كلود هنري دو سان سيمون" (Claude Henri de Saint-Simon) في عام 1814، في رسالة وجهها إلى برلمانيي فرنسا وإنجلترا تحت عنوان: "حول إعادة تنظيم المجتمع الأوروبي"، إلى إقامة محور بين باريس ولندن يكون على شكل كونفدرالية تعمل على توسيع نطاقها إلى أنظمة برلمانية أخرى، مع برلمان أوروبي يكون له دور المحرك في إعادة توحيد القارة الأوروبية. وجاء اقتراح الأديب الفرنسي المعروف "فيكتور هيغو" (victor hugo) في عام 1849 ليكمل ما بدأه الآخرون، فقد وجه هيغو خطاباً في مؤثمر السلام المنعقد في باريس يدعو فيه إلى إقامة "الولايات المتحدة الأوروبية" وإقامة مجلس شيوخ كبير مستقل يكون لأوروبا بمثابة ما هو البرلمان بالنسبة إلى إنجلترا. وتنبأ الشاعر الفرنسي أنه: "سيأتي يوم تمتزج فيه كل أمم القارة، وتنصهر في علاقة وثيقة داخل إطار وحدة أرقى، لكي تصنع الإخاء الأوروبي دون أن تفقد أية أمة خصائصها المميزة وملامحها وسماتها الرائعة التي تنفرد بها، وسيأتي يوم لن تكون فيه ميادين للمعارك أو القتال سوى الأسواق المنفتحة على الأفكار. كما سيأتي يوم تختفي فيه القذائف والقنابل، لكي تحل محلها أصوات الناخبين". وعادة الفكرة من جديد، بعد الحرب العالمية الأولى، لإقامة تعاون مشترك بين الدول الأوروبية، عندما دعا الكونت النمساوي "ريتشارد كودنهوف - كاليرجي" (Richard Coudenhove – Kalergi) عام 1923، إلى إنشاء الولايات المتحدة الأوروبية على غرار الولايات المتحدة الأمريكية، ونشر كتاباً أسماه: "بان – أوروبا Paneuropa"، وجال الأقطار الأوروبية ليسوق أفكاره التي جاءت في كتابه الداعي إلى إقامة الوحدة الأوروبية. ونتيجة لذلك، عقد في فيينا عام 1926، المؤتمر الأول للإتحاد الأوروبي، والذي شارك فيه 2000 مندوب من 24 دولة أوروبية، ووافق المؤتمر على وضع الخطوط العريضة لتنظيم فدرالي لأوروبا. وعاد المشروع إلى البحث من جديد، بعد الحرب العالمية الثانية، حيث عقد مؤتمر في "مونترو Montreux" في عام 1947، ضم حركات محافظة وديمقراطية ومسيحية واشتراكية، دعا فيه المؤتمرون إلى إقامة "ولايات متحدة أوروبية". ومهد مؤتمر منترو إلى عقد مؤتمر أخر عقد في لاهاي في شهر مايو 1948، حضره أكثر من ألف مشارك من ضمن المشاركين الرئيس الفرنسي السابق "فرانسوا ميتران" (François Mitterrand)، والمفكر الفرنسي المعروف "ريمون آرون" (Raymond Aron)، ويعتبر هذا المؤتمر الحجر الأساس في إنشاء المجلس الأوروبي، بعد عام على انعقاده، وهو الذي فتح الطريق أمام إنشاء الجماعة الأوروبية للفحم والصلب عام 1951، إذ دعا وزير خارجية فرنسا "روبرت شومان" (R.Schuman) إلى إنشائها، بناءاً على اقتراح من أحد مستشاريه، وهو "جان مونيه" (Jean monnet)، الذي أعتبر الأب الروحي لفكرة الاندماج الأوروبي. فقد وجد "مونيه" أن فرنسا التي خرجت ضعيفة بعد الحرب العالمية الثانية، لا تستطيع أن تنهض وحدها من دون التعاون مع الدول الأوروبية الأخرى. ولهذا فقد وجد أن إقامة سوق أوروبية مشتركة بين الدول الأوروبية، بشكل تدريجي، سيساهم في حل مشاكل التنمية ورفع مستوى المعيشة في أوروبا. ووقعت معاهدة لإنشاء الجماعة الأوروبية للفحم والصلب في باريس شهر أبريل 1951، ضمت فرنسا وألمانيا وهولندا وبلجيكا واللوكسمبورغ وإيطاليا. وعقد "مؤتمر ميسين Messine" في يونيو عام 1955، الذي مهد الطريق إلى عقد "اتفاقية روما في 25 فبراير 1957"، التي أنشأت "الاتحاد الاقتصادي الأوروبي" و"الإتحاد الأوروبي للطاقة الذرية" بين ست دول أوروبية. وأصبح يطلق عليها "المجموعة الاقتصادية الأوروبية". وتطورت بذلك فكرة الفرنسي "جان مونيه" للتعاون الأوروبي من مجموعة الفحم والصلب، إلى سوق أوروبية مشتركة تضم ست دول، ثم تسعاً، ولاحقاً اثني عشرة دولة، إلى تشكيل الإتحاد الأوروبي الذي يضم سبعاً وعشرين دولة بموجب إتفاقية ماستريخت التي وقعت في هولندا في 10 ديسمبر 1992، والتي اعتبرت من أهم الاتفاقيات بسبب ما نصت عليه من وحدة سياسية واقتصادية أوروبية، فقد ساهمت في توسيع مفهوم الوحدة السياسية عن السوق الأوروبية التي كانت موجودة من قبل. وتم بمقتضاها تجميع مختلف الهيئات الأوروبية ضمن إطار واحد هو الاتحاد الأوروبي الذي أصبح التسمية الرسمية للمجموعة.
وتبقى عملية تطوير البناء من أبرز سمات التجربة الأوروبية، والتي تحولت فيها من سوق تجارية إلى مجموعة اقتصادية سياسية ثم إلى اتحاد. ونجحت في تقديم رؤى سياسية قادرة على التأثير في كل مرحلة، ودفعها إلى الأمام بصورة لم تكن نقطة البداية التي انطلقت منها تبشر بالوصول إلى الخطوة التالية. وهذا ما سنحاول في هذا المقال التركيز عليه، أي محاولة الاقتراب من الآليات الداخلية التي صنعت التجربة الأوروبية وساهمت في نجاحها، وكذا إلقاء نظرة شاملة على الهيكل التنظيمي والبنية المؤسسية التي لعبة دوراً مهماً في تقوية الإتحاد وتطويره، والتي أصبحت تشكل نواة لنظام سياسي ديمقراطي، تتكامل فيه السلطات الثلاث، التشريعية والتنفيذية والقضائية. ولتفصيل ذلك وتوضيحه فقد ارتأينا تقسيم هذا الموضوع إلى محورين:
المحور الأول : الإتحاد الأوروبي النشأة و دواعي التأسيس
المحور الثاني: الهيكل التنظيمي و البنية المؤسسية
المحور الأول : الإتحاد الأوروبي النشأة و دواعي التأسيس
إن أي دراسة للإتحاد الأوروبي لا يجب أن تغفل المراحل التاريخية التي مرت بها التجارب الوحدوية الأوروبية، ونعني بذلك اللبنات الأولى التي ساهمت في وضع أسس للبناء الوحدوي، وتلك الخيارات الأساسية و الأفكار الدافعة للشعوب الأوروبية نحو تحقيق الوحدة السياسية المنشودة. لقد اختارت الأمم الأوروبية بعد نهاية الحرب العالمية الثانية دخول مرحلة قوامها البحث عن التوافقات الإقليمية، وإعمال التجارب السياسية الكفيلة بتوسيع الرقعة الجغرافية الأوروبية وتحويلها إلى فضاء جغرافي وسياسي موحد، تختار في ظلاله الشعوب و الحكومات الأوروبية سبيلاً تنموياً واندماجاً اقتصادياً يضع بصورة نهائية حداً للنزاعات الترابية، وإزاحة شبح الحروب المدمرة من القارة الأوروبية.
تقتضي دراسة هذا المحور بطبيعة الحال العودة إلى المراحل التاريخية الأولى التي مهدت لفكرة الوحدة الأوروبية في صيغها الأولى ومراحلها التمهيدية وفي بعدها الاقتصادي )أولاً(، وقد أصبح من الطبيعي لدى كل دارس الوقوف في دراسته عند هذه المراحل التاريخية لرصد أصول نشأة اتحاد الجماعات الأوروبية، وفهم كل دوافع التأسيس عند الأوروبيين، لأن هذه المرحلة تعتبر مما لا شك فيه مرحلة الانطلاقة للبناء الوحدوي الأوروبي. بيد أن تلك اللبنات الأولى تطلبت بناءاً وحدوياً أكثر تماسكاً، صنعته الجهود المبذولة خلال العهود الأولى للانتقال بالنظام الأوروبي نحو جيل ثاني من البناء الوحدوي )الثانياً(، جعلت لبناته متماسكة تمنح الشعوب الأوروبية أكثر من أي وقت مضى أمالاً أكثر واقعية لبلوغ الوحدة السياسية التي ستنصهر فيها كل مظاهر السيادة الوطنية، التي ما فتئت الدول الأعضاء تتمسك بها خلال مراحل النشأة، و تظل الطريق على الشعوب الأوروبية نحو الاندماج في ظل اتحاد أوروبي أوسع.

أولاً : المراحل التاريخية التي مهدت لفكرة الوحدة الأوروبية
نشأت التطلعات الأولى لتأسيس وحدة أوروبية مباشرة بعد نهاية الحرب العالمية الأولى بفعل الدمار والخراب الذي لحق القارة الأوروبية من جرائها، إذ انطلقت النخب السياسية الأوروبية تفكر في سبل جديدة لجبر أضرار الدمار بالبحث عن فضاءات سياسية في النطاق الأوروبي لإقامة تعاون سياسي وإيجاد مجالات تجارية لإنعاش التبادل الاقتصادي بين الدول الأوروبية. وإذا كانت الحرب العالمية الأولى قد وسعت من نطاق فكرة الوحدة، فإن حدود هذه الوحدة وكيفية وآلية تحقيقها ورسم علاقتها بالسيادة الوطنية كانت محل جدل كبير أدى إلى بروز العديد من الاتجاهات. لذلك فمن الضروري دراسة المشاريع الوحدوية المقترحة، قبل الإنتقال إلى التطرق لمرحلة تأسيس الجماعات الأوروبية المشتركة.
1 : المشاريع الوحدوية المقترحة
أعلن القادة الأوروبيون ورجال السياسة خلال هذه المرحلة عن مشاريع سياسية تتوخى خلق علاقات التعاون في الحقول الاجتماعية والسياسية للحيلولة دون عودة انفجار الخلافات الحدودية والنزاعات الترابية بين الأقطاب الأوروبية واشتعال القضايا السياسية التي حولت هذه الأقطار إلى مسرح للنزاعات المسلحة.
أ : مشروع كلرجي Projet Kalergi:
هو المشروع الذي يحمل اسم صاحبه "نيكولاس كراف كلرجي" الذي طرح من خلاله خطة لتحقيق الوحدة الأوروبية على مراحل أربع، الأولى: تتمثل في الإعداد وعقد مؤثمر أوروبي لتأكيد الإيمان بالوحدة وبيان أهميتها، والثانية: لإبرام معاهدة تستهدف إقامة نظام أوروبي ملزم للتحكيم تلجأ إليه الدول الأوروبية لحل خلافاتها، والثالثة: لإقامة إتحاد جمركي بين الدول الأوروبية، والرابعة: لبلورة وصياغة وإعلان دستور أوروبي يتوج الوحدة الأوروبية ويجسدها.
ب : مشروع سترسمان Projet stresemann:
تتلخص آراؤه في الدعوة إلى إعادة إدماج ألمانيا في حظيرة الدول الأوروبية. وتجدر الإشارة إلى أن "سترسمان" قد تقلد في ألمانيا ما بين 1923 – 1926 – 1929 عدة مناصب سياسية نجد على رأسها منصبي المستشار الألماني ووزير خارجية ألمانيا.
ج : مشروع بريان أرستد Projet Briand Aristide:
جاء هذا المشروع كفكرة صادرة عن الوزير الأول الفرنسي سنة 1929 وذلك في خطاب ألقاه أمام الجمعية العامة لعصبة الأمم حيث أعلن في هذا الخطاب عن مشروع سياسي يرمي إلى وضع حد للنزاعات التقليدية المسلحة بين فرنسا وألمانيا، وذلك كمرحلة أولى بإقامة محور يضم الدولتين، على أن تنبثق عنه مستقبلاً فدرالية للدول الأوروبية قادرة على تنظيم أفاق للتعاون السياسي والاجتماعي فيما بينها والانشغال بالنمو الاقتصادي. وبذلك أصبح أول مسؤول رسمي أوروبي يدفع بالفكرة الأوروبية من ساحة الحوار والجدال الفكري في أوساط النخبة إلى طاولة المفاوضات الرسمية بين الدول.
