أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فؤاد احمد الخفاجي - صراع البداوة والحضارة وتأثيره على الطابع العمراني ..















المزيد.....


صراع البداوة والحضارة وتأثيره على الطابع العمراني ..


فؤاد احمد الخفاجي

الحوار المتمدن-العدد: 4274 - 2013 / 11 / 13 - 21:53
المحور: الادب والفن
    


المقدمة :
لكل ثقافة اجتماعية طابع عام تتميز به عن غيرها وقد اطلق علماء الاجتماع والانثربولوجيا عليه مصطلح (Pattern of culture) طابع ثقافة المجتمع وهو من اكثر العوامل تأثيرا على الطابع العمراني للمدن والحواضر الانسانية فالتخطيط والبناء الذي يقوم به الانسان ضمن مجتمع ما بالتأكيد سيكون متأثرا بالطابع الثقافي لذلك المجتمع .
وطابع الثقافة المجتمعية هو مجموعة التقاليد و القواعد والافكار الموجودة في اية امة او مجتمع . والثقافة الاجتماعية هي مركب قائم بذاته وليست مجموعة بسيطة من الاجزاء المتفرقة (الكاتبة الاستاذة روث بنديكت في كتاب الثقافة الاجتماعية ص42)
فالترابط الوثيق بين الثقافات والفنون يجعلها ضمن مركب واحد ويتأثر كلاهما بنفس المؤثرات ويؤثر احدهما على الآخر كما لايخفى ان العمارة هي احدى الفنون الراقية لذا فعندما يغلب طابع البداوة على ثقافة مجتمع ما سيكون الطابع العمراني متأثرا بهذه الثقافة مائلا الى الفوضى العمرانية وانعدام الذوق الحضاري نتيجة عدم الاستقرار الذي يصاحب الثقافة البدوية ، ذلك لما تتصف به الثقافة البدوية من تمرد على كل ما يقيد حريتها وينظم الحركة في المجتمع البدوي لاعتماد المجتمع البدوي اساسا على الترحال المستمر و قيم الغزو.
• الثقافة البدوية :
ان محور الثقافة البدوية او طابعها العام يمكن اجماله بكلمة واحدة هي (التغالب) و هذه الثقافة تحتوي على ثلاث مركبات هي
1- العصبية 2- الغزو 3- المروءة والملاحظ ان طابع التغالب موجود في جميع هذه المركبات (دراسة في طبيعة المجتمع العراقي – د. علي الوردي ص55)
وطبعا هذه المركبات الثلاث التي يتحدث عنها علي الوردي في كتابه هي بالمجمل ترجع بالاصل الى منبع واحد هو حب الغلبة الذي يفطن ويتربى عليه البدوي منذ نعومة اظافره ، فالعصبيىة هي نتيجة فكرة المغالبة ومفهوم النصرة التي تعشعش في النفس البشرية .. نصرة الاخ و القريب و ابن العشيرة ضد اي عدو ظالما او مظلوما ! (انصر اخاك ...) وكذلك الغزو ليس سوى تجسيدا للغلبة التي تعشقها نفس الانسان البدائي للاستيلاء على املاك الغير ، وحتى المروءة نابعة عنده من حب الظهور بهيئة الغالب من خلال العطاء و النجدة التي لايملكها الا الغالب وتقمص اخلاق معينة تزيد من زهوه و شعوره بالانتصار.
وهذا جعله يرفض الخضوع الى القانون والدولة ويعتبر ذلك تقييدا له ولحريته المطلقة واهانة ما بعدها اهانة لذلك نرى ان قوة البدو وانتشار ثقافتهم دائما تتناسب عكسيا مع قوة الدولة والمؤسسات الحكومية فكلما ضعفت الدولة وتهاوت المؤسسات الحكومية نشطت الثقافة البدوية و تقدمت نحو المدن لتنتشر في مجتمعاتها ثقافة المغالبة و التعصب القبلي وكل ما يصاحب هذه الصفات من تردي في المدنية وطابعها العمراني وذوقها العام الذي يشكل ميزة المدن الحضرية.
بل واكثر من ذلك فان البدوي يعتبر من يمتهن الزراعة والتجارة وحتى الطبابة وغيرها من المهن ليس سوى انسانا مهانا لا قدر له ولا يستحق اية مكانة لأنه يعتمد في عيشته على تقديم خدمات الى الآخرين بينما الحياة الكريمة في رأيه هي ان يحصل على قوته وقوت عياله من خلال الغزو و الإغارة على الآخرين معتمدا على قوته الجسمانية واستخدام سيفه وفيما بعد بندقيته ..! وهناك شرح مفصل وجميل للدكتور علي الوردي في كتابه دراسة في طبيعة المجتمع العراقي حول ثقافة المجتمع البدوي ويروي قصص و حكايات من الواقع تؤيد وتدعم هذا الرأي نذكر منها ؛ ان من أكثر شتائم البدو شدة هي عندما يُدعى البدوي بـ (ابن الصانع) أو (ابن الحائك) عندها سوف لن يتقبله المجتمع وسيلفظه بما فيهم زوجته ..!
