أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - كمال حمدان - قراءة أولية في الأزمة الراهنة للنظام الرأسمالي















المزيد.....



قراءة أولية في الأزمة الراهنة للنظام الرأسمالي


كمال حمدان

الحوار المتمدن-العدد: 4272 - 2013 / 11 / 11 - 09:06
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


يشهد النسق الراهن للرأسمالية المعولمة انهيارا لم تكتمل فصوله منذ صيف عام 2008، وان كانت ملامحه قد بدأت في البروز قبل فترة غير وجيزة، ربما تعود الى أوائل العقد الأول من الألفية الثالثة. ففي عام 2008 ، ضربت الأزمة – دفعة واحدة - الركيزتين الاساسيتين للنظام العالمي، المتمثلتين في الاسواق المالية من جهة، وفي المصارف والنظام المصرفي من جهة ثانية، الامر الذي جعل الاقتصاد العالمي يواجه بشكل غير مسبوق أزمة تمويل فعلية وعامة، خصوصًا مع انهيار وافلاس نوع ثالث من وسطاء التمويل، أي بنوك الاستثمار الدولية، لا سيما الأميركية منها. وتكاد هذه الأزمة تودي بالمصارف الى التأميم، على غرار ما توقعه ألان غرينسبان ذات يوم بعد أزمة عام 2008، وما كان توقعه قبل قرن ونصف كارل ماركس نفسه في كتابه عن رأس المال. وقد شهد العالم فعلا لدى تفجّر الأزمة انتشار حالات تأميم جزئي أو كلّي، في كل من بريطانيا وفرنسا والى حد معين في الولايات المتحدة نفسها، وذلك بالرغم من طغيان الفكر النيو- الليبيرالي الذي استمر على امتداد عقود ثلاثة يروّج لوجوب اعتماد الخصخصة ونقل ملكية المرافق العامة الأساسية الى القطاع الخاص.
وقد يظهر للوهلة الأولى أن معالم انهيار عام 2008 قد تركّزت أساسا في أسواق المال والبورصات العالمية– كنتيجة لتفجّر أزمة الرهن العقاري التي عصفت بالاقتصاد الأميركي – وارتدت شكل افلاسات أو اندماجات قسرية في صفوف كبريات المصارف والمؤسسات المالية وبنوك الاستثمار وشركات التأمين. ولكن الوقائع والتطورات اللاحقة أكدت أن هذه الأزمة لا تُختصر فقط في أزمة الافتقاد المؤقت للسيولة أو في تعاظم المضاربات وهشاشة أنظمة الرقابة على المصارف والأسواق المالية، أو في الاختلال العابر في ثقة المودعين والمستثمرين. بل أن الأزمة اتجهت منذ أواخر عام 2010 نحو التحول الى نوع من "الأزمة العامة" التي تضرب المرتكزات الأساسية للاقتصاد الرأسمالي، والتي تمثلت أبرز معالمها في المؤشرات الأساسية التالية: خَفْض تصنيف المخاطر السيادية للعديد من البلدان، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية (التي يُعتبر هذا الخفض غير مسبوق في تاريخها)؛ تفجّر أزمة الديون والمخاطر السيادية في أميركا، وبشكل أكثر عمقا وحدّة في بعض بلدان الاتحاد الأوروبي؛ اتجاه اليونان نحو الافلاس، كمقدمة لافلاسات أخرى قد تطال عددا آخر من البلدان الأوروبية ذات الثقل الاقتصادي (ايطاليا، اسبانيا، البرتغال...)؛ استمرار تسجيل معدلات البطالة مستويات قياسية وغير مسبوقة في معظم البلدان الغربية، بالتزامن مع ميل معدّلات النمو الاقتصادي نحو التراجع في هذه البلدان؛ استسهال اعتماد معظم البلدان المعنية على حلول مسكّنة، تقضي بتخفيض الانفاق الاجتماعي عموما وبضبط معاشات التقاعد ومستويات الأجور...
الأزمة ....في سياقها التاريخي:
لقد كانت الأزمات على الدوام ملازمة لتطور الاقتصاد الرأسمالي، في مراحله كافة. وهذا ما يطرح ضرورة وضع الأزمة الراهنة في السياق التاريخي، لمعرفة ماذا يميّزها عن سابقاتها، وهل هي مجرد أزمة قابلة للتجاوز ولو بعد حين، كما كان حال العديد من الأزمات السابقة، أم لعلها تؤذن بطوي مرحلة من مراحل النمو الرأسمالي، والتمهيد لمرحلة جديدة في هذا النمو أو لبدائل جذرية أكثر وذات طابع نوعي. ويتناول التحليل – فيما يلي – أهم المراحل المتعاقبة في تاريخ تطور الاقتصاد الرأسمالي:
المرحلة الأولى وسيادة المدرسة الكلاسيكية: استهل الاقتصاد الرأسمالي – الذي يتواصل منذ نحو ثلاثمائة سنه – مرحلته الأولى بغلبة الفكر الكلاسيكي الذي بلغ أوجه مع آدم سميث (وشعاره الأساسي: "دعه يعمل دعه يمر" Laisser Faire Laisser Passer). وقد تميزّت هذه المرحلة بتعاقب أزمات دورية كانت تتفجر كل ثماني سنوات أو عشر سنوات، على امتداد القرن التاسع عشر. وعند كل أزمة من هذه الأزمات، كانت مؤشرات الكساد الاقتصادي والبطالة والفقر وإنخفاض الأسعار والانتاج والخلل في تخصيص الموارد، تسجل مستويات قياسية، وسط غياب أي سياسات تصحيحية أو ضوابط من جانب الدولة، بالنظر الى أن