أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - أسعد محمد تقي - حديث عن التقسيم















المزيد.....



حديث عن التقسيم


أسعد محمد تقي

الحوار المتمدن-العدد: 4102 - 2013 / 5 / 24 - 01:19
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    



عند الحديث عن محاولات تقسيم العراق يجب ان نضع الحقائق التالية في أذهاننا لكي لا ننزلق بعيدا عن الوقائع ونغرق في لجة المشاعر والتمنيات:
أولا .. تصريح الرئيس بوش الأب في أواخر التسعينات وبعد احتلال الكويت من قبل القوات العراقية والذي قرر فيه ان وجود كمية كبيرة من النفط ومصادر الطاقة تحت سيطرة دولة واحدة من دول الشرق الأوسط يشكل خطورة على المصالح الأمريكية الحيوية.
ثانيا .. أعلن بايدن عن مشروعه في تقسيم العراق وهو السيناتور الديمقراطي في ظل إدارة جمهورية , تقسيمه الى ثلاثة اقسام شيعي وسني وكردي.
ثالثا ... ظهور مفهوم الشرق الأوسط الكبير وهو ما يعني إعادة رسم خارطة جديدة لهذا الشرق تتكون هذه الخارطة من عشرات الكيانات المجهرية والتي لا تملك من أمرها شيئا وكل كيان يمثل إثنية أو دين أو مذهب وربما قبيلة . وهذا الهدف يعني في حالة تطبيقه أن على هذه الكيانات أن تتحول الى مجهّز لمصادر الطاقة للغرب وأيضا عليها ان تعيد الأموال التي تحصل عليها من بيع النفط والغاز عبر استهلاك المنتجات التي يقدمها لها الغرب وماكنته الصناعية
ورابعا .. تدمير اقتصاد البلد المراد تقسيمه وجعل أقسامه المختلفة تتفاوت في مستويات تطورها وعملها تحت مظلة من الفساد واللصوصية من أجل تقطيع الروابط بين اقتصاداتها فلا يعود هناك من مبرر للحرص على وحدة البلاد إذ إن التبادلات الاقتصادية لكل جزء ستتجه نحو الخارج بدلا من تعزيز السوق الداخلية وتنميتها.
-------------------------------------------------

أبدأ من تصريح الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب في أواخر العام 90 من القرن الماضي وكانت القضية الكويتية على رأس القضايا الدولية التي كان العالم يقف على أطراف أصابعه انتظارا لما سوف تسفر عنه وقد بينت الأيام إن ما أسفرت عنه كان كثيرا جدا على الصعيد الإقليمي والعالمي .. أعلن بوش الأب , إن وجود كمية كبيرة من الاحتياطي النفطي تحت سيطرة دولة واحدة يشكّل خطرا على مصالح الولايات المتحدة والغرب عموما. وقد فهم المتابعون للشأن السياسي إن هذا التصريح يعني بالتحديد إن لدى الولايات المتحدة خططا لتقسيم البلد الذي يسيطر على هذه الكمية الهائلة من احتياطات النفط والغاز, ولسوء طالع أبناء الرافدين كان الرئيس الأمريكي يقصد بلادهم بالتحديد .. وعندما بدأت الأعمال العسكرية لإخراج القوات العراقية من الكويت كان من المفترض أن يتبعها على الفور العمل على إيجاد البيئة الملائمة لتنفيذ التقسيم، لكن القوات الأمريكية وحلفاءها واجهوا ظروفا آنذاك دفعت الرئيس بوش إلى التراجع عن احتلال العراق وإعلان وقف إطلاق النار ومن ثم إطلاق يد ألعوبته القديمة أيام كان يترأّس جهاز المخابرات المركزية الأمريكية , بطل احتلال الكويت صدام حسين , ليندفع قتلا وتخريبا وإرهابا لا مثيل له بحق الشعب العراقي. كانت الظروف التي اقتضت هذا التراجع