كما يهتم البدو كثيرا بالانساب اكثر من اي امر آخر يقول المؤرخ فيليب حتي ؛ ليس في العالم قوم غير البدو رفعوا معرفة الانساب الى مرتبة العلوم (نفس المصدر السابق) ومن هذا المنطلق نجد المجتمع البدوي حريص جدا على تقييد المرأة و التمادي في الخشية عليها لانه يعتبرها وعاء النسب فاذا تلوث هذا الوعاء تلوث كل شيء في حياته و ناموسه.
وهذه المفاهيم بالتاكيد تضعف وتشل التقدم العمراني الذي يحتاج بطبيعة الحال الى بيئة آمنة يسودها الاستقرار و النمو الاقتصادي في ظل حكومة قوية تشيع النظام وتحفظ حقوق اصحاب الاموال الذين يمثلون ارباب العمل في سوق البناء والا فان رؤوس الاموال هي اول من تهجر المجتمع الفوضوي تطبيقا للعرف الاقتصادي (رأس المال جبان ) وبالتالي فان مجتمع بدون رؤوس اموال ومستثمرين وارباب العمل سوف يسوده الكساد وتتوقف عجلة الاقتصاد فيه وتبعا لذلك يتوقف العمل العمراني فتهاجر العقول والكفاءات وتخلو البلاد من الاموال والعقول ..
• الثقافة الحضرية (المدنية)
ببساطة شديدة نستطيع القول ان الهدف الذي تسعى اليه البداوة هو على النقيض مما تسعى اليه الحضارة ففي البداوة كما اشرنا يكون سعي المجتمع نحو النفرة من الدولة لتحل العصبية القبلية محلها ولتقوم بوظيفة الدولة ، بينما في الحضارة يسعى المجتمع الى اقامة الدولة والنظام والخضوع التام للحكومة والقانون ، ومن خصائص الطابع الثقافي للمجتمع الحضاري المدني انتشار الفنون و الثقافات و تطور البناء والعمران فالفنون بصورة عامة والعمارة بشكل خاص تحتاج الى المجتمع المدني والى الدولة القوية والقوانين التي تنظم الحياة وتمنع الفوضى والابتذال و تشدد على تولي المختصين مهام ادارة الدولة في جميع مفاصلها . واعتمادا على مبدأ التخصص في العمل يكلف المعماريون وبقية الاختصاصات الهندسية مهمة التخطيط والتصميم والاشراف على التنفيذ من خلال مؤسسات حكومية او شبه حكومية او قطاع خاص على عملية البناء ، فتتطور عمارة المدن و تخط طابعا عمرانيا متحضرا .
صحيح ان المجتمع البدوي قد يختلف طابعه الثقافي حسب البيئة والجغرافية وغيرها من العوامل كما هو الحال في اختلاف بداوة المغول عن بداوة العرب (تاريخ الادب - ادوارد براون ترجمة ابراهيم الشواربي ص 552 )
لكن هذا الاختلاف نسبي وتبقى الخطوط العامة لثقافة المجتمع البدوي هي ذاتها متصفة بالغلبة و النفور من نظام الدولة وقوانينها لتبقى بيئة طاردة للفنون ولا يمكن ان تزدهر فيها عمارة حقيقية يقول الدكتور علي الوردي ؛ لعلني لا اغالي اذا قلت ان البدو اكثر امم العالم اندفاعا في سبيل التنازع والتباغض والقتال (دراسة في طبيعة المجتمع العراقي – د. علي الوردي ص71)
سألني احدهم معترضا ؛ ان بعض الدول ذات بيئة بدوية وتخلف حضاري و يغلب عليها طابع القبلية ومع ذلك تشهد عمارة حديثة تزدهر في بعض مدنها وهي دول ليست بعيدة جغرافيا عن العراق ..
كتبت مقالا قلت فيه : ان العمارة التي تنشأ على اراضي تلك الدول وان كانت حديثة وعصرية الا انها ليست سوى قطع عمرانية بمقياس رسم ضخم اسقطت على تلك الاراضي ولم تولد من رحمها ولم تصمم او تنفذ بايادي معمارييها ومهندسيها بل لم يشتركوا اصلا في بناءها ولم تستلهم هندستها اي شيء من تاريخ وحاضر مجتمعاتها وبالتالي لم يتفاعل اهل تلك الارض مع العمارة الوافدة فهي لم تنتج مدرسة معمارية او طابع عمراني مميز لتلك الدول والمجتمعات وبقيت كقطع مستوردة غريبة عن بيئتها وغريبة ايضا عن بعضها فلا يوجد ما يوحدها او يربط بين افكارها لذلك تبقى وكأنها مجرد قطع عمرانية ضخمة يمكن احضارها وقتما تشاء بعد ان تسدد فواتيرها .
وقد سببت هذه القطع المستوردة ردة فعل معاكسة في تلك البيئات مما جعل افراد المجتمع يتمسكون بعمارة مختلفة جدا عما استوردوه ونلاحظ ذلك في تصاميم الفلل والمضايف وبعض الابنية الاخرى اذ يغلب طابع التراث الصحراوي القديم وكأن لسان حالهم يقول ؛ هذه حضارتنا وهذا أرثنا الذي نعتز به ولا علاقة لنا بكل هذه الحداثة الغريبة التي تبنى على اراضينا ..!