المدرسة الكلاسيكسة لم تكن تقيم وزنا للدولة في النشاط الاقتصادي. ثم مع بلوغ الأزمة ذروتها واستنفاد الدورة الاقتصادية تراجعها، لا تلبث مؤشرات النمو أن تستعيد وجهتها الصاعدة، بفعل عوامل السوق. ويتناقض هذا المنحى الحلزوني للنمو الاقتصادي، المترافق مع دورات اقتصادية حادة متعاقبة، مع ما كانت تقول به النظرية الاقتصادية الكلاسيكية، من أن الاقتصاد الحر والنشاط الشخصي للأفراد والمستثمرين – أي آليات السوق العفوية – هما الوسيلة الأنجع لبلوغ التوازن الاقتصادي العام في البلاد، وتحقيق المنفعة لجميع العملاء الاقتصاديين. وقد استمرت المرحلة الأولى من عمر الرأسمالية – التي ساد فيها الفكر الكلاسيكي – مسيطرة لأكثر من قرن، بالرغم من توالي هذا النوع من الأزمات الدورية الحادة، ولكنها ما لبثت أن استنفدت مقوماتها وانتهت الى السقوط عمليا مع تفجر الأزمة الاقتصادية الكبرى عام 1929.
المرحلة الثانية ونشوء المدرسة الكينزية بعد أزمة 1929: مع تفجُّر أزمة عام 1929، بدأت مرحلة ثانية في تاريخ النظام الرأسمالي، وقد جرى التعبير عنها بأشكال مختلفة في الأدبيات الاقتصادية الدولية، ولكنها اندرجت في محصلتها العامة تحت عنوان الحقبة الكينزية (نسبة إلى الاقتصادي البريطاني المرموق اللورد كينز). وقد شملت هذه المدرسة، من ضمن ما شملته العديد من التيارات الأخرى الموازية أو المتفرعة عن الكاينزية، وبخاصة المدرسة الألمانية التي حملت في الثلاثينات شعار "اقتصاد السوق الاجتماعي" - Social Market Economy- الذي تستحضره مجددا الآن بعض الأنظمة العربية ومنها سوريا (بدءا من خطتها الخمسية العاشرة للسنوات 2005-2010). وتميّزت هذه الحقبة الثانية بتشجيع تدخل الدولة الواسع في النشاط الاقتصادى، كعامل توازن أساسي لدعم الطلب الكلي والحد من تقلبات النمو الرأسمالي الذي ساد في الحقبة الأولى، عبر تحفيز الاستثمار العام وضمان حدّ أدنى من الاستهلاك الخاص والعام، وكذلك عبر توفير مروحة من الضمانات الاجتماعية الأساسية التي من شأنها أن تدعم الطلب الفعال Effective Demand، خصوصا إبان الفترات التي يتراجع أو ينهار فيها الطلب الخاص. ويسمح هذا الدعم الحكومي للطلب الفعال باستمرار حد أدنى من القدرة الشرائية الاستهلاكية لدى المواطنين، مما يتيح للمؤسسات والمصانع الاستمرار في تصريف انتاجها، وبالتالي المضي في عملية اعادة الإنتاج بشكل متواصل، بخلاف ما كان عليه الوضع في المرحلة الأولى. ولعل أهم ما تحقق في المرحلة الكاينزية، هو التوصّل الى ضمان جانب أساسي من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية التي نجح الأجراء والعمال والفئات الاجتماعية المنتمية الى أسفل الهرم الاجتماعي في انتزاعها من قوى رأس المال ومن التشكيلات السياسية الحاكمة. هذا مع ضرورة الاشارة الى أن انتزاع تلك الحقوق لم يكن نتاجا فقط للتحولات الجارية داخل النظام الرأسمالي في تلك المرحلة، بل كان أيضا، في جانب منه، أحدى الثمرات غير المباشرة لنشوء وتوطد ثورة أوكتوبر عام 1917، ولانعكاس هذه الأخيرة مزيدا من القوة في نهوض الحركة العمالية والنقابية في سائر دول العالم، وبخاصة في البلدان الرأسمالية الصناعية. وقد انتهت المرحلة الثانية في أوائل السبعينات، بفعل تضافر جملة من العوامل والتطورات: الأزمة النقدية العالمية وقرار الرئيس الاميركي ريتشارد نيكسون عام 1971 بوقف العمل بسعر التعادل بين الدولار والذهب وبتعديل آليات عمل النظام النقدى العالمى الذي نشأ غداة الحرب العالمية الثانية؛ بروز أزمة الركود التضخمى التي اجتاحت على مدى السبعينيات كلا من أوروبا والولايات المتحدة الاميركية واكتسبت طابعا شبه بنيوي؛ الارتفاع المتزامن في مؤشرات التضخم والبطالة الى مستويات غير مسبوقة وانعكاس ذلك سلبا على معدلات النمو الاقتصادي وعلى مواقع الطبقة الوسطى في تلك البلدان؛ التغير النسبي في توازنات القوى في أسواق النفط العالمية وفي بعض أسواق المواد الأولية الأخرى، إثر "صدمتي" أسعار النفط عامي 1973 و1979، وهو الأمر الذي توّج بتأميم جزئي أو كلي للنفط العربي وبنشوء ظاهرة "الفوائض النفطية" .... وقد أبرزت هذه الظواهر مجتمعة، واقع استنفاد وظائف وأدوار المرحلة الثانية من مراحل نمو الاقتصاد الرأسمالي العالمي، ومهدت السبيل أمام الانتقال عملياً الى مرحلة جديدة (ثالثة)، كانت أقرب ما تكون، لجهة آلياتها ورافعاتها، الى ما كان سائداً في الحقبة الأولى من التطور الرأسمالي، أي في حقبة آدم سميث.

