|
من الفوضى البنّاءة الى البناء الفوضويّ
شفيق طارقي
الحوار المتمدن-العدد: 4181 - 2013 / 8 / 11 - 17:04
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
شفيق طارقي : " و أمّا الزّبد فيذهب جفاء " ، من الفوضى البنّاءة إلى البناء الفوضويّ: ليس الواقع في البلاد العربيّة بمنفصل عمّا يحاك في الإدارة الأمريكيّة بما ظهر من وسائلها و الّذي خفي عن الأنظار، و ما هو بالمعزول عمّا يرتسم نظريّا و يتحوّل بعد اختباره و تقليبه على أكثر من وجه إلى حيّز التّطبيق ، فالأفكار عندهم عكس ما هو دارج عندنا متنطّعة عن قوالبها ، مفعّلة بما يتطلّبه الأمر من ضرورات ليكون قدرها التّجسيد ، وفقا لقوانين ، و انتظاما مع مسلك نهاه و محصّل أمره المصلحة بالمختلف من أبعادها ، لا سيّما منها الاقتصاديّ ، فلم يعد الخوض في السّياسة بما هي خيارات نظريّة من أولويّاتهم لأنّ الخيارات الّتي مازلنا فيها بين أخذ كثيرا ما لا يستتبعه عطاء ، و مازلنا فيها على لجاج مكين لا يختصّ به العامّة وحدهم و إنّما هو سار في الخاصّة من المشتغلين بالسّياسة أو الباحثين في أمرها بحث العارف يروم الحقيقة و مازال الجمع على ما بينهم من بينونات لم يؤمنوا بعد بنسبيّتها فكلّ حزب بما لديهم فرحون يخال ما ملكت يمينه كلّ الحقّ بل أبعد ، و يمضي في مفاخرة القوم به بما أوتي غير منتبه إلى ما في الاختلاف من فتحات للّقيا ، و ما به ينماز من سبل للتّكامل لو أحكم بين مكوّناتها الوصل و نبذ التّطاحن و الجعجعة لكان الظّفر بالمنى و أدركت الغايات . من المفاهيم الّتي نشأت فجرت بين الألسن و مسحت ممّا حبّر صفحات فاطّردت و تواترت بعد الحادي عشر من سبتمبر، مركّب نعتيّ يقوم على تنافر دلاليّ بين طرفيه ، صادم لآفاق الانتظار كأنّك به أوّل تماسّك معه إلى النّقد الأدبيّ أميل و بالفلسفة في لبوسها ما بعد الحداثيّ أعلق منه بالسّياسة الدّوليّة و بعلاقاتها ، ممّا يكشف أنّ حلقات وصل قائمة بين النّظريّ و العمليّ و أنّ العالم الغربيّ بجبروته التّقنيّ و رأسماليّته الفاحشة ، و بمكيافيلّيّته المعلنة أو المندسّة في الأعطاف ، منصت في الآن نفسه لصوت العقل يتدبّر الأمر ضمن علاقات عضويّة تشدّ أواصر الثّقافيّ إلى القرارات القوميّة ، معلّقة مصيرها بما تصدح به الأذهان ، في الوقت الّذي يزداد فيه البون اتّساعا بين المثقّف و السّلطة في البلاد العربيّة فبينهما برزخ لا يبغيان و لا يلتقيان " إلّا وداعا عند مفترق الحديث " . لقد جاءت الفوضى البنّاءة نتاجا لواقع عالميّ و تأسّست على العدوّ المفترض و ما يجب أن يعدّ له من عدّة ، تأسّست على خطر ممكن و غير متعيّن في الآن نفسه ، إنّه مفهوم منبن على التّصوّر و ما يتطلّبه من خطط وقائيّة ، و عليه فقد مثّل الاستباق ـ هذا المصطلح السّرديّ ـ عنصرا فعّالا به يحقّق المفهوم ديناميّته ، و يمثل واقعا ، بل مبرّرا للحرب دفعا لما كان أعظم ، لتكون الفوضى وفقا للمنظور الأمريكيّ سبيلا للبناء و يتمّ بموجبها تفكيك المعطيات و إعادة تركيبها ، و هي بذلك ضرب من ضروب السّيطرة على التّاريخ ليكون أمريكيّ الهوى. و لئن تعلّق المفهوم بإدارة بوش و بالمحافظين الجدد ، فقد وجب التّنبيه أنّ تعاقب الإدارات على البيت الأبيض لا يقضي بما يتوهّم من محو و إعادة كتابة ، و من اجتثاث و إعادة تجذير، فالمفاهيم و ما تتّخذه من أشكال لإجرائها لا يبطل مفعولها بما تفرزه الصّناديق من خيارات لأنّ المصلحة الأمريكيّة تظلّ واحدة و إن تباينت الألوان و تعدّدت المسالك ، وعليه فإنّ الإضافة مع ما يتطلّبه الأمر من تعديل و تكييف ، مسائل جارية على كلّ سابق في علاقته باللّاحق ، و بهذا تتميّز الدّيمقراطيّات الغربيّة إجمالا و الأمريكيّة على جهة الخصوص . و لا شكّ أنّ المنطقة العربيّة و خاصّة منها الشّرق أوسطيّة هي أكثر المناطق قابليّة لإجراء المفهوم فهي الأخصب بمتراكمها التّاريخيّ و بالنّاهض فيها من أحوال و ببناها على كلّ الأصعدة تحتيّا و فوقيّا ، و لئن كان الأمر في ولاية بوش مرتهنا بأحداث الحادي عشر من سبتمبر واقع في مسار الحرب على الإرهاب ، فإنّنا نحسب أنّ الفصل الثّاني من النّظريّة يجد مجالا لتحقّقه بعد ما أفرزه الرّبيع