ومع ذلك فان هذا الازدهار العمراني وان كان بلا جذور او هوية وان كان بايدي اجنبية الا انه لم يكن ليحصل لولا استقرار تلك الدول وقوة حكوماتها وسيطرتها على الوضع العام و التمسك بتطبيق القوانين على اراضيها وهذا يعتبر بحد ذاته تحولا من البداوة الى الدولة المدنية والحضارة ، وقد تكون ضعف الحركة الثقافية والفنية في تلك المجتمعات وعدم تطور المفاهيم المجتمعية فيها تماشيا مع التطور العمراني كحالتين لايمكن الفصل بينهما الا دليلا على فكرة ان التطور العمراني التي تشهده تلك البلدان ليس سوى تطور هش و "قفزة" في انشاء المباني فقط وليس في الفكر المعماري !! حصل بسبب الاستقرار و قوة الحكومة ووفرة المال .
• موجات الغزو البدوي
اما في دول اخرى مثل العراق ومصر ولبنان وسوريا وغيرها من دول المنطقة فالموضوع مختلف لان المدن العراقية على سبيل المثال كانت ومنذ الازل موطن لاولى الحضارات وفيها الكثير من المواقع الاثرية التي تحكي قصة انسان بنى حضارة عريقة ومتطورة وصلت اشعاعاتها معظم اصقاع المعمورة ، وبقيت آثارها عبر العصور تتجسد في مباني ضخمة ذات طابع هندسي معماري مميز ظل شاخصا في فكر و وجدان افراد المجتمع .
كما هو الحال في استذكار زقورة اور في الناصرية (اثار معبد سومري جنوب العراق ) وباب عشتار (البوابة الرئيسية لمدينة بابل الاثرية في مدينة الحلة جنوب بغداد ) و الثور المجنح في الحضارة الاشورية (محافظة نينوى شمال العراق ) و غيرها الكثير.
كذلك الحال في مصر وحضارتها الفرعونية المميزة التي انتجت الاهرامات العظيمة والقصور الفرعونية الجميلة و النصب و التماثيل وامثلة عمرانية كثيرة اخرى .
لكن احدى اهم مشاكل حضارة وادي الرافدين (الميزوبوتاميا) انها تقع على تخوم الصحراء العربية (اكبر بيئة تحتضن مجتمعات البدواة ) ومع وفرة المياه في العراق والاراضي الزراعية والمناخ و الطاقات البشرية غالبا ما كانت تزدهر الحضارة في بلاد ما بين النهرين وتتطور اقتصاديا وسياسيا مما يجعلها بالنتيجة عرضة للغزوات من قبل دول وامبراطوريات قامت بجوارها اضافة الى مطامع البدو الساكنين الى جوارها والمتربصين بها لذلك كانت المدن العراقية اكثر مدن العالم تعرضا للغزو و ما يصاحب موجات الغزو تلك من ضعف سياسي يؤدي الى تراجع الحضارة والمدنية مما يؤدي بالضرورة الى موجة بدوية قادمة من الصحارى المجاورة لها تجتاح حواضرها وبالتالي يؤدي ذلك الى غلبة الطابع البدوي في مجتمعات المدن العراقية فكانت تلك المدن عرضة لموجة بدوية قادمة من الصحراء الجنوبية تارة وبعدها تكون نهضة حضارية فتنحصر موجات البداوة ويصيبها الجزر من جديد لتجتاحها موجة بدوية قادمة من الشرق كالمغول تارة اخرى فيسود مجتمعها موجة ثقافية بدوية وهكذا دواليك.
(لذلك فان سكان واهالي المدن العراقية كأنهم بدو وحضر في آن واحد وتلك هي المشكلة الكبرى التي يعانيها اهل المدن العراقية - دراسة في طبيعة المجتمع العراقي – د. علي الوردي ص 290)
ان هذا الوصف المختصر للطابع الثقافي لمجتمعات المدن العراقية يعطينا مؤشرات مهمة لما يحصل اليوم من انحدار في الذوق الفني العام و تدهور فن العمارة عما كان عليه في القرن الماضي وخاصة في الخمسينيات والستينيات و السبعينيات اذ انتشرت عمارة الحداثة في مدن العراق عامة و العاصمة بغداد خاصة صممت من قبل معماريين عراقيين وعالميين فاصبحت مدينة بغداد كبودقة كبيرة جدا احتوت نماذج للعمارة العالمية لم تحتويها مدينة اخرى في الشرق الاوسط في تلك العقود وما صاحب ذلك من تطور ثقافي وفني طغى على المشهد العام في العراق .
فلو راجعنا روعة ابنية الحداثة في بغداد مثل مبنى مجلس الامة للمعمار كوبر و مبنى البنك المركزي العراقي لفيليب هيرست و قاعة الالعاب الرياضية المغلقة للمعمار ليه كوربوزيه و مجمع جامعة بغداد لوولتر كروبيوس وغيرها الكثير لادركنا ذلك التطور العمراني الكبير الذي مرت به بغداد في منتصف القرن الماضي.