وفتح الأبواب أمام ارتكاب كل تلك الجرائم عبارة عن أمرين اثنين: الأّوّل هو أن القوات الأمريكية اكتشفت أنها ستكون بمواجهة شعب مسلّح إلى درجة لا مثيل لها ولم يَنَلْ منه التعبُ , بعدُ , الى الحدِّ الذي يجعله يقف متفرجا على قوات الاحتلال وهي تجتاح بلاده كما حدث فيما بعد في العام 2003 , مؤمّلا أن يكون خلاصُه من حاكمِهِ الفاشي بداية عهدٍ جديد قد يحمل معه فرصا للالتحاق بركب باقي دول العالم رغم كل الحمق الذي أدار به صدام حسين البلاد. أمّا الأمر الثاني فهو أن الولايات المتحدة وجدت إنّها ستضطر وفق هذه الظروف إلى الدخول في مفاوضات مع القوى السياسيّة العراقيّة , هذه القوى التي تعمل بغالبيّتها في الخارج أو في بعض المواقع الحصينة في جبال كردستان , من أجل ضبط إيقاع الوضع السياسي بعد الإطاحة بصدّام حسين ( ولم تكن مؤتمرات لندن وواشنطن وصلاح الدين الشهيرة قد عُقِدَت بعدُ) وبالطبع فإن مفاوضات من هذا النوع , فيما لو حصلت عقب الاحتلال , سوف تضطر المفاوض الأمريكي إلى تقديم الكثير من التنازلات والوعود لهذه القوى مقابل التعاون في موضوع الإدارة اللاحقة للبلاد ولهذا فضلت الولايات المتحدة التأني في إسقاط النظام بعد إخراج قواته من الكويت ريثما تستكمل التفاهم مع القوى السياسية العراقية المعارضة وبالتأكيد كان مسار التفاهم هذا لصالح الولايات المتحدة ولم يكن لقوى المعارضة أن تفعل شيئا سوى القبول بما تمليه الإدارة الأمريكية وهو ما يتلاءم والأهداف التي تتوخاها هذه الإدارة من احتلال العراق والتي تتلخص بتقسيمه الى ثلاثة أقسام وفق المنطق الطائفي مرة والإثني القومي مرّة أخرى. وبالطبع ستكون هذه الأقسام الثلاثة أشبه بإمارات ومشيخات ضعيفة لا تقوى على غير الاستجابة مرغمة لكل الإملاءات الأمريكية وبعد ذلك تحويلها إلى منصّةٍ لإدارة عمليّة كبيرة ارتبطت في ذلك الوقت باندفاع الولايات المتحدة نحو إحكام السيطرة على الكثير من مناطق النفوذ وخاصة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا معتمدةً على كونها القطب الأوحد الذي استطاع تفكيك الإتحاد السوفييتي قطب الحرب الباردة الآخر والذي كان البعبع الذي تُمْعِن الإدارات الأمريكية المتعاقبة في استخدامه لتخويف أوربا العاجزة عن الدفاع عن نفسها بدون الدعم الأمريكي المتعدد الوجوه.
وكان من ضمن هذه الأهداف, التي لا شك تم التفاهم حولها في المؤتمرات إيّاها , تحديد نمط إدارة البلاد والقبول بأساسيّات هذه الإدارة من شكل النظام السياسي وشكل الديمقراطيّة الذي سَيُعْتَمد وأهم من هذا وذاك النمط الاقتصادي لإدارة اقتصاد وموارد العراق ومرجعيّة هذا الاقتصاد. وسنرى فيما بعد إنهم أرفقوا احتلالهم بتدميرٍ كاملٍ للبنى التحتية لاقتصاده وإلغاء أية إمكانية لتشغيل وإدارة عجلة هذا الاقتصاد..كان هذا بقصد إعادة البناء وفق المنهج الذي ترتأيه الإدارة الأمريكيّة.
لقد أنجزوا احتلال العراق بسهولة كبيرة بعد اثني عشر عاما من الحصار الاقتصادي الذي أضعف قوى الشعب العراقي أكثر مما أضعف حكّامه الفاسدين الذين لم يكن كبيرهم يمتلك ما يكفي من الحصافة لإدارة البلاد في ظروف شهدت الكثير من التغييرات على مستوى العلاقات الدوليّة وعلى ميزان القوى الدولي.
