أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - أنطونيوس نبيل - قوة اللامبالاة















المزيد.....

قوة اللامبالاة


أنطونيوس نبيل

الحوار المتمدن-العدد: 4122 - 2013 / 6 / 13 - 07:55
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


ألجأني جرحٌ عاطفي إلى قراءة خفيفة أتلهى بها: قراءة بلا أنياب تنكأ روحي المثخنة، فوقع اختياري على كتاب "بين الكتب والناس" للعقاد.. العقاد كاتب يرتكب من المعرفة الموسوعية ما لا سبيل إلى غفرانه.. ولئن كان تعريف موزيل أن "رجل بلا صفات هو صفات بلا رجل" فليكن تعريفي أن "معرفة بلا تخصص هي تخصص بلا معرفة".. بينما عيناي تدرجان عبر الصفحات تتقافزان من لذة التنقيب في أغوار "سطحية" المعرفة الموسوعية، هالني مقال بعنوان "العدد 13" يستهله العقاد قائلاً "تعودت أن أتحدى خرافات التشاؤم على اختلافها ولا سيما خرافة التشاؤم بالعدد 13 لأن التشاؤم به يتكرر في مناسبات كثيرة ويتفق عليه الغربيون وطائفة من الشرقيين. فسكنت في منزل رقم 13 واخترت نمرة التليفون مبدوءة برقم 13 وتعمدت غير مرة أن أسافر في اليوم الثالث عشر من الشهر كلما كان أمر السفر موكولاً إلى اختياري".. وهنا صرخت "وجدتها".. هوذا تناقض يحدق سافراً بين الأسطر يُمكن تسميته بتناقض التحدي.. العقاد يقرر أن يتحدى الخرافة بأن يأتي من دقائق السلوك ما هو صورة سلبية "نيجاتيف" للخرافة، فبدلاً من أن يصير دُمية في يد الخرافة صار مرآة للدُمية: مرآة تجتر نفس حركات الدُمية عكسياً.. أن تؤمن بخرافة ليس معناه مقصوراً على مَن يتبعها أينما ذهبت، بل ينضوي في زمرة المؤمنين بالخرافة من تنبع جُل اختياراتهم من تحديها.. سيان أن يأتي سلوكك وفقاً لخرافة أو مضاداً لخرافة، المحجة واحدة لكن الإتجاه –فقط- هو الذي اختلف.. العقاد هنا يتحرر من عبودية "العدد 13" بأن يصيرَ رقاً ل "تحدي العدد 13"..

جوهر خرافة العدد هو أن تجيء انفعالاتك -وما يعقبها أو يلازمها من اختيارات- مرهونة بعدد، بغض النظر عما إذا كان الرهن إذعاناً أم تحدياً.. العجيب أن العقاد الذي تحدى تيار الخرافة الموار بعضلات إرادته الصلدة "كلما كان الأمر موكولاً له"، يعود فيقرع توفيق الحكيم في مقال آخر من نفس الكتاب ويتهمه بأن مجالدة حب المال تشير إلى تجذر هذا الحب من وجدانه قائلاً: "لولا الصراع لما كان هناك تيار ولا كانت هناك حاجة إلى العضلات القوية، فإنما يحتاج إلى العضلات القوية مَن وقع في التيار وما أبعد المسافة بين المصطرعين والمجروفين في التيار وبين الناظر إليهم من عل دون أن يخوض فيه أو يعوم؟!".. هل كان على العقاد أن ينزع الخشبة التي في عينه قبل أن يتهم القذى الذي في أعين الآخرين؟!..

تناقض التحدي آفة تمتح عصارة قوتها –وإغرائها- من رغبة المرء في أن يواجه أخصامه بفعل إيجابي صاخب: أحياناً تكون أشقى الأفعال هي ألا تفعل شيئاً.. تناقض التحدي هو الهزيمة التي تعقبها المعركة.. حينما ينتقي لك خصمك ساحة المعركة ونوع السلاح وساعة الصفر، فلا حاجة لك في المعركة لتبادر بإعلان هزيمتك النكراء.. مثال: مشاريع النهضة العربية الفكر-دينية في مهد القرن العشرين وُلدت ميتة لأنها جاءت كأجوبة مشحوذة تتحدى أسئلة أمضى منها شهرها الخصم في وجهنا العربي، بادرنا إلى تحديها دونما تفكُّر منا في تحليلها أو التغافل عنها أو السخرية منها فلم تستبطئ الهزيمة مشاريعنا المفخخة بالتناقض: أن تترسم ذاتك عن طريق أجوبة تتحدى بها أسئلة خصومك!.. وما ينسحب على مشاريعنا النهضوية المجهضة يسري ناقعاً في شرايين مشاريع الانتصار للمرأة حيث تسقط المرأة في فخ التناقض نفسه: تتحدى التراتبية الذكورية بأن تُفرط في الانسلاخ عن قيمها الأنثوية لتكون على قمة الهرم الذكوري!.. الانتصار ليس أن تطرح الخصم أرضاً بقبضة أشرس من قبضته فتكون كظلٍ استطاع أن ينتصب.. الانتصار هو ألا ترى خصمك محض الخصم بل هو "آليات العراك" التي يتبناها، كيلا تكونا –أنت وخصمك- ظلين منتصبين لخصم خفي لا تدركه أبصاركما لما تغشاها من غبار العراك ..