أضافة الى الابداع الكبير الذي انتجته الكفاءات المعمارية العراقية على ايدي رواد العمارة .
والذين انتجوا عمارة رائعة مثل ابنية جامعة اهل البيت للمعمار جعفر علاوي وجامع الخلفاء للمعمار محمد مكية ومجمع ابنية الجامعة المستنصرية للمعمار قحطان عوني و مبنى اتحاد الصناعات العراقي للمعمار رفعت الجادرجي و مجمع مباني امانة العاصمة والماء والمجاري للمعمار هشام منير وايضا مجمع حيفا السكني وغيرها العديد من المباني التي تعتبر اليوم منجزا حضاريا ومعماريا اصيلا ساهم في تشكيل طابع مدينة بغداد العمراني الحديث.
وعندما نشاهد ما يبنى اليوم في بغداد وكل هذا الابتذال في تغليف الواجهات بالالكوبوند وبهذه الالوان البائسة وكل هذا الانحدار في الذوق العام ...فبالتأكيد هناك موجة فوضى اجتماعية سببتها الفوضى السياسية والضعف الحكومي المؤسساتي التي يشهدها القطر وان ذوقا ثقافيا رعويا يطغي على المشهد المعماري العراقي حاليا ، فالطبقة "الوسطى" اليوم والتي تمثل ارباب العمل ينطبق عليها الوصف السابق من انها بدوية وحضرية في آن واحد فمن جهة تريد تقليد الحضارة من حيث البناء المتطور واستخدام مواد وطرق بناء حديثة ذات ارتفاعات عالية تجارية تدر ارباحا (وهذه صفة حضارية ان يكون حساب الربح والجدوى الاقتصادية احد العوامل المهمة في البناء) ويشترط كذلك رب العمل وجود عناصر الحداثة مبتعدا عن كل ما يتعلق بالتراث العمراني والارث الحضاري للمدينة ، ولكن هذه الطبقة من جهة اخرى تتعامل ببداوة من حيث صفة الغلبة وفرض الرأي مهما كان خاطئا وعدم اعتماد و استأجار التخصصات المعمارية والهندسية في عملية التصميم والتنفيذ ورفض الذوق الفني الرفيع الذي يتمتع به المختص وتفضيل الذوق المبتذل السيء دون الالتفات لنصيحة المختص كما في حالة استخدام الالوان الصارخة في الواجهات وخاصة اللونين الاحمر و البرتقالي بطريقة غير متجانسة و مقززة.
ولا يخفى على القاريء الكريم تعلق البدوي سواء الذي يعيش في الصحراء القاحلة ام في اعالي الجبال ببعض الصفات التي تشكل ذوقه العام وتؤثر على اختياراته كتعلقه بالالوان الصارخة (الوان الاحمر والبرتقالي في الملبس والمسكن وكل ما يمكن تلوينه) و سخريته من الفنون وعدم اهتمامه بمحل اقامته باعتبارها مؤقتة دائما في نظره و التمسك بآراءه السابقة وفرضها مهما كانت مخالفة لطابع البيئة التي انتقل اليها حديثا ..
فالصراع بين ثقافات البداوة من جهة وبين الحضارة والمدنية من الجهة الاخرى لا يتوقف على الممارسات و العلاقات الاجتماعية بل يتعدى ذلك ليلقي بظلاله على جميع الثقافات المجتمعية وفي مقدمتها العمارة والفنون لذلك نرى التشوه الكبير في الطابع العمراني اليوم في بغداد رمز المدنية والتحضر وكل هذه الابنية المقززة المغلفة بالواح الزرق ورق والخالية من اي فن معماري تنتشر بسرعة في شوارع بغداد كالنار في الهشيم !
• نماذج لابنية غير حضارية
وهنا لااريد التحدث عن التشوه الذي اصاب ابنية عمارة الحداثة التي يفتخر بها العراقيون عامة واهل بغداد على وجه الخصوص ويعتبرها المعماريون العراقيون ابنية ذات طابع فني قداسوي فقد كتبت في ذلك سابقا وكتب غيري الكثير لكني اريد تسليط الضوء على نماذج مبتذلة لابنية حديثة بنيت بعد 2003 فقد اضحت جميع الابنية باختلاف عنواناتها و اغراضها الوظيفية وتاريخها ونوعية موادها الانشائية معرضة بين ليلة وضحاها لغزو الذوق الشعبوي لها فنرى الجامعة والمستشفى و المنزل و العمارات التجارية و حتى الجامع كلها ابنية مغلفة بالالكوبوند بنفس الالوان السوقية النشاز لايفرق بينها وظيفة او خصوصية ما او بيئة او موقع بل يوحدها الابتذال في التصميم الشعبوي والتنفيذ السيء .
