أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - فهد المغربي - ضد انتقائية المنهج - الجزء الثاني















المزيد.....



ضد انتقائية المنهج - الجزء الثاني


فهد المغربي

الحوار المتمدن-العدد: 4241 - 2013 / 10 / 10 - 13:26
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


الفصل الثاني :
الأرخبيلية في الفكر تعني الأمية في الفكر

1- خريف 1956 : نهاية حقبة ستالين الثورية :
منذ المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي السوفياتي سنة1956 ، والاشتراكية في الاتحاد السوفياتي تتعرض لتدمير اثر تدمير، من طرف القيادة التحريفية التي دشن خروتشوف وجودها، والذي صارت المهمة المطروحة عليه بالحاح منذ 1961 (سنة المؤتمر الثاني والعشرين)، بعد أن اكتمل تبلور خطه التحريفي هي تصفية الاشتراكية. ما كان هذا ممكنا، بدون الاجهاز على الارث الثوري النظري والسياسي، ليوسف ستالين والماركسية اللينينية بالتالي، عبر مجموعة من الاجراءات : منها الغاء ديكتاتورية البروليتاريا وتعويضها ب"دولة عموم الشعب"، وأيضا استبدال حزب الطبقة العاملة بحزب "الشعب كله" بالاضافة الى فصل الثورة الاشتراكية عن الثورة الوطنية التحررية في المستعمرات وأشباه المستعمرات، والتخلي عن دعم حركات التحرر الوطني والمناداة ب"التطور السلمي نحو الاشتراكية" ودول "الديمقراطية الوطنية". بالاضافة الى سياسات اقتصادية خطيرة، لا يربطها بالاشتراكية رابط، نذكر منها بيع الجرارات والمكائن الزراعية الى الكلخوزات، واعادة فوضى الانتاج الى المجتمع السوفياتي والسماح بالاستثمارات الأجنبية في سيرروة مستمرة، لتدمير الاشتراكية الأولى التي عرفتها البشرية، اختتمت بالانهيار الكلي للاتحاد السوفياتي عام .1991
ان هذا الانهيار الصاخب كان له اثره على العالم كله، وما يهمنا من هذا الاثر جانبه الفكري : انه صور على أساس انه اتباث لانهيار الماركسية اللينينية، خصوصا ان القيادة السوفياتية قد استمرت في تبنيها لفظا حتى النهاية. ومع انحراف اغلبية الأحزاب الشيوعية في العالم مع خروتشوف أو – على الأقل – التزامها الصمت، أو النقد الخجول (مثلما فعل الحزب الشيوعي الفيتنامي) ، ما عدا حزبين في العالم سجل لهما التاريخ، وقوفهما وجها لوجه امام التحريفية العالمية آنذاك (السوفياتية منها أو اليوغسلافية ومن لحقهما) هما الحزب الشيوعي الصيني بقيادة ماو تسي تونغ، وحزب العمل الألباني بقيادة أنور خوجا. وبعض التنظيمات الماركسية اللينينية في العالم منها منظمة الى الأمام المغربية (1979-1970) التي قامت في أسسها الفكرية على القطع النهائي مع التحريفية محليا وعالميا، والوقوف لجانب الثورة الثقافية في الصين وألبانيا. كما أن مناضلين شيوعيين آخرين قد تنبأوا بالانهيار قبل وقوعه بعقود، ومنهم فؤاد النمري (الحزب الشيوعي الأردني) في معتقله سنة 1963، وحسقيل قوجمان مناضل الحزب الشيوعي العراقي سابقا، جاهدت الامبريالية آنذاك، منذ الانهيار المدوي، لتصويره اما على أساس أنه فشل للماركسية اللينينية و"نهاية للتاريخ" كما أن التحريفية، من جهتها، مدعومة بسيدتها البرجوازية الامبريالية، روجت كونه نتاجا ل"سياسات ستالين البيروقراطية" أو بسبب فشل اللينينية ….الخ. فالأساسي لديهما معا، هو ان تحجبا عن الانظار كونه – الانهيار – افرازا لبنية من الصراع الطبقي داخل المجتمع السوفياتي، حسم بانهزام البروليتاريا عبر انقلاب عسكري، نفذته طغمة خروتشوف المعادية للاشتراكية anti-socialiste بأي ثمن ولقاء أي مقابل، وحتى لو كان هذا الحجب، يتطلب تعليل الانهيار، بنوبة مغص عانى منها هندي أحمر في جبال المكسيك، عندما لم يطبخ لحم ثور البوفالو جيدا !

