أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - علي المدن - الأساطير المؤسسة للعمل السياسي في العراق: السياسة كحرفة















المزيد.....

الأساطير المؤسسة للعمل السياسي في العراق: السياسة كحرفة


علي المدن

الحوار المتمدن-العدد: 4183 - 2013 / 8 / 13 - 15:31
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


لا شيء يدعو للسأم لدينا هذه الأيام أكثر من الحديث عن وصف وتحليل ونقد "العمل السياسي". الأمر يدعو للإحباط بفعل التضحيات الكبيرة التي قدمتها - ولا زالت - شعوب بلداننا قياسا بالثمار التي جنتها. كان أول ما اكتشفه المهتمون بهذا الموضوع - وقد بات الآن مبتذلا - هو فكرة: "دكتاتوريتنا الشرقية". أوحى بالفكرة عاملان: مشاهدات الطلائع الأولى من بعثاتنا العلمية لواقع الحياة السياسية الذي عاشته بلدان القارة الأوروبية وطبيعة تعاطي تلك الشعوب لشؤونها السياسية الداخلية والخارجية. والعامل الآخر: أعمال المستشرقين في دراسة الحضارة الإسلامية وتحليلاتهم لثقافة المسلمين وتاريخهم وحكوماتهم وفرقهم. لم تشكل أفكار أمثال الأفغاني وعبده والكواكبي خطرا جديا على حكومات زمانهم في العالم الإسلامي، لأنها ظلت خطابا نخبويا لا يفهمه من تربّى قرون مديدة على النظر للحكومات وكأنها تجلٍ لمشيئة الله وإرادته، يجب التسليم لها بطيب خاطر مهما كانت الأحوال. لم تكن السياسة شأنا عاما حتى ينشغل بها الإنسان المسلم، كانت إما منحة من السماء لا يجدر بالمؤمن أن يلوّث قلبه بالخوض في فتنها، وإما استحقاقا قبليا أو دينيا فيكون بطبيعته محدودا بفئة معينة.
إلا أن أكثر ما أثار حفيظة الأوساط العلمية في ذلك الوقت، وهي أوساط ذات تكوين ديني خالص، لم تشهد حتى ذلك الوقت منافسا حقيقيا من المشاريع التعليمية "الدنيوية" الفتية البنيان، هو تلك الأعمال الاستفزازية في نظرهم التي دوّنها هؤلاء الدخلاء المدعوون بالمستشرقين. انخرط الجميع في تنظيرٍ لاتاريخي يسرد مواصفات الحاكم العادل وشروطه طبقا للإسلام، في تجاهل تام للفلسفة السياسية ومناخاتها التاريخية التي ولدت فيها تلك الفلسفة. لم تحلَّل السياقات الفكرية والاجتماعية التي ألقت بهذه الفكرة في عقولنا، ناهيك عن شروط استنبات تلك الفلسفة في بيئتنا الثقافية. لم يفسح منظرو عدالتنا المتخيلة الجميلة لنا بالسؤال عن علة هذا السبات العميق عن إدراك هذا المفهوم وعيا وممارسة. انصب التركيز على المكائد التي تخبِّئها تلك الأعمال الاستشراقية، عن دورها الدسائسي الماكر في حرف المسلمين عن دينهم واستباحة أوطانهم، دون أن يلتفت أحد لتحليل الواقع الذي سمح بظهور تلك الأعمال في هذا الوقت من تاريخنا وما تعنيه من هيمنة وقوة ومعرفة. بدت المسألة وكأنها مناكفة في شؤون "العقيدة" دفاعا عن مكانة الإسلام كدين، وقد ساعد على تنامي هذا التصور كلٌ من التكوين "العقائدي" الذي درج عليه مثقفونا حتى تلك الحظة، والذي أشرنا إليه أعلاه، حيث تُختزل جميع القضايا (سواء أكانت سياسية أو اجتماعية أو فكرية) في بعد واحد هو البعد الديني، ينظر للأمور من خلاله وتحاكم وفقا له. يضاف لذلك الخلفية الأمبريالية التي انحدر عنها هؤلاء المستشرقين، دون أن يعني ذلك موافقتنا على نبزهم جميعا بالضلوع في أجندتها ومخططاتها، وهي النافذة التي فتحت باب التخرصات للكثيرين بنحو لا يخلو في الغالب من فجاجة.