فهذا جامع في وسط بغداد غًلفت فيه المأذنتان بالالكوبوند !
وبهذه الطريقة والتنفيذ السيء ، ولغير المختصين أقول ؛
قارنوا هذه المأذنتين بمآذن الجوامع القديمة والحديثة لتعرفوا الفرق الشاسع بينهما فكثرة استخدام الالكوبوند في تغليف الابنية جعل الذوق العام يتقبل هذه الطريقة المبتذلة الشعبوية حتى طالت اكثر الابنية خصوصية من حيث التصميم لخصوصية وظيفتها ومن حيث المواد لتعلق المبنى بالارث و التراث.
فقد تميزت الجوامع على مر الازمان بطابع عمراني خاص كجامع الخلفاء في شارع السعدون (بناء قديم تم تحديثه من قبل المعمار محمد مكية ) و جامع 14 تموز (الحديث ) في ساحة الفردوس و الحضرة الكاظمية (تصميم وتنفيذ قديم ) و جامع براثا في العطيفية و غيرها الكثير ، وخصوصية المواد المستخدمة في بناء هذه الجوامع اضافة الى العناصر المعمارية و التخطيطية للجامع هي من اهم ما يميز هذه الابنية الخاصة والمتعلقة بالقضية الروحية للانسان ولايمكن التعامل معها بهذه الطريقة المبتذلة .
وعند النظر لصورة الجامع الالكوبوندي تراودني هذه الجملة ؛
الحداثة لا تعني الابتذال ابدا ..!
عندما استقدمت الحكومة العراقية بعض المعماريين العالميين لاعداد تصاميم بعض الابنية في بغداد في منتصف القرن الماضي بناءا على خطة مجلس الاعمار العراقي آنذاك احترم ذلك المعمار الغريب عن البيئة العراقية كل ما تتمتع بها البيئة من طابع عمراني و طرز معمارية و ارث حضاري وعندما قام المعمار وولتر كربيوس ( 1883-1969 ) WGropius " بإعداد تصاميم جامعة بغداد في الجادرية في 1957 قدم تصميم جامع الجامعة بطريقة حداثوية رائعة محترما في ذات الوقت كل ما يميز العمارة العراقية و بيئتها.
ربما كان " تغيير " تراتبية عناصر المسجد ، واماكن توقيعها ، خلافا لمنظومة التسلسل الحيّزي للمساجد المألوفة ، هو الذي يرفع من الصيغة المرئية لمبنى مسجد الجامعة ، لتكون عمارته حدثا تصميما ً على جانب كبير من الابداع والتجديد . ولئن اقتنع المعمار بصوابية الفكرة المفترضة لمسجده ، فانه يسارع لتحقيقها عبر اقتراح قبة خرسانية ضخمة ، يحدد دوران العقد المدبب فيها هيئتها الخارجية ، والتى يصل ارتفاعها الى حوالي 30 مترا . وهذة القبة الخرسانية الضخمة تستند على ثلاث ركائز فقط ، منحت المصمم امكانية عمل ثلاثة اقواس فسيحة اسفلها ، وظفت بكفاءة لجهة فعالية الدخول الى حيّز المسجد ؛
(مسجد ما بعد الكولينيالية – د. خالد السلطاني – الحوار المتمدن-العدد: 1226 - 2005 / 6 / 12 )
راجع صورة الجامع في تصميم جامعة بغداد للمعمار العالمي الامريكي وولتر كربيوس والمنفذ ضمن ابنية جامعة بغداد في الجدارية – بغداد .
وتلك بوابة محطة وقود الكرادة ..!
البوابة الخاصة بمحطة وقود الكرادة وهي في وسط أهم حي تجاري في بغداد
ويطل هذا الحي على المنطقة الخضراء التي تعتبر مقر الحكومة والبعثات الأجنبية
هذه البوابة السيئة في كل شيء تصميما وتنفيذا ، معماريا وهندسيا ، ألوانا وموادا
أنهائية لا تحترم ادنى مباديء العمارة والهندسة ، لاحظ قوس البوابة العجيب الغريب الذي يمثل اعلى درجات الشعبوية .
صورة البوابة ..