2- توفيق ما لا يتوافق:
هذه العوامل أفرزت لنا عنصرا جديدا في البنية الايديولوجية بالمغرب، بل و بالعالم كله، وهو الأرخبيلية كوجه قبيح من أوجه الانتقائية البرجوازية. فما هي اذن هاته الأرخبيلية ؟
يحدث أحيانا، أن تصادف شخصا مطلعا على كم هائل من تراث الفلسفة، ومنجزات العلوم، والفكر البشري عامة. لكن ليس – حسب ما يظهر – له أي موقف محدد من أي شيء، فيحلل هذه القضية بالماركسية، أو بأقوال منها ،وتلك بالوجودية، وأخرى بالبنيوية، كما قد يتفق أن يفسر رابعة، باعتماد مفاهيم النيتشوية أو الفرويدية. يرى الفكر صراعا لا حد له، لا هوادة فيه، من المواقف والتيارت – ونحن ايضا نرى ذلك – الا انه، بخلافنا، يخشى تحديد موقعه في هذا الصراع. بل وأكثر من ذلك، يعتقد انه هو الذكي بين الناس جميعا، بعدم انحيازه الى موقع معين بدعوى ان "الانفتاح على جميع الآراء" هو الموقف الصحيح فكر مثل هذا الشخص، هو كأرخبيل آلاف من الجزر، لا يربط بينها رابط، اذ تنحصر مهمته النظرية في النط والقفز من جزيرة الى أخرى كلما دعا الأمر. وهذا مجرد تشبيه – ونعلم، كل العلم، ان التشبيه بعيدا على ان يكون برهانا – لا يهمنا منه، سوى حالة التشتت الفوضوي للجزر في حالة الأرخبيل.
والأرخبيلية، تصور لصاحبها نفسه متعاليا عن الصراعات والتناقضات، اذ هو ينظر من موقع اللاموقع، من الأعلى، كالله، ساميا متساميا في علياء مراقبته للكون. فالالتزام بنظرية والدفاع عنها هو "استلاب" في سجن هاته النظرية بنظره الذي يعتقده، بغباوته، أنه ليس موقفا بحد ذاته. والواقع أن هذا كله ليس الا هروبا من النظرية الماركسية اللينينية وجهازها المفاهيمي الجبار، وذلك باتخاذ موقف مثالي ذاتي في العمق، يتركز في :
- انكار وجود حقيقة موضوعية كامنة في العالم المادي باستقلال عن وعي البشر وارادتهم. يعبر عنه صراحة، في العديد من الأحيان، بالزعيق الفلسفي البرجوازي الصغير ضد "الحقيقة المطلقة" و"الدوغمائية" و"الاستلاب الفكري"…الخ من المصطلحات التي تحاول، عبثا، اخفاء الطابع الغيبي والغبي معا، لهذا الفكر.
- النظر الى عملية انتاج المعرفة بالواقع الملموس، في معزل عن عملية النضال، من أجل تغيير هذا الواقع. هذا ما يجعل الأرخبيلية ترى الفكر تأملات مجردة و "وجهات نظر".
وما يردده الارخبيليون كثيرا، هو أن "كل فليسوف قد اكتشف جزءا من الحقيقة" أو أن الحقيقة هي "مجموع ما قاله المفكرون" هذا ان لم تنكر وجود حقيقة اصلا وتنتهي الى ان تيارات الفكر، كلها، لم تنفذ الا الى ظاهر الواقع، أما النومين منه – كما يقول كانط، المفضل لدى الارخبيليين – فلا أحد توصل اليه. ولنكتشف البلادة : كيف يمكن القول، أن كل فيلسوف أو مفكر قد توصل الى جزء من الحقيقة، بدون التضحية بعلم المنطق كله ؟ ولا يفوتنا التذكير بأن كل فكر له جهاز مفاهيمي محدد مرتبطة عناصر ترابطا وثيقا متسق مع ذاتها فاما ان يكون متسقا مع الواقع في اتساقه مع ذاته واما ان يكون مناقضا له في اتساقه الذاتي نفسه. هل يمكن فصل مفهوم الصراع الطبقي عند ماركس عن مفهوم الثورة الاجتماعية أو نمط الانتاج و ديكتاتورية البروليتاريا ؟ وهل هذا بدوره قابل لان يفصل عن العنف الثوري ؟ ان أخذ الصراع الطبقي من ماركس و العقد الاجتماعي من فلاسفة عصر الأنوار والبيروقراطية من ماكس فيبر…الى آخره تحت ذريعة توصل كل فكر لجزء من الحقيقة انما هو تعبير عن البؤس المفهومي للفكر والافلاس السياسي والطبقي لحامله.أضف الى ذلك كون "الجزء من الحقيقة" الذي يقصدون فانه لا يفهم على كونه سلسلة تطور تاريخي للمعرفة كميا ونوعيا. بل يفهم على كونه عنصرا بين عناصر من بنية لا تاريخ لها ! بنية جاهزة أمامه كانتقائي ليأخذ منها مايشاء ويترك ما يشاء ولا يعلم أنه حينما يأخذ من هنا هنا فانه كمن يدرس اللغة بدرس من الأول ابتدائي ودرس من الجامعة ودرس من الثالث اعدادي. هذه النظرة السانكرونية الميتافزيقية للفكر ترسخها كثيرا مناهج تدريس الفلسفة من قبيل نكت "ديكارت ينتقد سارتر وسقراط غير موافق" وفي ذلك يتنافس المتنافسون من مناهج دراسية ومتفلسفة النظام ومحلليه.
وكيف يمكن ان تكون الحقيقة "مجموع ما قاله المفكرون"، وهذا المجموع تنخره تناقضات شديدة لا مفر منها ؟ اما أن يكون الصراع الطبقي محرك التاريخ (ماركس)، واما أن يكون تسامي الليبيدو (فرويد) ، واما شيء آخر :اذ توجد حقيقة واحدة، وليس سبعمائة. فكرة "المجموع" الانتقائية، سخر منها هيجل – وهو المثالي الديالكتيكي – قائلا :

« ان الاقتصار على النظر الى موضوع معين، من زاوية التفاعل المتبادل، لهو منهج يتميز بالبؤس المفاهيمي الى اقصى الحدود، ففي هذه الحالة، فاننا نظل في مجال الواقع الخام ولذلك فان الحاجة الى التوسط، الذي يبرز حينما يتعلق الأمر، باكتشاف سبب الارتباط تبقى غير مشبعة. ان قصور المنهج، الذي ينظر الى الظواهر من زاوية التفاعل المتبادل، يكمن في كون علاقة التفاعل، بدل أن تحل محل المفهوم، يتعين عليها أن تكون هي نفسها مفهومة.»
(هيجل – موسوعة العلوم الفلسفية – الطبعة الألمانية/الملحق – الفقرة 156).

