أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - هشام روحانا - التأويل مقابل الشكلانية - سلافوي جيجيك















المزيد.....


التأويل مقابل الشكلانية - سلافوي جيجيك


هشام روحانا

الحوار المتمدن-العدد: 4326 - 2014 / 1 / 5 - 20:16
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


ترجمة: هشام روحانا
من أين نبدء إذا؟ ففي العصر الحالي وحيث تسود تقنيات العتمة الحديثة سيبدو على أنه من الملائم وأكثر جاذبية التأكيد على الدروس التي قدمها لينين في "المادية والمذهب النقدي التجريبي" : القراءة المعاصرة والشائعة اليوم لنظرية الكفانتوم في الفيزياء هي نفس القراءة التي كانتها أيام لينين؛ الفرضية هي أن العلم نفسه قد تجاوز المادة ، على المادة أن تختفي وأن تتحلل في الموجات الغير مادية لحقول الطاقة. من الصحة القول كما يؤكد لوتشو كوليتي ( Lucio Colletti) (1) بأن لينين يميز ما بين الفكرة الفلسفية والفكرة العلمية عن المادة، ووفق هذا التميز وبما أن الفكرة الفلسفية عن المادة كوجود واقعي غير متعلق بالعقل الأمر الذي يستبعد أي تدخل للفلسفة في العلم، إن فكرة جدل الطبيعة والجدل في الطبيعة غير قابلة للتحديد مطلقاً. وعليه فإنه لا وجود للجدل ولهيجل في "المادية والمذهب النقدي التجريبي". ما هي إذا موضوعة لينين الأساسية؟ رفض اختزال المعرفة الى أداتوية عملية أو ظاهراتية ( إي الإصرار على أنه في المعرفة العلمية نعرف أشكال وجود الأشياء بشكل مستقل عن عقولنا- "النظرية الانعكاسية " والغير مشهورة) بالإضافة إلى الإصرار على الطبيعة الغير ثابتة لمعارفنا (والتي هي دائما محدودة نسبية و"تعكس" الواقع الخارجي في مسار لانهائي من التعديلات التقريبية). ألا يبدو الأمر مألوفا؟ أليس هو ذاته في الفلسفات التحليلية الانجلو-ساكسونية التقليدية، أوليس هو موقف كارل بوبر (2) الأساسي والذي يشكل النموذج النقيض لهيجل؟
وفي مقالة لوتسيو كوليتي القصيرة "لينين وبوبر" يشير كوليتي إلى رسالة خاصة من عام 1970 ونشرت لأول مرة في " Die Zeit " يصرح بوبر بأن "كتاب لينين حول المذهب النقدي التجريبي برأيي ممتاز حقاً".
إن هذا اللب المادي الصلب في "المذهب النقدي التجريبي" يستمر في " ملاحظات فلسفية" من العام 1915 وبالرغم من أعادة اكتشاف لينين لهيجل - لماذا؟ في هذه الملاحظات يتصارع لينين مع ذات المشكلة التي لدى أدرنو في " الجدل السلبي": كيف يجب إدماج ميراث هيجل النقدي والمتعجل حول التوسط الذاتي لكل معطى موضوعي مع أقل قدر من المادية والتي يدعوها أدرنو " الهيمنة البارزة للموضوعي" (وهذا هو السبب الذي يدعو لينين إلى التشبث ب "النظرية الانعكاسية" والتي وفقها تقوم الأفكار الإنسانية بعكس الواقع الموضوعي) ؟. إلا أن كلا من لينين وأدرنو يتخذ المسار الخاطئ : لا يتم الدفاع الحق عن المذهب المادي باللجوء إلى أقل قدر ممكن من الواقع الموضوعي خارج الأفكار المتوسطة ذاتيا، بل بالإصرار على هذه التلازم غير المشروط للعوائق الخارجية والتي تمنع الفكر من حيازته لاستقلالية مطلقة بذاته. وفي اللحظة التي ننسحب فيها واضعين العوائق في الخارج فأننا نصاب