المرحلة الثالثة والعودة الى الليبيرالية: تنوعت المراجع والمنطلقات النظرية والمفهومية التي حكمت تطور الاقتصاد الرأسمالي خلال هذه المرحلة (الثالثة)، التي نشأت في أواسط السبعينات: من المدرسة التاتشيرية في بريطانيا إلى المدرسة الريغانية في الولايات المتحدة الأميركية، إلى المدرسة النقدية ومدرسة "اقتصاد جانب العرض" (Supply Side Economy)، إلى العديد من المدارس الأخرى التي كانت تدعو الى تخفيف القيود وتحرير الاقتصاد من الضوابط واعادة هيكلته وفتح الأسواق وخصخصة الحيّز العام... وقد تمخضت محصلة تفاعلات هذه المدارس المختلفة عن بروز نوع من الفكر النمطي الذي استسهل العمل، بصيغ شتى، على احلال تدريجي لشعار تحرير الأسواق حتى كاد شعار ديكتاتورية السوق (السوق الحرة وحرية التنافس) يحل مكان شعار ديكتاتورية الطبقة العاملة الذي جاءت به ثورة أوكتوبر (عام 1917). واذا كانت المرحلة الثالثة قد نجحت في السيطرة بشكل أو آخر على أزمة الركود التضخمي ما بين أواخر السبعينات والنصف الأول من الثمانينات، الا أنها لم تحل دون استمرار أزمات من أنواع وأشكال أخرى، كانت ترتدي في بعض الأحيان طابعا موضوعياً، ويطغى عليها في أحيان أخرى طابعٌ شبه عالمي (أزمة 1987، أزمة جنوب آسيا ...). وبحسب الاقتصادي المرموق Stiglitz Joseph، الحائز على جائزة نوبل للاقتصاد، شهد العالم الرأسمالي خلال هذه المرحلة (الثالثة) - التي امتدت على أكثر من ثلاثة عقود – ما يزيد عن مئة أزمة اقتصادية موضعية أو عامة، غطّت العديد من بلدان المركز الرأسمالي والبلدان التابعة.

لقد خلقت هذه الأجواء بيئة مناسبة لتعاظم التوجهات اليمينية المحافظة، بأطيافها المختلفة، في العديد من البلدان الرأسمالية، حيث تعزّز الهجوم على مكاسب العمال والطبقة الوسطى والفئات الفقيرة، وسط سعي محموم لتحجيم دور الدولة الاقتصادي والاجتماعي واطلاق العنان أمام حرية رأس المال والوصفات النيو-ليبيرالية، خصوصا بعد زوال الخصم التاريخي للنظام الرأسمالي، أي نظام الاشتراكية المحققة. وقد شهدت معظم البلدان الغربية في هذه الحقبة – مع استثناءات محدودة – تراجعا نسبيا في معدلات التراكم والاستثمار المنتج وانتفاخا في وزن الاقتصاد المالي ذي الطابع الريعي والمضارب على حساب الاقتصاد الحقيقي. وهذا ما انعكس تقلصا نسبيا في وزن الأجور في مقابل ارتفاع وزن الأرباح الرأسمالية والريوع وتزايد معدلات البطالة والتضخم، وبالتالي زيادة في معدلات الاستغلال الاجتماعي والطبقي. كما شهدت معظم هذه البلدان تفاقما في عجز موازناتها وفي حجم مديونيتها، بالتزامن مع تراجع اقتطاعها الضريبي من أصحاب الأرباح الرأسمالية العالية والريوع... وقد بدا واضحا أن "التسوية" الطبقية التاريخية، التي صيغت في الغرب غداة الحرب العالمية الثانية عبر انشاء وتطوير تجربة "الدولة-الراعية"، باتت تتجه منذ عقود نحو التلاشي والاضمحلال. أما في البلدان الناشئة، فان الليبيرالية المعولمة قد أثمرت مجموعة من التطورات المتناقضة: تعايش صارخ بين تسارع النمو الاقتصادي في محاور وجزر محددة من جهة، وتزايد انتشار الفقر والتهميش والاقصاء على نطاق واسع من جهة ثانية؛ تعاظم وتعقّد آليات التبعية بأشكالها المختلفة، مع ارتداء بعض هذه الآليات سمات جديدة – سلبية وايجابية في آن معا - بفعل ظاهرة العولمة، التي نجحت في الاستفادة من بعض جوانبها الايجابية، دول مثل الصين والهند والبرازيل بعد أن قامت هذه الأخيرة بالاصلاحات الداخلية اللازمة لتحسين فرص التفاعل مع المتغيرات الدولية؛ اتجاه عام تدريجي لتدمير بنى الانتاج المحلي وفرص العمل المنتج في العديد من بلدان العالم الثالث، قبل ولادة ما وعدت به العولمة من أنساق انتاج بديلة؛ تقليص الحيّز الفعلي لممارسة السيادة الوطنية على القرارات والموارد المحلية لصالح "الراعي" الدولي الذي يعمل على تصدير "الوصفات" الجاهزة الى سائر بلدان العالم، عبر شبكة المؤسسات الدولية الدائرة في فلكه، ويراقب من ثمّ إقرار هذه الوصفات ويتابع تنفيذها.