ح : اتفاقية لوكارنو Traité de Lucarno:
هو اتفاق لتحديد الحدود الغربية لألمانيا، انعقد بين بلجيكا – انجلترا – إيطاليا وألمانيا، حيث نصت هذه الوثيقة إضافة إلى ذلك على توصيات تحث الدول الأوروبية الأربعة على حل النزاعات الدولية بالطرق الودية.
ومن الأكيد أن المشاريع السابقة الذكر ظلت مجرد طموحات تعبر عن رغبات نخبة من السياسيين الأوروبيين، تحمل في طياتها طموحات لنسج روابط الوحدة السياسية بين الأوروبيين على أسس التعاون والتكامل السياسي، إلا أن هذه المحاولات لم يكتب لها التطبيق على أرض الواقع، وإنما اعترض سبيلها واصطدمت أفكارها النظرية بالجدار المنيع الذي شيدته النازية والفاشية كحاجز أحبط كل محاولات التعاون السلمية والبناءة بين الأقطار الأوروبية، مما أدى إلى قيام الحرب العالمية الثانية.
لقد أدت نهاية الحرب العالمية الثانية نتيجة ما خلفته من دمار فوق أرض القارة الأوروبية، وما لحق بشعوبها من تدني في مستوى المعيشة وانهيار للقواعد الاقتصادية بالدول الأوروبية إلى فقدان زعامتها الدولية وضعف قوتها الاقتصادية والعسكرية كدول عظمى، حيث تأثرت اقتصادياتها من نتائج الحرب وأخذت هذه الدول تعيش أوضاعاً مزرية، وتعاني من أزمات خانقة إن على مستوى الإنتاج أو الاستثمار، جعلتها غير قادرة على مسايرة ركب التطور الدولي، ومنافسة القدرات الاقتصادية الهائلة للولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفياتي، اللذان ألت إليهما الزعامة الدولية نتيجة نموهما الصناعي والاقتصادي السريع وما راكمه هذا النمو من اتساع دائرة نفوذهما السياسي في العالم، وانفرادهما بالتفوق العسكري على غيرهم من الأمم، فنشأة بفعل هذه الوضعية تطلعات سياسية في القارة الأوروبية تبحث عن أساليب سياسية، وتسعى نحو استغلال موارد اقتصادية جديدة تمكنها من وضع لبنات صعبة للتعاون القاري وللبناء الوحدوي الأوروبي.
2 : مرحلة تأسيس الجماعات الأوروبية
يمكن اعتبار الفترة الواقعة ما بين 1952 – 1969 فترة النشأة والبناء بالنسبة للوحدة الأوروبية، رغم معرفة هذه التجربة في انطلاقتها الأولى بعض الصعوبات التي برز تأثيرها على مسار البناء الوحدوي. ويرد ذلك أساساً إلى التأثير الشخصي لرؤساء الدول الأوروبية الذين قادوا دولهم خلال هذه المرحلة، كما يمكن إرجاع الأمر في أحيان أخرى، إلى عدم التوافق بين الأقطار الأوروبية وعدم انسجام رؤاها حول السياسة الزراعية الأوروبية الموحدة، خاصة الخلاف الفرنسي الإنجليزي.
وخلال مرحلة التأسيس تميزت العلاقات الخارجية للجماعات الأوروبية باستقرار نسبي وسير عادي، كما سادة أقطار الإتحاد رؤية سياسية تستجيب لضرورة إعادة هيكلة النظام الأوروبي عقب نهاية الحرب العالمية الثانية، من منطلق نظام جماعي ينشد خلق ثلاث اتحادات أوروبية على شاكلة جماعات متخصصة في مجالات تنموية تهم السوق الأوروبية الموحدة، ومجال الطاقة الذرية، فضلاً عن انشغال ذات الرؤية بميدان الصلب والفحم، كقاعدة اقتصادية صلبة تشكل قاسماً مشتركاً للتكامل التنموي الوحدوي، يربط بين مجموعة من الدول الأوروبية.
فالمجموعات الأوروبية أنشئت لتسهيل عملية توحيد أوروبا لأن عملية الوحدة في الدول الديمقراطية لا تتم دفعة واحدة أو باتخاذ قرار واحد، بل تتم تدريجياً بتحقيق إنجازات واضحة من شأنها أن توحد بين دول القارة تضامناً حقيقياً.
أ : تأسيس الجماعة الأوروبية للفحم والصلب (C.E.C.A):
بدأ الانشغال بتوسيع الفضاء الأوروبي من كيانات وطنية تحكمها تنظيمات الدولة الوطنية إلى كيان وحدوي جامع تذوب في طياته تدريجياً جميع مظاهر النزاعات القومية المتمسكة بالسيادة الوطنية في مطلع الخمسينات من القرن العشرين، مع نيل الحقل الصناعي والطاقوي لدى الدول الغربية أولوية عن المجالات الإنتاجية الأخرى، ذلك أن المتطلبات الأوروبية بعد نهاية الحرب العالمية الثانية أضحت تقتضي تقوية النسيج الصناعي والطاقوي كأسس منيعة لبناء الجماعة الأوروبية. هذا فقد ولدت فكرة تأسيس أول جماعة أوروبية للصلب والفحم في 9 مايو 1950، بمقتضى التصريح الذي تقدم به السيد "روبر شومان R.schoman" الذي أعده بكل عناية وفي منتهى السرية بمساعدة نخبة من السياسيين والخبراء من بينهم السيد "جون موني Jean monnet" المندوب السامي الفرنسي للتخطيط والتحديث والتجهيز، وبمساعدة "إتيان إرش Etienne hirsch" الخبير في عالم الاقتصاد، و"بير أوري Pierre Uri"، وأستاذ القانون الدولي العام "بول رويتر Paul Reuter"، وقد فضل شومان التقدم بتصريحه أمام الصحافة الوطنية والدولية مساء 9 أبريل 1950 تحسباً لأي إخفاق قد يصاب به المشروع أثناء المفاوضات بين الدول الأطراف. هذا ولم يتوصل المستشار الألماني "كونراد أدناور Konrad Adenauer" بالمشروع الفرنسي سوى في 9 مايو 1950 بواسطة رسالة حملها إليه أحد الساعدين الأقربين للسيد شومان، كما حصل مشروعه على دعم ومصادقة مجلس وزراء الحكومة الفرنسية. وبعد ذلك أخبرت حكومات كل من إيطاليا وبلجيكا وبريطانيا ولوكسمبورغ بمقتضيات المبادرة الفرنسية.
وتتمثل الأسس التعاونية التي أقام عليها وزير خارجية فرنسا صرح هذا التنظيم في منح الهيئة العليا المشتركة لإدارة الفحم والصلب عدة صلاحيات تقريرية ملزمة في مواجهة الدول الأعضاء، تجعل الهيئة العليا تضطلع بالمهام التالية:
-;- تطوير وتحديث إنتاج الفحم والصلب.
-;- الرفع من جودة المعدنين.
-;- تزويد فرنسا وألمانيا بمادتي الفحم والصلب بشروط متساوية ودون تمييز بين الدولتين فيما يخص احتياجاتهما من المعدنين.
-;- إحداث نظام مشترك لتصدير الفحم والصلب نحو أسواق الدول الغير الأعضاء.
-;- المساواة بين عمالة الوحدتين الإنتاجيتين بخصوص ظروف العمل والإنتاج.
-;- تحرير التعريفة الجمركية وحقوق الجمرك المفروضة على تسويق المعدنين في جميع أسواق الدول الأعضاء.
هذا وقد أفضى تصريح شومان إلى انطلاق المفاوضات الأولى في 10 يوليوز 1950 لإرساء الدعائم الأولى للتنظيم الجماعي الأوروبي في العاصمة الفرنسية باريس، على أساس وثيقة عمل أعدها الوفد الفرنسي. وبعد عدة مفاوضات بين الأطراف الأوروبية استمرت زهاء سنة تم التوقيع في 18 أبريل 1951 في العاصمة الفرنسية باريس على المعاهدة المحدثة للجماعة الأوروبية للفحم والصلب، التي دخلت حيز التنفيذ في 25 يوليو 1952 على أن يمتد العمل بمقتضياتها مدة 50 سنة. وتجدر الإشارة في هذا الموضوع أن بريطانيا رفضت التوقيع عليها لمعارضتها الانضمام إلى حظيرة الجماعة الأوروبية للفحم والصلب. ويبدو أن رفض الحكومة البريطانية لتصريح السيد شومان فرضته الحسابات السياسية للحكومة الإنجليزية التي رأت في الانضمام إلى هذه الجماعة، تنازل عن حيز هام من سيادتها، وهو الأمر الذي ظلت بريطانيا متمسكة به حتى تاريخ انضمامها إلى السوق الأوروبية المشتركة عام 1973.
ورغم الباعث الاقتصادي، فإن اتفاقية باريس حسب استنتاجات المختصين في مجال الدراسات السياسية الأوروبية، قد فرضتها أساساً الدوافع السياسية. ذلك أن فرنسا كانت ترى في التكامل الصناعي الأوروبي الذي ستوفره معاهدة باريس عاملاً لوضع حد إلى الأبد للحروب الفرنسية الألمانية. وأكثر من ذلك، يحق لنا القول أن مشروع تأسيس الجماعة الأوروبية للفحم والصلب هي منهجية جديدة للبناء الأوروبي.
وتزامن إنشاء الجماعة الأوروبية للفحم والصلب مع فكرة أخرى طرحتها فرنسا وهي إنشاء "مجموعة الدفاع الأوروبي". فمع تزايد التوتر في العلاقات بين الشرق والغرب، واندلاع الحرب الكورية بدأت الولايات المتحدة الضغط على الدول الأوروبية للقبول بفكرة إنشاء جيش ألماني للمساهمة في الدفاع عن المعسكر الغربي، وهي فكرة كانت تلقى رفضاً من العديد من الدول الأوروبية وبخاصة فرنسا. وللخروج من هذا الموقف أقترح رئيس الوزراء الفرنسي "رينيه بيلفن" إنشاء "مجموعة الدفاع الأوروبي" وكان الاقتراح يقوم على ضم كل الجيش الألماني مع بعض القوات من الدول الأوروبية الأخرى في إطار أوروبي فوق قومي. ولكن هذه الفكرة لم تولد لأن البرلمان الفرنسي رفض في غشت عام 1954 هذا المشروع لما يشكله من قيود على السيادة الفرنسية في مجال الدفاع، كما رفضت فكرة أخرى لتحقيق تعاون في مجال السياسة الخارجية في إطار ما عرف "بالمجموعة السياسية الأوروبية".
ب : تأسيس جماعة السوق الأوروبية المشتركة (C.E.E):
على إثر فشل محاولة إحداث الجماعة الأوروبية للدفاع المشترك بين الدول الأوروبية في عام 1954، تسرب نوع من اليأس إلى نفوس قادة الدول المؤسسة لجماعة الصلب والفحم ، وقلق البعض الأخر منهم على مستقبل تلك الوحدة ، إلا أن انطلاق سلسلة من المباحثات سنة 1955 في مدينة ميسان MISSINE، سوف تعيد الأمل لهذه الدول. إذ أصبح جلياً أن هدف ووظيفة تلك المفاوضات هو التخطيط لميلاد جماعتي السوق الأوروبية المشتركة والمنظمة الأوربية للطاقة الذرية.
جاء تأسيس الجماعتين المذكورتين إثر سلسة من المباحثات في العاصمة البلجيكية بروكسل BRUXELLES حيث انطلقت المبادرات الأولى في شهر يونيو 1955 ضمن لجنة من الخبراء ينتمون إلى الدول الستة الأعضاء الذين اعدوا تقريراً لوزراء الخارجية المجتمعين في مدينة البندقية الإيطالية في مايو 1956. كما استمرت المفاوضات بهذا الخصوص بانعقاد المؤتمر المصغر للدول الستة الأعضاء في منظمة الصلب والفحم في مدينة بروكسل من جديد في شهر أكتوبر 1956. وقد أطلق على هذا المؤتمر اسم مؤتمر تأسيس السوق الأوروبية المشتركة، وإحداث الجماعة الأوروبية للطاقة الذرية. وتبع ذلك، عقد عدة لقاءات على مستوى وزراء الخارجية، إلى أن انتهت الاجتماعات وأفضت المحادثات إلى اجتماع القمة لرؤساء حكومات الدول الأوروبية في العاصمة الفرنسية باريس في فبراير 1957 ، بالتوقيع على بروتوكول للاتفاق بين الدول الستة. وفي 25 من شهر مارس من نفس السنة، تم التوقيع النهائي على معاهدة "روما ROME" لتأسيس جماعة السوق الأوروبية المشتركة، وإحداث الجماعة الأوروبية للطاقة الذرية.