بالنكوص نحو شبه-إشكالية ذالك الفكر الغير قادر على مقاربة "الواقع الموضوعي" المتملص على الدوام، ولن نكون قادرين أبدا على أستيعابه في مجمل تعقيداته. والاشكالية مع "النظرية الانعكاسية" للينين هي منابعها المثالية التبسيطية : وهي هذا الاصرار المندفع على الفصل التام للوجود المادي الواقعي بمعزل عن الوعي والذي يجب أن يقرء على أنه إزاحة دلالية، وتعني أنه بحسب هذه النظرة يتم إغفال المعطى الرئيسي حيث يُموضع الوعي نفسه بالكامل خارج هذا الواقع الذي عليه أن "يعكسه". إن الاستعارة الرئيسية لمثل هذه المقاربة اللانهائية للواقع الحقيقي، للحقيقة الموضوعية تفضح هذه المثالية: إن هذه الاستعارة لا تأخذ بعين الاعتبار حقيقة أن هذا الانحياز (التشوه) القائم في "الانعكاس الذاتي" لا يحدث الا لأن الذات هي جزء داخلي لهذا المسار الذي تعكسه هي ذاتها- وفقط ذالك الوعي الناظر الى العالم من خارجه قادر على رؤيته بكامل واقعيته الحقيقية.
لا يعني هذا الامر، بالطبع، أن تقصي الاختلاف ما بين المادية والمثالية ليس مهما كما كان في الماضي، على المرء التقدم وفق الصيغة اللينينية-من خلال التحليل الموضوعي للوقائع الموضوعية- متبينا أين هو هذا الخط الفاصل. مما يغرينا بالادعاء انه حتى في المجال الديني تبرز اللحظة الفريدة للمادية مشارا اليها بكلمات المسيح على الصليب " إلهي إلهي، لماذا تركتني؟" - ففي هذه اللحظة من التخلي الكلي تفترض الذاتّ وجود الآخر الكبير.
وبمنحى أكثر تجريداً، الخط الفاصل هو ما بين التقاليد العرفانية-السقراطية "المثالية" التي تدعي بأن االحقيقة موجودة في دواخلنا وليس علينا سوى إعادة اكتشافها من خلال الرحلة الى هذا الداخل، وبين التقاليد اليهودية - المسيحية "المادية" والقائلة بأن الحقيقة لا تظهر الا من خلال مجابهة صادمة خارجية تزعزع توازن الذاتّ. تتطلب "الحقيقة" جهدا يوظف في الصراع ضد نزعاتنا "التلقائية".
هل علينا ربط هذه الفكرة عن الحقيقة التي تظهر على إثر اللقاء مع فاعل خارجي بمقولة لينين الشهيرةالغير شهيرة من "ما العمل؟"، والقائلة بأن الطبقة العاملة لا تستطيع بلوغ وعيها الطبقي الكافي "عفويا" من خلال تطورها "الطبيعي"، أي ، كيف لهذه الحقيقة أن تُدخَل اليها من خارجها (من قِبل مُثقَفي الحزب)؟ وحين يقتبس لينين عن كاوتسكي في هذا المكان بالذاتّ يقوم لينين بإدخال تعديل جوهري في مقولة كاوتسكي؛ ففي حين يتحدث كاوتسكي (3) عن الانتلجنسيا من خارج الطبقة العاملة أي من خارج الصراع الطبقي والتي على عاتقها تقع مهمة تقديم العِلم (المعرفة الموضوعية التاريخية) للطبقة العاملة، يتحدث لينين عن الوعي الذي يجب أن يُقدم لها من الخارج على يد الانتلجنسيا من خارج الصراع الاقتصادي وليس من خارج الصراع الطبقي! وها هي الفقرة التي يقوم لينين باقتباسها بإيجاب:
" الاشتراكية والصراع الطبقي ينشئان معا، وليس الاول مكان الثاني؛ وكلُ واحد منهما ينشأ ضمن ظروف مختلفةَ |....| ليست البروليتاريا هي قاطرة العلم بل الانتلجنسيا البرجوزية |.....| يتم إدخال الوعيّ الاشتراكي الى صراع البروليتاريا الطبقي من خارجها وليس كأمر ينشأ داخلها بشكل عفوي".
