عبدالله الجنابي
الحوار المتمدن-العدد: 4257 - 2013 / 10 / 27 - 04:06
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
من هو رب الرفاعي ؟
عبد الله محمد الجنابي
مذ كنا أطفالا ، شربنا الخوف ، كما حليب أمهاتنا ، في البيت والمدرسة والمحاضرات الوعظية. يجتهد المربون والمعلمون والوعاظ في تصوير الله الذي يجب أن نخافه لعظمته ، ولشدة حسابه ، واستعار النار التي أعدها لنا . كان توصيفهم يتطابق مع شخصياتهم وعلى منوالها ، فالشدّة والغلظة والحساب العسير وما شابهها حفرت أخاديد عميقة في نفوسنا . توصيفات الشرطي الذي كان يمثل أي نظام متسلط ، كانت تثير فينا الخوف نفسه . الأهل والمعلمون ورجال الوعظ ينقلون لنا بأمانة شعورهم بالخوف من الله ومن الشرطي ممثِلا للنظام . وكنا تحت وطأة ذلك ، نلتزم الحذر مخلوطا بالرغبة في الإفلات من الرقباء . إن الإفلات من رقابة الشرطي ممكنة ، ومن سلطة الأب والمعلم والواعظ ، لكنها غير ممكنة من رقابة الله ، ولذلك حافظنا على الصلوات والصيام وزيارة المراقد وغيرها من الطقوس ، وأداء تحية الإسلام على بعضنا ...
لقد فاتهم أن الخوف والحب لا يجتمعان ، بل إن الخوف يأكل الحب كما يفعل الجراد في خضراء الأرض . تشكلت نفوسنا لوحات بلون واحد فما أبصرنا ألوان الطيف الشمسي السماوية ...
وحين زحف الوعي على أديم عقولنا ، حاولنا فك أغلال الخوف ، متجهين صوب قراءات أخر مختلفة لله وللدين والعالم الدنيوي والأخروي ، فعكفنا على قراءة كتب آركون ونصر حامد أبو زيد وعبد الكريم سروش وحسن حنفي وشبستري وغيرهم ، إلا إن تلك القراءات كانت تخاطب فينا العقل فحسب . بينما كانت أرواحنا المتيبسة تصلي صلاة الاستسقاء ... وكنا نسمع قرقعتها حين تتكسر...
كنا بأمس الحاجة إلى كتاب ينطق ، روح لروح ، وقلب لقلب ، فكان ذلك عبد الجبار الرفـــــــــاعي ( مع حفظ الألقاب ) ، في ندوة تكريمية أقمناها له في (فضاء الثقافة /جمعية تنمية المرأة) في النجف ..."فكان الخطاب على قدر حاجة السامع" . ومع أن الرفاعي قلب فينا موازين القوى لصالح الروح والحب ، على حساب الطقوسية الشكلية والأداء الفيزياوي للعبادة إلا انه " لم يجرح الضمير الديني فينا ، ولم يهجُ مقدساتنا فلم يثر فينا الخوف على معتقداتنا التي هي ممتلكاتنا الرمزية والروحية الثمينة " . لقد أسهب في وصف ربه الذي دعانا جميعا إلى الاطمئنان إليه ومحبته "والذي صفاته : الرحمة والمحبة والسلام ، ونحوها من صفات الرحمن ، واستلهم ما يتحلى به تعالى من صفات الجمالية, وأسمائه الحسنى، مثل: "الرحمن, الرحيم، القدوس, السلام, المؤمن, العزيز, البارىء, المصور, الغفار, الوهاب, الرزاق, البصير, الحكم, العدل, اللطيف, الحليم, الشكور, الحفيظ, الكريم, المجيب, الواسع, الحكيم، الودود, الحق, المحيي, البرّ, التوّاب, العفوّ, الغفور, الرؤوف, مالك الملك, الغني،النور, الهادي, الرشيد, الصبور،...الخ" .
لم اخرج من محاضرته بمثل ما دخلت ، فقد تلبسني شعور بالذنب ، مخلوطا بالخجل من نفسي ، إذ كنت مصدّقا على مر السنين صورة رسمها الطغاة للإله على شاكلتهم ، بدأ عهد جديد وشعور كنت اقرأه فحسب ، لكنني الآن أبصرته بل تسلل إلى بدني وروحي وأحسست بنشوة ما أحسست بها من قبل .
لم يأتِ الرفاعي بشيء جديد ، فقد قرأت ذلك في كتب عدة ، لكن الحروف التي قرأتها كانت صماء لا روح فيها ، ليست كالحروف التي رسمها الرفاعي لنا في محاضرته . كان الرفاعي ، الداعية إلى العشق ، يقودني إلى عشق الله بحروف ضمنها طاقة من روحه إذ "الناس لا تقاد إلى الجنة بالسلاسل" .ماذا لو كان الرفاعي في محاضرته داعية إلى التدين ! لكنه لم يكن ... "فمهمته دعوة الناس إلى أن يكونوا إنسانيين قبل إن يكونوا متدينين" فهو يعتقد "أن الإنسان كائن متديـــــــن أصلا ، وان اختلفت تجليات التدين ، تبعا للزمان والمكان والثقافة وتنوع البشر واختلافهم ، فالحياة لا تطاق من دون خبرات وتجارب دينية" ولا يحتاج الإنسان من ثم لداعية إلى التدين قدر حاجته إلى الأنسنــــة. نعم كان مسلما لكن توصيفات إسلامه انه"رحماني إنساني ، والدين عنده هو الحب، والحب هو الدين، والمحبة أصل الموجودات ، كما يقول ابن عربي، وان وظيفة الدين الأصلية عنده هي إنتاج معنى لحياة الإنسان ، وهي وظيفة عجزت معظم الجماعات الإسلامية اليوم عن إدراكها...
لم يكن الله ، ربه ، جلادا ، ولا يبطش ، غير مخيف ولا مرعب ، والعلاقة به صادقة ، ذلك أن ما ينبثق عن الخوف هو الكراهية والقلق ، ولا يمكن تأسيس علاقة صادقة لذيذة دافئة جذابة بالله إلا عبر الحب...
فجأة كأني وجدت شيئا ، كأن ارخميدس صرخ من قبلي : وجدتها ، وجدتها ، وجدتها... انه صوفي لا شك ... هذه توصيفات إنسان صوفي ... لكن صوته كان يعزف في أذني : "ادعو إلى عدم التنكيل بالجسد والتضحية بمتطلباته الضرورية" ... ) ،فهل ذكر انه زاهد في الدنيا !... إذن ما وجدتها ... بل على العكس ، فقد فهمت منه ما معناه إن الفكر لا يتحقق دون جسد ، وان إشكالية ثنائية الفكر والجسد مفهومة لديه ... كما كان نيتشه قد فهمها من قبل ... ولأن البحث عن التوصيف قد أتعبني ، كان لابد أن احسم الأمور بطريقة ما ، اقرب إلى تحقيق مقصدي فأقول : كان الرفاعي عاشقا ، يدعو إلى العشق ، وأنا صدقته ، فمن شاء أن يعشق الله فليستمع إليه ...
#عبدالله_الجنابي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