في مرحلة لاحقة، حين شكلنا أحزابنا السياسية، دينية كانت أو غير دينية، اختزل العمل السياسي بـ "النضال" المحتدم من أجل تولي السلطة. غرق الجميع في تصفيات دموية هي الأبشع في تزييف الوعي وتحطيم حياة الفرد واستنزاف طاقات المجتمع وتبديد ثروات الدولة. توارى عن أدبيات تلك الأحزاب المفاهيم التأسيسية التي تقوم عليها التجربة السياسية الحديثة، ولم نشهد نقاشات معمقة عن تلك الأفكار المتعلقة بفهم الاجتماع البشري وكينونة الفرد وفلسفة المنفعة والعدالة وشرعية العنف وتحليل المصادر التي تستمد منها الدولة قوانينها وأسس الأيديولوجيا السياسية التي تمثلها الدولة، بل وتوارت مفاهيم أكثر واقعية وعملية من الفئة الأولى التي تبدو تجريدية وتنظيرية كالتفكير بـ "التمثيل البرلماني" و"التداول السلمي للسلطة" و"حجم وحدود الحريات" ... وبغياب استيعاب (الفرد / المواطن) لهذه المفاهيم خلى العمل السياسي من رصيده الحقيقي الذي يقوم عليه وهو "المجتمع السياسي".
إن فشلنا التاريخي والحديث في تطوير فهمنا لما تعنيه الدولة، من كونها مجرد جهاز قمعي يستأثر بخيرات البلاد، أو مثالية تمثلها دولة الخلافة الراشدة، أو خلاصية جامحة تتجسد في "يوم موعود"، عوضا عن النظر إليها بواقعية كمؤسسة تنظيمية يخلقها الاجتماع البشري وترسّخها أيديولوجيا تمثل إرادة الناس وتجتذب ولاءهم بدوافع تاريخية (واقعية أم مصطنعة .. لا يهم) ومصلحية محضة، إن هذا الفشل المرير هو الذي سمح ولا زال برؤية العمل السياسي كمظنة لكل ما هو انتهازي وفاسد ولئيم ... لقد تم الخلط اصطلاحا بين أفكار وسلوكيات متعددة تحت عنوان واحد هو "السياسة"، فخرجت الكلمة عن معناها الحرفي في الادارة الى معان أخرى، منها استغلال المنصب والنفوذ وسرقة المال العام والتنكيل بالخصوم ونقض العهود والاستئثار بالحكم .. وهنا يتشاطر السياسي والمثقف (بلا فرق بين الديني وغير الديني منه) مسؤولية هذا الضياع الذي تتخبط فيه مجتمعاتنا.
لقد درج الكثيرون على النظر إلى أزمة العمل السياسي عندنا من خلال منفذ "هجاء الدكتاتورية" وامتداح فضائل الديموقراطية. أو عبر التصور السائد أننا نصنع الدكتاتور حين نكف عن استيعاب نماذج الحريات المطبقة، ومنذ قرون، في بعض بلدان العالم. أو أن هيجاننا المستمر في توقير الحكام، مهما فعلوا، هو ما يديم تسلطهم على رقابنا. إلا أنني أرى أن المشهد بات أشد تعقيدا من هذه المداخل. أن أزمتنا السياسية اليوم ليست مع "تسلط دكتاتوري" لا يمكننا تغييره، بل مع "سلوك وفكر" سياسيين لا يطوران مبدأ المشاركة السياسية (لا يظن القارئ أنني أتحدث هنا عن "التوازن الطائفي" في إدارة الدولة، فهذا التوازن هو ذاته مؤشر أزمة)، لا يتأسسان على فهم واضح لمفهوم المواطنة والدولة، لا يسهمان في تحرير طاقات الفرد وبناء المجتمع السياسي الناضج، لا يخلقان اقتصادا داخليا ناميا ولا هيبة وحضورا حقيقيا خارجا.
إن التحليل المفاهيمي لهذه الأزمات، وتقصي التجارب الأممية الناجحة في معالجتها، يبقى من أشد الأولويات إلحاحا. إلا أنني أرغب في تكريس الجزء المتبقي من حديثي عن بعض افرازات الأزمة أكثر من استنزاف وقت القارئ بذكر مصاديقها التي يتذمر منها الجميع. ليس من المهم تعداد تلك المفارقات التي يزخر بها "العمل السياسي" كما يزاوله سياسيونا، على شاكلة وهن التخطيط الاستراتيجي للأحزاب النافذة في رسم هوية البلاد وكيفية إدارتها، أو اكتظاظ الكوادر الحكومية بالمتحزبين، تفشي البطالة خلف ستار بيروقراطية كسيحة وقوانين عتيقة بالية، أو تحطيم التنمية الاقتصادية بإشاعة القيم الرعوية، أو التضييق على الحريات العامة بدافع المزايدات الدينية، أو تحجيم العمل الرقابي للبرلمان جرّاء خلق لجان شكلية داخله غير فاعلة وغير مهنية، أو ضعف أداء الدبلوماسية العراقية على الصعيد الدولي ... إلخ، إنما المهم هو رصد العوامل المستدِيمة والموجدة لكل ذلك.
