أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سمر يزبك - دمشق تدعوك














المزيد.....

دمشق تدعوك


سمر يزبك

الحوار المتمدن-العدد: 1201 - 2005 / 5 / 18 - 05:30
المحور: الادب والفن
    


دمشق تحاصرك، تلفك بغمام أزرق، وأنت تطرق بقدميك على الطرقات المرصوفة بحجارة قديمة ، ملساء وناعمة بين الأزقة العتيقة.
دمشق تناديك كل صباح ومساء. لا تمل. لا تتعب. لا تنفض عنها ركام الانتظار. تهمس: تعال. لن تستطيع الإفلات منها، وأنت في شارع مدحت باشا، تسكنك روائح العطارين الحادة، تجعلك تهرب منها، وتفكر كم أنت وحيد، بلا غرام يسكنك. تهرب من رائحة حواسك ورغبتك، خوفاً من تحولك إلى مخلوق يسكن إحدى طبقات جحيم دانتي، كما حل بباولو وفرانشيسكا. تهرب من الجحيم إلى بوابة الموت، و أنت في حضرة مكان من رائحة غياب. تعوم في الليمبوس. تعبر إلى خان أسعد باشا، فيتطاول السواد من لوحات ضخمة إلى رجل ثلجي الشعر ينتظر أن تمتلئ رئتيه بهواء دمشق.
إنه يوسف عبدلكي.
تقف طويلاً أمام لوحاته. تتجمد. تنتظر إشارة للبدء بالشهيق والزفير، طارداً عنك كل الحزانى، واليتامى، من دون رائحة هذا البلد. تدخل رأس سمكة مجوفة إلا من اليباس، تصبح أنت الجزء الأكبر في رؤوس الأسماك الميتة، الشبقة للحياة، الواعدة بمستعمرة عقوبات جديدة، مضت، وستأتي. تتحول الأجزاء المنفصلة للأشياء إلى لوحة كلية، متكاملة، متناقضة، كأن الجزء يريد صناعة الكليات، على طريقته المتطرفة. وكأنه يقول في العيون المفتوحة على أحداق ميتة، إن هناك، في زمن ما، بشراً ما زالوا يحلمون ببدائية الأشياء، ويستنبطون من العبث والفراغ لغة الوجود.
أنت هناك في أعلى قبة الخان، حيث تتناثر اللوحات على جدار من قلق، تنتظر أن تمد يدك إلى زجاجة محصورة داخل مساحتها الخانقة. الزجاجة في اللوحة تبتلع الأسود، وتضيق بنفسها، وتطردك من مساحات الأبيض القادم... ربما. تلوي عنقك أزهار تشي بتواطؤ مزمن بين العقل والقلب، على اقتراف معنى خفقان الكون بأجزائه المتناهية الصغر، وعتمة البصر، المانع عنك عبق الأزهار الملتوية، كأرواحنا، وهي تخرج من أعناق المزهريات، تنتظر مارد الأمنيات المستحيلة، وتتقمص مساحة الأسود الكبير. الأسود الذي يحتلك ثانية وثالثة ورابعة، ثم يهرب منك، يعدك ببصيص من الرمادي الخائن، الكامن في قلب الأبيض. تدخل إلى رائحة أنثى، من انثناءات حذاء عملاق، ملمع، أنيق، لكنه يقول: أينك؟ الحذاء الضخم العملاق ينادي المرأة الغائبة، والحذاء الآخر المتعب ينادي الرجل الغائب، وهما وحيدان في منطقة لا تعرف الحركة، كأن أشياءك أهم من إنسانيتك. كأن ما يحيط بك أهم منك. وكأن تفاصيلك هي كلك الذي يستعير أجزاءك، ويحتلها إلى غير رجعة. الأحذية الوحيدة، رائحة البشر الذين هربوا من أنفسهم، وتحولوا إلى كائنات تتربص، بلحظة، تحولها الأخير نحو أظلافها ووبرها. والحذاء الواقف، وحيداً كجنرال، بكعب مدبب، حاد كسكين، يدعو أنثاه للتأهب، ويأمر وحدته بالغياب، ويذكرك بسيقان نساء محمود درويش المنسابات داخل كعب عال، والمشدودات كجبل أبيض، عندما كان يحلم بهن في نص نثري، وبحر بيروت يرمي بالفلسطينيين إلى العدم.
يحول يوسف عبدلكي لوحاته إلى بلاغة صورية تحث العين على تركيز حارق. لن تلمح خطوطه، الكبيرة والصغيرة, سترى لوحاته تبدأ ولا تنتهي، واضحة، بما فيها من لبس أيضاً. حتى رأس السمكة، المفصول عن جسده، يستدعي احتضار اللحظة الأخيرة، الرافضة التحول إلى هباء، كل الكائنات الموضوعة على زوايا اللوحات، في منتصفها، أعلاها، والتي تختبئ تحت الأسود، توشوش بأسى: هل لزم كل ذلك الغياب ليرسم يوسف صورة أخرى للمقصلة؟ هل انتظر شبابه كي يمر عابراً، بعيداً عن رائحة دمشق، ليعود محملاً بلوحات عن مجازر بشرية؟ لم يفعل كما غويا، عندما علق الذبائح البشرية أمام صرخات القتل والدماء. لم يشوه الأجساد. ولم يرسم صورة فجائعية للصرخة الآدمية. ولم يجعلك، وأنت تحدق في ملاعب سواده ترتجف صارخاً من الفجيعة.
رسم يوسف مجزرة غويا بطريقته، بهدوء وأسى ووضوح كالسم البطيء يجتاح جسدك، وهو يقول: لا تصرخ، خبئ لقلبك ألماً دفيناً.
لم يرسم بشرياً وخبأ من الذاكرة لنا في الغربة القسرية وجع التفاصيل عندما تخبرك عن كليّاتها. شيء ما يشبه أن تلمس خصلة من شعر حبيبتك فوق ورق أبيض، وأنت تقطن في قارة أخرى بعيداً عن دمشق، غريباً ووحيداً.
فراشة تستلقي بموتها قرب جمجمة، جمجمة داخل صندوق، صندوق فارغ يختصر العالم كله، كل شيء قابل للدخول في الحصار حتى الموت نفسه، الجلاد وصورته، موته القادم. تناقضات الحياة، حس التنافر بين البشاعة والجمال، الواضح مما لا يدعو إلى لبس في سواده، هنا في لوحة (العظمة)تقول لك: إن موتاً كان، ولا تكتفي تتابع: قادم وموحش أيضاً.
انظر إلى رؤوس الأسماك ذات العيون اليابسة، الغائمة، المتيقظة، الميتة، والمفتوحة على رغبة يائسة في الحياة. كلها تدعوك للدخول في دوار أبيض نحو الخراب القادم، الذي يراه يوسف، ولا يفسح لك حتى مجالاً لتدخل عبر تلوينات الأسود المختلفة، ثم ترتاب أن السواد الكامن في قلم الفحم لا علاقة له بقلم ما. إنه يرسم بقلبك، يحوله إلى فتات من نثار أسود تعتقد خطأ أنه يتجاوز قبة خان أسعد باشا، ويطغى على ألوان النوافذ الزجاجية الملونة، ويحتلها. تنسى روائح دمشق. تنسى أنك تنتظر من مدينتك الغرام، ولا تفكر بعد أن تتجاوز قدميك عتبة الخان بعيداً عن اللوحات سوى بالنحيب، هادئاً، صامتاً، مخنوقاً، ملتفاً على ركبتيك، بطيئاً تتدحرج وأنت تتجاوز سوق البزوية في دمشق التي ستدعوك دائماً. تتذكر أن هذا الرجل يعود أخيراً إلى بلاده، حاملاً أقلام فحم هي جزء من قلبك، ونقاطاً سوداء كخثرات مبعثرة بعد أن قتل الجلاد في قلبه... كل ذلك البياض.



