آمال الشاذلىي
الحوار المتمدن-العدد: 4274 - 2013 / 11 / 13 - 19:15
المحور:
الادب والفن
بصوت تحدوه اللهفة ، أسأل أمي مع الإطلالة الأولى لكل صباح : جدتي ماتت ؟؟
تجيبني بصوت مرتعش النبرات متآكل الحروف : جدتك ستشيعنا جميعاً !
ذات مرة .. سمعتني جدتي .. نادت علي .. اقتربت من فراشها ، الذي تفوح منه رائحة غامضة ، لا أعرف مبعثها .. ربما الزيت الذي تدلك به فروة رأسها الملتهبة دوماً ، أو المرهم الذي تدهن به ساقيها .
سألتني بوجه يقطر حزناً :
- لماذا تتعجلين موتي ؟ ! ..
دست يدها النحيلة البيضاء تحت وسادتها ، وعيناها تحدجان في اللاشىء ، حتى اصطدمت أناملها بقطعة معدنية لوحت لي بها ...
- هذه لك ؛ إذا اجبتيني بصراحة ...
تهللت أساريري ، وببراءة وقسوة قلت : لأن أمي سوف تصنع لي عرائس كثيرة بثيابك ..
ذرفت دموعاً غزيرة .. تفرقت في أنحاء وجهها ، مخترقة طرقاً وأخاديداً متعرجة ومتشعبة .. لكن ذلك لم يقف سداً أمام فرحتي بالقطعة المعدنية التي أصبحت ترقد في قبضة يدي ...
هرعت بها إلى عم " رمضان " الملقب بمقاول البنات .
جابت عيناي الأغلفة البراقة المرصوصة بعناية خلف الزجاج " المضبش " .. وعم " رمضان " يرتشف بصوت يشبه شخير أبي من كوب شاي يتصاعد منه الدخان كأنه ثعبان يتراقص على تلك الأصوات ..
أخذت عيناه تبرطعان في جسدي الهزيل .. ناولته القطعة المعدنية ... ألقاها في وعاء بلاستيكي كالح دون عناية ..التقط من " برطمان " زجاجي حبتي " كرملة " بدتا ضئيلتين في كفه الضخم الممتلئ .. ثم بادرني بصوته الناعم الأنثوي الذي يتعارض مع بنيانه الضخم :
- أنت بنت مين يا بت ؟!
- أنا بنت أبو " إسماعيل " .
- بلغيه أن عم " رمضان " عايزك .
عندما عدت إلى المنزل .. وجدت أبي يجلس القرفصاء دافساً وجهه بين كفيه الهزيلتين ، وقد التف حوله عدد من الجيران محوقلين ومترحمين ..
هرعت إلى غرفة أمي لاستفسر منها .. كانت تحاول أن تفك عقدة صرة ملابسها السوداء والتي اعتادت إخراجها كلما ترامى إلينا خبر موت أحد الأقارب أو الجيران . . بادرتني دون أن أسألها:
- جدتك ماتت ... أريدك أن تجمعي أشقاءك الصغار .. ابسطي لهم البطاطين وادفعيهم للنوم .
- ومتى ستصنعين لي العرائس ؟ !
ضاع سؤالي وسط نحيب العمات اللاتي أخذن يتوافدن واحدة تلو الأخرى ، وبمجرد أن تطأ أقدامهن عتبة المنزل , يأخذن في النحيب والصياح ، كأنهن يمارسن طقوساً لطرد شبح الموت عنهن ، تجاملهن أمي بالصياح والنحيب ..
ازدحم المنزل خلال وقت قصير ، اثر انتشار خبر وفاة جدتي ..
توافدت صواني الأطعمة .. الرجال يحثون أبي على الأكل ..
جمعت أشقائي كما أمرتني أمي بعد أن أعددت لهم فراش النوم .. فأنا الآن أكبرهم بعد أن أخذ عم " رمضان " جميلة وعزيزة إلى " مصر " ، حيث يذهب أبي لزيارتهما كل شهر ..
يعود من عندهن مبهوراً مما يرويانه عن العائلات التي يعملن لديها .. أصناف الطعام .. الملبس الفاخر. . الحمامات البراقة .. البسط النفيسة .. كل مرة يعود أبي لنا بحكايات تثير في نفسي الحنين إلى بيوت مصر ..
بعد أن دفعتهم إلى فراشهم .. طرحت عليهم البطانية الناعمة الوثيرة التي أحضرتها لنا عزيزة من مصر في إحدى إجازاتها ...
ثم تبوأت الأريكة ذات التجويف السحري والتي تشعرني بأنني أجلس على قمة عالم أسرار أمي ... فهنا تكمن الأشياء البراقة التي تحملها إليها جميلة وعزيزة .. وهنا ترقد النقود التي يأخذها أبي من عم " رمضان " كل شهر .... حجة البيت .. كونتراتو النور ... قسيمة زواج أمي .. شهادات ميلادنا الست .. شهادة وفاة جدي .
مع بزوغ شمس اليوم التالي ... تكومت أنا وأشقائي في الغرفة ؛ لم نبرحها إلى أن هبت العمات مرة واحدة في نوبة صياح ونحيب عارمة إثر خروج جثمان جدتي من غرفتها محمولاً على لوح خشبي قديم . ..
هرعت إلى غرفتها .. فإذا بها موحشة كقاع بئر عميق ... وثمة امرأة غليظة الملامح ، داكنة البشرة تلتقط في نشاط ثياب جدتي .. لفتها بإحكام .. تأبطتها ومضت .
آمال الشاذلي
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