سأنطلق من فكرة أعم، تشمل هذه المفارقات ومصاديقها، في محاولة لجمع أطراف المشكلة في إطار يمكّن لنا أن نقول فيه كلمة مفيدة. الفكرة تركز على نظرتنا بشأن تعاطي العمل السياسي ككل: لماذا نزاول السياسة وما هي الأهداف التي نغذيها في هذا النوع من العمل؟ ما الذي يجدر بالفرد والجماعة أن يعلقانه على هذا النمط من السلوك وأين يتوجب عليه أو عليها التوقف عن مزاولته، ليس فقط لالتقاط الأنفاس، وإنما للكف عنه نهائيا؟
تاريخيا يحاول السياسيون أن يتظاهروا أن دافعهم للانخراط في هذه الأعمال إنما هو شعورهم اليقظ بالعدالة وقيم المساواة ورعاية المصلحة العامة، وكان من الممكن أن نصدقهم في قولهم هذا لولا أن التاريخ نفسه وبحوث علم النفس المعاصر لا يشاطرانهم وجهة النظر تلك. يقولان إن الرغبات والنوازع أكثر نفاذا في تفسير سلوك الإنسان من الإحساس بالواجب، ويؤكدان على أن حياة الإنسان تخضع للانفعالات أكبر من الاستجابة لنداءات العقل. فنحن نُستحث للنشاط، بحسب فيلسوف عظيم كبرتراند رسل، عبر أربع رغبات أساسية، وهي: حب التملك والتنافس والخيلاء وحب القوة. وأيضا، وإنْ بنحو أقل، من قبل رغبات أخرى: كحب الإثارة والخوف والحقد. وفقا لهذا ألا يحق لنا أن نساءل: كم يا ترى سيكون بوسعنا فهم العديد من المواقف السياسية والتصريحات وردود الأفعال لو أعدنا تفسيرها تبعا لهذه الفرضية؟
لنتأمل قليلا ما يقال عن مظاهر الاستئثار بالسلطة، أو ما يتردد عن مواقف الشركاء السياسيين المعرقلة لأداء الحكومة، أو ما يشاع عن الإنتهازية السياسية للبعض من أجل الحصول على مكاسب قومية أوسع، بل لنفكر بمشاكل أكثر يومية كرواتب البرلمانيين وأعضاء مجالس المحافظات وطواقم المستشارين المهولة (ممن لا زال في الوظيفة منهم أو ممن حصل على تقاعده)، انعدام الكفاءة في الأجهزة الأمنية، تتجيير القضاء من أجل الإطاحة بالمنافسين ... لنقبل كل ما يقال في هذا الشأن، من المدعين وخصومهم، ولنفترض جدلا، وبنوع من الحياد البارد، أن ذلك ممكن. حينها ألا يجدر بنا، وقبل البرهنة على نزاهتنا واخلاصنا الوطني بشجب الواقع وإدانته، أن نتساءل عن تلك الفلسفة التي يتأتى من خلالها قيام كل هذا البلاء المستطير؟
قلت إنني لا أوافق على بعض المداخل النظرية التي تدرس بواسطتها أزمتنا السياسية الراهنة؛ لأنها تغيب جوهر المشكلة التي نعاني منها. وعليه فليس من المقنع تفسير كل هذا المشهد المعقد بالاعتماد على مفهوم "دكتاتوريتنا الشرقية". وفي المقابل أشرت إلى أنماط تعليلية أكثر واقعية وأكثر نجاحا اعتمدها منظّرون، وطبقتها مجتمعات أسبق منا تجربة في هذه الميادين، في تفسير مغاليق العمل السياسي.