ان علاقة التفاعل لا يمكن أن تحل محل المفهوم، ولذلك لسبب بسيط، هو كونها نفسها غير مفهومة. فكيف لغير المفهوم أن يفهم (بكسر الهاء) ؟ اذ قبل أن يفهم (بالكسر) عليه أن يكون مفهوما.وعلاقة التفاعل بين عنصرين من عناصر الواقع، يجب أن تفهم في البداية، كشرط أساسي لاستعمالها لتفسير ظاهرة ما، وهي في جميع الحالات لا يمكن لها أن تحل محل المفهومconcept اذ أنها في غياب فهم واضح لها، لا يمكن لها أن تفسر شيئا، أما اذا صارت مفهومة، فهذا يحل المشكلة، دون أن يعني ذلك، التخلي عن المفهوم النظري في فهم الظاهرة، اذ لا يمكن الهروب من مفهوم الا نحو مفهوم غيره، فان لم يكن هذا الأخير علميا كان غيبيا. هذا لب ما أراد هيجل قوله، وهو في الواقع، ما سقط فيه مثلا، الماديون الفرنسيون في القرن الثامن عشر، حيث تأرجحوا بلا توقف، بين مقولة "الظروف تصنع الانسان" و"الانسان يصنع الظروف" دون أن يستطيعوا الوصول الى أي حل مرض لتناقض علاقة الانسان بواقعه المادي. هذا التناقض، لم يستطيعوا حله، لانهم لم يدرسوا التاريخ في حركة تغيره وتطوره - أي أنهم بالضبط، لم يكونوا ديالكتيكيين - والذي يحيل بالضرورة، الى الحركة التاريخية المرتبطة بالتناقض بين القوى المنتجة وعلاقات الانتاج. وهذا موضوع شاسع، ليست هاته الدراسة اطارا له – يمكن للقارئ، ان شاء أن يطلع على كتاب بليخانوف "في تطور النظرة الواحدية الى التاريخ" – الا انه من الضرورة ان نشير، ولو بسرعة خارقة، الى مدى تشابه انتقائية عصرنا بميتافيزيقية فلاسفة عصر الأنوار الماديين. فغياب التحليل الديالكتيكي هو الميزة المشتركة لهما معا.
نرى أن الانتقائية، لا تؤدي بصاحبها الأرخبيلي، الا الى متاهات مظلمة لا تخيفه في نهاية الأمر، ما دام هدفه هو حجب الحقيقة وليس كشفه. ولنعط مثالا بسيطا، بعيدا، نوعا ما، عن السياسة : ماهي طبيعة ظاهرة الحب الجنسي؟ أهي بيولوجية أم اجتماعية أم نفسية ؟ الدارويني الاجتماعي (متبني نظرية الداروينية الاجتماعية)، سيقول أنها ظاهرة بيولوجية، مادام لا يرى الظواهر في المجتمع الا امتدادا خطيا لظواهر الطبيعة. أما الفرويدي فسيقول أنها ظاهرة نفسية اذ هي مرتبطة لديه باللاشعور، وكبت الرغبة الجنسية في الأم الذي يؤدي الى تعويضها بشكل متسام sublimé في الحب. أما الماركسي فسيقول انها ظاهرة اجتماعية، لأنه يدافع عن كونها علاقة اجتماعية، تكتسب شكلا متغيرا بتغير التشكيلات الاقتصادية-الاجتماعية وتحديدا علاقات الانتاج السائدة التي تحكم تطورها. والخلاف هو لحد الآن مقبول وقابل للنقاش بشكل علمي. الا أن المشكلة هي أن الأرخبيلي سيتدخل ويتذاكى اذ يقول انها ظاهرة اجتماعية ونفسية وبيولوجية في آن واحد. أي بتعبير الانتقائيين المفضل : لها ثلاثة أبعاد.
والواقع انه من الوهلة الأولى يبدو التوفيق الانتقائي بين المواقف الثلاثة سهلا. اذ ان للحب علاقات متبادلة بكل من بيولوجية الانسان (تكوينه الجسمي وانتمائه لنوعه)، اذ لا يمكن أن نتصور حبا جنسيا بين فردين من جنس واحد (اللهم في حالة المثلية الجنسية، وهنا نتكلم، في المستوى الباثولوجي) ونفسيته حيث أنه مرتبط بالعديد من الظواهر النفسية سواء الايجابية أم السلبية، كما أشار الشاعر :