عودة الى الأزمة الراهنة: حول قضية "الرفاه الاجتماعي" وتباين مصادر تمويله

ان استمرار ارتدادات أزمة عام 2008 يجعلها أشد خطورة واستدامة من كل الأزمات السابقة، بما في ذلك أزمة عام 1929، وسط استمرار تردي التوقعات المستقبلية، شهرًا بعد شهر. والأزمة هي أزمة مفاهيم وسياسات وتشريعات اقتصادية ومالية، تضافرت في خلق فائض سيولة ذي طابع مصطنع ومتفاقم ومستدام، وفي استخدام هذا الفائض – وسط تراجع تاريخي في معدلات الفائدة منذ نحو عقد - لتحفيز الاقراض الرخيص لمقترضين يتميّزون بقدر كبير من المخاطر، وبخاصة في القطاعين العقاري والمالي. وهذا التوسع في الإقراض – الذي توسّلته المصارف بغية توفير المردودية الاقتصادية لرؤوس الأموال المودعة في الجهاز المصرفي العالمي – ساهم في زيادة الاستهلاك في البلدان المتقدمة على مدى عقود، وبالتالي في دعم معدلات النمو الاقتصادي، مما عزّز الانطباع العام باستدامة حالة "الرفاه الاجتماعي" في تلك البلدان، في وقت لم تكن فيه هذه الحالة مرتبطة بمقومات اقتصادية صحية ومستدامة. فمن الواضح أن حالة الرفاه التي سادت عموما خلال الحقبة الكينزية، كانت مرتبطة ومتزامنة مع عملية واسعة لاعادة توزيع الدخل والثروة، واقترنت بتنفيذ مروحة واسعة من الضمانات الاجتماعية وشبكات الحماية الاجتماعية المتنوعة، التي جسّدت حق المواطن في التعليم والصحة والنقل العام والسكن الشعبي والرعاية الاجتماعية وغيرها. أما حالة الرفاه التي استمرت تشهدها غالبية البلدان المتقدمة بعد الثمانينات – أو شبّه للمواطن استمرارها – فقد جرى تمويلها عبر الاقتراض الخاص وكذلك عبر الاقتراض الحكومي، وليس عبر المضي قدما في سياسات إعادة توزيع الدخل والثروة (كما حصل بعد الحرب العالمية الثانية). ويمكن اعتبار حالة الرفاه هذه، بمثابة تدبير هجين ابتدعه النظام الرأسمالي لتلبية حاجتين ملحّتين وربما متناقضتين: حاجة الأجراء والطبقة الوسطى للدفاع عن مستوى العيش (أو لتحسينه) عبر الاستدانة، الأمر الذي دفع هذه الفئات الى رهن مستقبلها للايفاء بمتطلبات عيشها الراهن؛ وحاجة البنوك للاقراض بسبب تراكم فائض هائل من السيولة ورؤوس الأموال "الساخنة" لديها (Hot Money)، مع العلم أن علّة وجود هذه الأموال هو، بحسب منطق النظام، تحقيق الربحية المرجوة، أي الفوائد.

هكذا تكاملت عناصر الأزمة التى انفجرت عام 2008: تضخم مصطنع في الأرباح والريوع وبالتالي في حجم رؤوس الأموال الهائمة، وتدهور في الوزن النسبي للأجور وفي علاقة الأجر بتطور الانتاجية، وتضخم في الاقراض للأسر لغرض الاستهلاك أساسا وتضخم مواز في الاقراض للحكومات لتمويل انفاقها المتزايد، وهذا ما أفضى في المحصلة العامة الى انفصام فظيع بين الاقتصاد المالى والاقتصاد الحقيقي. وينبغي لفت النظر الى أن اعتماد الحكومات المتزايد على الاقتراض كان، في جزء مهم منه، ناجما عن السياسات الليبيرالية المفرطة التي عزّزت تراجع الوزن النسبي للضرائب على الأرباح والريوع، كنسبة من الناتج المحلي القائم. ومن الواضح أن تمويل "الرفاه" عبر الاقتراض، سواء كان الاقتراض خاصا أو عاما، يعني من الناحية العملية أمرا أساسيا واحدا: تحميل الأسر وعموم المكلفين أعباء هذا النوع من التمويل، في مقابل إعفاء الأرباح الرأسمالية والريوع من هذه الأعباء إلا ضمن حدود ضيقة جدا. وربما هذا ما يفسر الأشكال التي ارتدتها الأزمة الاقتصادية مؤخرا، والتي اقترنت بتردي الملاءة المالية للأسر، وبافلاس العديد من المؤسسات الكبيرة والصغيرة وانتشار البطالة، وبتفاقم مشكلة الديون السيادية الملقاة على عاتق حكومات كل من بلدان أوروبا والولايات المتحدة الأميركية. هكذا غذت النيوليبرالية عملية إعادة توزيع جذرية وواسعة النطاق في غير مصلحة الجزء الأكبر من القوى العاملة والطبقة الوسطى، وبالتحديد فئة الأجراء. واذا ما استثني الـ 1% من الأجراء الذين هم برتبة مدراء – والذين تتزايد الشكوى مما يقتطعونه من أرباح – فان حجم الخلل في التوزيع وإعادة التوزيع يصبح أشدّ عمقا بكثير مما تظهره المعطيات الاحصائية المتاحة.