سوف نختار نحن بدورنا مقاربة جديدة للنظر في هذه الأسئلة لها علاقة بموضوعنا الأول وهو الفشل في فهم معنى العمل السياسي، وهي مقاربة "تربوية" في الأساس، حيث يتجلى عبرها الخلل عميقا لا في "نزعتنا الاستبدادية"، بل في بنية تكويننا التربوي المشوّه. الفكرة ببساطة تنطلق من ضرورة التمييز بين مفهوم "المبادرة الفردية" ومفهوم "الانتماء للقطيع"، حيث المفهوم الأول يكرس الوعي الذاتي بالمشاركة في العمل السياسي جاعلا منها عملا خيريا تطوعيا، في حين يطمس المفهوم الثاني ذات الإنسان لصالح أوهام الهوية التي تفجرها الحشود. يستولي على الفرد الشعور بالقطيع والتفكير من خلال القطيع والتصفيق مع القطيع، فيتحول العمل السياسي إلى "فرصة" للنفوذ، أو "حرفة" يزاولها المرء للأبد من أجل جلب "المغانم"، وهذه الكلمة الأخيرة هي المعادل الموضوعي لعبارة يرددها الجميع على مسامع الجميع: "فلان رتّب وضعه".
إن مفهوم "المبادرة الفردية" يشكل واحدا من أهم المكاسب الفلسفية والتربوية التي تميز حياة الإنسان في عصوره الحديثة. ماذا ينتج لدينا حين نمزج هذا المفهوم للعمل الخيري التطوعي مع فكرة "المواطنة" كحقل تعاوني يوحد جهود الجميع لخدمة بعضهم البعض؟ إنه الشعور العميق بالمسؤولية لما يسمى بالمصير المشترك. تمجيد المساهمة في الأعمال التي تستهدف الغير، لا على أساس ما يجلبه لي من نفع، بل على أساس ما أقدمه له من خير. حينها إذا ما تحول هذا الشعور التربوي الرفيع إلى خلفية سيكولوجية للعمل السياسي فإننا سنخلق أفرادا يزاولون السياسة كنوع من الفعالية الخيرية المؤقتة، مشاركة وجدانية عابرة بدوافع الحرص على تنفيذ الواجب، ثم يكف المرء عنها بعد برهة ليُفسح الطريق أمام الآخرين.
من منا يتذكر اليوم سياسيين كبار شغلوا الدنيا حتى أمس القريب - وبعضهم غيّر خريطة العالم السياسية - من أمثال: جورج بوش وبلير (وكاميرون؟!) وساركوزي وبرلسكوني ... ؟ لماذا يغيب سليلو أعرق الديمقراطيات هؤلاء عن المشهد السياسي لبلدانهم في حين أن سياسيينا (القادة، الزعماء، الرؤساء .. إلى آخر القائمة) لا يبرحون مواقعهم، يخرجون من الباب فيعودون إلينا من النافذة!!، لا تفارقنا صورهم، ولا خطبهم، ولا تصريحاتهم. يملؤون علينا الشوارع والدوائر والتلفاز والصحف وحتى مواقع التواصل الاجتماعي؟
إن التمييز بين الظاهرتين يمكن تفسيره بأكثر من فرضية، لكنّ إلماحتي تقترح مدخلا تربويا أُهمل كثيرا! العمل السياسي مؤسس عند الصنف الأول على المبادرة الخيرية التطوعية، وهي بالتعريف: محدودة ومؤقتة وزائلة. في حين أن العمل السياسي مؤسس عند الصنف الثاني على اعتباره حرفة أبدية، فرصة تنتهز ثم يتشبث بها، دور يستغل حتى النهاية، موقع يُتحيّن على غفلة من الزمن ليُختطف مرة واحدة ودون رجعة. هل نستغرب بعد ذلك من شخص يخدم (انظروا كيف توظف الكلام خلافا لمداليلها الحقيقية؟!!) في مؤسسة لعامين أو أربعة أعوام بمرتب هو الأعلى بين كل دول العالم (ناهيك عن الامتيازات والمنح والهبات واستغلال النفوذ) ليطالب بـ 80% من مرتبه الأصلي ومجدٍ يتناسل ويستغل عبر الأجيال؟!
لقد تهيّأ للبريطانيين أن يكتب لهم فيلسوف وتربوي فذ كبرتراند رسل عبارته الذكية التالية: (إن مأساة السياسيين الناجحين أنهم يحلّون شيئا فشيئا شعورا بالنرجسية محل الاهتمام بالمجتمع واهتماما بالوسائل التي يدافعون عنها)، في حين أخفقنا تربويا في إيجاد نموذج بهذا المستوى يرسخ في وعينا وسلوكنا هذا الحس المرهف بمواطن الخلل. لم ننتفع بكل هؤلاء الوعاظ البليغين لأنهم ـ وبالعودة لرسل أيضا ـ مجدوا: (دوما الإرادة، في حين أنهم، أصلا، شددوا على الإيمان). إن السياسي ليس محصنا من التزييف والتزوير ولكن ما هو أهم منه هو وعي المجتمعي الذي يراقبه ويحاكمه ويقيم أداءه.