»أن يحب،
يعني أن يمزقه الارق الهاتك … تحت اللحاف،
من الغيرة على كوبرنيكه
وليس من زوج ماريا ايفانا
وهو يعتقد،
انه ينافسه «
كما لا يمكن فصله عن علاقاته الاجتماعية، اذ هو متعلق بالضرورة، بارتباط اجتماعي relation sociale محدد . لكن الأمر ليست بتلك السهولة التي تبدو للأرخبيلي والذي بطبعه كسول عاجز عن النضال من أجل فهم الواقع، ويبرر كسله وعجزه ب"وجهة نظر التفاعل المتبادل"، البئيسة مفاهيميا كما عبر عن ذلك هيجل. والتدقيق في وجهة النظر هاته، يبين أنها ثنوية في أساسها الفلسفي، اذ تعتمد الحلين المادي والمثالي معا للمسألة الأساسية للفلسفة، في دراسة الظواهر. فالسؤال الجوهري الكامن وراء التساؤل عن طبيعة الحب الجنسي هو التالي : ما الذي جعل من الانسان انسانا وفصله عن المملكة الحيوانية ؟ هذا هو السؤال الجوهري، والذي الاجابة عنه تحدد بشكل حاسم، الاجابة عن تساؤلنا رغم علمنا بالطبع، ان هذا الذي وصفناه بالسؤال الجوهري له أيضا ولاجابته الأساس الفلسفي المتمثل في حل اشكالية العلاقة بين الفكر والواقع.
ان القول بأن الانتاج الاجتماعي – الذي يضم في طياته عناصر عدة أهمها صنع الأدوات واستعمالها –هو الذي أدى الى الانتقال من الحيوان(السلف المشترك للقردة والانسان) الى الانسان الحالي Homo sapiens sapiens والذي تؤكده معطيات علم الاناسة Anthropologie وعلم الاحاثة (الحفريات) Paléontologie، حيث كان الانسان الصانع homo faber، اول منعطف نوعي أدى الى الوصول الى انسان اليوم، انما يسد الباب أمام كل تفلسف مثالي نقيض لهذا الواقع، معاند له، بل انه يسد الأبواب جميعا، أمام كل تفلسف. وقطعا، هذا هو الجواب الذي سيقدمه الماركسي على السؤال الجوهري. أما الدارويني الاجتماعي، فليس بامكانه حتى محاولة الاجابة عنه، لأنه لا يوجد أصلا في نظره فرق نوعي بين عالمي الطبيعة والمجتمع، اذ أن قوانين الأول لا زالت تحكم الثاني في تطوره الذاتي نفسه (اذ هي ليست موجودة وحسب، بل انها مبدأ الحركة الاجتماعية أيضا) فبالأحرى أن يجيب عليه بكون الانتاج هو الذي لعب دور خلق هذا الفرق النوعي، وهو طبعا، لا يمكن أن يقول بهذا العامل لسبب أساسي : عجزه عن فهم الفرق، بين الانتاج لدى الحيوان (خلية النحل مثلا) من جهة، والذي لا يمكن بكل دقة وصفه كانتاج، وانتاج الانسان من جهة اخرى، بما هو ذو طبيعة اجتماعية. لا يمكن البحث عن آليات وجوده واشتغاله في المعطيات البيولوجية (الحمض النووي، المرفولوجية الجسمية… ) بل في الممارسة الاجتماعية praxis، بما هي العلاقة التي تربط الانسان بالطبيعة، والتي من خلالها يغير الانسان طبيعته ذاتها في تغييره للعالم الواقعي. اذ أن البيولوجي نفسه، يعاد تشكيله حسب المتغيرات الاجتماعية. فمجموعة من الصفات الوراثية، مثلا، تختلف باختلاف المجتمعات التي تدرس بها، منها وطبيعة الانتاج فيها ومستوى تطوره : فانسان اليوم هو أطول كثيرا من انسان العصور الغابرة. وكان هذا الطول يزداد مع تطور القوى المنتجة لا العكس.
أما الفرويدي فسيقول، أن ما جعل من الانسان انسانا هو الكبت refoulement والتي فرضت لجوء الليبيدو، الى أشكال جديدة للتسلل من اللاشعور الى الشعور. اذ انتاجات الحضارة culture الانسانية بأكملها تجد جذورها حسب الفرويدي في تسامي الطاقة الجنسية. ان السؤال المحرج حقا على الفرويدية هو : كيف ظهرت هذه العناصر فجأة في تاريخ الانسان ؟ وهي هنا تجيب بقصة افتراضية هي روايتها المشهورة عن الجريمة الأولى، والتي تفسر بها الطوطمية، حيث ندم الأبناء على قتل الأب أدى الى فكرة الله وتحريمهم للأم المتنازع حولها، خلق التابو Tabou المشكل، كما سبق أن قلنا، هو أن هذا الطرح يظل عاجزا عن حل ذرة من الاشكال بصفة علمية دقيقة تلامس الأسباب الفعلية. ولكنه، مع ذلك، قابل لأن يناقش وله علاقات منطقية محددة بين عناصره (مفاهيمه) ومن الممكن أن نخوض فيه بتفصيل في دراسة أخرى.
والآن نأتي الى المصيبة الكبرى : المنهج الانتقائي للأرخبيلي الكسول. ان كل السهولة التي بدت له في بداية الأمر، حول امكانية التوفيق بين الطروحات المتضادة، قد تبخرت بعد هذا العرض الشامل حول العمق الذي يملكه الموضوع فعلا،.بل انه يمكننا القول،ان كل تلك السهولة قد انقلبت صعوبة الآن. فالأفكار الثلاثة تتناقض فيما بينها وتتمحور حول تناقضها الرئيسي : التناقض بين التصور المادي التاريخي للانسان ويجسده الفهم الماركسي من جهة وبين التصور المثالي – الثنوي للانسان ويجسده الفهمان الدارويني الاجتماعي والفرويدي. حيث بين الفهمين تناقض ثانوي. أمام كل هاته التناقضات المتمفلصة على بعضها البعض يصير تحديد موقف واحد دقيق واضح المعالم من القضية المدروسة خيارا لا فكاك منه.