وقد نصت معاهدة روما على إحداث ثلاث مجالات للتعاون الأوروبي نظمتها المادتين 2 و 3 من مقتضيات الاتفاقية وهي:
-;- إحداث سوق أوروبية مشتركة : أقامت المادة 2 من "اتفاقية روما" معالم الوحدة الأوروبية على قواعد إيجاد سوق أوروبية مشتركة يتم في نطاقها التوفيق بين سياسات الدول الأعضاء. وفي هذا الخصوص يتعين على منظومة السوق الأوروبية المشتركة :

أ‌- القيام بتطوير النشاط الاقتصادي في النطاق الجغرافي للسوق بفضل اعتماد تنمية متوازنة ومستدامة.
ب‌- الرفع من المستوى المعيشي لساكنة الدول الأعضاء.
ت‌- توثيق وتنمية علاقات التعاون بين دول الاتحاد.
هذا وترمي السياسة المتعبة في نطاق السوق الأوروبية إلى خلق فضاء تجاري تسوده الحريات الأربعة المعمول بها في الحقل التجاري، وهي حرية انتقال الأشخاص والمنتجات، وحرية انتقال الأموال والخدمات بين الدول الأعضاء ، كما سعت الاتفاقية في ذات الوقت نحو إحداث فضاء اقتصادي موحد يكفل للمقاولات حرية الاختصاص التجاري في دائرة السوق الأوروبية يسمح ، بوضع قواعد توفر نوعاً من التقارب وتكافؤ الفرص بينها فيما يرجع إلى ظروف تسويق المنتجات التجارية وتقديم الخدمات اللازمة. وقد حصرت المادة 8 من اتفاقية روما المدة الزمنية لبناء دعامات السوق الأوروبية في فترة انتقالية مدتها 12 سنة، تنقسم إلى ثلاثة أطوار، تبلغ المدة الزمنية لكل منها 4 سنوات، على أن تنطلق الأشغال دفعة واحدة أثناء الأطوار الأربعة لإقامة اللبنات الضرورية التي تتطلبها هيكلة الوحدة الأوروبية.
-;- إقامة وحدة جمركية : تعتمد السياسة التجارية للسوق الأوروبية على إلغاء الحقوق الجمركية بين الدول الأعضاء، والتخلي عن حصص التصدير والاستيراد التي كانت تخضع لها المبادلات التجارية القائمة بينها من قبل، في حين أخضعت علاقاتها التجارية مع الدول الأجنبية الغير الأعضاء في السوق الأوروبية لتعريفة جمركية موحدة تسري في حق المنتوجات والمبادلات التجارية المصدرة إلى بلدان السوق. ومن الملاحظ أن العامل الذي زاد من تعزيز هذا النظام وتمييزه عن أية شراكة تجارية للتبادل الحر بين هذه الدول، هو اعتمادها كدعامة لنظام الوحدة الجمركية لسياسة تجارية مشتركة تحظى بالتطبيق والاحترام من طرف كافة الدول الأعضاء. ومن الواضح أن إزاحة الحواجز الجمركية وإلغاء العمل بنظام الحصص بين الأقطار المتضامنة سمح بحرية انتقال المنتوجات والسلع بمختلف أصنافها ومكن علاوة على ذلك من ازدهار المعاملات التجارية بين هذه الدول.
-;- إتباع سياسات مشتركة : إن بعض السياسات المشتركة التي اتبعتها دول السوق بمقتضى معاهدة روما، قد تم النص عليها صراحة، ويتعلق الأمر على سبيل الحصر بالسياسة الزراعية الموحدة (المواد 38 – 47) والسياسة التجارية المشتركة (116-112) ثم سياسة النقل (المواد 84-74). كما تجدر الإشارة في هذا المقام أن نص معاهدة روما ترك المجال مفتوحاً بمقتضى المادة 235 للهيئات التقريرية للسوق الأوروبية لاعتماد سياسات أخرى من فرض بعض الظروف الخاصة بالسوق المشتركة، أو يستدعي اتخاذها متطلبات سير السوق الأوروبية. وفي هذه الحالة يختص المجلس الأوروبي باقتراح من اللجنة الأوروبية، وبعد استشارة البرلمان الأوروبي باتخاذ التدابير اللازمة في مجال معين قد تتطلبها المرحلة أو ظروف السوق. وجدير بالملاحظة أن هذه الصلاحية قامت بتمكين المجلس الأوروبي منذ قمة باريس لأكتوبر 1972 من اعتماد هذه السياسات وإعمال هذا الإجراء، سيما في مجالات البيئة والحقل الاجتماعي وإنعاش الجهات الأٌقل نمواً في حظيرة السوق الأوروبية المشتركة. ومن أجل ذلك أحدثت في حظيرة السوق الأوروبية عدة صناديق مالية قامت بتمويل مجالات الشغل الخاصة بالعمالة الأوروبية وتحسين الظروف المعيشية للعمال، والإسهام في توسيع النشاط الاقتصادي لمنظومة السوق الأوروبية من خلال تمويل استغلال موارد اقتصادية جديدة.

ثانياً : انطلاق لبنات الجيل الثاني من البناء الوحدوي
مكنت المظاهر الأولى من البناء الوحدوي أثناء فترة التأسيس وخلال عقدين من الزمن الجماعات الأوروبية، من شق السبيل نحو تحقيق وحدة أكثر اتساعاً، رغم ما رافق ذالك من صعوبات داخلية وما صاحب فترة التأسيس من أزمات خارجية، فقد استطاعت أن تدخل تعديلات على المؤسسات الوحدوية القائمة لبلوغ طموح إقامة السوق الأوروبية الكبرى الموحدة في غضون 1992، فأصبح من اللازم لتحقيق هذا الهدف أن تقوم الدول الأعضاء بعد متم السبعينات بوضع أسس جديدة لجيل ثاني من اللبنات الصلبة وإقامة صرح الوحدة السياسية، التي ستعمل تدريجياً وعلى المدى المتوسط من اختفاء السيادة الوطنية التي ما فتئت دول الإتحاد متمسكة به، الأمر الذي من المنتظر أن يؤدي بالشعوب الأوروبية نحو الاندماج الكلي في ظل إتحاد أوروبي أوسع نطاق.
واستجابة لهذا الطموح جاء الاتفاق الأوروبي الأوحد ليدخل تعديلات جوهرية على المؤسسات الأوروبية القائمة، وتوسيع مجالات اختصاصها في ميادين أخرى والتي تهم النظام الأوروبي، وفي ماستريخت في 7 فبراير 1992 تم تتويج خطوات الوحدة الأوروبية بالتوقيع على الاتفاق المؤسس " للإتحاد الأوروبي "، وفي اتفاق أمستردام 1997 توصل رؤساء الدول و الحكومات إلى اتفاق جديد لأوروبا الموحدة، وشكل اتفاق نيس 2000 خطوة مهمة نحو توسيع الإتحاد الأوروبي أمام دول أوروبا الشرقية والوسطى والمتوسطية والبلطيقية، كما أعتبر الدستور الأوروبي خطوة حاسمة ومكملة لما جاء في إتفاق نيس حول مستقبل الإتحاد الأوروبي.
1 : الاتفاق الأوروبي الأوحد
لأجل إنعاش البناء الجماعي الأوروبي ووضع حد للركود الذي عرفه لمدة طويلة بفعل الاضطرابات الاقتصادية العالمية انطلقت العديد من المحاولات لإدخال تعديلات على نظام الجماعات الأوربية القائم بمقتضى اتفاقيتي "باريس و روما" وكان من أهمها المحاولة التي قام بها السيد كولومبو COLOMBO وجنشر GENCHER، وزيري خارجية إيطاليا وألمانيا الاتحادية أثناء المجلس الوزاري المنعقد في لندن في 1981/12/17، حيث تقدم الوزيران أمام المجلس المذكور بشروع اتفاق أوروبي، يهدف إلى تنسيق نشاطات حكومات الدول الأعضاء في المجالات التي سبق تنظيمها من طرف الاتفاقيات المحدثة للجماعات الأوربية. هذا وقد حاول المشروع فتح عدة آفاق للتعاون السياسي، مقترحا توسيع مجالات اختصاص الجماعات الأوربية إلى ميادين الثقافة والحقوق الأساسية للأفراد، بواسطة إحراز بعض التطابق بين تشريعات الدول الأعضاء. وحسب مشروع الاتفاق، فإن الإشراف على التسيير السياسي للجماعات الأوربية سيتولاه المجلس الوزاري، على أن يمتلك مجلس الجماعات الأوربية الذي أنشأته اتفاقيات روما سلطات موسعة في حقل التعاون السياسي. كما أعطى مشروع الاتفاق المذكور للبرلمان الأوروبي سلطات استشارية واسعة، ولم تتعرض سلطات الرقابة التي يتمتع بها لأي تقليص.
وقد تقدم البرلمان الأوربي من جانبه بالإعلان عن مشروع "أسبنلي SPENLLI"، وهو مشروع اتفاق يؤسس للاتحاد الأوروبي، حظي بدعم 9 نواب ينتمون إلى البرلمان الأوربي. وكان مشروع الاتفاق المقترح يسعى إلى إقامة الاتحاد الأوربي على أسس تنظيمية وسياسية تتطابق وتنظيمات الدولة الفدرالية، تحتل فيها اللجنة الأوربية منزلة السلطة التنفيذية المركزية، ويتولى فيها مجلس الجماعات الأوربية والبرلمان معا السلطة التشريعية. وفي 1984/02/14 أبدى البرلمان الأوربي مصادقته على مشروع الاتفاق.
غير أن المجلس الأوربي المنعقد في "فونتانـبلو FONTAINEBLEAU" في 1984/06/26 استقبل مشروع الاتفاقية بنوع من البرودة، الأمر الذي أفضى بالمجلس للبحث عن حل للخلاف الذي طرحه هذا المشروع، وخاصة ما يتعلق بالشكل الفدرالي الذي سيؤول إليه الاتحاد، والذي عارضته 5 دول يختار حلا توفيقيا بتعيين لجنتين مستقلتين عن بعضهما البعض:
-;- لجنة المواطنة الأوربية، أسندت رئاستها إلى الإيطالي "أندونينو ANDONINO".
-;- لجنة خاصة بالشؤون التنظيمية والتأسيسية، تولى قيادتها السيد " دودج DODGE".
قدم السيد دودج تقريراً إلى المجلس الأوربي المنعقد في ميلانو MILAN في شهر يونيو 1985 حرص في صياغته على التوفيق بين متضمن مشروع الاتفاق الصادر عن البرلمان الأوربي، وبين الرؤى والمشاريع الأخرى السابقة الرامية بدورها إلى بناء الاتحاد الأوروبي.
وقد حدد هذا التقرير لبعض الأهداف التي ببلوغها ستتمكن أوروبا من استعادة مكانتها الأساسية بين الوحدات الدولية الكبرى، وذلك بإتباع السياسات الضرورية، وإجراء الإصلاحات التأسيسية والتنظيمية اللازمة لذلك. وبعد التداول في تقرير دودج في جلسة المجلس الأوروبي المنعقد في ميلانو، دعا هذا الأخير إلى انعقاد قمة لوكسمبورغ LUXEMBOURG في يونيو 1985 التي صدر عن أشغالها الاتفاق الأوربي الموحد.
وقد أولى الاتفاق الأوروبي الموحد اهتمامه لثلاثة ميادين أساسية :
أ : استكمال بناء مقومات السوق الداخلية الأوربية:
أصبح يقتضي بلوغ هدف تحقيق السوق الأوربية الداخلية الكبرى المعلن عليه من تاريخ 1986، (تاريخ دخول الاتفاق الأوربي الموحد حيز التطبيق)، وإلى غاية 1992 تحويل الفضاء الجغرافي للاتحاد الأوربي إلى سوق داخلية كبرى تحظى في نطاقها الأموال والمبادلات التجارية والسلع والأشخاص بحرية التنقل، نتيجة رفع الحواجز الجمركية وإزالة التدابير الرقابية الأخرى. ويبدو أن تحقيق سوق أوروبية موحدة ليس هدفا جديدا جاء به الاتفاق الأوربي الموحد، ولكنه اختيار سابق تضمنته اتفاقية تأسيس جماعة السوق الأوروبية المشتركة. إلا أن حرية انتقال الأموال والأشخاص لم يكن تحقيقها ممكنا لولى مقتضيات الاتفاق الأوربي الموحد، التي ألزمت الدول الأعضاء إلى حدود معقولة بالقيام بتنسيق سياساتها في الجوانب الخاصة بانتقال الأموال والأشخاص.