وهذه مدرسة متوسطة انشأت حديثا في احدى محلات بغداد المهمة والتي تتمتع بمظاهر عمرانية جميلة .. بنيت هذه المدرسة حديثا في عام 2013 وما زالت اعمال الانهاء مستمرة في المبنى انظر الى تغليفها بهذه بالالكوبوند ايضا وبالالوان النشاز كالعادة ..!
صورة المدرسة
وذاك مصرف في اهم شارع ببغداد شارع السعدون الذي يغص اليوم بابنية الابتذال و الشعبوية ..
فلا فرق بين جامع و منزل و مصرف ومدرسة و محطة وقود ..! كلها تًغلف بنفس الالواح وبنفس الالوان لتكون قيمة ابتذالية تدل على انحطاط ذوقي شمل الفن و القيم الثقافية الاخرى نتيجة صراع اجتماعي بين ثقافة البداوة والحضارة و علو موجة البداوة والتي بدأت منذ اكثر من عقدين وتحديدا أبان حرب الخليج الثانية ..

النتيجة :
• الاختلاف الثقافي الازلي بين البداوة والحضارة سبب صراعا على المستوى الثقافي والفني في البلاد واحد اهم انعكاسات هذا الصراع كان على المستوى العمراني في بغداد وبقية المدن العراقية من خلال مظاهر الابتذال في تغليف الابنية بالالكوبوند وبالوان تناشز الذوق المدني العام .
• غياب الدور الحكومي وضعف مؤسساته ساعد على غلبة الثقافة البدوية وتشوه الطابع العمراني