ولنعد الى التساؤل الأول، حول طبيعة الحب الجنسي ولنزيد من التوضيح، – والذي يشكل في آن احراجا للأرخبيلي، ومحاصرة لمنهجه الانتقائي في الزاوية – فنقول :أن الدارويني الاجتماعي سيعرف كون الحب الجنسي هو تجل لميل الأفراد من نفس النوع، الى التزاوج والتكاثر، من أجل ديمومة النوع وصموده في معركة البقاء الكبرى : الانتخاب الطبيعي وسيجرد أمثلة منتقاة من كتاب داروين "التعبير عن العواطف عند الانسان والحيوان" في حين يعبر هذا، عن عدم فهمه لموضوع النقاش أصلا. بينما سيقول الفرويدي، أنه من مخلفات عقدة أوديب اذ ليس الا تعويضا عن فقدان الأم، والرغبة فيها جنسيا. أما الماركسي، فسيقول أنه علاقة اجتماعية مشروطة تاريخيا وموضوعيا، ظهرت بانفصال الانسان عن المملكة الحيوانية، وهي في تطور مستمر وتكتسب شكلا مختلفا، في كل مجتمع حسب نمط انتاجه وبالتالي الدرجة التي وصل اليها في مسار التطور التاريخي، وأيضا حسب الوضع الطبقي.
وهنا سيقول الأرخبيلي : مهلا ! فأين الجوانب البيولوجية والنفسية من ظاهرة الحب الجنسي ؟ ما هذا الاختزال الدوغمائي الأبريوري الشيوعي المادي الايديولوجي الستاليني الماركسي لظاهرة معقدة ! وفي اللحظة الذي يعتقد فيها الأرخبيلي أنه اكتشف خطأنا، نكون نحن من اكتشف خطأه : انه لا يفهم من الاجتماعي، سوى حجرة في واد والبيولوجي والنفسي حجرتين في واد آخر : انه ينظر اليها كجواهر مستقلة قائم كل منها بذاته. وهنا، يبين عن فقره النظري الفاضح في الديالكتيك فما نعنيه بالاجتماعي، ليس سوى الحركة الاجتماعية والتي هي النفي الجدلي للحركة الطبيعية. هل نحن بحاجة الى شرح قانون نفي النفي أيضا ؟ كلا، فلسنا مسؤولين عن جهالة آل الارخبيل.
الأشياء تنقلب الى ضدها، وهذا هو الديالكتيك. وتحول الكم الى كيف هو الذي يولد هذا الانقلاب. فتطور الحركة الطبيعية ماقبل الحية الى أقصاه – الجزيئات العملاقة macromolécules المتضاعفة ذاتيا (والتي كان الحمض النووي الريبوزي ARN طورها الحيوي الأول) - قد أدى الى ظهور الطبيعة الحية والتي ابتدأت، أول ما ابتدأت، بالخلايا بدائية النوى procaryotes وتطورت عبر التاريخ الجيولوجي الطويل، الى أقصاها – الانسان المتطور معقد التركيب العضوي - لتعطينا الانسان العاقل، وبالتالي المجتمع الذي هو في تطوره ذو قوانين خاصة به، ونعني بها القوانين الحاكمة لحركة الانتقال من التشكيلات الاقتصادية-الاجتماعية المتعاقبة. هل يعني هذا أن الانسان لا يخضع لقانون الجاذبية، والهيدروستاتيكا، والديناميكا الحرارية، والنشاط الاشعاعي، والتفاعل الكيميائي الخ… (الحركة الطبيعية ما قبل الحية) ؟ هل يستلزم أن جسمه، لم يعد محكوما بالقوانين البيولوجية لحياة المتعضيات من هدم وبناء métabolisme ووراثة، وتغير، وتكاثر خلوي وفردي، وعمل الخلايا، وتكون البروتينات داخلها ؟ ان الاجابة عن اي من هاته الأسئلة بالايجاب، يعني تكذيب العقل في تصديق الأرخبيلي، والعقل أولى باكرام وتصديق. فالاجتماعي نفسه، يتضمن البيولوجي في شكل نفيي. فليسا قطارين متوجهين نحو فاس الأول من وجدة، والثاني من البيضاء كما تعتقد الثنوية ! ان عدم فهم هاته الحقيقة، يؤدي الى تشويش عظيم في فهم معنى "الحب الجنسي" نفسه.
ثم متى كان الاجتماعي يوما، موجودا في غياب النفسي ؟ ما عدا وجوده في خيال الفلاسفة المثاليين، أي في وهمهم الايديولوجي ؟ فالممارسة الاجتماعية للانسان كانت، على الدوام، مرتبطة بفكره. وفيما كانت هاته الممارسة تكون له الفكر، كان هذا الأخير نفسه، يرجع ليخدم الممارسة ويطورها. فالنفسي ليس الا قطاعا من الوعي الاجتماعي، وليس مستقلا عنه. اذ يختلف باختلاف مراحل تطور المجتمع، وباختلاف الطبقات الاجتماعية في المجتمع المتطاحن الوحد نفسه. ان الحب الجنسي في القرون الوسطى، ليس هو في عصر الامبريالية، كما أنه لدى جماهير الفلاحين الفقراء على خلاف ما هو لدى الارستقراطيين والبرجوازيين. وان كانت له خصائص نفسية مميزة له، وأهداف بيولوجية يخدمها. فما دام الاجتماعي هو ما يحدد طبيعة الانسان وهو يتضمن البيولوجي نفييا، والنفسي في علاقة ارتباط عضوي فاننا لا نتردد في القول أن الحب الجنسي هو ظاهرة اجتماعية. وبهذا المنهج وحده (المادية الجدلية) ، يمكن وضع المسألة على بساط البحث النظري. أما غير ذلك، فلن يؤدي الا الى المثالية والثنوية أو الى الانتقائية، التي هي منهج الأرخبيلي بامتياز.
ولنأخذ مثالا آخر، لكننا سنحلله بشكل أوجز : يعتقد بعض الانتقائيين المتذاكين، من مدعي "الماركسية" و"التقدمية" و"الثورية"، أن بامكانهم قبول جزء من الماركسية، والرمي بجزء آخر في القمامة، بينما الاحتفاظ بجزء ثالث في الدولاب، لعله ينفع يوما. ( وفي ذلك لدينا، في المغرب، مثل حزب النهج الديمقراطي الذي يأبى الا أن يتبنى الماركسية، ولكن مقلوبة رأسا على عقب) فهل هذا ممكن ؟ لنر ذلك : ان هذه الشجاعة، أو بالأحرى الوقاحة، التي صارت لدى الاصلاحيين والتحريفيين في تبني ما لا "ليس لهم به علم" انما يرجع أساسا الى الوهم الخطير، الذي انتشر حول الماركسية متمثل في كونها نظرية "الصراع الطبقي" وهو خطأ فادح. صحيح أن الماركسية، أقامت فهما جديدا للصراع الطبقي قائما على التحليل العلمي عبر المنهج المادي التاريخي لتطور الصراع الطبقي، لكن هذا الأخير كمفهوم، ليس هو الشيء الجوهري أبدا في الماركسية. الجوهري منها فعلا، انما هو كون هذا الصراع الطبقي نفسه، يقود، في المجرى الموضوعي لحركة التطور التاريخي الى ديكتاتورية البروليتاريا. وقد أشار ماركس نفسه الى هذا بقوله :