ب : إصلاح السياسات المتبعة:
إن هذه السياسات التي تم إتباعها من طرف الدول الأعضاء في مختلف المجالات الاجتماعية والبيئة والنقدية والتي يصح اعتبارها من الدعامات الفعلية لتوسيع أفاق العمل الوحدوي ليست وليدة الاتفاق الأوروبي الأوحد، ولكنها كانت موجودة في حصيرة السوق الأوربية ومنظمة بمقتضى معاهدة روما. وبما أن المادة (8 - أ ) من الاتفاق الأوربي الأوحد جاءت مقتضياتها ترمي إلى إقامة سوق أوربية موحدة كفضاء حر لانتقال الأموال والأشخاص والسلع، فإن بناء هذه السوق سيتم بصورة تدريجية لتكتمل معالمها بحلول سنة 1992، وأن الحريات المشار إليها ستكفلها أحكام الاتفاقية بواسطة سياسات يتم إتباعها في هذه المجالات.
وفيما يتعلق بالسياسة النقدية على سبيل المثال، فإن مقتضيات الاتفاق الأوربي الأوحد لم تسمح للدول الأعضاء بإتباع سياسة نقدية بديلة عن السياسة النقدية السائدة، ولكنها سمحت بإدخال بعض التدابير الجديدة تهم الأهلية النقدية لجماعة السوق الأوربية المشتركة، ولأن سياسة التكامل والتوافق الاقتصادي والنقدي بين الدول الأعضاء في حظيرة السوق هي سياسة كانت موجودة من ذي قبل تستمد إطارها القانوني والسياسي من مقتضيات الاتفاقية المنظمة للسوق الأوربية المشتركة.
أما السياسة الاجتماعية فإنها كانت بدورها تخضع في تنظيمها لمقتضيات )المادتين 118 – أ و 118 – ب( من معاهدة روما، إذ أن )المادة 118 – أ( كانت تسمح للمجلس الأوربي اعتمادا على أغلبية معينة اتخاذ تدابير ضرورية في مجالات التعاون من شأنها تحسين ظروف العمل الخاصة بالعمال الأوربيين وحماية صحتهم وتوفير سبل الحماية المهنية أثناء أدائهم للشغل. بينما أسندت مقتضيات )المادة 118 – ب( من نفس المعاهدة إلى اللجنة الأوربية وظيفة إنعاش الحوار الاجتماعي على المستوى الأوربي، وبذلك جاءت مقتضيات الاتفاق الأوربي الأوحد تدعو إلى تعزيز تطبيق سياسة اجتماعية واقتصادية وحدودية من أجل حماية الدول الأعضاء الأقل نمواً من الآثار السلبية المترتبة عن إحداث السوق الداخلية الموحدة، علاوة على التخفيف من وقع التفاوت في التنمية بين جهات الاتحاد الأوربي الأقل نمواً. ومن أجل مواجهة هذه الوضعية أحدثت بمقتضى نصوص الاتفاق الأوروبي الأوحد صناديق نقدية للدعم الاقتصادي والاجتماعي، "كالصندوق الأوربي للتوجيه والضمان الزراعي (F E O G A) " و"الصندوق الأوربي للتنمية الجهوية (FEDER) ".
وقد كانت سياسة تنمية البحث العلمي والتقدم التكنولوجي المنظمة بمقتضى )المادة 130 – ف( من معاهدة السوق الأوروبية المشتركة، تهدف إلى دعم وتقوية القاعدة التكنولوجية للصناعة الأوروبية، وتنمية القدرة التنافسية لها على الصعيدين القاري والدولي. ومن أجل بلوغ هذه الغاية تقرر بمقتضى بنود الاتفاق الأوربي الأوحد أن يضطلع المجلس الأوربي بوضع برامج سنوية تحدد هذه الميادين حسب الأولويات والجدوى بالنسبة للاتحاد الأوروبي.
أما السياسة الخاصة بحماية مجال البيئة في النطاق الأوربي فقد كانت منظمة كما هو معلوم بنصوص اتفاقية السوق الأوربية المشتركة، التي كانت تلقي على عاتق منظمة السوق إتباع سياسة تهدف إلى حماية البيئة الطبيعية، ورعاية صحة مواطني الاتحاد والاستعمال الأمثل والعقلاني للموارد الطبيعية. وجاء الاتفاق الأوربي الأوحد فمنح هذا الاختصاص إلى الاتحاد الأوروبي، إذا كان تدخله في مجال البيئة سيؤدي إلى الحصول على نتائج أفضل مما قد يحققه تدخل الدول الأعضاء.
ج : الإصلاحات التأسيسية:
بدافع إقامة السوق الأوربية الداخلية الموحدة حرص الاتفاق الأوروبي الأوحد على إدخال التعديلات الضرورية على سير المؤسسات الأوروبية تمكنها من اتخاذ قراراتها بالاعتماد على أغلبية معنية، دون حاجة إلى حصول الإجماع الذي سطرته اتفاقية روما ، وفيما يخص سير المجلس الأوروبي فقد عملت نصوص الاتفاق الأوربي الموحد على توسيع عدد المجالات والميادين التي سيشملها اختصاص المجلس ويتولى التقرير في شأنها، دون اعتماد قاعدة الإجماع، وإنما يكفي أن تنال قراراته نصاباً معيناً. ومن البديهي أن هذا التعديل إنما أريد به تمكين المجلس الأوربي من اتخاذ قراراته وتسريع وتيرة عمله دون اشتراط قيد الإجماع. ومن ثم فإن هذا التعديل سيسمح للمجلس اتخاذ التدابير الرامية إلى بناء سوق أوروبية داخلية موحدة. غير أن التعديل المشار إليه استثنى من قاعدة الأغلبية بعض التدابير التي تكتسي ميزة خاصة، مثل التدابير المالية والإجراءات التحريرية التي تنظم انتقال الأشخاص، أو التدابير المتخذة من المجلس الأوروبي في حق العمالة الأوروبية والتي تؤدي إلى التأثير على مركزهم القانوني، وخاصة العمال الذين يرتبطون مع مشغليهم بعقود الشغل، ففي هذه الحالة لابد من حصول المجلس الأوروبي عند البت في هذه القضايا على الإجماع.
كما أدخلت مقتضيات الاتفاق الأوربي الأوحد على هيكلة المجلس الأوربي تعديلات تجعل منه هيئة خاصة بعقد اجتماعات رؤساء الدول والحكومات الأوربية، غير أن هذا التعديل لم يذهب إلى حد تحديد اختصاصاته حيث ظل المجلس لا يتمتع بسلطة تقريرية، ولا يملك القدرة على إجبار مؤسسات الاتحاد الأخرى على الامتثال لقرارات معنية .
في خضم هذه التعديلات التي أدخلها الانفاق الأوروبي الأوحد على المؤسسات الأوربية يلاحظ نوع من تعزيز سلطات البرلمان بحصوله على صلاحيات إبداء الرأي وإقرار اتفاقيات الشراكة التي تعقدها دول السوق مع الدول الغير الأعضاء، وأكثر من هذا، فإن البرلمان الأوروبي نال بمقتضى بنود الاتفاق الأوربي الأوحد مكانة متميزة في حقل التعاون بين المؤسسات الأوربية تجعله يلجأ إلى القراءة الثانية للتشريعات المقترحة من المجلس الأوربي. غير أن هذه الصلاحيات تبقى مقيدة ومرتبطة بالميادين التي يتخذ فيها المجلس قراراته بأغلبية محددة.
وأخيراً تجب الإشارة إلى أن الفصل 10 من "الاتفاق الأوربي الأوحد" الذي أدخل تعديلات على الفصل 145 من "معاهدة روما"، أنصبت على إبراز السلطات التنفيذية التي ستحوزها الأجهزة الأوربية. وكقاعدة عامة فقد منحت المادة العاشرة للمجلس الأوروبي إمكانية إسناد سلطة تنفيذ بعض القرارات الصادرة عنه للجنة الأوروبية، إذ أن المجلس لا يسمح له بالتنفيذ إلا عندما يتعلق الأمر بمسائل خصوصية.
ولعل من الأمور الهامة التي جاء بها الاتفاق الأوروبي الأوحد في مجال الإصلاحات السياسية هي تلك التي ترمي إلى إرساء أسس لمحكمة ابتدائية أوروبية تختص بالبت في كل القضايا التي تهم دول الإتحاد.
ويظهر مما سبق ذكره، أنه لأول مرة تم تحديد بوضوح في اتفاق الجماعة الأوروبية في إطار الاتفاق الأوروبي الموحد على وضع أسس إتحاد أوروبي اقتصادي ونقدي، وسوق موحدة أوروبية لإنجاز مشروع معاهدة روما لعام 1957. ولقد عرف الاندماج الأوروبي قفزة نوعية ابتداء من عام 1992 بمناسبة توقيع معاهدة ماستريخت.
2 : اتفاقية ماستريخت )7 فبراير 1992(
في 7 فبراير 1992 تم التوقيع على اتفاقية ماستريخت من طرف الدول الإثنى عشر لإقامة وحدة أوربية تحل محل نظام الجماعات الأوروبية. ودخلت حيز التنفيذ في فاتح نوفمبر 1993، هذا وقد ساعدت العوامل الداخلية الخاصة ببلدان السوق، وساهمت التحولات الخارجية التي عرفتها الساحة الدولية في حقبة التسعينات، على عقد هذه الاتفاقية ومهدت لميلاد تصور وحدوي أكثر تطوراً وتقدماً. فعلى صعيد العلاقات الدولية رسم مسلسل انهيار الأنظمة الشيوعية في أوروبا الشرقية، وإعادة توحيد الألمانيتين بسقوط جدار برلين أفاقا جديدة كشفت على مختلف التوازنات الدولية الناشئة، جعلت بذلك الدول الأوربية تبحث عن مكانة دولية للاتحاد الأوروبي في الساحة الدولية. أما على صعيد العلاقات الداخلية لدول السوق فقد شجعت النتائج الإيجابية ودفعت تراكمات الإصلاحات المؤسساتية المحققة بواسطة تطبيق الاتفاق الأوربي الأوحد، الدول الأعضاء على استثمار معالم هذا التقدم من أجل إدخال إصلاحات جدية على النظام الأوروبي.
وقد ساعدت عدة مؤتمرات ولقاءات حكومية منذ 1988 على التحضير لميلاد الاتحاد الأوروبي. هذا فقد بادر المجلس الأوربي في دورة "هانوفر HANNOVER" في 27 و 28 يوليو من عام 1988 إلى تكوين فريق من الخبراء، يقوده "جاك دولور JACQUE DELORS" كلف بإعداد تقرير يتناول الخطوات المستقبلية الواجب إتباعها وحصر التدابير الفعلية اللازم اتخاذها من أجل تحقيق الوحدة الاقتصادية. وفي مدينة "دوبلين DUBLIN" انعقد المجلس الأوربي من جديد في 28 ابريل 1990 لدراسة مذكرة قدمتها الحكومة البلجيكية تناولت إعادة تفعيل المؤسسات الأوربية وتوفير الآليات القانونية والسياسية اللازمة لذلك.
كما درس المجلس في نفس الاجتماع، مقترحا تقدمت به ألمانيا وفرنسا يدعو دول الاتحاد إلى التعجيل بالبناء السياسي للقارة الأوروبية. وقد قرر المجلس الأوروبي في هذا الاجتماع السير قدما نحو تحقيق الاندماج والتكامل السياسي المطلوب، وذلك للقيام كخطوة أولى، بإنهاء العمل بمقتضيات معاهدة السوق الأوربية المشتركة، وعقد المجلس الأوروبي في روما كخطوة ثانية أيام 14 و 15 ديسمبر عام 1990 الذي تقرر خلاله عقد مؤتمرين يجمعان حكومات الدول الأوروبية الأعضاء في السوق الأوربية. وبعد سنة من التداول أفضت أشغال المؤتمرين إلى عقد قمة ماسترخت في 9 و 10 ديسمبر عام 1991 للنظر في مقتضيات المعاهدة التي تم إعدادها والتي عرفت "بمعاهدة ماسترخت".
وتقوم الوحدة الأوربية المنشودة وفق "معاهدة ماسترخت" على ثلاث دعامات أساسية:
+ صرح الجماعات الأوروبية الثلاثة.
+ وحدة اقتصادية ونقدية.
+ وحدة سياسية.
فيما يتعلق بالدعامة الاقتصادية، فإن العنصر الرئيسي الذي ميز "اتفاقية ماستريخت" تجلى في توحيد العملة النقدية بين دول الاتحاد. وقد أمرت مقتضيات الاتفاق بالشروع في توحيد عملة التداول بين دول الاتحاد في أجل أقصاه سنة 1999 تحت إشراف البنك الأوروبي الذي سيتولى تنظيم وإصدار وإدارة عملية التداول في كل أرجاء الدول الأعضاء.