أعود إلى النقطة الأكثر أهمّيّة , ألا وهي موضوعة تقسيم العراق , هذه الفكرة التي تجعل المرء محتارا في كيفيّة فهم الأمر لأن مثل هذا التقسيم يتعارض مع الكثير من الوقائع التي لا يمكن تجاوزها، قد يكون في مقدّمتها حقيقة كون التوازن الذي تَشكّلَ على مدى عقود كثيرة من الزمن بين العراق وتركيا وإيران, هذا المثلّث الذي لا يمكن التحرّش به أو المساس بتوازنه لأن توازن المنطقة واستقرارها يعتمد إلى حد بعيد على وجود هذه البلدان الثلاثة قويّة وقادرة على أن تلعب دورها في حفظ التوازن, وما أن يصيب أحدها الضعف حتى تواجه المنطقة خطر الفوضى وضياع الاستقرار. وما حدث يعطينا الدليل على هذا , إذ بالرغم من التواجد الأمريكي المكثف لم يكن العقد السابق الذي تلا الاحتلال عقدا مميّزا بالاستقرار في العلاقات بين دول المنطقة والسبب هو أن الاحتلال أضعف العراق الى حد كبير وأجهز على قدرته على لعب دوره المعتاد في الاستقرار وصار علينا أن نتوقع نمو التطلعات الأشعبيّة للدول المحيطة به ورغبتها في مد النفوذ الى داخله.
وهناك أمر آخر يثير الحيرة من غرابة فكرة التقسيم هذه, إذ ما لم يكن هناك حلٌّ سحريٌّ فإن الحروب ستنشأ بين كلِّ جزءٍ وجوارهِ وقد يمتد الأمر الى أبعد من ذلك، أولا بسبب التداخل الديموغرافي بين الطوائف والأثنيّات المختلفة وثانيا بسبب المياه الضرورية لديمومة الحياة , والكل يعلم ما هي الحال التي عليها موارد العراق المائيّة, وإذا كان من الممكن ضمان كميّة المياه التي تصل السودان من جمهوريّة جنوب السودان (التي أُعلنت مؤخرا) بسبب الاتفاقيات التي أبرمتها مصر مع جميع دول المنابع وأجبرت الجميع على ترك حصة الأسد من مياه النيل تصل إليها وبالتالي لابد للسودان الشمالي من الحصول على كفايته من مياه النيل طالما يخترق نهر النيل أراضيه قبل أن يدخل الأراضي المصرية الأمر الذي لا يترك فرصة لجمهوريّة الجنوب أن تمارس الضغط والتعسف بحق الشمال, فإن الأمرَ مختلفٌ في العراق وأغلب الظن أن الأمر سيجري حلّه بسفك المزيد من الدماء وستكون مناسبة لدول المنطقة وما يجاورها للمساومات ولعبة مد النفوذ والتدخّل في الشأن العراقي بطريقة فجّة.
ومن يفكر بالتقسيم عليه أن يلقي نظرة على تأريخ هذا الوادي , وادي الرافدين الذي لم يكن في أيِّ يوم من الأيام إلّا وطناً اسمه العراق والغريب إن البعض يعلن بين حين وآخر أن أعرق بلد على وجه الأرض هو بلدٌ ملفّق وكأنّهم استيقظوا مؤخرا وسمعوا لأوّل مرة بشيءٍ اسمه العراق.
ومن يريد التقسيم عليه أن يرى بعين متعقّلة مستوى التماثل في أمزجة الناس في بلاد ما بين النهرين وغياب التاريخ الدموي بين طوائفهم وقوميّاتهم وأديانهم بالرغم من أن هناك الكثير من الصراعات ظلت قائمة على امتداد زمن طويل , ولكنها كانت بين السلطة وجزء من شعب هذه البلاد وليس بمقدور أي أحد إنكار التعاطف الذي كانت تظهره المكونات الأخرى مع من يتعرض لظلم وقسوة وبطش السلطة وذلك بالضبط هو ما يقرّره التداخل والتعايش الديموغرافي.