التوصيات
• ضرورة التوعية الجماهيرية حول اهمية ومعاني الطابع العمراني لمدينتهم من خلال قيام المختصين من معماريين وكتاب ومثقفين بالتصدي لظاهرة الابتذال التي تسود المشهد العمراني وبالتعاون مع المؤسسات الحكومية المختصة لتنظيم الندوات الجماهيرية وكذلك تكريم رواد العمارة و الحفاظ على المنجز المعماري المتمثل بابنية الحداثة من اي ابتذال قد يطولها لتكون نبراسا لجميع المعماريين والبناة .

• ضرورة ان تقوم الحكومة بواجبها في بسط النظام والاستقرار لاحلال الامن وتوفير بيئة صحية لانتعاش العمران وسن القوانين والتشريعات لجذب رؤوس الاموال للاستثمار في سوق البناء والعقار و فرض قوانين صارمة على البناء للحفاظ على الطابع العمراني للمدن و الاستفادة من الكفاءات العراقية المتخصصة في هذا المجال .




المصادر:
1- الثقافة الاجتماعية – أ. روث بيندكت
2- كتاب دراسة في طبيعة المجتمع العراقي - د. علي الوردي
3- تاريخ الادب - ادوارد براون ترجمة ابراهيم الشواربي
4- مقال مسجد ما بعد الكولونيالية – د. خالد السلطاني
5- كتاب فعل العمارة ونصها – د. خالد السلطاني
6- مقال التزيين و العمارة الحديثة .. المعمار فؤاد الخفاجي - الحوار المتمدن – العدد 4249



#فؤاد_احمد_الخفاجي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- التزيين و العمارة الحديثة .. دراسة حول الابتذال في ظاهرة تغل ...


المزيد.....




- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فؤاد احمد الخفاجي - صراع البداوة والحضارة وتأثيره على الطابع العمراني ..