أما الدعامة السياسية فإن الاتفاقية حاولت الدفع نحو التعاون في مجال السياسة الخارجية وشؤون الدفاع، فضلاً عن فتحها آفاق جديدة في مجالات أخرى كالآمن الداخلي والصحة العمومية. وجدير بالملاحظة أن أفكار الاتحاد ا لأوروبي الذي سعت إليه المعاهدة اعتمدت على توظيف ثلاثة عناصر هي:
-;- الاعتراف بجنسية الاتحاد لساكنة الدول الأعضاء.
-;- التعاون في حقل السياسة الخارجية والدفاع.
-;- التعاون في مجال الشؤون الداخلية والعدل.
3 : اتفاقية أمستردام 1997
لقد توصل رؤساء دول وحكومات الإتحاد الأوروبي إلى اتفاق سياسي حول اتفاق جديد لأوروبا. وذلك في أمستردام بتاريخ 17 يونيو 1997 وقد كانت لهذا الاتفاق أربع أهداف كبرى:
-;- إعطاء أهمية للشغل وحقوق المواطنين داخل الإتحاد.
-;- إزالة أخر العراقيل على حرية التنقل وتعزيز الأمن.
-;- منح مكانة مهمة لأوروبا فيما يخص السياسة الخارجية.
-;- تفعيل الهندسة المؤسساتية للإتحاد في أفق التوسع.
ويرمي اتفاق أمستردام إلى وضع أسس إتحاد موسع بين الشعوب الأوروبية، بمنح الجماعة الأوروبية مسؤوليات جديدة، واستعمال الأغلبية الموصوفة فيما يخص بعض القرارات المتعلقة بالسياسة الخارجية والأمن المشترك، في حين لم يتم الإتفاق حول مسألة إصلاح المؤسسات، وتوسيع الإتحاد لأعضاء جدد. وفي المقابل اعتمد المجلس الأوروبي بأمستردام ميثاق الإستقرار والنمو لضمان التلاقي الاقتصادي بين الدول الأعضاء في الإتحاد الاقتصادي و النقدي على المدى الطويل.
ويتبين مما تقدم، أن اتفاق أمستردام لعام 1997، جاء ليراجع اتفاق ماستريخت واستقلال البناء الأوروبي، حيث دخل الاتفاق الجديد حيز التنفيذ في تاريخ 1 مايو 1999 بعد مصادقة كل دول أعضاء الإتحاد الأوروبي.
4 : اتفاقية نيس 2000
شكل اتفاق نيس خطوة مهمة نحو إعداد توسيع الإتحاد الأوروبي أمام دول أوروبا الشرقية والوسطى والمتوسطية والبلطيقية، وبموجب هذا الاتفاق سيتم تعديل الاتفاقيات الموجودة والذي دخل حيز التنفيذ بعد مصادقة جميع الدول الأعضاء عن طريق التصويت عبر البرلمانات الوطنية أو بواسطة الاستفتاء الشعبي. فرهان كان أساسي في إيجاد حلول للقضايا المطروحة في أفق التوسيع المستقبلي حتى لا يتكرر فشل اتفاق أمستردام في نيس.
ويستجيب اتفاق نيس الموقع بتاريخ 26 فبراير 2001 لعدة قضايا متعلقة بسير الإتحاد الأوروبي الموسع، فبعد مفاوضات جادة بين الدول الأعضاء الخمسة عشر بالإضافة إلى الأعضاء الإثنى العشر، تم التوصل إلى إتفاق حول القضايا المؤسساتية المرتبطة بمايلي:
• توزيع جديد للمقاعد داخل البرلمان الأوروبي.
• التصويت بالأغلبية الموصوفة داخل مجلس الوزراء.
• زيادة عدد أعضاء اللجنة الأوروبية.
كما تجدر الإشارة أنه لم يتم إدراج ميثاق الحقوق الأساسية للمواطن الأوروبي في الاتفاق، وإنما أحيل النظر فيه في إطار الاتفاق حول المستقبل السياسي للإتحاد الأوروبي. وبمجرد دخول اتفاق نيس حيز التنفيذ بتاريخ 1 فبراير 2003، وإن تم انتقاده أثناء التوقيع بسبب محدوديته التي انحصرت على تحديد قواعد سير مؤسسات الإتحاد الأوروبي الموسع، وانخرطت عشر دول جديدة عام 2002 كخامس توسيع للإتحاد الأوروبي، إلا أن مسألة الوحدة السياسية لأوروبا بقية مطروحة إلى حين التوقيع على الدستور الأوروبي الذي سيحل محل الاتفاقيات المنشأة للإتحاد الأوروبي.
5 : الدستور الأوروبي
شكل الدستور الأوروبي خطوة حاسمة ومكملة لما جاء في اتفاق نيس حول مستقبل الإتحاد الأوروبي، وقد كانت لقمة المجلس الأوروبي "بلا ركن" بتاريخ 15 دجنبر 2001 مايلي:
-;- التوزيع الجيد للاختصاصات بين الإتحاد والدول الأعضاء.
-;- تلاحم الاتفاقيات المنشأة للاتحاد في إطار دستور أوروبي مع منح الشخصية القانونية للإتحاد الأوروبي.
-;- اختزال أدوات عمل الإتحاد.
-;- تشجيع الديمقراطية والشفافية وفعالية الإتحاد بواسطة مشاركة البرلمانات الوطنية، واختزال عملية اتخاذ القرارات عبر المؤسسات الأوروبية.
-;- تعزيز دور المؤسسات الأوروبية أمام توسيع الإتحاد الأوروبي.
وعلى ذلك طرحت قمة "لا ركن" مسألة اختزال وإعادة ترتيب الاتفاقيات الأوروبية، ومن تم التوصل إلى إعداد مشروع اتفاق حول الدستور الأوروبي، الذي لقي توافق جميع الدول الأعضاء بتاريخ 13 يونيو 2003، وقد تم تقديم نص الدستور خلال اجتماع المجلس الأوروبي "بتيسالونيك" بتاريخ 20 يونيو 2003، ودخل حيز التنفيذ مع قمة روما بتاريخ 29 أكتوبر 2004، لحل بذلك الدستور الأوروبي محل مجموع الاتفاقيات الأوروبية، ومن أهم مستجدات هذا الدستور:
-;- تسهيل التصويت بالأغلبية الموصوفة داخل مجلس الوزراء.
-;- سيكون للبرلمان الأوروبي نفس سلطات مجلس الوزراء في مجال التشريع والميزانية.
-;- تفعيل السلطة التنفيذية الممثلة في اللجنة الأوروبية، وخلق منصب جديد لوزير خارجية الإتحاد الأوروبي، مع خلق رئيس دائم لمجلس رؤساء دول حكومات الإتحاد الأوروبي.
-;- إرساء ميثاق الحقوق الأساسية " الحقوق المدنية الاجتماعية".
إذن أصبح الدستور الأوروبي حدثاً بارزاً في تاريخ الإتحاد، الذي جاء نتيجة مراحل حاسمة، استمر فيها التطور الإتفاقي في تسريع البناء الأوروبي الذي بدأ منذ معاهدة روما، والإتفاق الأوروبي الموحد، واتفاق ماستريخت، وأمستردام، ونيس لينتهي المسلسل الاتفاقي مع الدستور الأوروبي. وقد أرست هذه الترسانة الاتفاقية أسس المشروع الأوروبي القائم على مستويات مختلفة من الاندماج الاقتصادي والسياسي يحكمه نظام قانوني أوروبي موحد.

المحور الثاني: الهيكل التنظيمي و البنية المؤسسية
إن الإتحاد الأوروبي يبدو لنا من حيث هيكله التنظيمي وبنيته المؤسسية أقرب إلى شكل المنظمة الحكومية منه إلى شكل الدولة. و من المعروف أن أي منظمة دولية حكومية تقوم على التعاون الاختياري الحر بين الدول الأعضاء. و الإتحاد الأوروبي لا يمثل استثناء على هذه القاعدة، لأن وجوده و استمراره و تطوره كان على الدوام رهنا بالقدر المتاح من الإرادة المشتركة للدول الأعضاء. لكن حين يكون الهدف من التعاون الاختياري الحر بين عدد من الدول هو الوصول إلى درجة من التكامل أو الاندماج تسمح، في نهاية المطاف، بتحقيق شكل ما من أشكال الوحدة السياسية، يصبح من الضروري أن تتنازل الدول المعنية عن قدر متزايد من سيادتها لصالح المنظمة الوليدة، وهو ما يجعل هذه الأخيرة تبدو وكأنها مطالبة بأن تحل تدريجيا محل الدول الأعضاء للقيام بالوظائف المتزايدة التي توكل إليها من جانب هذه الدول. وتلك حقيقة يفترض أن تعكسها البنية المؤسسية وآليات صنع القرار في أي منظمة تكاملية أو اندماجية، وهو ما يتجلى بوضوح تام في حالة الإتحاد الأوروبي على النحو الذي سنحاول أن نلقي الضوء عليه في هذا المحور.
ولرسم صورة واضحة عن المؤسسات بطريقة تبرز خصوصية النظام السياسي الأوروبي و آلياته و تطوره، نرى أن الهيكل التنظيمي ينقسم في البناء الهيكلي للإتحاد الأوروبي إلى المؤسسات الرئيسية )أولاً( والمؤسسات الاستشارية والمستقلة )ثانياً(.

أولاً : الهيئات و المؤسسات الرئيسية
هناك ست مؤسسات تساهم في عملية صنع القرار في الإتحاد الأوروبي وهي : المجلس الأوروبي، المجلس الوزاري، و المفوضية الأوروبية، و البرلمان الأوروبي، و محكمة العدل الأوروبية، و اللجنة الاقتصادية و الاجتماعية. و يتضمن الهيكل التنظيمي لعملية التكامل و الاندماج الأوروبي مجلسين، الأول هو المجلس الأوروبي، و الثاني مجلس الإتحاد الأوروبي )المجلس الوزاري(.
1 :المجلس الأوروبي
يتكون المجلس الأوروبي من رؤساء دول و حكومات الدول الأعضاء في الإتحاد، ويعتبر أعلى مستويات صنع القرار. وهو عبارة عن اجتماعات قمة تعقد بين رؤساء الدول و الحكومات في الإتحاد الأوروبي. و الواقع أن معاهدة روما المنشئة للإتحاد الأوروبي لم تتضمن نصوصا واضحة حول طريقة اجتماعات الجماعة، ولم يجتمع قادة الدول في السنوات العشر الأولى لإنشائها إلا ثلاث مرات. ولكن بدأت تظهر الحاجة إلى وجود إطار منظم لتبادل وجهات النظر على مستوى القمة وحل المشكلات التي لا تستطيع الجماعة الأخرى حلها. لذلك تم الاتفاق في قمة ديسمبر 1974 في باريس على عقد اجتماعات لرؤساء الدول و الحكومات ثلاث مرات سنويا تحت اسم المجلس الأوروبي، وعقد بالفعل أول اجتماع في هذا الإطار في دبلن في مارس 1975، و استمرت الاجتماعات على هذا المنوال حتى الاتفاق في ديسمبر 1985 على قصر الاجتماعات على مرتين في السنة مع إمكانية عقد اجتماعات أخرى في الظروف الخاصة. وقد جاء القانون الأوروبي الموحد عام 1986، الذي يعتبر مكملا لاتفاقية روما، لينص على اعتبار المجلس الأوروبي ضمن المؤسسات الرسمية للجماعة.
لا يتدخل المجلس بعملية الإدارة اليومية للاتحاد، لأن وظيفته الأساسية هي وضع الخطوط العامة لسياسة الاندماج، و إعطاء التوجيهات لباقي مؤسسات الإتحاد الأوروبي، حيث يختص المجلس برسم السياسة على المستوى الخارجي.
وفيما يلي أهم اختصاصات و صلاحيات المجلس الأوروبي:
-;- منح عملية البناء الأوروبي دفعة سياسية قوية.
-;- تحديد مسيرة هذه العملية ورسم السياسة العامة التي يتعين أن توجه وتقود العمل مؤسسات الجماعات الأوروبية وتحديد الطريقة التي ستسير عليها عملية التعاون السياسي في أوروبا.
-;- مناقشة جميع الجوانب المتعلقة بإقامة اتحاد أوروبي و العمل على تحقيق التناغم في ما بينها.
-;- تمهيد الطريق أمام ضم قطاعات جديدة إلى عملية التكامل الأوروبي.
-;- التعبير عن الموقف الأوروبي المشترك من قضايا السياسة الخارجية.
وتتولى رئاسة المجلس إحدى الدول الأعضاء لمدة ستة أشهر، تمارس فيها عملية التنسيق و الإعداد للاجتماعات، ويكون رئيس الحكومة أو الدولة هو رئيس المجلس و المتحدث باسم المجلس خلال تلك الفترة، وتعقد اجتماعات المجلس في إحدى مدن الدولة التي تتولى الرئاسة.