ومع وجود الكثير مما يوحّد العراقيّين ويبعد عنهم شرور المساس بوحدة بلادهم , فإننا نجد أن عملا ما , يجري بحماس لتوفير مستلزمات التقسيم، فقد أدرك الأمريكان جميع عناصر التوحيد وصاروا يعملون بالضد منها
لقد بدأوا منذ اليوم الأوّل بإلقاء بذور التقسيم الطائفي بالرغم من كثرة الحديث عن الديمقراطية والتسامح الديني والمذهبي والقومي إلا أن الذي كان يحدث شيءٌ آخر: لقد جاءت القاعدة بركاب الأمريكان, وعلى المرء أن يتساءل لماذا نجد القاعدة حيث يتواجد الأمريكان بقوّاتهم العسكرية, وتنشر هذه المنظمة المتعصّبة الفوضى والموت والدمار حيثما تكون هذه نافعة للأمريكان وحيثما يكون ضعف القوى الوطنيّة مطلوبا من قبل الأمريكان لكي يتمكنوا من فرض إرادتهم على القوى السياسية في البلد المعني؟ وكلنا شاهدنا وعشنا تلك الأيام الكريهة عندما كان الناس لا يجدون تفسيرا لذلك الجنون الذي كان يعمل بحماس لا مثيل له على تقسيم بغداد إلى جانب سنّي وآخر شيعي, وقد أخذتهم غرابة الحدث فلعنوا كل شيء وانكفأوا على ذواتهم رافضين كل ما يجري, الأمر الذي ساعد على انكشاف كل المتاجرين بالشعار الطائفي واضطرارهم إلى التوقف عن الحديث به والى التوسل بشعارات الوحدة الوطنية وإن كان شكليّا.
ثم برز الى العلن الميل الى النعرة المناطقيّة وخاصة تلك التي تعتمد المحافظات أساسا لها , وقد جاءت التعديلات التي أجريت على قانون الانتخابات لكي تلبي نقطتين او هدفين اثنين الأوّل هو تعزيز الانقسام وفق المحافظات وهو الأمر الذي يتعزز كثيرا باجتماع اللون الطائفي والقبلي الى جانب العامل الجغرافي, إذ إننا في العراق من النادر أن نجد، باستثناء بغداد, محافظة لا تتميّز بلون طائفي وقبلي إضافة الى اللون القومي ولذلك وجدنا تعابير من قبيل المحافظات الشيعية وتلك السنيّة تجري بسهولة على ألسنة المسؤولين والبرلمانيين وبعضهم بحت حنجرته من الصراخ " مناطقنا .. مناطقنا " وكأنه يصارع بلدا آخر على قطع من الأرض متنازع عليها.
والثاني هو قَطْع الطريق على الأحزاب الوطنيّة ذات الطابع العابر للطائفة والقوميّة والدين والقبيلة وكل شيء آخر باستثناء الوطن عبر تقسيم العراق الى ثماني عشرة دائرة انتخابية , هذا التقسيم الذي بعثر أصوات الأحزاب الوطنية على المحافظات التي كما قلت تتميز بغلبَة اللون الطائفي والقومي وفي مثل هذه الحالة فإن أيّ حزب قومي أو ديني أو طائفي بإمكانه الحصول على أكثر من مقعد بمجرد إنزال قائمته في المحافظة التي يغلب فيها طابعه الديني أو القومي أو الطائفي ويكفيه رفع بعض الشعارات الطائفيّة لكي يستحوذ على أصوات الناخبين في زمنٍ يتميّز بالشحن الطائفي ولذلك وجدنا الأحزاب الوطنيّة تفشل في الحصول على مقعد واحد في البرلمان بالرغم من أنها حصلت من الأصوات ما يكفي لأكثر من مقعد وقد ساعد الشحن الطائفي والقومي على تحقيق هذا الهدف.