#سمر_يزبك (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المثقف بين الإتباع والإبداع
- سينما... يا بلدي
- الصورة التلفزيونية وفصام الواقع
- الطوفان في بلاد البعث
- سيناريو كاميرا:انطون مقدسي وخديعة الغياب


المزيد.....




- إسرائيل: الكنيست يناقش فرض ضريبة 80? على التبرعات الأجنبية ل ...
- أسلك شائكة .. فيلم في واسط يحكي عن بطولات المقاتلين
- هوليوود مصدومة بخطة ترامب للرسوم الجمركية على صناعة السينما ...
- مؤسسة الدوحة للأفلام تعزز حضورها العالمي بـ8 أعمال في مهرجان ...
- أدّى أدوارًا مسرحية لا تُنسى.. وفاة الفنان المصري نعيم عيسى ...
- في عام 1859 أعلن رجل من جنوب أفريقيا نفسه إمبراطورا للولايات ...
- من النجومية إلى المحاكمة... مغني الراب -ديدي- يحاكم أمام الق ...
- انطلاق محاكمة ديدي كومز في قضية الاتجار بالجنس
- ترامب يقول إن هوليوود -تحتضر- ويفرض رسوما بنسبة 100% على الأ ...
- حرب ترامب التجارية تطال السينما ويهدد بفرض الرسوم على الأفلا ...


المزيد.....

- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي
- دفاتر خضراء / بشير الحامدي
- طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11 ... / ريم يحيى عبد العظيم حسانين
- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري
- إعدام عبد الله عاشور / عقيل الخضري
- عشاء حمص الأخير / د. خالد زغريت
- أحلام تانيا / ترجمة إحسان الملائكة
- تحت الركام / الشهبي أحمد
- رواية: -النباتية-. لهان كانغ - الفصل الأول - ت: من اليابانية ... / أكد الجبوري


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سمر يزبك - دمشق تدعوك