إن مأساة السياسيين عندنا ليست فقط لوثة نرجسية أو عقدة اضطهاد أو جنونا بالعظمة، بل هي هذا كله مع عطب في التنشئة وخواء في التثقيف التربوي! وأنا إذ أخص السياسيين بهذا الحكم لا أنطلاق من اعتباري لهم "حفنة من الأشرار" يتعمدون تدمير حياتنا، فهم، كما نحن، أبناء للتربية ذاتها، وبالمقدار الذي يسهم هؤلاء في تعاستنا نكون نحن مسؤولين عن إدامة هذه التعاسة حين نتقبل تلك القيم التي تغذي مخيلتنا الجمعية كمجتمع (وهنا تأتي مسؤلية منظمات المجتمع المدني ووسائل الإعلام والمثقفين بشتى مشاربهم واختصاصاتهم). فالشر العميم إنما يخلقه خلل ما، ولكنه فادح، تورط فيه كثيرون. وكما أن فساد حياة الغاب وقانونها القائم على تسويغ الاستباحة الشاملة، ليس مرده إلى نزوات حيوان بعينه، وإنما هو غريزة تستحوذ على الجميع، فكذلك الشأن السياسي بالنسبة إلى مجتمع بشري ما. إن السياسة ما هي في النهاية إلا سلوك، وكل سلوك خاضع بنحو أو آخر إلى الميول والرغبات، لذا ليس من الترف أن يقال: إننا غارقون في ملهاة تربوية فاشلة ومشوّهة وفاسدة. إلا أن الموضوعية هنا لا تحول دون عد السياسي الضالع الأكبر في تأبيد هذه المعضلة، لأنه الماسك بموارد الدولة، ولأنه الواضع لمناهج البلاد التربوية.
لقد أسهب عدد كبير من علماء النفس والتربية، ومثلهم من الفلاسفة، في شرح أهمية "تصعيد" (والمصطلح فرويدي كما نعرف) وتوجيه ميول الإنسان وغرائزه ورغباته لصالح إشباعها بنحو سليم وصحي ومتوازن. وهذا تحديدا ما نحن بأمس الحاجة إليه اليوم، إننا بحاجة لتطوير مفاهيمنا الموروثة بشأن النجاح والثراء والمجد الذاتي وتنمية الموهبة والمشاركة الفاعلة وأنماط تبجيل الحياة ... نحن بحاجة لتحالف ثلاث هيئات على الأقل للبدء بهذه المهمة العسيرة التي طال تأجيلها، وهي: (التربية والتعليم العالي والإعلام) .. وحين نفهم أننا بحاجة للتنمية البشرية أضعاف ما نحتاج للاستثمار العمراني، حين يتوفر للعراق من التربويين والنفسيين ما يقارب أعداد المهرجين المندسين داخل الفن والشعر، نكون قد بدأنا بخطوتنا الأولى.
هذا ما يمليه علينا واقعنا .. فهل ترانا نطلب المستحيل؟ ليكن!! فليس ثمة إصلاح لم ينطلق من فكرة مجنونة.



#علي_المدن (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- هل يؤسس الإلحاد مذهبا إنسانيا في الحب؟ نقاشات تنموية في فضاء ...


المزيد.....




- الناطق باسم نتنياهو يرد على تصريحات نائب قطري: لا تصدر عن وس ...
- تقرير: مصر تتعهد بالكف عن الاقتراض المباشر
- القضاء الفرنسي يصدر حكمه على رئيس حكومة سابق لتورطه في فضيحة ...
- بتكليف من بوتين.. مسؤولة روسية في الدوحة بعد حديث عن مفاوضات ...
- هروب خيول عسكرية في جميع أنحاء لندن
- العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز يدخل المستشفى التخص ...
- شاهد: نائب وزير الدفاع الروسي يمثل أمام المحكمة بتهمة الرشوة ...
- مقتل عائلة أوكرانية ونجاة طفل في السادسة من عمره بأعجوبة في ...
- الرئيس الألماني يختتم زيارته لتركيا بلقاء أردوغان
- شويغو: هذا العام لدينا ثلاث عمليات إطلاق جديدة لصاروخ -أنغار ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - علي المدن - الأساطير المؤسسة للعمل السياسي في العراق: السياسة كحرفة