الإختلالات العميقة تستدعي تصحيحات تأخذ شكل صدمات:

ان ما يشهده العالم الرأسمالي راهنا هو كناية عن "تصحيحات" ذات طابع عنيف ومكلف على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي، وقد فرضتها الاختلالات العميقة المعتملة على مدى عقود في أحشاء الاقتصاد الرأسمالي، والتي لم تجر محاولات جادة لمعالجتها أو امتصاص مفاعيلها. وتعبّر هذه "التصحيحات" عن مرحلة انتقالية بامتياز يعيشها العالم، هي مرحلة الانتقال من نسق للتطور الرأسمالي غلب عليه التطرّف النيوليبرالي وتحكم الأسواق المتفلتة من الرقابة، الى نسق آخر لم تتوضّح فيه الى الآن معالم التوازن الجديد الذي يفترض أن يعاد انتاجه بين الدولة وحرية الأسواق، ولم تتوضّح فيها كذلك المضامين الاجتماعية التي سوف يرتديها هذا التوازن. وقد سبق نشوء هذه المرحلة الانتقالية – وربما مهّد لها ومن ثم تزامن معها - بروز حقبة جديدة في نمط العلاقات الدولية، غداة انتهاء الحرب الباردة في أواخر الثمانينات، ومن أبرز عناوينها: انتقال الامبريالية عموما من استراتيجية الردع والاحتواء الى استرتيجية الهجوم والتوسع والهيمنة (على الأصعدة كافة، العسكرية والسياسية والاقتصادية وخصوصا الثقافية والاعلامية)، على نحو شجّع الترويج لفكرة انتهاء التاريخ، أي الحسم بعدم وجود أي بديل للرأسمالية مستقبلا، بين مختلف أنماط الانتاج المعروفة. وبالتزامن مع نهج التوسع والهيمنة، بات الكون، مع التقدم المتسارع في ظاهرة العولمة، يدار أكثر من أي وقت مضى من جانب "المركز" الراسمالي، عبر ما يقرره هذا الأخير من آليات: تحرير أسواق التبادل، وفرض نظم وتشريعات واتفاقات دولية جديدة في شتى حقول التبادل والاستثمار الأجنبي وانسياب التحويلات المالية والمصرفية وحماية الملكية الفكرية وانتقال التكنولوجيا، وتوحيد وتنميط المقاييس والمواصفات الراعية لمبادلات السلع والخدمات، وغيرها. وقد سعت دول المركز الرأسمالي الى تطبيق مندرجات هذه النظم والتشريعات بالترهيب تارة، وبالترغيب تارة أخرى عبر مؤسسات دولية تدور في فلكها، وبخاصة صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة الدولية ووكالة الطاقة الدولية والنظام المصرفي والمالي العالمي، إضافة الى شبكة أسواق البورصات والمال العالمية، والمؤسسات القطاعية الدولية المتخصصة.

عالم مستقطب أحاديا أم عالم متعدد الأقطاب؟

بالرغم من كل النجاحات التي حققها على هذا الصعيد، لم يتمكن المركز الرأسمالي الدولي، الذي توسّل تعميم السياسات الليبيرالية وتحرير قنوات التبادل للفوز بحصة الأسد من الأسواق، من الحؤول دون تبلور كتل وأقطاب جديدة ومنافسة استطاعت أن تستحوذ على نصيب مهم من تلك الأسواق، حتى مع اضطرار هذه الكتل الى العمل في معظم الأحيان وفقا لقواعد اللعبة التي صاغها المركز الرأسمالي نفسه. والملاحظ أن زوال القطبية الثنائية بين "المعسكرين"، واتجاه العالم نحو الخضوع الى آليات تبادل نمطية وموحدة يديرها المركز، لم يحولا دون بدء تبلور مسار دولي يتجه لأن يكون محكوما في المدى المتوسط والبعيد بمنطقين متمايزين: منطق يدعم استمرار الغلبة الحاسمة للقطبية الأحادية التي تختزلها الولايات المتحدة منذ ما يزيد عن سبعة عقود، ومنطق آخر يدعم النشوء المتدرّج لقطبية دولية متعددة الأطراف، تتشارك فيها كتل سياسية-اقتصادية متنوعة، على قاعدة التبدلات الحاصلة راهنا، والمرجّحة مستقبلا، في موازين القوى على المستوى العالمي. وتشمل هذه الكتل، من ضمن ما تشمله، بلدانا هي بمثابة أقطاب ناشئة، كالصين والهند والبرازيل، الى جانب الأقطاب المسيطرة تقليديا، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية. وقد باتت الولايات المتحدة الأميركية مضطرة للاقرار موضوعيا، بأن الفجوة التي كانت تفصلها قبل عقود عن بلدان مثل الصين والهند، آخذة في الانحسار بوتيرة متزايدة: فدخل الفرد الوسطي في الولايات المتحدة الذي كان يتجاوز عشرات المرات مثيله في هذين البلدين في السبعينات، لم يعد يتجاوزهما راهنا إلا بعدد قليل من المرات. ومع استمرار تفاوت معدلات النمو الاقتصادي بين طرفي هذه المعادلة، يتوقع أن تستمر هذه الفجوة في التراجع. ومن المرجّح أن تؤثر هذه التطورات على السمات الملموسة لعملية الانتقال من نظام دولي الى نظام دولي آخر، خلال العقدين القادمين. وسوف يسعى كل من الكتل والتشكيلات المعنية في صوغ النظام الدولي الجديد الى الاستفادة قدر المستطاع من واقع الأزمة الاقتصادية الراهنة وتفاعلاتها، ومما يرافق تعاظم ظاهرة العولمة وتشعّبها من تفاوت في عناصر القوة والضعف وفي حجم ونوع المخاطر والتحديات التي تخصّ كل طرف من هذه الأطراف، وميل هذه الأخيرة الى تحسين شروطها في عملية اعادة تقاسم المصالح والأسواق في الحقبة الجديدة من التطور الرأسمالي.

