اميمة احمد
الحوار المتمدن-العدد: 4220 - 2013 / 9 / 19 - 07:02
المحور:
الشهداء والمضحين من اجل التحرر والاشتراكية
اختنقت بالكلمات، وارتجف قلمي، أتساءل ماذا أكتب عن مناضل ترك مآثر في كل يوم عاشه بتاريخ نضاله الطويل، منذ كان في ضيعته "ماخوس" طالبا، إلى دمشق دارسا للطب، إلى مناطق اشتغل فيها طبيبا ، كان للفقراء مكانة خاصة لديه، فضلا عن الكشف المجاني كان يشتري لهم الدواء ويجري عمليات جراحية مجانية .
وفي ثورة الجزائر لم يتأخر فتطوع ليعالج المعالجين في الأوراس، حيث جاء مع ستة أطباء متخرجين حديثا منهم الدكتور نور الدين الأتاسي رئيس الجمهورية ، والدكتور يوسف زعين رئيس الحكومة.
هذا عرفته ممن عرفوه ، لكن ما عرفته بنفسي أكبرت به هذا المناضل ، وأشعر بالفخر أني عرفته ليس فقط رفيقا بالنضال بل أخا وأبا وصديقا في غربة قاسية، كانت يده الحانية، وكلماته المشجعة زادا لأتابع مشوار المنفى الطويل.
ماتصورت يوما أن أفقد أبو أحمد الذي كان السند في السراء والضراء ، تماما كما لم أتصور رحيل أمي وأنا بالمنفى . كان 2013 قاسيا جدا، بل فوق تحملي أنا التي تحملت قساوة الاغتراب 33 عاما، كان العام الجاري هو الأقسى على الإطلاق، رحل فيه أعز الناس على قلبي، رحلت أمي في مطلعه ذات يوم شتائي قارس، ورحل الأب الروحي الرفيق أبو أحمد ماخوس في أواخره في يوم خريفي حزين ، لذا شعرت بغيابهما باليتم الحقيقي بعد فقدان السند في منفاي.
بالسياسة نختلف ونتفق وهذا ديدن السياسة ، أما أخلاقية الإنسان فتأتي مع المرء " كلون العينين لايزول" وهو تشبيه سمعته كثيرا من المناضل أبو أحمد ماخوس عندما تشتد الظروف فيرد عليها: ستزول عاجلا أم آجلا ، لايمكن التفريط بالمباديء لأجلها ، لأن المباديء واختيارها كلون العينين لايمكن تغييرها مثلما يغير البعض أحذيتهم.
إصراره على شرف المبدأ كان زادا لمواصلة الدرب ، درب عرفت فيه محطات فاصلة لن أنساها ماحييت لهذا المناضل الإنسان ، أذكر أهمها وأقساها ، الأولى في صيف عام 1997 عندما انكسر العمود الفقري وانكسرت قدمي إثر سقوطي من أعلى سطح الجيران الذين استأجر عندهم ، كان الوقت عصرا، نهض من قيلولته فزعا وجاء مسرعا إلى مستشفى مصطفى باشا وسط العاصمة ، حيث كان الأطباء يقومون بالعلاج، ما أن رأوه وهو الطبيب الجراح ، وعمل بنفس المستشفى سنوات طوال حتى بادروه بوصف الحالة ، وشعرت حينها بالأمان ، لقد أصبحت بيد الأب الروحي أبو أحمد ماخوس الأمينة .
أشرف على العلاج، وهو يشجعني، ويقلل من خطورة الكسر، بأنه سيجبر بسرعة ( وكنت مهددة بالشلل النصفي وقد لاأمشي أبدا) ، وعندما قرروا إجراء عملية ، لم يتأخر أبو أحمد في شرح العملية لأتخذ قراري ، لكن نداء من داخلي رفض العملية، فسألت أبو احمد " هل من ضرر لو لم أجر العملية ؟ " قال لست مختصا بالجراحة العظمية ، ولكن العملية تحمي الفقرة المهشمة بين فقرتين سليمتين ، وفترة الشفاء شهر ونصف ، وإذا بقيت حرة بدون سلك يربطها يستغرق الشفاء نحو أربعة أشهر ونصف بالجبس، تعمل الفقرة خلالها على تقوية نفسها متلك أنت الآن تقوين نفسك ، وضحك ضحكة كأنها منحتني القرار ، فقلت " دع الفقرة تقوي نفسها ولاداعي للعملية خوفا من تتأذي الأعصاب بمشرط الجراحين " ، وهكذا كان القرار، فعملوا جبيرة على طول الظهر، وبقيت الجبيرة ثلاثة أشهر ونصف، فعلق أبو أحمد " لم تتجرأ الفقرة تطول أربعة اشهر، بإرادتك القوية ورغبتك بالشفاء اختصرت شهرا للشفاء" .