وها هي صياغة لينين المقابلة:
"|....| إﻥ ﻜل ﺘﻘﺩﻴﺱ ﻟﻌﻔﻭﻴﺔ ﺤﺭﻜﺔ ﺍﻟطبقة العاملة، ﻜل ﺍﻨﺘﻘﺎﺹ ﻤﻥ ﺩﻭﺭ "ﻋﻨﺼﺭ ﺍﻟﻭﻋﻲ"، لدور ﺍﻻﺸﺘﺭﺍﻜﻴﺔ-ﺍﻟﺩﻴﻤﻭﻗﺭﺍﻁﻴﺔ، ﻴﻌﻨﻲ |....| ﺘﻘﻭﻴﺔ ﻨﻔﻭﺫ ﺍﻹﻴﺩﻴﻭﻟﻭﺠﻴﺔ ﺍﻟﺒﺭﺠﻭﺍﺯﻴﺔ على ﺍﻟﻌﻤﺎل.|....| ﻓﻼ ﻴﻤﻜﻥ ﺃﻥ ﺘﻁﺭﺡ ﺍﻟﻤﺴﺄﻟﺔ ﺇﻻ ﺒﺎﻟﺸﻜل ﺍﻟﺘﺎﻟﻲ: ﺇﻤﺎ ﺇﻴﺩﻴﻭﻟﻭﺠﻴﺔ ﺒﺭﺠﻭﺍﺯﻴﺔ ﻭﺇﻤﺎ ﺇﻴﺩﻴﻭﻟﻭﺠﻴﺔ ﺍﺸﺘﺭﺍﻜﻴﺔ. ﻭﻟﻴﺱ ﺜﻤﺔ ﻭﺴﻁ ﺒﻴﻨﻬﻤﺎ |...| ﻭﻟﻜﻥ ﺍﻟﺘﻁﻭﺭ ﺍﻟﻌﻔﻭﻱ ﻟﺤﺭﻜﺔ ﺍﻟطبقة العاملة ﻴﺴﻴﺭ ﻋﻠﻰ ﻭﺠﻪ ﺍﻟﺩﻗﺔ ﻓﻲ ﺍﺘﺠﺎﻩ ﺇﺨﻀﺎﻋﻬﺎ ﻟﻺﻴﺩﻴﻭﻟﻭﺠﻴﺔ ﺍﻟﺒﺭﺠﻭﺍﺯﻴﺔ |...| ﻷﻥ ﺍﻟﺤﺭﻜﺔ ﺍﻟﻌﻤﺎﻟﻴﺔ ﺍﻟﻌﻔﻭﻴﺔ ﻫﻲ ﺍﻟﺘﺭﻴﺩﻴﻭﻨﻴﻭﻨﻴﺔ." [كلا الاقتباسان من مؤلف لينين "ما العمل؟"]
قد يبدو أن كلتا الصيغتان سيان، لكن لا: فوفق كاوتسكي لا وجود لثغرات في وجه السياسة الملائمة، بل هنالك إدماج للاجتماعي (الطبقة العاملة في صراعها الطبقي حيث تُستثنى الانتلجنسيا ضمناً) والطبقات المحايدة مع المعرفة اللاذاتية لهذه الانتلجنسيا. لكن لدى لينين وبالعكس من هذا يتم دفع هذه "الانتلجنسيا" الى داخل الصراع الايديولوجي (أي الصراع الطبقي الايديولوجي) الذي لا يمكن تجاوزه. (وكان هذا ماركس الذي إتخذ هذا الموقف، ففي شبابه تمنى حصول وحدة بين الفلسفة المثالية الالمانية مع الجماهير الثورية الفرنسية وفي سنواته الاخيرة أصر على الا تترك قيادة الاممية، ولا بأي شكل من الاشكال، في يد العمال الانجليز، بالرغم من كونهم الاكثر عددا وتنظيما- بعكس العمال الالمان - ذلك أنهم لا يمتلكون الصلابة النظرية.)