2 : مجلس الإتحاد الأوروبي )المجلس الوزاري(
وهو أحد الأجهزة الرئيسية التي تضمنها الهيكل التنظيمي لعملية الاندماج الأوروبي منذ البداية حيث كان يسمى قبل 8 أكتوبر 1993 مجلس الجماعات الأوروبية، لكن تعديلات كثيرة طرأت على تشكيل المجلس و طريقة صنع القرار فيه، وقد تطور عبر المعاهدات، و آخرها معاهدة ماستريخت.
وعضوية المجلس الوزاري تختلف بحسب الموضوع محل البحث، فإن كان الموضوع يتعلق بالزراعة تم اجتماع وزراء الزراعة للدول الأعضاء، أما إذا كان الموضوع يخص الميزانية تم اجتماع وزراء المالية، و على هذا المنوال. أما وزراء الخارجية فوضعهم خاص فهم يجتمعون شهريا ماعدا شهر غشت حيث يناقشون المسائل المتعلقة بالسياسة الخارجية، و يقومون بعملية التنسيق العام لاجتماعات الوزراء في القطاعات الأخرى، وعادة ما يكون هناك أكثر من اجتماع في الوقت نفسه، حيث يجتمع وزراء المالية في حجرة ووزراء الزراعة في حجرة أخرى. ويقع مقر المجلس وسكرتاريته في مدينة بروكسيل/بلجيكا، ولكن تعقد الاجتماعات أيضا في اللوكسمبورغ لمدة ثلاثة أشهر في العام هي أبريل ويونيو وأكتوبر.
وتتغير رئاسة المجلس بشكل دوري، حيث تتولى كل دولة الرئاسة لمدة ستة أشهر، ويطلق إسم الدولة على فترة الرئاسة مثل الرئاسة الفرنسية أو الألمانية، وتتولى وزارة خارجية الدولة التي تحتل مقعد الرئاسة مساعدة سكرتارية المجلس في إدارة أعماله و التنسيق بين الدول الأعضاء في إطار المجلس. ووظيفة المجلس الوزاري هي إقرار التشريعات المختلفة الصادرة عن الإتحاد أي يقوم بدور البرلمانات الوطنية في الدول الأعضاء. ولكن دوره يقتصر على الرفض أو الموافقة على التشريعات دون القيام بإعدادها حيث تتولى مؤسسة أخرى "المفوضية الأوروبية" القيام بهذا الدور.
ويعتبر المجلس المؤسسة الرئيسية التي تعبر فيها كل دولة عن مصالحها الخاصة. وتقوم كل دولة بعرض وجهة نظرها عن طريق الوزير المختص أو من خلال ما يعرف بلجنة الممثلين الدائمين. وتضم هذه اللجنة وفودا من الدول الأعضاء مكونة من دبلوماسيين و خبراء من الوزارات المختلفة، ويرأسها ممثل دائم بدرجة سفير. ويجتمع الممثلون الدائمون مرة كل أسبوع على الأقل ويقومون بمناقشة المسائل التي ستعرض على المجلس الوزاري. فإذا وافقت لجنة الممثلين الدائمين على تشريع معين وضع على جدول أعمال المجلس الوزاري على أنه مسألة من الدرجة الأولى، أما إذا لم يتم الإتفاق فيعرض على أنه مسألة من الدرجة الثانية مما يعني أنها مسألة تتطلب مناقشة أكبر في المجلس الوزاري قبل التصويت عليها.
أما عن وضعية التصويت في المجلس الوزاري فإن الدول الأعضاء ليس لها أصوات متساوية، لأن لكل دولة عددا من الأصوات يتناسب مع حجمها. و حاول نظام التصويت في المجلس الوزاري أن يخلق نوعا من العدالة بين الدول الكبيرة و الدول الصغيرة بحيث أنه أوجد توازنا بين مصالح الدول الصغيرة ومصالح الدول العظمى، إلا أنه رغم ذلك لم يعط أي دولة أو تكتل دولي حق فرض صيغة قرار أو عرقلة أي قرار إلا إذا أجمعت عليه الدول الأعضاء في الإتحاد.
وأدخلت معاهدة نيس لعم 2000 تعديلات على صيغة اتخاذ القرار، فتم إعادة توزيع الأصوات على أسس جديدة على الشكل التالي :
لكل من ألمانيا و فرنسا و بريطانيا و إيطاليا 29 صوتاً، أسبانيا 27 صوتاً، هولندا 13 صوتاً، ولكل من بلجيكا و البرتغال و اليونان و المجر و جمهورية التشيك 12 صوتاً، ولكل من النمسا و السويد 10 أصوات، و لكل من فلندا و الدنمارك و ايرلندا و ليتوانيا و سلوفاكيا و وسلوفينيا 7 أصوات، ولكل من لوكسمبورغ وقبرص و لاتفيا و إستونيا 4 أصوات، و مالطا 3 أصوات، و تتخذ القرارات بأغلبية الثلثين أي الحصول على 232 صوتاً من إجمالي 324 صوتاً.
ويحتل المجلس الوزاري الأوروبي موقعاً إستراتيجياً في عملية صنع القرار باعتبارها حلقة الوصل بين البرلمان الأوروبي و المفوضية الأوروبية.
3 : المفوضية الأوروبية
تعتبر المفوضية إحدى المؤسسات الرئيسية في عملية صنع القرار الأوروبي. و يعين أعضاء المفوضية من قبل الدول الأعضاء في الاتحاد. غير أن هذه المؤسسة شهدت تطوراً كبيراً عبر المسيرة الطويلة لعملية التكامل و الاندماج الأوروبي. ففي زمن "الجماعة الأوروبية للفحم والصلب" أطلق على هذه المؤسسة اسم "السلطة العليا"، وأريد لها أن تكون المركز الرئيسي لعملية صنع القرار و عصبه الحساس، وأن تدار بواسطة فنيين كبار يتمتعون بدرجة كبيرة من الاستقلال عن الحكومات. أما مع معاهدة روما، فقد أطلق عليها اسم "المفوضية" وأعيدت صياغة أهدافها ووظائفها بما يتناسب مع ما مرت به حركة التكامل الأوروبي من تحولات، وخاصة بعد تنامي دور السياسيين على حساب البيروقراطيين. لكن وبعد عمليات التوسع الأفقي المتتالية وانضمام أعضاء جدد إلى الاتحاد الأوروبي باستمرار. ووفقاً للتعديل المقترح في مشروع الدستور ستشكل المفوضية اعتباراً من نوفمبر 2009 من 15 مفوضاً، من بينهم رئيس المفوضية الذي يعين بقرار من البرلمان الأوروبي يتخذ بالأغلبية، بناء على ترشيح المجلس الأوروبي، بقرار يتخذ أيضاً بالأغلبية. ويتعين على المجلس الأوروبي تقديم مرشح أخر في حالة عدم حصول المرشح الأول على الأغلبية اللازمة في البرلمان. أما في حالة الموافقة عليه، فيصبح المرشح الحائز على ثقة البرلمان رئيساً للمفوضية، ويقوم بدوره بتعيين المفوضين الثلاثة عشر الآخرين، وفقاً لنظام التناوب المعتمد، ويحق لرئيس المفوضية تعيين مفوضين آخرون إذا اقتضت الضرورة دون أن يكون لهم حق التصويت. أما وزير خارجية الإتحاد، فيخضع اختياره لنظام مختلف، فالمجلس الأوروبي هو الذي يعين وزير الخارجية، بعد التشاور مع رئيس المفوضية، وهو الذي يقرر تنحيته من وظيفته بالطريقة نفسها إذا تطلب الأمر ذلك. ويعتبر وزير خارجية الإتحاد الأوروبي، بحكم منصبه، نائباً لرئيس المفوضية في الوقت نفسه بإدارة العلاقات الخارجية للإتحاد. ومع ذلك، يمكن القول دون تجاوز إن هذه المؤسسة لا تزال تشكل "المطبخ" الرئيسي لعملية صنع القرار في الاتحاد الأوروبي، وتمارس دورا يشبه إلى حد كبير دور الحكومة في النظم السياسية الداخلية. ونظراً لاختلاف طبيعة النظام السياسي للاتحاد الأوروبي، فإن الدور الذي تلعبه "المفوضية" لا يقتصر على الدور التنفيذي التقليدي الذي تلعبه الحكومات في النظم السياسية الداخلية، إذ تمارس المفوضية في الإتحاد الأوروبي وظائف وصلاحيات ذات أبعداد متعددة، ويمكن تلخيصها فما يلي:
-;- إعداد المقترحات التي تقوي حركة الاندماج الأوروبي.
-;- تنفيذ ما يشرع من قوانين أو يصدر من قرارات، وذلك من منطلق أنها أحد الأجنحة الرئيسية للسلطة التنفيذية في الإتحاد، ومن ثم فهي مسئولة عن إدارة العملية التكاملية برمتها.
-;- متابعة ومراقبة تنفيذ المعاهدات، فهي مسئولة عن وفاء حكومات الدول الأعضاء بما تعهدت به، و التأكد من ذلك، وعن التزام الهيئات والشركات الأوروبية بالقوانين و اللوائح المقررة، وإحالة المخالفات، من جانب الحكومات أو من جانب الهيئات و الشركات و الأفراد، إلى المحكمة الأوروبية. ولها أيضاً أن تقترح فرض عقوبات على هذه الجهات لحملها على احترام و تنفيذ التزاماتها. ولذلك يمكن القول وبدون مبالغة أن المفوضية هي نواة الحكومة الأوروبية، إن لم تكن قد أصبحت حكومة أوروبية بالفعل.
-;- تمثيل الإتحاد، فهي تعتبر الجهة التي تمثل الإتحاد الأوروبي و الناطق باسمه، وتقود المفاوضات الاقتصادية و التجارية الدولية. وقد أكد مشروع الدستور على هذه الوظائف جميعاً، فيما عدا الأمور بالسياسة الخارجية و الأمن، وبعض الأمور الأخرى المحدودة.
وتجتمع المفوضية كهيئة جماعية مرة كل أسبوع على الأقل، ويتم اتخاذ القرارات بالأغلبية البسيطة، ويحق لكل دولة عضو في الإتحاد بموجب معاهدة نيس تعيين مفوض واحد.
4 : البرلمان الأوروبي
البرلمان الأوروبي هو الهيئة التمثيلية التي تعبر عن إرادة الشعوب الأوروبية، وتجسد استمرار دعم وتأييد هذه الشعوب لفكرة الوحدة و الاندماج.
فقد تضمنت معاهدة باريس لعام 1951 تشكيل "جمعية برلمانية" مكونة من 87 مندوباً تعينهم برلمانات الدول الأعضاء بالاقتراع المباشر، وتعقد الجمعية اجتماعاً مرة كل عام لمناقشة تقارير المفوضية. كما تجدر الإشارة إلى أن هذه الجمعية البرلمانية استطاعت تجاوز النصوص وتمكنت من خلال الممارسة، من توسيع نطاق صلاحياتها و اختصاصاتها.
أما معاهدة روما لعام 1957 فقد نصت على تشكيل برلمان أوروبي بدأ فعلياً عام 1962، إلا أنه لم يقنن رسمياً إلا بعد صدور القانون الأوروبي الموحد عام 1986 الذي نص على زيادة عدد المقاعد لصبح 144 مقعداً يتم شغلها بواسطة برلمانات الدول الأعضاء وليس بالاقتراع المباشر، وكانت أهم واجبات البرلمان الرقابة على إنفاق موارد الجماعة الأوروبية.