حول التباين بين الوزن الاقتصادي للولايات المتحدة ووزنها السياسي:

وارتباطا بهذا الاطار – أي اطار ازدياد المنافسة بين الكتل الاقتصادية الدولية المختلفة – يشير العديد من الدلائل الى تراجع الوزن النسبي للاقتصاد الأميركي في شبكة المصالح الدولية. وقد شكّل هذا التراجع احدى أهم السمات المميزة لواقع العلاقات الاقتصادية الدولية الراهن، بحسب ما تؤكده المقارنات الدولية لمعدّلات النمو والاستثمار والتراكم الرأسمالي والانتاجية، وتطور حجم وبنية المبادلات الخارجية، وكذلك تطور المزايا التنافسية المقارنة وغيرها من المؤشرات. ويطرح هذا الواقع الاقتصادي المتحرك تساؤلات جدية حول مدى قدرة الولايات المتحدة، في المديين المتوسط والبعيد، على الاحتفاظ بهذا القدر من الوزن والتأثير السياسيين الحاسمين على المستوى العالمي. ولعلّ هذا التباين بين الوزنين الاقتصادي والسياسي هو الذي يدفع الولايات المتحدة الى السعي المحموم للتعويض عن تراجعها الاقتصادي النسبي، عبر هجوم سياسي شامل ذي طابع وقائي واستباقي، يتغذى من تشجيعها المستمر لعسكرة العلاقات الدولية، واستسهالها شنّ الحروب ونشر القوات في أقاصي الأرض وإمساكها بالقرارات الدولية عير مجلس الأمن، وذلك بغية تأكيد وإعادة تجديد سيطرتها السياسية على العالم. ويخدم هذا الميل نحو العسكرة في المطاف الأول المصالح الاستراتيجية والبعيدة المدى للمجمّع الصناعي-العسكري-النفطي الاميركي، الذي يلعب من الوجهة التاريخية دورا حاسما في اقتصاد الولايات المتحدة، وبخاصة في إدارة الصناعات العسكرية والتكنولوجية والنفطية وشبكات مراكز الأبحاث والمعلومات، وفي توجيه الاستثمارات الرأسمالية نحو النشاطات المحورية التي يغطيها عمل هذا المجمّع. وقد وجد المجمّع الصناعي- العسكري- النفطي، أن وقف تراجع الوزن النسبي للاقتصاد الأميركي، يستوجب استيلاد أعداء جدد على المستوى الكوني بعد انتهاء الحرب الباردة، واستحداث تناقضات وتوترات ثابتة ومتنقلة في غير منطقة، من النوع الذي يبرّر استمرار الاستثمار المكثّف في تقسيم العمل المتقدم الذي طوّره ذلك المجمّع على امتداد عقود (التشابك العضوي بين الصناعات العسكرية ومراكز الأبحاث وعالم الطاقة والنفط). وتسمح هذه المناخات للولايات المتحدة باستمرار استقطابها للعالم "الحر" سياسيا، بحجة حمايته في وجه "الأخطار الداهمة". هكذا تمّ الترويج لحرب الحضارات تارة، وللحرب الشاملة على الارهاب تارة أخرى، وللحروب الطائفية تارة ثالثة، من دون تحديد دقيق لحيثيات هذا النوع من الحروب التي تنطوي في المطاف الأخير على مصالح جيو/ سياسية بعيدة المدى، تسعى التكتلات الغربية المهيمنة الى تحقيقها. ويبقى الهدف واحدا في جميع الأحوال: اعادة تجديد مقوّمات هيمنة المجمّع الصناعي-العسكري- النفطي داخل الولايات المتحدة، كشرط أساسي لتحسين فرص الولايات المتحدة في إحكام السيطرة السياسية والعسكرية على عالم متحول، وتميل بعض مكوناته وكتله نحو الانعتاق والتمايز النسبيين عن استراتيجية الولايات المتحدة ومصالح البعيدة المدى.