المسألة تخص إذا الموقع الدقيق لهذا الخارج : هل هذا الخارج هو بمثابة هؤلاء العلماء الموضوعيين والمتجردين والذين بعد دراستهم للتاريخ يتيقنون بانه وعلى المدى البعيد ينتظر الطبقة العاملة مستقبل عظيم فيقررون الانضمام الى الجانب المنتصر؟ وهكذا وعندما يصرح لينين بأن " النظرية الماركسية ستنتصر لأنها تمتلك الحقيقة" فكل شيء يتعلق هنا بما نعنيه بال"حقيقة" : هل هي هذه " المعرفة الموضوعية" المحايدة أم أنها تلك الحقيقة التي تمتلكها الذاتّ المنخرطة [في الممارسة الثورية]. إن الرهان اللينيني - في زمننا المعاصر، زمن النسبية الما بعد حداثية- هو أن الحقيقة الكلية والموقع المناصر- الأستعداد لإتخاذ موقف - ليسا فقط غير متعارضان بل يشترطان الواحد الآخر؛ وعلى مستوى الواقعة الملموسة لا يتم التعبير عن حقيقتها الكلية إلا من الموقع الأنصاري (PARTISAN position)، إذ أن الحقيقة من حيث تعريفها أحادية الجانب.( هذا ما يتناقض بالطبع مع العقيدة السائدة الداعية لحل وسط، لإيجاد تسوية بين المصالح المتعددة والمتناقضة فيما بينها). بناء عليه، لماذا إذا لا تتم المصادقة بشجاعة وبدون خجل على الاتهام المضجر والنمطي بأن الماركسية ليست الا "دين دنيوي" ولينين هو المُخلص الخ الخ.؟ نعم إن تبني وجهة نظر البروليتاريا هو بالضبط قفزة إيمانية وتبني للانخراط الذاتي الكامل في قضيتها، ونعم، لا يتم استيعاب"الحقيقة" الماركسية الا من قبل من يُنجز هذه القفزة، أما المراقب المحايد فلن يستطيع ذالك. ما يعنيه الخارج هنا هو ليس أن الحقيقة بالرغم من هذا كُلّية وليس فقط وجهة نظر لذاتّ تاريخية مُحددة: الانتلجنسيا "الخارجية" ضرورية لأن الطبقة العاملة لا تستطيع بشكل مباشر وعي دورها داخل الكُلية الاجتماعية، الامر الذي يمكنها من إنجاز " مهمتها"- هذا التبصر لا يتم الا بالتوسط من قبل عامل خارجي.