«وفيما يخصني ليس لي لا فضل اكتشاف الطبقات في المجتمع المعاصر ولا فضل اكتشاف صراعها. فقد سبقني بوقت طويل مؤرخون برجوازيون بسطوا التصور التاريخي لصراع الطبقات هذا، واقتصاديون برجوازيون بسطوا تركيب الطبقات الاقتصادي. وما أعطيته من جديد يتلخص في إقامة البرهان على ما يأتي: 1) أن وجود الطبقات لا يقترن إلاّ بمراحل معينة من تطور الإنتاج (2 historische Entwicklungsphasen der Produktion) ) أن النضال الطبقي يفضي بالضرورة إلى ديكتاتورية البروليتاريا، 3) أن هذه الديكتاتورية نفسها ليست غير الانتقال إلى القضاء على كل الطبقات وإلى المجتمع الخالي من الطبقات»
.فقرات من رسالة وجهها ماركس إلى فيديميير في 5 مارس سنة 1852 – نشرها مهرينغ في مجلة «Neue Zeit» (نويه تسايت) سنة 1907

وهذا ما وضحه لينين أكثر بقوله في مؤلفه الشهير "الدولة والثورة" :
«الأمر الرئيسي في تعاليم ماركس هو النضال الطبقي. هذا ما يقال وما يكتب بكثرة كثيرة. بيد أن هذا غير صحيح. وعن عدم الصحة هذه تنتج، الواحد بعد الآخر، التشويهات الانتهازية للماركسية وينتج تزويرها بحيث تصبح مقبولة للبرجوازية. ذلك لأن التعاليم بشأن النضال الطبقي لم توضع من قبل ماركس، وهي بوجه عام مقبولة للبرجوازية. ومن لا يعرف نضال الطبقات ليس بماركسي بعد، وقد يظهر أنه لم يخرج بعد عن نطاق التفكير البرجوازي والسياسة البرجوازية. إن حصر الماركسية في التعاليم بشأن النضال الطبقي يعني بتر الماركسية وتشويهها وقصرها على ما تقبله البرجوازية. ليس بماركسي غير الذي يعمم اعترافه بالنضال الطبقي على الاعتراف بديكتاتورية البروليتاريا. وهذا ما يميز بصورة جوهرية الماركسي عن البرجوازي الصغير (وحتى الكبير) العادي. وعلى هذا المحك ينبغي التحقيق من الفهم الحق للماركسية والاعتراف الحق بها.»