العربيّ من مستجدّات ، تدفعنا إلى قلب المركّب ليكون مثلما تشهد الوقائع ضربا من" البناء الفوضويّ" ، فالتّركيب الّذي نجم عن الفصل الأوّل خلفا للتّفكيك يشهد بدوره إعادة تفكيك من أجل تركيبة جديدة كان من تجلّيّاتها صعود الإسلاميّين إلى سدّة الحكم و تحوّلهم من منطقة الغياب إلى الحضور، و من الزّنازين و العمل الدّعويّ إلى القصور، من المفعوليّة التّاريخيّة إلى فاعليّة موهومة تسندها شرعيّة الصّناديق ، و تعضدها ديمقراطيّة مخترقة بالطّائفيّة و متوتّرة بالجاثم في المشترك الجمعيّ من ارث دينيّ لا يؤمن بالدّيمقراطيّة و يعدّها بدعة و لكنّ سدنته في آن يتّخذون منها معبرا لتحقيق غاياتهم ، و حجّة للاستماتة فيما احتلّوه من مواقع . إنّه البناء الفوضويّ لديمقراطيّة ضاع جوهرها الفرد فلم تبق سوى الأعراض ، لديمقراطيّة عدوّة شرعا و صديقة شرعيّا ، وهي مفارقة لعمري من المضحكات المبكيات و لكنّها واجدة في طريقها إلى الفوضى الهدّامة ما به يكون البناء المنتظم فالّذي يسقط دائما من الحسابات الدّقيقة و لا يمكن للتّصوّر أن يحيط به خبرا هو ذلك المتحرّك بشوق طبيعيّ على حدّ عبارة أبي حيّان هو ذلك الّذي لا يسكن البتّة و لا يخضع البتّة للنّظريّ فيراوغه و يدعوه إلى معاودة النّظر في متعلّقاته يدعوه إلى البحث عن بدائل ، و نقصد الحراك الشّعبيّ بما هو تمرّد و بما هو رفض و بما هو غيرة على الأوطان و عشق " من النّوع الّذي لا يتكرّر كثيرا " ، و الرّأي عندنا أنّ ذلك هو ما حصل في مصر فهوت به الفوضى و ما رامته من بناء يوافق خالقيها ، و هوى به البناء الفوضويّ الّذي سعى الإسلاميون إلى وضع لبناته الأولى ... ليكون النّظام المبنيّ على أسس مدنيّة ، و ليكون البناء المنتظم بشوق شعبيّ طافح بحبّ مصر و سيطفح بحبّ تونس و بحبّ كلّ ذرّة من البلاد العربيّة . فليست النّظريّات أيّا كانت وجاهتها و تماسكها الدّاخليّ هي المفكّكة لواقع الأمّة ، إنّما التّفكيك و إعادة التّركيب للشّعوب وحدها ، و بإرادة الأحرار وحدها تبطل الفوضى البنّاءة ، و ما استتبعها من بناء فوضويّ على جثث الشّهداء و جماجمهم أفرزه الإخوان لافتقارهم إلى أبجديّات العمل السّياسيّ و سيرهم في الأمر خبط عشواء ، بإرادة الأحرار يكون البناء صرحا في آفاق المدنيّة الرّحب . قدر الزّبد أن يذهب جفاء ، فمتى سيعرفون أنّهم الزّبد ؟ و لا ماكث في الأرض العربيّة إلّا الشّعب .
#شفيق_طارقي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
باردو : محاولة في توصيف المشهد
المزيد.....
-
اتهام 4 إيرانيين بالتخطيط لاختراق وزارات وشركات أمريكية
-
حزب الله يقصف موقعين إسرائيليين قرب عكا
-
بالصلاة والخشوع والألعاب النارية.. البرازيليون في ريو يحتفلو
...
-
بعد 200 يوم من الحرب.. الفلسطينيون في القطاع يرزحون تحت القص
...
-
فرنسا.. مطار شارل ديغول يكشف عن نظام أمني جديد للأمتعة قبل ا
...
-
السعودية تدين استمرار القوات الإسرائيلية في انتهاكات جسيمة د
...
-
ضربة روسية غير مسبوقة.. تدمير قاذفة صواريخ أمريكية بأوكرانيا
...
-
العاهل الأردني يستقبل أمير الكويت في عمان
-
اقتحام الأقصى تزامنا مع 200 يوم من الحرب
-
موقع أميركي: يجب فضح الأيديولوجيا الصهيونية وإسقاطها
المزيد.....
-
الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة
...
/ ماري سيغارا
-
الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي
/ رسلان جادالله عامر
-
7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة
/ زهير الصباغ
-
العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني
/ حميد الكفائي
-
جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022
/ حزب الكادحين
-
جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023
/ حزب الكادحين
-
جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023
/ حزب الكادحين
-
جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023
/ حزب الكادحين
-
جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023
/ حزب الكادحين
-
قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية
/ جدو جبريل
المزيد.....
|