لماذا لا تتم إذاً إقامة صلة بين شكلي الخارج هذين ( ذالك الذي للتجربة الصادمة من قبل الواقع المقدس وذالك الذي للحزب) مع خارج ثالث، ذالك الذي للمحلل النفسي في العلاج النفس-تحليلي ؟ في هذه الأشكال الثلاثة نحن أمام نفس الاستحالة التي يقف أمامها الشاهد أمام العوائق المادية : لا يستطيع المؤمن " اكتشاف الله في دخيلته" ، من خلال التعمق في ذاته، من خلال التحقق العفوي الذاتي – على الله أن يتدخل من الخارج معكراً علينا توازننا؛ ليس بمقدور الطبقة العاملة الوصول بشكل عفوي إلى اكتشاف مهمتها التاريخية- على الحزب أن يقوم بالتدخل من الخارج مزعزعا عفويتها المكتفية بذاتها؛ لا يستطيع المتحلل المريض تحليل نفسه، إذ بعكس التقاليد الغنوصية للتعمق الذاتي لا يقوم التحليل النفسي إلا بوجود ماهية خارجية تقوم بتجسيد الموضوع-القضية إزاء رغبة الذات. ما هو إذا منبع هذه الاستحالة؟ ذالك بالضبط لأن أيا من هذه الذوات (المؤمن، البروليتاريا، المتحلل النفسي) ليس فاعلا مكتفيا بذاته معتكفا على ذاته بل هو مُزاح عن المركز يتصارع مع ماهية غريبة. الله المحلل والحزب – هذه الأشكال الثلاثة لل-"ذات المفترض عارفة"، تشكل الموضوع المرجعي، ولهذا يُسمع الادعاء " الله، الحزب، المحلل دائما على حق"، وكما كان واضحا لكيركيغارد (4) في السابق تقوم صحة هذه المقولة من خلال صياغتها المعكوسة: " المرء على خطأ دائما". ان هذا العنصر الخارجي لا يحل محل المعرفة الموضوعية، فخارجيته غير موضوعية تماما، ذالك أن حاجة الطبقة العاملة إلى الحزب تنبع من كونها كطبقة "غير كاملة بذاتها" أبداً.
يقوم ماركس في " مقدمة في نقد فلسفة الحق لدى هيجل" بعرض أمر شبيه لمنطق الهيمنة: ظهور "طبقة كُلية "(الطبقة البرجوازية أثناء الثورة الفرنسية)، طبقة محددة تقدم نفسها على أنها عامة، لتخلق حالة من الحماسة العامة للعمل في سبيل المجتمع ككل، بالضد من النظام القديم المجرم بحق المجتمع ككل. وبعد التحرر من الاوهام، هذه الاوهام التي سخر منها ماركس، تظهر الى العلن الفجوة الواضحة ما بين العام والخاص، إذ يغدو مبدأ الربح الرأسمالي الفظ هو فعليا هذه الحرية الكُلية. وطبعا فبالنسبة لماركس تشكل البروليتاريا هذه الطبقة الكُلية إذ أن فرادتها (كونها مستثناة من الملكية الفردية) هي ضمانة هذه الكُلية الفعلية. هذا ما يرفضه ارنستو لاكلو(5) بإدعاء أن المسافة القصيرة بين العام والخاص هي وهمية دائما، مؤقتة، وتشكل نوعا من " المغالطة المتعالية". ولكن هل تشكل بروليتاريا ماركس الوجه السلبي لأنسانية مكتملة وأيجابية أم أنها فقط فجوة هذه الكلية الغير قابلة للردم إيجابياً؟ في مفهوم الن باديو(6) لا تشكل البروليتاريا طبقة اضافية بل هي هذا التفرد في البنية الاجتماعية وبوصفها هذا فإنها الطبقة الكلية ؛ اللا- طبقة بين سائر الطبقات.
ما هو جوهري هنا هو هذا التوتر الجدلي والمؤقت ما بين العام والخاص. وعندم يقول ماركس بأنه وفي المانيا وبسبب ضيق أفق الطبقة البرجوزية فيها والساعي الى حلول وسطى، فأن التحرر البرجوزي الخاص صار متأخرا، ولهذا وبسببه فأن شرط أي تحرر خاص هو التحرر العام، وواحد من اشكال النظر في هذا الامر هو تأكيد الانموذج العام و"المعياري" و استثنائته : في الحالة "المعيارية"، سيتبع التحرر البرجوازي الخاص (الزائف)تحرر عام من خلال الثورة البروليتارية ، بينما يختلط هذا الترتيب "المعياري" في المانيا. الا أنه من الممكن قراءة الامر على نحو أكثر جذرية :
إن خصوصية الاستثناء الالماني المتمثل في عجز البرجوازية الالمانية عن القيام بالتحرر الخاص، سيفتح المجال أمام امكانية التحرر العام. لهذا فإن البعد العام يبزغ (فقط) عندما يتعطل التعاقب "المعياري". لهذا لا وجود هناك لثورة "معيارية"، كل إنفجار ثوري يتأسس على إستثناء متوتر ما بين ال " المتأخر جدا" و "المبكر جدا". حصلت الثورة الفرنسية لأن فرنسا لم تستطع ان تتبع المسار "المعياري" الرأسمالي الانجليزي؛ هذا المسار "المعياري" الانجليزي نشأ بسبب تقسيم العمل "الغير معياري" بين رأسالمال الذي سيطر على المجال الاجتماعي-الاقتصادي وتُركت الارستقراطية لتسيطر على المجال السياسي.