ان القول بالاعتراف بالصراع الطبقي كمحرك للتاريخ من جهة، ونفي، في الآن نفسه، أن تكون حركة التاريخ هاته تقود نحو ديكتاتورية البروليتاريا، كشكل انتقالي للدولة نحو المجتمع اللاطبقي : الطور الأعلى من الشيوعية، حيث تنتفي حتى الدولة نفسها، لهو عين السخرية من الماركسية. ونحن لا نرجو من ادخالنا لاقتباسات لماركس ولينين، اقامة حجة نصية على منكري ديكتاتورية البروليتاريا. اذ ليست الا مجرد مقدمة، شئنا أن تكون من عند منظرين عظيمين للماركسية. وسنحلل كيف أن الاعتراف بالصراع الطبقي دون ديكتاتورية البروليتاريا انما هو اعتراف بصراع طبقي، غير ذلك الذي تقصده الماركسية. أي صراع طبقي مقبول لدى البرجوازية. الصراع الطبقي هو محرك التاريخ، ذلك مما لا شك فيه. ولكن كيف يحرك الصراع الطبقي التاريخ ؟ ان تطور القوى المنتجة، يؤدي في مرحلة معينة منه الى دخولها في تناقض عنيف مع علاقات الانتاج التي تلجم تطورها، وهذا هو التناقض الأساسي الاقتصادي، وهو التناقض المحدد لباقي التناقضات في البنية الاجتماعية. ونوجز فنقول، في كلمة جامعة، ان التناقض الأساسي يحدد التناقض الرئيسي (أي أن التناقض الاقتصادي، ينعكس في البنية الفوقية كتناقض طبقي) فالتناقض بين القوى المنتجة وعلاقات الانتاج يحدد، بدوره، التناقض الطبقي بين الطبقات التي لها مصلحة في تحرير القوى المنتجة من اطارها البنيوي اللاجم لها – علاقات الانتاج التي شاخت – من جهة، وبين الطبقات التي لها، بالضد من الأولى، مصلحة في تأبيد علاقات الانتاج القائمة من جهة أخرى .هذا الصراع الطبقي له ثلاثة مستويات يتحرك فيها، بتدخل الطبقات المتناحرة بممارساتها في هاته المستويات : الاقتصادي والسياسي والايديولوجي. حيث أن حل التناقض الرئيسي، والذي يسمح – الحل – بحل التناقض الأساسي، انما يكون على المستوى السياسي من البنية الاجتماعية أي بالثورة الاجتماعية، الشكل الانفجاري للانتقال¹ من التشكيلات الاجتماعية – الاقتصادية الطبقية (من العبودية الى الاشتراكية). – ملاحظة : التناقض الاقتصادي شيء، والممارسات الاقتصادية للتناقض الطبقي شيء آخر، فلا تماثل اطلاقا بينهما - ان كل حل تاريخي للتناقض الرئيسي، وبالتالي الأساسي، يخلق شكلا جديدا من البنيان السياسي والايديولوجي (البنية الفوقية) يلائم البنية الجديدة لعلاقات الانتاج. وأهم ما في هذا البنيان، هو شكل الدولة، اذ تتخذ في المجتمع العبودي شكل ديمقراطية أسياد العبيد وفي المجتمع الاقطاعي ديمقراطية اقطاعية وفي المجتمع البرجوازي ديمقراطية برجوازية. لذلك، كان نفي أن تكون الدولة للانتقال الى الاشتراكية، وفي ظل الاشتراكية، هيالديكتاتورية الثورية للبروليتاريا، تضحية سخية بالمادية والديالكتيك معا : بالمادية لأن هذا النفي يلغي الطابع التاريخي للديمقراطية، وارتباطها بعلاقات الانتاج وكونها تعبيرا سياسيا لها، وبالديالكتيك، لأنه يرمي وراء الظهر قانون وحدة وصراع الأضداد، حيث لا وجود لديمقراطية خالصة ولا لديكتاتورية خالصة، اذ أن الديمقراطية والديكتاتورية مرتبطتان جدليا في كل بنية اجتماعية، غير قابلين للفصل، الا في فنائهما معا : في الشيوعية. أما محاولة تعويض هاته الديكتاتورية الثورية للبروليتاريا ب"ديمقراطية خالصة" يعني بالضرورة اعتبار الاشتراكية مجتمعا قارا ثابتا يتطور من تلقاء ذاته نحو الشيوعية كما تقول نظرية قوى الانتاج الرجعية لبوخارين.وعلى العكس من ذلك، فالاشتراكية هي سيرورة تحويل اشتراكي مستمرة للمجتمع لا يمكن ان يقوم بها سوى حزب البروليتاريا، ولا يمكن أن تكون دولته سوى دولة ديكتاتورية البروليتاريا ، التي هي أداة الانتقال الى الاشتراكية ودولتها نفسها، بما أن الاشتراكية ليست بحالة قارة stable لأي مجتمع. ان الطبيعة الثورية لعملية بناء الاشتراكية، مرتبطة جدليا بنقيضها وبتناقضها، ألا وهو قانون تصاعد حدة الصراع الطبقي كلما تقدم البناء الاشتراكي انكار هذا القانون الذي اكتشفه المنظر الرابع للطبقة العاملة، يوسف ستالين (جوغاشفيلي فيسارنوفيتش) انطلاقا من خبرة ثلاثين سنة من النضال لأجل لبناء المجتمع الجديد، انما يعتبر تخليا عن اللينينية وبالتالي عن الماركسية. نرى الآن أي صعوبة،هي صعوبة قبول أشياء من الماركسية ورفض أخرى حسب المنهج الانتقائي، والتي تفوق بما لا يقاس الصعوبة التي حاولنا ايضاحها لصاحبنا الأرخبيلي، في اعتبار الحب الجنسي ظاهرة بيولوجية واجتماعية ونفسية في آن. ان هاته الملاحظات تكشف لنا كم الأرخبيلي – وهو يدعي الاطلاع على جميع النظريات – لم يتعب نفسه في دراسة أي نظرية. فبالتالي هو انسان أمي فكريا، لا حل له لمآزقه سوى التوفيق اللامبدئي، حسب المنهج الانتقائي، بين هذا وذاك.
وهاك مثالا آخر : هنالك من يجتهد، مشكورا، في التوفيق بين تحميل التحريفية السوفياتية (طغمة خروتشوف) المسؤولية عن انهيار أول دولة اشتراكية في العالم، بلد لينين، من جهة، وبين التفسيرات التروتسكية لهذا الانهيار (البيروقراطية الستالينية كما يقولون…) من جهة أخرى. وموضوع الانهيار هذا فذ ممتع لذيذ، تكتشف فيه كثيرا من أتباع الانتقائية الأرخبيلية ونظرية "التفاعل المتبادل" ! فمن الذي يقول أن الاشتراكية انهارت بسبب كذا وكذا، ثم يقول في موضع آخر أنها لم تكن اشتراكية اصلا بل "رأسمالية دولة". والذي يهجم على ستالين بدعوى أنه حاد عن نهج لينين، ثم ينسى ما قاله ليرد المشكل الى اللينينية في ذاتها. ثم من يقول وهو يدعي نضجه "الماركسي" أن تحميل المسؤولية لخروتشوف، هو تضخيم لدور الفرد في صناعة التاريخ ثم يقول، في موضع آخر، أن ستالين كان المسؤول الأول عن انهيار الاشتراكية . والانتقائيون ، كثيرا ما ينطبق عليهم في هذا الباب المثل الشعبي المغربي القائل "خلي الكذاب حتى ينسى، وسولو". اذ أن هدفه ليس الدفاع عن الحقيقة الموضوعية، بل تفادي حرج الأسئلة وقلق الفكر.ان فكرا لا يقلق من "تزاحم الأضداد" ليس بفكر، وهذه هي الخاصية الفريدة التي يتمتع بها أولئك الانتقائيين الذين – بأرخبيليتهم – ليس لهم لحد الآن، أي تفسير منجسم متكامل للانهيار : لقد انهار والسلام، وكفى الله المؤمنين شر التحليل. قد تكون التحريفية، وقد تكون "بيروقراطية ستالين" الشهيرة جدا، وقد يكون المشكل في طبيعة روسيا الاقتصادية، وقد يكون في اللينينية، أو في "بعض أخطاء ونواقص ماركس وانجلز ولينين" كما يحلو لعبد الله الحريف، هذا الحافظ للماركسية، أن يقول. أو، بهذه العوامل "كلها مجتمعة". قد فات متبعي هذا المنهج الانتقائي "البئيس مفاهيميا"، أن يطلعوا على الانقسام في الحركة الشيوعية العالمية منذ 1956 والحصار الاقتصادي السوفياتي على الصين الشعبية ووقف امدادها بالمساعدات، بل وحتى تهديدها عسكريا على الحدود، منذ رفضها للأطروحات التحريفية للمؤتمر العشرين والعبارة الشهيرة التي وجهها خروتشوف لوفد الحزب الشيوعي الصيني "لقد خسرنا ألبانيا وربحتموها أنتم" حين أنضم حزب العمل الألباني الى تلك المعركة، فاتهم أيضا أن الحزب التحريفي السوفياتي آنذاك، بعد المؤتمر الرابع والعشرين، أصدر كتابا ضخما بعنوان "نقد المفاهيم النظرية لماو" وأخر بعنوان "الصين المعاصرة"، في محاولة لتسفيه فكر ماو تسي تونغ ووصفه بالدوغمائي والأغلب، انهم لم يطلعوا على مآسي العديد من الشيوعيين الشرفاء، الذين طردوا من أحزابهم شر طردة، حين وقفوا ضد الخروتشوفية. هل يمكن، حقا، ادارة الظهر لهاته الوقائع ؟ ألم يقل ماو نفسه منذ 1964 في مقالته "حول شيوعية خروتشوف المزيفة والدروس التاريخية التي تقدمها للعالم" أنه من الممكن أن يتكرر في الصين، ما حدث في الاتحاد السوفياتي، أي اغتصاب حفنة من الانتهازيين المأجورين للسلطة وهو ما نشاهده بأم عيوننا اليوم في الصين ؟ ألم يقل أيضا في خضم الثورة الثقافية أن "التحريفية في السلطة تعني البرجوازية في السلطة" وهو ما تأكدنا منه اليوم ؟ المشكل الثاني هو أن هنالك من أتباع الانتقائية من يمارسون قفزهم المتواصل بين جزر الأرخبيل، ويدعون، في نفس الوقت دفاعهم عن ارث منظمة "الى الأمام" وفكرها الماركسي اللينيني. هل قرأ يا ترى هؤلاء ، بتمعن، أي وثيقة لمنظمة الى الأمام ؟ هل يعرفون موقفها من القيادة التي أمسكت زمام السلطة سنة 1956 في الاتحاد السوفياتي ؟ هل يفهمون موقعها في الخلاف الصيني-السوفياتي ؟ هل اطلعوا على تقييمها لتجربة الثورة الثقافية في الصين وألبانيا ؟ لا نعتقد ذلك.
خذ من هنا وهنا وقل هذا انشاؤنا ! هذا هو الشعار المفضل للانتقائي الأرخبيلي، لكن المسألة أصلا لسوء حظه، ليست مسألة توفيق أو مصالحة بين أفكار متناقضة فقط، من أجل الاحساس بالراحة. ان الارخبيلي لهو التعميم الأوضح، لذلك الذي يحس بالقلق في مرحلة المراهقة، من التناقض بين العقائد الدينية الغيبية، التي تربى عليها منذ الصغر من جهة، وبين ما يتعلمه من قوانين ونظريات علمية في شبابه من جهة أخرى. فيلجأ الى سخافة "الاعجاز العلمي" أو الى أي فكرة أخرى براغماتية أو انتقائية لتبرير تشتبه بالله، الذي تداهمه جرافة العلم يوما بعد يوم لاقتلاعه من مواقعه القديمة. فتارة يقول أن فتوحات العلم الحديث، تؤكد ما جاءت به كتب الدين، وتارة يقول بمبدا "الاختصاصات غير المتداخلة" بين الدين والعلم. أو – وهذا هو الأدهى والأمر –يريح نفسه من التفكير في المعضلة، و يتركهما يتعايشان في رأسه في هناء. طبعا تعايشهما هذا له شرط ضروري، هو أن يعصب عيني العلم، حتى لا ينقض النقيض على نقيضه، وفي هذا فساد الثقافة وموتها في عدمية حاملها.