وفي العام 1978 حصل التغير المنتظر في العضوية في البرلمان الأوروبي، فتم إقرار نظام الاقتراع المباشر لاختيار النواب الأوروبيين الذين يمثلون الدول الأعضاء، وتم تطبيقه فعلياً عام 1979، وهو العام الذي شهد ظهور أول برلمان أوروبي بالاقتراع المباشر، وكان القانون ينص أن تكون مدة الدورة البرلمانية خمسة سنوات. وتتابعت منذ عام 1979 و كان أخرها عام 2009، ونظراً لتوسع الإتحاد الأوربي وانضمام دول جديدة وما يعنيه ذلك من زيادة لعدد الأعضاء، قامت معاهدة نيس 2001 بوضع حد أقصى لعدد الأعضاء المنتخبين ليكون الرقم هو 732 مقعد، لكن هذا الرقم أدخلت عليه تغييرات بموجب مقتضيات معاهدة لشبونة 19 أكتوبر2007 والتي دخلت حيز التنفيذ في 1 ديسمبر 2009، ليصبح عدد المقاعد هو 751، ولكن بما أنه لا يمكن للرئيس التصويت سيكون هناك فقط الأعضاء الذين يحق لهم التصويت 750. بالإضافة إلى ذلك، فإن الحد الأقصى لعدد المقاعد المخصصة لأي دولة سيخفض من 99 حالياً إلى 96 والعدد الأدنى لأي دولة سيكون 6 أعضاء بدلاً من 5 حالياً. وبسبب تأخر إقرار معاهدة لشبونة فهذه التغييرات لم تطبق على الانتخابات الأخيرة للبرلمان السابع وسيتوجب الانتظار للانتخابات القادمة عام 2014 لتطبيق القواعد الجديدة الموجودة في معاهدة لشبونة، ألمانيا ستكون الدولة الوحيدة التي ستفقد عدد من أعضائها لتجازهم الحد الأقصى المذكور لأي دولة. وهكذا سيصبح عدد المقاعد موزعاً كالتالي :
ألمانيا 96 مقعد، فرنسا 74 مقعد، بريطانيا وإيطاليا 73 مقعد، إسبانيا 54 مقعد، بولندا 51 مقعد، رومانيا 33 مقعد، هولندا 26 مقعد، بلجيكا و جمهورية التشيك و اليونان و المجر و البرتغال 22 مقعد، السويد 20 مقعد، النمسا 19 المقعد، بلغاريا 18 المقعد، فنلندا و الدنمارك و سلوفاكيا 13 المقعد، جمهورية إيرلندا و لتوانيا 12 المقعد، لاتفيا 9 مقاعد، سلوفينيا 8 مقاعد، قبرص و إستونيا و لوكسمبورغ و مالطا 6 مقاعد.
يتبين لنا أن تمثيل الدول يقدر حسب عدد سكانها، فألمانيا أكبر دولة في الإتحاد الأوروبي من حيث السكان ومالطا أصغر دولة. ولم تحدد المؤسسات الأوروبية أي شروطاً لعضوية البرلمان الأوروبي، ويمكن الجمع ما بين العضوية في البرلمانات الوطنية والبرلمان الأوروبي. ويتمتع أعضاء البرلمان الأوروبي بنظام للحصانة يشبه نظام الحصانة المعمول به في الدول. ويعقد البرلمان اجتماعاته في مكانين هما، مبنى "لويز ويس" في ستراسبورغ بفرنسا، والذي يقام فيه 12 دورة عامة كل منها مكونة من أربعة أيام في السنة، وهو يعتبر المقر الرسمي. والأخر هو "إسباس لوبولد" في بروكسل ببلجيكا وهو الأكبر وتنعقد فيه اجتماعات اللجان والمجموعات السياسية والجلسات العامة. فيما يقع مقر الأمانة العامة للبرلمان الأوروبي، والهيئة الإدارية للبرلمان، في لوكسمبورغ.
ويحدد البرلمان الأوروبي نظامه الداخلي بنفسه، ويختار في منتصف كل دورة، أي كل سنتين ونصف، رئيساً و 14 نائباً وخمس مراقبين ماليين، كما يحدد اللجان البرلمانية الدائمة والمؤقتة ولجان التحقيق. وكانت وظائف البرلمان في البداية محدودة ومعظمها استشارية، ولكن بعد صدور القانون الأوروبي الموحد عام ،1986 و معاهدة ماسترخت 1992، و معاهدة لشبونة 2007، أصبحت له الصلاحيات التالية:
-;- صلاحية إدخال تعديلات على مشروعات القوانين المقترحة.
-;- حق الاعتراض، ووقف وتعطيل صدور بعض المشروعات.
-;- سلطة التصديق على المعاهدات و الانضمام و المشاركة في الاتحاد.
-;- المشاركة في اتخاذ القرار في بعض المجالات المهمة مثل الإجراءات الخاصة بتوحيد السوق.
-;- تملك رسمياً السلطة على ميزانية الإتحاد الأوربي عن طريق السلطات الممنوحة له من خلال معاهدات الميزانية في السبعينات من القرن الماضي ومعاهدة لشبونة التي أعطت سلطات أكبر للبرلمان فيما يخص الميزانية.
-;- يعين بقرار يتخذ بالأغلبية البسيطة رئيس المفوضية الأوروبية بناءاً على ترشيح المجلس الأوروبي، بالإضافة إلى الموافقة على أعضاء المفوضية المقدمين من طرف رئيس المفوضية.
-;- البرلمان الأوربي لديه السلطة لتوجيه النقد للمفوضية وإذا توفرت أغلبية الثلثين فيمكنه إجبار المفوضية على الاستقالة وإقالتها. ورغم أنه لم يتم استخدام مثل هذا الحق من قبل ولكن تم التلويح به لتهديد المفوضية التي كان يرأسها جاكوس سانتر بين عامي 1995 و1999 والذي استقال من منصبه بعد ذلك.
ورغم ذلك فالبرلمان الأوروبي لم يحظى باختصاصات وسلطات تشريعية شبيهة بتلك التي يتمتع بها البرلمانات الوطنية.
5 : محكمة العدل الأوروبية
وهي الجهاز القضائي للإتحاد الأوروبي ، تتكون المحكمة من قاضي من كل دوله ويشهد له بالكفاءة والخبرة في المجالات القانونية. ويقوم المجلس الوزاري باختيار أعضاء المحكمة بناء على ترشيحات الدول . ويختار قاضي واحد منهم ليكون رئيساً للمحكمة لمدة ثلاث سنوات قابلة للتجديد. وقد يتغير عدد أعضاء المحكمة بتغير عدد أعضاء الجماعة الأوروبية. ويعتبرون مستقلين ، ويضع الاتحاد الأوروبي للقضاة كل الوسائل اللازمة للقيام بواجباتهم على أكمل وجه وحماية استقلالياتهم وحيادهم .
وأهم اختصاصات ووظائف المحكمة هي:
1- الفصل في المنازعات بين الدول الأعضاء حول تفسير القوانين والمعاهدات والاتفاقيات ذات الصلة.
2- الفصل في المنازعات والخلافات بين مؤسسات الاتحاد من ناحية وبين الدول الأعضاء من ناحية أخرى، أو بين مؤسسات الاتحاد فيما بينها .
3- المنازعات التي بين الأفراد والشركات من ناحية وبين الدول الأعضاء من ناحية أخرى، حول الحقوق والالتزامات .
4- تفسير الاتفاقيات والمعاهدات الدولية التي يبرمها الاتحاد.
5- الفصل في المسائل المرفوعة إليها من المحاكم الوطنية وتحديد القوانين الواجبة التطبيق.
وقد أدى تزايد اللجوء إلى محكمة العدل الأوروبية وتراكم القضايا المعروضة عليها ، إلى إنشاء محكمة ابتدائية لمعاونة المحكمة الرئيسية وتخفيف العبئ عنها . وأحكام محكمة البداية قابلة للاستئناف أمام محكمة العدل الأوروبية.
وأكدت معاهدة ماستريخت على أهمية محكمة العدل الأوروبية باعتبارها أحد مكونات النظام المؤسسي الأوروبي والجهة المسؤولة عن فرز وتوحيد القوانين الأوروبية الواجبة التطبيق . ومقر المحكمة في لوكسمبورغ. ويجب التمييز بينها وبين المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان في ستراسبورغ ، فهذه الأخيرة تفصل في القضايا المتعلقة بحقوق الإنسان فقط ، كما ورد في الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان .
6 : اللجنة الاقتصادية و الاجتماعية
تم تأسيسها بمقتضى معاهدة روما لعام 1957، وتقوم اللجنة الاقتصادية والاجتماعية بدور استشاري قريب من دور البرلمان الأوروبي وقد حددت معاهدة روما عدداً من المسائل التي تقوم المفوضية والمجلس الوزاري باستشارة اللجنة فيها قبل إصدار التشريعات دون أن يكون رأي اللجنة ملزماً.
وأعضاء اللجنة الاقتصادية والاجتماعية هم من رجال الأعمال وممثلي مؤسسات المجتمع المدني والأكاديميين والعمال والفلاحين. ويتم تعيينهم بواسطة المجلس الوزاري بناءاً على ترشيح الحكومات التي تقوم باستشارات جماعات المصالح في البلاد، وذلك لفترة أربع سنوات قابلة للتجديد. وقد انبثقت هذه اللجنة شأنها شأن معظم مؤسسات الإتحاد الأوروبي، من رحم الجماعة الأوروبية للفحم والصلب. فقد تضمن الهيكل التنظيمي لهذه الجماعة إنشاء لجنة استشارية مكون من 51 عضواً. ثم أنشئت لجان مماثلة عند قيام السوق الأوروبية المشتركة والجماعة الأوروبية للطاقة الذرية، وتم دمجها معاً في لجنة واحدة مكونة من 101 عضو ازداد عددهم مع ازدياد عدد الدول الأعضاء في الجماعة الأوروبية ثم في الإتحاد الأوروبي ليرتفع إلى 344 عضواً. ويقوم أعضاء اللجنة باختيار رئيس لها كل سنتين، ويقع مقر اللجنة في بروكسل وهي تجتمع ثلاث مرات شهرياً، ومهمة هذه اللجنة دراسة الآراء المقدمة لها في المجالات التالية: 1- الزراعة، 2- المواصلات، 3- الطاقة والمسائل النووية، 4- المسائل الاقتصادية والمالية، 5- الصناعة والتجارة والخدمات، 6- المسائل الاجتماعية،7- العلاقات الخارجية ، 8- التنمية الإقليمية ، 9- حماية البيئة والصحة والشؤون المستهلكة.
ونصت معاهدة الاتحاد الأوروبي ومشروع الدستور الأوروبي على وجوب قيام المجلس الوزاري والبرلمان والمفوضية بالتشاور مسبقاً مع اللجنة الاقتصادية في بعض الموضوعات.
وعلى الرغم من أن الكثير من المحللين لا يعتبرون هذه اللجنة من مؤسسات صنع القرار في الاتحاد الأوروبي إلا أنهم لا يختلفون حول أهمية الدور الاستشاري للجنة داخل الهيكل التنظيمي للاتحاد الأوروبي .

ثانياً : الهيئات و المؤسسات الاستشارية ذات الطابع التقني
بالإضافة إلى المؤسسات الرئيسية السابقة يوجد عدد من المؤسسات منها ما له دور استشاري، ومنها ما هو مستقل عن عمل مؤسسات صنع القرار في الاتحاد الأوروبي ، ولكنها كلها تعمل لخدمة عملية التكامل والاندماج ضمن الاتحاد الأوروبي ولمصلحة أوروبا الموحدة في المستقبل، وهذه الهيئات هي:
1 : محكمة المراجعين )الجهاز الأوروبي للمحاسبة(
وهي الجهة المسؤولة عن فحص ومراجعة ميزانية وحسابات الاتحاد الأوروبي بكل تفاصيلها سواء ما تعلق منها بجانب الإرادات أو بجانب النفقات . وقد أنشئت بموجب معاهدة خاصة أبرمت في 22 يوليو 1975 ، ولكنها لم تبدأ العمل إلا في يونيو 1977 . ومن الواضح أن الحاجة إلى إنشاء هذه الهيئة لم تظهر إلا بعد أن أصبح للجماعة الأوروبية موارد وأرادت ذاتية لا تقتصر على إسهامات الدول الأعضاء.
وتتكون المحكمة من عضو من كل دولة من الدول الأعضاء يتمتع بالخبرة في الأعمال المحاسبية. ويتم تعيين الأعضاء بواسطة المجلس الوزاري لمدة ستة سنوات وتقدم هذه الهيئة تقريراً سنوياً.
2 : لجنة الأقاليم
أنشئت بمقتضى اتفاقية مستريخت وهي مكونة من ممثلين للأقاليم والسلطات المحلية في الدول الأعضاء، يستشيرها المجلس الوزاري والمفوضية في عدد من المجالات وهي : التعليم، والثقافة، والمواصلات ومكافحة البطالة والتشريعات الاجتماعية. ويعتبر رأيها استشارياً وغير ملزم لمؤسسات الاتحاد . والسلطات المركزية في الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي هي التي تختار شاغلي المقاعد المخصصة لها في لجنة الأقاليم من بين الممثلين لسلطات الحكم المحلي والسلطات المسؤولة عن إدارة الأقاليم فيها ، ولكن اللجنة تمارس عملها بشكل مستقل تماماً عن حكومات الدول الأعضاء.
3 : البنك الأوروبي للاستثمار
حرصت اتفاقية روما لعام 1957، على وجود مؤسسة مالية في الجماعة لا تستهدف تحقيق الربح وتعمل على تحقيق تنمية متوازنة ودائمة في الدول الأعضاء وعلى هذا الأساس تأسس في العام 1958 بنك أوروبي للاستثمار الذي يقوم بالمهام الآتية:
-;- الاهتمام بالأقاليم الأقل تقدماً في أوروبا وتمويل مشروعات الاستثمار فيها بهدف تضييق الفجوة بين معدلات النمو بين الدول الأوروبية وداخل كل منها.