نستطيع توضحيح هذا الأمرمن خلال التعارض ما بين التأويل والشكلانية: العامل الخارجي (الحزب، الله، المحلل) ليس هو من " يفهمنا اكثر من أنفسنا " حين يقدم تأويلا حقيقيا لمعاني أفعالنا وتصريحاتنا؛ بل هو ما يهيء الشكل الذي تجري فيه أفعالنا. بالنسبة لماركس فإن شكل انتشار البضاعة في الفصل الأول من رأس-المال ليس "سردية" ليس فكرة (Vorstellung) بل خدعة (Darstellung)؛ أنه انتشار البنية الداخلية لعالم البضائع- أما السردية بالعكس من هذا فهي الحكاية عن "التراكم البدائي"، هذه الاسطورة التي يقدمها رأس المال لتفسير مصادره. وفي نفس السياق فإن هيجل في الفينومنولوجيا لا يقترح سردية شمولية بل فقط الشكل الذي تتحرك فيه الذاتّية، هذا ما يشدد عليه في المقدمة انه يركز على ال"نواحي الشكلية" (das Formelle). وعلى هذا النحو علينا ان نتوجه ايضا في التعامل مع السرديات المعاصرة الكبرى، مستدعين الى النقاش التوصيف المرن لفريدريك جيمسون(7) لأزمة الحوار ما بين اليسار الغرب-اوروبي الجديد و المنشقين الشرق-اوربيين بوصفها انعدام لغة مشتركة بين الجانبين:
" بإختصار، يرغب الشرق بالحديث بمصطلحات السلطة والهيمنة بينما يريد الغرب الحديث بمصطلحات الثقافة و السلعنة (Commodification) (8). وفي الحقيقة فأنه لا وجود لقاسم مشترك بين الصراع الأولي من أجل قواعد تخاطبية وبين النتائج الغير مرحب بها على شكل مسرحية هزلية يصيغ فيها كل طرف ردوده باللغة المفضلة عليه".
ومع هذا فإن جيمسون يستمر بالتعامل مع الماركسية بوصفها لغة- عليا (Meta-language) تمكننا من موضعة وقياس جميع السرديات التأويلات الجزئية الأخرى فهل هنالك مفارقة في هذا الامر؟ هل هنالك إثنان من فردريك جيمسون واحد ما بعد حداثي ينظر لتعددية السرديات الغير قابلة للأختزال وآخر تقليدي يدافع عن تأويلات ماركسية كونية؟ والطريق الوحيد لتخليص جيمسون من هذه المفارقة هو في الاصرار على ان الماركسية ليست هي الافق التأويلي الجامع بل هي المصفوفة (Matrix) التي تمكننا من الأخذ بعين الاعتبار ( وتوليد) تعددية السرديات وأو التأويلات. وها هنا هو المكان الذي يتوجب علينا فيه الاشارة الى التمايز الجدلي الرئيسي بين الشخصية المُؤسِسة لحركة ما والشخصية التي تعطيها الشكل، ففي النهاية كان لينين هو هذا الذي أعطى ماركس "الشكل" حين عرف الحزب بوصفه الشكل السياسي للفعل التاريخي، كما كان القديس بولص بالنسبة للمسيحية ولاكان (9) بالنسبة لفرويد.