رغم الألم وليس أهلي حولي بل لم أعلم أمي حتى لاتتألم ، كان حنان أبو أحمد وزوجته أم أحمد غامرا بالهواتف اليومية ، والزيارات لم تنقطع ، وعبارته ترن بقلبي قبل أذني " أنت أختنا وبنتنا ورفيقتنا مامنتخلى عنك ولا نتركك لحالك ".كانت بلسما لآلام الوحدة والمرض. هذه المحنة سمع بها جميع السوريين المعارضين ، لم يقصروا ايضا وكان سلوك أبو أحمد الإنساني يشع على الجميع بإنسانية خالصة ، فمرت المحنة كأنها نزهة صيفية ، والفضل لأبو أحمد ماخوس الإنسان .
وفي المحنة الثانية كانت الأقسى،فكرهت نظرات الشفقة ، فأعطيت سري للرفيق والأب الروحي أبو احمد ماخوس ، وجم وجهه عندما أخبرته أن الأشعة أظهرت ورما سرطانيا بالثدي ، لكنه استدرك فورا ببسمة عريضة على وجهه قائلا " صار سرطان الثدي متل الأنفلونزا شفاؤه سهل " وبأنامل جراح كشف موضع الورم ، فقال بسيط ، قد حبة الحمص الكبيرة بيشفى سريعا " ومن لحظتها لم يتركني ، وعند إجراء العملية دخل معي غرفة العملية والطبيب الجراح صديقه ، تذكرت آخر كلمة سمعتها قبل التخدير " لاتخافي أنا معك " .
وبقي معي كاتما سري ، عشرة أيام أمضيتها بالمستشفى يتناوب الزيارة مع ابنته الدكتورة هلا ماخوس ، وكانت صديقتي أم ثائر الطويل الرفيقة اليومية لي مع زوجها وابنها ، فرغم المصاب الجلل بهذا القاتل " السرطان" شعرت أن الحنان والدعم المعنوي يطرده رويدا لأشفى .
لن أنسى دخوله علي مساء العملية محملا بالفواكه ضاحكا وبرفقته زوجته أم المحاميل من كثرة المصائب التي رزئت فيها بالمنفى ، ماتت لهما ابنتان ، غير الأهل والأخوة ولم تحضر جنازة واحد من أهلها.
هذه المواقف الإنسانية لم تكن حصرا لي بل كانت عادة لديه لكل رفاقه وجيرانه وأصدقائه.لذا غيابه فاجعة لي.
الرفيق الدكتور ابراهيم ماخوس كان السند الذي ألوذ إليه عند كل مشكلة أعجز عن حلها، فلم يتأخر يوما في تذليل عقبات عملي كصحفية في الزمن الصعب ، حتى في الحالات التي نكون فيها بحالة " خصومة سياسية" كأن هناك اتفاقا عير معلن " نختلف سياسيا عادي لكن لن نقطع صلة الرحم بيننا " .
يتابع كتاباتي ، يثني عليها ولن يتردد في نقد مايراه خلاف رايه ويعتقده لايخدم المصلحة الوطنية ، لأن وطنيته كانت كريستال ، وهنا أستعير منه هذا الوصف.
آخر مرة التقيته في عيد الفطر من عام 2011 ، كانت الثورة السورية اندلعت ، ورغبت بإجراء مقابلة صحفية معه عن الثورة ، كان المرض أخذ يتمدد في جسده الذي كان آية في الجمال ، طولا فارعا ، وأناقة لافتة، قررت ألا أراه بعدها لأني لاأقوى على رؤيته والمرض ينهشه بشراسة ولاأقوى على رده عنه . أبقيت على التواصل هاتفيا ، عندما أسمع صوته كنت أفرح كالأطفال ، وأقول " الحمد لله بخير " .
لكن المرض اللعين أنهكه هذا العام ، ورحل في صمت في زمن الثورة التي حلم بها كثيرا ، وحلم بالعودة إلى ضيعته ليزور قبر والده الذي فقده وهو بالمنفى ، حيث فقد ابنتاه بانة وندى ، وتحمل مع زوجته فراق الولد بالغربة ، لا أهل ولا أنيس ولا طيريطير حولهما .
هذا وكثير غيره استعدته بذاكرتي ، ولعل تواضعه كان الأبرز في علاقاته مع الآخرين ، كان يودعني للباب الخارجي ، ويبقى واقفا حتى تقلع السيارة . رحم الله الرفيق ابراهيم ماخوس المناضل لأجل حرية الإنسان، زهد بالسلطة لأجل الوطن . لو هادن الانقلابي حافظ اسد كان وصل لأعلى المناصب وكان وزيرا للخارجية آثر التشرد حفاظا على المبدأ .
وداعا لشهيد المنفى مناضل الحرية الدكتور ابراهيم ماخوس .
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