#فهد_المغربي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ضد انتقائية المنهج - الجزء الأول
- مهادنة الاصلاحية مهادنة للرجعية
- ذكرى انطلاق الجبهة وأسئلة انحسار الثورة


المزيد.....




- محتجون في كينيا يدعون لاتخاذ إجراءات بشأن تغير المناخ
- التنظيمات الليبراليةَّ على ضوء موقفها من تعديل مدونة الأسرة ...
- غايات الدولة في تعديل مدونة الاسرة بالمغرب
- الرفيق حنا غريب الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني في حوار ...
- يونس سراج ضيف برنامج “شباب في الواجهة” – حلقة 16 أبريل 2024 ...
- مسيرة وطنية للمتصرفين، صباح السبت 20 أبريل 2024 انطلاقا من ب ...
- فاتح ماي 2024 تحت شعار: “تحصين المكتسبات والحقوق والتصدي للم ...
- بلاغ الجبهة المغربية لدعم فلسطين ومناهضة التطبيع إثر اجتماع ...
- صدور أسبوعية المناضل-ة عدد 18 أبريل 2024
- الحوار الاجتماعي آلية برجوازية لتدبير المسألة العمالية


المزيد.....

- مساهمة في تقييم التجربة الاشتراكية السوفياتية (حوصلة كتاب صا ... / جيلاني الهمامي
- كراسات شيوعية:الفاشية منذ النشأة إلى تأسيس النظام (الذراع ال ... / عبدالرؤوف بطيخ
- lمواجهة الشيوعيّين الحقيقيّين عالميّا الإنقلاب التحريفي و إع ... / شادي الشماوي
- حول الجوهري والثانوي في دراسة الدين / مالك ابوعليا
- بيان الأممية الشيوعية الثورية / التيار الماركسي الأممي
- بمناسبة الذكرى المئوية لوفاة ف. آي. لينين (النص كاملا) / مرتضى العبيدي
- من خيمة النزوح ، حديث حول مفهوم الأخلاق وتطوره الفلسفي والتا ... / غازي الصوراني
- لينين، الشيوعية وتحرر النساء / ماري فريدريكسن
- تحديد اضطهادي: النيوليبرالية ومطالب الضحية / تشي-تشي شي
- مقالات بوب أفاكيان 2022 – الجزء الأوّل من كتاب : مقالات بوب ... / شادي الشماوي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - فهد المغربي - ضد انتقائية المنهج - الجزء الثاني