تتعلق هذه الشكلانية بالتحديد مع التركيز على واقعية التناقض : الصراع الطبقي ليس الافق الأخير للمعنى او المعنى الاخير للظاهرة الاجتماعية بل هو مصفوفة توليدية شكلانية لأفق مختلف من الادراك الايديولوجي. أو لنقل أن على المرء الا يخلط بين هذه الفكرة الجدلية المحددة للشكل مع الفكرة الليبرالية و فكرة التعددية الثقافوية عن الشكل بوصفه هيكلا محايدا يجمع "سرديات" متعددة، ليس في الادب بل وايضا في السياسة والدين والعلوم، أي كسرديات متنوعة وروايات نقص فيها لأنفسنا عن أنفسنا قصصا، بحيث يكون الهدف النهائي للأخلاق هو ضمانة المجال المحايد لتتمكن فيه هذه السرديات من التعايش مع بعضها بسلام، يكون للجميع فيه وبدءا من الاقليات الاثنية والجنسية الحق والامكانية لرواية قصته. إن هذه الفكرة الجدلية المحددة عن الشكل هي ما يشير تحديدا الى استحالة هذه الفكرة الليبرالية عن الشكل: لا علاقة للشكل مع الشكلانية (Formalism) مع الفكرة عن شكل محايد مستقل عن محتواه الخاص والملازم له، إنه ما يضمن للواقعي جوهره الصادم، إنه التناقض الذي يلون مجال المسألة بالكامل. بهذا المعنى تحديدا يكون الصراع الطبقي هو الشكل لما هو اجتماعي : فكل ظاهرة اجتماعية تتحدد به، مما يعني ايضا انه من غير الممكن البقاء محايدا ازائه.
ملاحظات المترجم

(1) لوتشو كوليتي : كان من أهم الفلاسفة الطليان في القرن العشرين وعضوا في الحزب الشيوعي الايطالي ومن أبرز وجوهه الثقافية، قام بالاحتجاج على التدخل السوفيتي في هنغاريا عام 1956 وأصدر سوية مع مثقفين آخرين "بيان ال-101" . غادر لاحقا صفوف الحزب ليصبح من نقاد الماركسية. أشغل حتى مماته مقعدا في البرلمان الايطالي على لائحة اليمين بزعامة برليسكوني، له مؤلفات عديدة من بينها " أفول الماركسية".
(2) كارل ريموند بوبر : فيلسوف إنكليزي نمساوي المولد. متخصص في فلسفة العلوم. عمل محاضرا في كلية لندن للاقتصاد. يعتبر بوبر أحد أهم واغزر المؤلفين في فلسفة العلم في القرن العشرين و الفلسفة الاجتماعية والعلوم السياسية له مؤلفات عديدة، ترجم الكثير منها الى العربية الكثير، مثلا "المجتمع المفتوح وأعداؤه"، بؤس الأيديولوجيا" و" منطق البحث العلمي".

(3) كارل كاوتسكي : فيلسوف و منظر اشتراكي - ديمقراطي ألماني-تشيكي ولد في براغ في 1854 وتوفي في 1938. قيادي بارز في الحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني و أحد أبرز المنظرين الماركسيين في أوروبا والعالم بعد وفاة فريدرخ انغلز. يعتبر كارل كاوتسكي أحد زعماء الحركة الأممية الثانية في مطلع القرن العشرين. كان يلقب "بابا الماركسية"، وقد هاجمه لينين في كراسه المعروف "الثورة البروليتارية والمرتد كاوتسكي"، وذلك بسبب موقفه اليمينية من الثورة البلشفية وسلطة السوفيتات.
(4) سورين كيركيغارد (كيركغور) بالدنماركية Søren Kierkegaard ، فيلسوف ولاهوتي دنماركي كبير. كان لفلسفته تأثير حاسم على الفلسفات اللاحقة، لا سيما في ما سيعرف بالوجودية المؤمنة.
(5) ارنستو لاكلو Ernesto Laclau : مُنظر سياسي أرجنتيني يوصف بأنه ما-بعد ماركسي، ترجم له الى العربية " الهيمنة والاستراتيجية الاشتراكية".