-;- تمويل مشروعات مشتركة في الدول الأوروبية بهدف تسهيل ودعم أهداف الجماعة ككل، والتغلب على مشكلات التكامل والاندماج ومعالجة المشكلات الاقتصادية والاجتماعية المشتركة التي تواجهها مثل : مشاكل البطالة والتحديث وتجديد الصناعات والقطاعات الاقتصادية الأخرى .
-;- تمويل مشروعات أوروبية أخرى خارج دول الجماعة بهدف فتح الأسواق الخارجية أمام الجماعة أو دعم علاقة الجماعة الأوروبية بالعالم الخارجي بتوفير الأرضية المشتركة مع العالم الخارجي.
ويعتبر البنك الأوروبي للاستثمار هيئة مستقلة تتمتع بالشخصية القانونية، ويشرف عليها مجلس محافظين مكون من وزراء المالية في الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي.
وتقتصر مهمته على تحديد التوجهات العامة لسياسة الائتمان والإشراف على تنفيذها . وتساهم جميع دول أعضاء الاتحاد الأوروبي برأسمال البنك وفق نظام يتناسب مع الإمكانات والقدرات المالية لكل دولة . ويحق للبنك الاقتراض من البنوك العامة والخاصة ومن مختلف أسواق المال الأوروبية والعالمية.
4 : البنك المركزي الأوروبي
تأسس هذا البنك في مرحلة متأخرة من تطور الجماعة الأوروبية، وبعد أن دخلت عملية التكامل والاندماج الأوروبي مرحلة حاسمة بقرار توحيد العملات الأوروبية وإصدار عملة أوروبية موحدة .
والهدف الأساسي لهذا البنك ، كما هو الحال في البنوك المركزية في الدول الأعضاء ، هو الحفاظ على استقرار العملة الأوروبية ، والعمل على ضبط حجم النقود المتداولة. ويشكل البنك المركزي مع البنوك الأوروبية التي تبنت اليورو منظومة موحدة تسمى منظومة البنوك المركزية الأوروبية . وهو يعتبر هيئة مستقلة تتمتع بالشخصية القانونية. ويشرف على البنك مجلس محافظين ، أما الإدارة الفعلية فيتولاها مجلس تنفيذي ، ويتكون مجلس المحافظين من : محافظي البنوك المركزية في الدول الأعضاء ، بالإضافة إلى أعضاء المجلس التنفيذي الذي يتكون من الرئيس ونائب الرئيس وأربعة أعضاء ، ويتم تعيينهم لمدة ثماني سنوات من بين شخصيات تتوافر فيها الكفاءات المطلوبة وبناء على توصية من المجلس الوزاري بعد التشاور مع البرلمان ، وذلك بقرار جماعي من بين حكومات الدول الأعضاء.
وتجدر الإشارة إلى أن إنشاء البنك المركزي الأوروبي لم يؤدي إلى اختفاء البنوك المركزية في الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي . لذلك يمكن القول أن البنوك المركزية في الاتحاد الأوروبي تشكل مع البنك المركزي الأوروبي منظومة تقع على عاتقها مسؤولية تنفيذ السياسة المالية والنقدية للجماعة الأوروبية.
بناءاً على ما تم ذكره في هذا المحور يمكن القول على أن جميع مؤسسات وأجهزة الاتحاد الأوروبي مستقلة تعمل بحياد عن الدول الأعضاء وتسعى لتنمية عملية الاندماج والتكامل في الاتحاد. ويشترط على موظفيها عند توظيفهم ، العمل بحيادية واستقلاليه من أجل الوصول إلى المستقبل الأفضل لأوروبا الموحدة .
وفي الختام يبقى لنا أن نأكد، على أن بناء أو صناعة الوحدة الأوروبية منذ عام 1951 وحتى الآن، تعكس بصورة واضحة ديناميكية التجربة وحيويتها، وقدرتها على تصنيع خبرة لم تكن معاشة أو موروثة، وربما قيمتها الأساسية، بنجاحها في تحويل هذا الحلم إلى واقع ، واقتحامه وهي مسلحة برؤية كلية. ولعل تعليقات كثير من السياسيين والكتاب الأوروبيين في الستينيات عكست تلك النظرة التشاؤمية لإمكانية نجاح أوروبا في تطوير مسيرتها الداخلية وانتقالها من مرحلة السوق إلى الاتحاد، على اعتبار أن حجم الصعوبات كان كبيرا، وأن المسافة التي تفصل بين الواقع والحلم كانت كبيرة أيضا.
وقد نجحت مسيرة الوحدة الأوروبية في التقدم، وعكست نموذجا في العمل والبناء نجح في صناعة وحدة، لم يتوقعها الكثيرون، وهي بذلك تقدم رسالة إلى العالم العربي، ربما يستفيد منها في حال إذا رغب في تطوير قدراته الداخلية والاعتراف بتواضع طموحاته ورغبته في الإنجاز ولو المحدود، وأن يخرج من دائرة الشعارات العامة المنعزلة عن الواقع، أو الاستسهال في تكريس ثقافة المعونات التي لم ترتبط في معظم الأحيان بتعظيم قدراته الداخلية، وتطوير هياكله السياسية والاقتصادية، يعززها الانبهار بالمظهر السطحي للنموذج الأمريكي الذي ورث قارة عظمي بكرا، وصدر ثقافة للاستهلاك السريع تصورت أنها ستصدر الديمقراطية بقرار أو بقنبلة، واعتبرت في كثير من الأحيان الثراء كأنه فقط حق تاريخي مكتسب للأثرياء فقط، وليس عملية مرادفة لقيم الإنتاج والابتكار والمثابرة.
صار من المهم أن ينفتح العالم العربي على قيم المسيرة الأوروبية في بناء تجربة مثيرة وناجحة رغم الأزمات، يتجاوز فيها نظرته التي تختزل حلفاءه في القادرين فقط على منحه معونة هنا أو تمويلا هناك، أو يكرسون معه حالة الجمود والثبات التي يعيشها. فالتفاعل مع قيم تجربة الوحدة الأوروبية ومسيرتها لا يعني تطابق العالم العربي كليا معها، أو في وجود توافق كامل في المصالح بين الجانبين، ورغبة في إحلال مهيمن أوروبي محل أمريكي، إنما يعني تسليط الضوء على أبرز قيم هذه التجربة ووسائلها لكي تفيد المنطقة العربية في البحث عن صيغ جديدة لنهضتها تتجاوز الانعزال الإقليمي لكل دولة، والشعارات القومية التي تُردد على سبيل الديكور للاستهلاك المحلي.

لائحة المراجع
-;- د.محمد المجذوب: " التنظيم الدولي "، منشورات الحلبي الحقوقية، بيروت، السنة 2007، بدون طبعة.
-;- د.حسن نافعة : " الإتحاد الأوروبي و الدروس المستفادة عربيا "، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، السنة 2004، الطبعة الأولى.
-;- د.لحبيب أنفاذ : " نظام الإتحاد الأوروبي - المؤسسات السياسية - "، مطبعة الجسور، وجدة، السنة 2009، بدون طبعة.
-;- د.صدام مرير الجميلي : " الإتحاد الأوروبي ودوره في النظام العالمي الجديد "، دار المنهل اللبناني، بيروت، السنة 2009، الطبعة الأولى.
-;- محمد مصطفى كمال و فؤاد نهرا : " صنع القرار في الإتحاد الأوروبي و العلاقات العربية الأوروبية "، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، السنة 2001.
-;- عبد المنعم سعيد : " الجماعة الأوروبية – تجربة التكامل و الوحدة – "، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، السنة 1986.
-;- محمد محمود الإمام : " تطور الأطر المؤسسية للإتحاد الأوروبي: الدروس المستفادة للتكامل العربي "، بحوث ودراسات، المنظمة العربية للتنمية الإدارية، القاهرة، 1998.
-;- د.محمد سليم: " دروس في مادة المؤسسات السياسية "، جامعة مولاي إسماعيل، كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية، مكناس، السنة 2006، بدون طبعة.
-;- د.خليل حسين : " المنظمات القارية و الإقليمية "، دار المنهل اللبناني، بيروت، السنة 2010، الطبعة الأولى.
-;- جمال سلامة علي: " أصول العلوم السياسية "، دار النهضة العربية، القاهرة، السنة 2003، بدون طبعة.
-;- د.بوعبيد عباسي: " القانون الجماعي الأوروبي "، المطبعة والوراقة الوطنية، مراكش، السنة: 2005، الطبعة الأولى.
-;- أخصاص خليد : " نظام تسوية النزاعات في الإتحاد الأوروبي "، بحث لنيل الدكتوراه في القانون العام، وحدة المغرب في النظام الدولي، السنة : 2004 – 2005.
-;- د.أحمد سعيد نوفل: " متحدون في التنوع: - الإتحاد الأوروبي بين القدرات والتحديات -"، المجلة العربية للعلوم السياسية، ربيع 2010.
-;- محمد خالد الأزعر: " الجماعة الأوروبية... قراءة في المعوقات السياسية للوحدة "، مجلة مستقبل العالم الإسلامي، السنة الثالثة، العددان 10/11، 1993.
-;- Bernard Cassen: « Une Europe de moins en moins européenne : Paradoxe d’un élargissement décidé Copenhague », Le monde diplomatique (janvier. 2003).
-;- Quermonne, Le Système politique De L’-union- Européenne : Des communautés économiques à L’-union- politique.
-;- Dick Leonard: « Pocket Guide to the European community. With by Roy Jenkins », Oxford, UK-;- New York: B Blackwell-;- London: Economist Publications, 1988.
-;- Alfred Grosser : « Les pays de l’-union- européenne », éds la documentation française, Paris, 2004.
-;- Clive Archer and Fiona Butler, the European community: «Structure and process», (New York: st. martin s poss, 1992).
-;- Europe occidenttale et médiane, Journal de l’année, « Revue Etat du Monde », Eds la découverte, Paris, 1998.
-;- - Qui fait quoi dans l’-union- européenne ? Quel est l’apport du traité de Nice ? Commission européenne .O.P.O.C.E. Luxembourg, 2001.
-;- Encyclopédie Encarta, 2005, Microsoft corporation, http://www.ar.wikipedia.org

أنس المرزوقي
باحث في القانون الدولي والعلوم السياسية



#أنس_المرزوقي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- آليات وضمانات تطبيق القانون الدولي الإنساني
- قواعد حماية البيئة البحرية من التلوث
- المسؤولية الدولية عن الأضرار الناتجة عن تلوث البيئة البحرية


المزيد.....




- اعتقال نازيين مرتبطين بكييف خططا لأعمال إرهابية غربي روسيا
- شاهد.. لحظة اعتقال اكاديمية بجامعة إيموري الأميركية لدعمها ق ...
- الشرطة الاميركية تقمع انتفاضة الجامعات وتدهس حرية التعبير
- صحف عالمية: خيام غزة تخنق النازحين صيفا بعدما فشلت بمنع البر ...
- اليونيسف تؤكد ارتفاع عدد القتلى في صفوف الأطفال الأوكرانيين ...
- يضم أميركا و17 دولة.. بيان مشترك يدعو للإفراج الفوري عن الأس ...
- إيران: أمريكا لا تملك صلاحية الدخول في مجال حقوق الإنسان
- التوتر سيد الموقف في جامعات أمريكية: فض اعتصامات واعتقالات
- غواتيمالا.. مداهمة مكاتب منظمة خيرية بدعوى انتهاكها حقوق الأ ...
- شاهد.. لحظة اعتقال الشرطة رئيسة قسم الفلسفة بجامعة إيموري ال ...


المزيد.....

- التنمر: من المهم التوقف عن التنمر مبكرًا حتى لا يعاني كل من ... / هيثم الفقى
- محاضرات في الترجمة القانونية / محمد عبد الكريم يوسف
- قراءة في آليات إعادة الإدماج الاجتماعي للمحبوسين وفق الأنظمة ... / سعيد زيوش
- قراءة في كتاب -الروبوتات: نظرة صارمة في ضوء العلوم القانونية ... / محمد أوبالاك
- الغول الاقتصادي المسمى -GAFA- أو الشركات العاملة على دعامات ... / محمد أوبالاك
- أثر الإتجاهات الفكرية في الحقوق السياسية و أصول نظام الحكم ف ... / نجم الدين فارس
- قرار محكمة الانفال - وثيقة قانونيه و تاريخيه و سياسيه / القاضي محمد عريبي والمحامي بهزاد علي ادم
- المعين القضائي في قضاء الأحداث العراقي / اكرم زاده الكوردي
- المعين القضائي في قضاء الأحداث العراقي / أكرم زاده الكوردي
- حكام الكفالة الجزائية دراسة مقارنة بين قانون الأصول المحاكما ... / اكرم زاده الكوردي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث قانونية - أنس المرزوقي - مراحل بناء الإتحاد الأوروبي