الأسئلة الكبرى التي تطرحها أزمة النظام الرأسمالي العامة:
من غير الجائز استسهال تفسير الأساسي من أزمة النظام الاقتصادي الرسمالي – في شكلها الراهن أو في أشكالها السابقة – باعتبارات بحت أخلاقية أو بربطها أساسا بمسألة المضاربات والفساد فقط أوبالتحايل على القوانين والتفلّت من الرقابة، مع العلم أن هذه كلها كانت حاضرة بأشكال متفاوتة في المراحل المتعاقبة لتطور الاقتصاد الراسمالي، وبخاصة خلال المرحلة الثالثة. بل أن الأزمة الراهنة باتت تدفع موضوعيا في اتجاه إعادة طرح أسئلة – تاريخية - تتعلق بأساسيات الاقتصاد الرأسمالي، وبطبيعته النسبية ومدى نهائيته، على ضوء الزاد النظري الغني الذي تركته المدرسة الماركسية وتنويعاتها، والعديد من المدارس التغييرية الأخرى، التي لا نستثني منها المدرسة الكاينزية. ومن بين هذه الأسئلة، يمكن التوقف بشكل خاص عند الآتي:
• إذا كانت ثمة قناعة راسخة بأن التركيب العضوي لرأس المال قد ازداد خلال العقود الثلاثة المنصرمة – المتزامنة مع التطور المثير الذي شهده تقسيم العمل الدولي في زمن العولمة – فكيف يمكن أن تكون هذه الزيادة قد انعكست على مصادر تشكّل فائض القيمة الذي أنتجه الاقتصاد الرأسمالي، حجما وبنية، في هذه الفترة؟ وما هي طبيعة المعادلة التي حكمت العلاقة بين تطور التركيب العضوي لرأس المال والتطور المفترض في معدل الربح في الاقتصاد الرأسمالي في الحقبة ذاتها؟ بكلام آخر، هل تسمح التطورات الموضوعيه التي طاولت بنية الاقتصاد الرأسمالي، خصوصا خلال مرحلته الثالثة، بنفي أو إعادة تأكيد ما سبق أن توقعه ماركس قبل نحو قرن ونصف القرن بشأن حتمية اتجاه معدل الربح في الاقتصاد الرأسمالي نحو الانخفاض في الأمد البعيد ؟ وإن ثبت وجود مثل هذا الاتجاه، فكيف وأين يمكن التقاط وتحديد أشكاله الملموسة؟
• ارتباطا بما سبق، هل يمكن اعتبار مَيْل وزن الاقتصاد المالي في الاقتصاد العالمي نحو التعاظم خلال العقود الأخيرة، وبخاصة بعد انهيار النظام الاشتراكي، وسيلة من ضمن وسائل متعددة لمقاومة اتجاه معدّل الربح في الاقتصاد الرأسمالي نحو الإنخفاض، أو أداة لإخفاء هذا الاتجاه والتعويض عن مفاعيله، في محاولة لتأجيل انفجار الأزمات الكبرى وإطالة عمرهذا الاقتصاد؟ بكلام آخر، هل تحوّل الانتفاخ الهائل في أرباح الاقتصاد المالي في المرحلة الثالثة – وهي أرباح ذات طابع ريعى ومرتبطة بفقاعات عقارية ومالية وبتشوهات في بنية أسعار الاستهلاك وأسعار الصرف – الى وسيلة للتستر بشكل مصطنع على النتائج الموضوعية المتأتية عن اتجاه معدل الربح نحو الانخفاض؟ واذا كانت هذه التساؤلات في غير مكانها، فكيف يمكن تفسير هذا التضخم المتمادي وغير المسيْطَر عليه في حجم الاقتصاد المالي، وماذا تكون بالضبط وظيفة هذا الشقّ المالي والريعي من الاقتصاد الرأسمالي، الذي أتاح الاستفادة من فيض من الأرباح السهلة وغير المرتبطة بعملية الانتاج الحقيقي؟ هل يمكن اعتبار هذا النوع من الأرباح السهلة بمثابة إقتطاع من فائض القيمة المحقق من الانتاج الحقيقي، أم أن ثمة مصادر أخرى لهذه الأرباح، ينبغي العمل على تحديدها وكشف الجوانب المخفية منها؟
• ثم مَن استفاد فعلا من تورّم الاقتصاد المالي وتضخم الأرباح ذات الطابع الريعى، والى من آلت ثمار عملية توزيع وإعادة توزيع هذه الأرباح بين الطبقات الاجتماعية المختلفة؟ هل أن هذه الأرباح آلت بشكل شبه حصري الى فئات طفيلية طارئة على "النظام"، ولا مواقع أساسية لها في عملية الانتاج، أم أنها كانت "توظيفا" واعيا ومنسّقا تولى القيّمون على هذا "النظام" هندسته ورعايته، في محاولة منهم لتأمين ديمومة هذا الأخير؟ وفي المحصلة العامة، أليس العمال والأجراء والطبقة الوسطى هم من سدّد القسط الأكبر من كلفة تورّم الاقتصاد المالي، عبر تعرّض أوضاعهم المعيشية للتدهور وشروط عملهم للتردّي، ناهيك عن تحملهم معدلات بطالة قياسية ومتمادية؟ أليس هذا الشعور العميق بالاستغلال من جانب العمال والأجراء وشرائح من الطبقة الوسطى، هو الذي يفسّر ذلك الانتشار الواسع النطاق للحركات الشعبية الاحتجاجية الذي شهدته مدن العالم، وبخاصة في بلدان المركز الرأسمالي؟ وهل يمكن في الظروف الراهنة استقراء مستقبل هذه الحركات ورسم وجهة تطورها وتقدير مدى قابليتها للانفتاح المشترك على ديناميات أممية من نوع جديد؟