(6) ألن باديو فيلسوف ومنظر فرنسي معاصر ينتمي فكريا لأقصى اليسار ذي الجذور الشيوعية، من أعماله الفلسفية " الكينونة والحدث" " نظرية التناقض" بيان الفلسفة" "العدد والأعداد" و"بيان الفلسفة الثاني".
(7) فريدريك جيمسون فيلسوف وناقد أدبي ماركسي امريكي معاصر. ومن كتب جيمسون المعروفة : «ما بعد الحادثة: المنطق الثقافي للرأسمالية المـتأخرة»، «اللاوعي السياسي »، «الماركسية والشكل».
(8) السلعنة أو التسليع (Commodification): مفهوم ماركسي يشير الى تحول الطبيعة الخدمات والافكار وكذالك الانسان نفسه الى بضاعة للمقايضة والتبادل في عصر راس المال.
(9) جاك لاكان محلل نفسي فرنسي يعتبر نفسه المكمل لفرويد، اما الكاتب سلافوي جيجيك فيعتبر نفسه لاكانيا ايضا.



#هشام_روحانا (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عظمة لينين - ليبقى الأمر فيما بيننا: إذا ما اغتالوني...
- إقتنص النهار: ميراث لينين - سلافوي جيجيك
- خيار لينين - سلافوي جيجيك
- أفكار نحو علم جمال للسينما (*) - جورج لوكاتش
- مقاربة جدلية للشكل السينمائي- سيرجي أيزينشتاين (2-2)
- مقاربة جدلية للشكل السينمائي (1)سيرجي أيزينشتاين


المزيد.....




- الهجمة الإسرائيلية المؤجلة على إيران
- بلاغ صحفي حول اجتماع المكتب السياسي لحزب التقدم والاشتراكية ...
- أصولها عربية.. من هي رئيسة جامعة كولومبيا بنيويورك التي وشت ...
- مصدر التهديد بحرب شاملة: سياسة إسرائيل الإجرامية وإفلاتها من ...
- الشرطة الفرنسية تستدعي نائبة يسارية على خلفية تحقيق بشأن -تم ...
- السيناتور ساندرز يحاول حجب مليارات عن إسرائيل بعد لقائه بايد ...
- إعادة افتتاح متحف كانط في الذكرى الـ300 لميلاد الفيلسوف في ك ...
- محكمة بجاية (الجزائر): النيابة العامة تطالب بخمسة عشر شهرا ح ...
- تركيا تعلن تحييد 19 عنصرا من حزب العمال الكردستاني ووحدات حم ...
- طقوس العالم بالاحتفال بيوم الأرض.. رقص وحملات شعبية وعروض أز ...


المزيد.....

- مساهمة في تقييم التجربة الاشتراكية السوفياتية (حوصلة كتاب صا ... / جيلاني الهمامي
- كراسات شيوعية:الفاشية منذ النشأة إلى تأسيس النظام (الذراع ال ... / عبدالرؤوف بطيخ
- lمواجهة الشيوعيّين الحقيقيّين عالميّا الإنقلاب التحريفي و إع ... / شادي الشماوي
- حول الجوهري والثانوي في دراسة الدين / مالك ابوعليا
- بيان الأممية الشيوعية الثورية / التيار الماركسي الأممي
- بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة ف. آي. لينين (النص كاملا) / مرتضى العبيدي
- من خيمة النزوح ، حديث حول مفهوم الأخلاق وتطوره الفلسفي والتا ... / غازي الصوراني
- لينين، الشيوعية وتحرر النساء / ماري فريدريكسن
- تحديد اضطهادي: النيوليبرالية ومطالب الضحية / تشي-تشي شي
- مقالات بوب أفاكيان 2022 – الجزء الأوّل من كتاب : مقالات بوب ... / شادي الشماوي


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - هشام روحانا - التأويل مقابل الشكلانية - سلافوي جيجيك