في أحد سوانحه الشعرية يقول "ليوناردو أليشان" لحبيبته أنها كالتحفة الخزفية النفيسة وأن حضنه كالقش الذي يطوقها.. كم هي رائعة هذه الاستعارة: أن تذود عن تحفتك النفيسة بأن تكون قشاً يكتنفها.. بيد أن المُصاب بتناقض التحدي سينشد قائلاً: حبيبتي أنتِ كالتحفة الخزفية النفيسة وهأنذا أدفع عنك الأخطار المحيقة مستعيناً بهراوتي الطائشة.. (من البديه أن ينحني بعدها ليلملم أشلاء محبوبته الخزفية التي محقتها هراوته في سَورة الغزل).. من الخطل أن تحرس وردتك قابضاً على منجل لأن الأعداء يحملون المناجل..

أقبح ما يُضمره "تناقض التحدي" هو افتقار فريسته إلى الشرط الضروري لكل فعل إنساني مبدع: التأمل.. عندما تمنح خصمك التحدي فإنك تسلب ذاتك التأمل.. لا تنتظر ثمراً من أرض تحرثها أسياف المتبارزين، فلا تربة خصبة سوى أرض العزلة المتأملة.. ستقضي سغباً في تحديك ولن يُمسك رَمقك ما تلتهمه من تيجان الغار المزدانة بأشرطة الذهب، في تناقض التحدي كل الأطراف طُعمة للنسور النهمة.. ولا ترياق لهذا التناقض العبثي سوى اللامبالاة.. اللامبالاة هي التحدي الذي يلقي عن كاهله نير التناقض.. اللامبالاة هي الوضع الأوحد الذي تستطيع أن تمزج فيه بين التحدي والتأمل.. اللامبالاة هي التحدي الذي حاز من الحكمة ما يجعله يتجرد مما لا لزوم له من أسلحة توهنه وتستنزف قواه بوطأة ثقلها: مكتفياً من الجرأة بما يكفيه لتحدي نفسه.. حينما يلطمك خصمك على خدك الأيمن حوِّل له الآخر "لامبالياً" ودَع المتنبي يلطم أذنيه عبر شفتيك:

رماني الدهرُ بالأرزاء حتى.. فؤادي في غشاءٍ من نبالِ
فصرت إذا أصابتني سهامٌ.. تكسرتِ النصالُ على النصالِ
وهان فما أُبالي بالرزايا.. لأني ما انتفعتُ بأن أُبالي

جاء أحد المريدين إلى قطبه الغوث منتشياً بانتصاره على ما لاقاه في الصحراء من مشتهيات، سرد المريد –مطنباً- قصته البطولية التي استطاع في حنايا حوادثها أن يتحدى غرائزه وأن يكبح سُعار نفسه ويمنعها التهالك على المغريات التي صادفته.. فما كان من القطب الغوث سوى أن أطرق محزوناً لتستحيل نبرة المريد المتخايلة إلى صمت مشدوه.. بعد بُرهة همس القطب لمريده: كم أنت بعيد يابني عن الانتصار على المشتهيات، مادام قلبك يصارعها فهو مسكونٌ بأشباحها: ستكون قد تخلصت من أرجاس الشغف بها حينما لا يكون بمقدورك تمييزها عن رمال الصحراء، حينما تعبرها دون أن تلحظها، دون أن تكون مضطراً إلى أن تتحداها.. !

أغلب خصومك اكتست عظامهم البالية باللحم الموفور، فقط لأنك تحديتهم فوهبتهم نصيباً من خبز ذهنك ورشفات من نبيذ عرقك.. لذا فأغلبهم يستحيلون رماداً حينما تُلقي بهم في جعبة "ما لا أُباليه"..



#أنطونيوس_نبيل (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295


المزيد.....




- غيتار بطول 8 أقدام في موقف للمركبات الآلية يلاقي شهرة.. لماذ ...
- ساعة ذهبية ارتداها أغنى راكب على متن -تيتانيك-.. تُباع في مز ...
- اغتيال -بلوغر- عراقية وسط بغداد.. ووزارة الداخلية تفتح تحقيق ...
- ثوران بركان إيبيكو في جزر الكوريل
- -إل نينو- و-لا نينا- تغيران الطقس في أنحاء العالم
- مكسيكي يقول إنه فاز بشراء أقراط بـ28 دولارا بدل 28 ألف دولار ...
- سيناتور روسي يقيم جدوى نشر أسلحة نووية أمريكية في بولندا
- هذا هو رد بوتين على المساعدات لأوكرانيا من وجهة نظر غربية (ص ...
- الولايات المتحدة تطور طائرة -يوم القيامة- الجديدة
- الجيش الروسي يستعرض غنائمه من المعدات العسكرية الغربية


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - أنطونيوس نبيل - قوة اللامبالاة