من الواضح ان هذه المرحلة (الثالثة) من تطور الرأسمالية هي في طور الانتهاء، وأن النظام الرأسمالي في طريقه للانتقال الى مرحلة رابعة. ومنذ أزمة عام 2008 تعاقب زعماء "العالم الغربي" على الترويج بأن "مجموعة العشرين" (G20) ومراكز الأبحاث التابعة لها منكبة على تطوير رافعات وآليات عمل جديدة، لمعالجة الاختلال العضوي في أنماط الرقابة السابقة على عمل القطاع المالي والمصرفي، وعلى تصدير تلك الآليات الى البلدان النامية عبر موجات من "الدعم التقني" من جانب المنظمات الدولية والبنوك والبورصات العالمية. وقد جرى الترويج أيضا أن العالم يتجه نحو الأخذ التدريجي بصيغ مجددة من فلسفة كينز، لجهة إعادة التأكيد على دور الدولة الأساسي وعلى الضوابط الاجتماعية على حركة رأس المال، وصولاً إلى إعادة صياغة توازن أفضل بين دور الدولة وحرية الأسواق. ولكن أيا من هذه الأفكار المروّج لها لم يجد طريقه الى التنفيذ خلال السنوات التي تلت عام 2008 ، لا بل أن الأزمة ازدادت عمقا وشمولا مع ارتدائها مؤخرا شكل أزمة ديون سيادية يتوالى تفجرها في الولايات المتحدة الأميركية وكل من بلدان غرب أوروبا وشرقها.
قد تكون الاجابة الشافية على هذه المروحة من التساؤلات – مع ما تتطلبه من مسوغات نظرية وتطبيقية واضحة وقوية في العديد من حقول المعرفة – غير جاهزة بالقدر الكافي راهنا، وهي تتطلب من دون شك المزيد من الجهد الفكري والمحاججة والمثابرة. ولكن ينبغي الاعتراف في الوقت ذاته بأن المناخات المستجّدة بفعل الفصل الحالي من أزمة النظام الرأسمالي، تشكل البيئة المؤاتية – وغير المسبوقة منذ عقود لتحفيز هذا الجهد وتوجيهه في مسارات واعدة. وإذ تقع مسؤولية كبرى في هذا الاطار على عاتق الباحثين والمثقفين ورجال العلم من ذوي الاختصاصات المتنوعة، فان مسؤولية لا تقل شأنا تقع أيضا على عاتق عشرات بل مئات ألوف الناشطين والمناضلين في شوارع مدن البلدان الرأسمالية المتقدمة والنامية، ممن ينتمون الى مروحة واسعة من الحركات المدنية وغير الحكومية والنقابات العمالية والأحزاب وأطياف من الطبقة الوسطى، ويتعرضون باللحم الحي لتبعات زيادة معدلات استغلالهم الاجتماعي ....ففي هذه الشوارع بالذات يتشكل الآن بصورة متعاظمة دفق من الدروس والعبر البالغة الدلالة، التي جرى استخلاصها من المواجهات الاجتماعية المتنوعة. والمطلوب بالحاح راهنا، هو الانكباب على تحليل وتمحيص هذه الدروس والعبر، وإسنادها بما تتطلبه من مرتكزات علمية ونظرية، لتحويلها الى رافعات لتجميع المتضررين وتوظيفها في إدارة عملية التغيير الاجتماعي على المستوى الكوني.



#كمال_حمدان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295


المزيد.....




- “الفراخ والبيض بكام النهاردة؟” .. أسعار بورصة الدواجن اليوم ...
- مصدر التهديد بحرب شاملة: سياسة إسرائيل الإجرامية وإفلاتها من ...
- م.م.ن.ص// تصريح بنشوة الفرح
- م.م.ن.ص// طبول الحرب العالمية تتصاعد، امريكا تزيد الزيت في ...
- ضد تصعيد القمع، وتضامناً مع فلسطين، دعونا نقف معاً الآن!
- التضامن مع الشعب الفلسطيني، وضد التطبيع بالمغرب
- شاهد.. مبادرة طبية لمعالجة الفقراء في جنوب غرب إيران
- بالفيديو.. اتساع نطاق التظاهرات المطالبة بوقف العدوان على غز ...
- الاحتجاجات بالجامعات الأميركية تتوسع ومنظمات تندد بانتهاكات ...
- بعد اعتقال متظاهرين داعمين للفلسطينيين.. شكوى اتحادية ضد جام ...


المزيد.....

- مساهمة في تقييم التجربة الاشتراكية السوفياتية (حوصلة كتاب صا ... / جيلاني الهمامي
- كراسات شيوعية:الفاشية منذ النشأة إلى تأسيس النظام (الذراع ال ... / عبدالرؤوف بطيخ
- lمواجهة الشيوعيّين الحقيقيّين عالميّا الإنقلاب التحريفي و إع ... / شادي الشماوي
- حول الجوهري والثانوي في دراسة الدين / مالك ابوعليا
- بيان الأممية الشيوعية الثورية / التيار الماركسي الأممي
- بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة ف. آي. لينين (النص كاملا) / مرتضى العبيدي
- من خيمة النزوح ، حديث حول مفهوم الأخلاق وتطوره الفلسفي والتا ... / غازي الصوراني
- لينين، الشيوعية وتحرر النساء / ماري فريدريكسن
- تحديد اضطهادي: النيوليبرالية ومطالب الضحية / تشي-تشي شي
- مقالات بوب أفاكيان 2022 – الجزء الأوّل من كتاب : مقالات بوب ... / شادي الشماوي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - كمال حمدان - قراءة أولية في الأزمة الراهنة للنظام الرأسمالي