ولكن الانقسام الطائفي والديني والقومي لا يكفي وحده لجعل موضوعة التقسيم مقبولة أو على الأقل غير قابلة للإسقاط والإفشال ولذلك يجري في العادة تدعيمها بإجراءات أخرى, إجراءات تهدف بالدرجة الأولى إلى إضعاف روح المسؤوليّة الجماعية وإلى الهبوط بالموقف الوطني إلى أدنى مستوى لدى عامة الشعب وخاصة لدى الفئات والطبقات الأكثر استعدادا للعمل الوطني وأقصد المنتجين من عمال وفلاحين ومثقفين وتلك الشرائح التي تكسب دخلها من خلال الوظيفة الحكومية أو الأعمال الخاصة الصغيرة وكذلك الشباب والطلبة. وقد تكفّل الفساد الإداري والرشوة (خاصة في مجال التوظيف) وغياب الخدمات بهذا الأمر الى الحد الذي دفع الناس الى اليأس من إمكانية الإصلاح. وإذا أضفنا تدهور الثقافة والفنون والبرامج التعليمية والتربويّة وازدهار الأعلام المأجور والمدفوع الثمن من قِبَل أولئك الذين مارسوا السطو على المال العام فإننا سنكتشف مدى فاعليّة هذه الحالة على الإنسان العراقي؛ إذ ليس من المعقول أن نطالبه بالمواجهة من أجل الحفاظ على الوطن موحّدا دون أن يمتلك القدرة على الوعي ودون أن يلمس أية واحدة من النِعَم التي يمنحها الوطن له في وقت تصمّ سمعه أرقام الأموال التي يجري تداولها في ميزانية كل عام.

أما الجانب الأكثر أهمّية في موضوعة التقسيم فهو الجانب الاقتصادي: في الاقتصاد تكمن كل ملامح الدولة المراد رسم شكلها ودورها الذي يمكن أن تقوم به. الاقتصاد يشكّل القاعدة والأساس الذي تقوم عليه كل البنى الفوقيّة الأخرى للحياة اليومية وتفاصيلها ولذلك نجد أن الولايات المتحدة قد أولت هذا الجانب الاهتمام الأكبر.
لقد بدأت , بعد دراسة طبيعة التشكيلة الاقتصادية التي نمت في العراق منذ تأسيسه الحديث في العام 1921 عام الإعلان الرسمي للدولة العراقية الحديثة بعد أن أنجزت القوات الاستعمارية البريطانية احتلالها لولايات العراق الثلاث , الموصل وبغداد والبصرة , وفق التقسيم الإداري العثماني الذي كان قبل الاحتلال البريطاني ( وفي هذا الصدد يمكن الإشارة الى الدراسة القيمة التي قدمها الباحث الأمريكي من أصل لبناني الدكتور حنا بطاطو بتكليف من أحدى الجامعات الأمريكية وقد فُتِحَتْ له أبواب المؤسسات العراقية كلها بما فيها الدوائر الأمنية وملفاتها).. هذه التشكيلة الاقتصادية التي بدأت ملامحها بالظهور حينما بذل البريطانيون الجهود لتحويل الزراعة من شكلها القبلي والعرفي وسيادة الإنتاج المشاعي ضمن القبيلة الواحدة حيث الإنتاج الفردي هو الشكل السائد ومنه يجري تمويل احتياجات القبيلة ومركزها المتمثل بشيخها ومضيفه بنسب متعارف عليها من كل ما يحصل عليه الفرد من عائد الزراعة أو غيرها , من الأعمال الأخرى .. تحويلها من هذا الشكل البدائي الى الشكل الأكثر تطوّرا وهو الشكل شبه الإقطاعي, الشكل الذي يتميّز بتوسيع رقعة الإنتاج وجعله خاضعا لمركز واحد ذي طبيعة نفعيّة هو الإقطاعي الذي تمخّض عنه شيخ العشيرة او القبيلة السابق بعد أن حوّلته السلطة البريطانية, عبر تزويده بالمنح النقدية ومضخات المياه ومن ثم تسجيل الأراضي الزراعية التي كانت زراعتها تتم وفقا لتقسيم متعارف عليه بين أفراد القبيلة الواحدة, , تسجيلها باسمه , الأمر الذي ساهم بإضفاء ملامح جديدة عليه , ملامح الإقطاعي الذي بدأ يفرض أتاوة محددة عن كل شيء تقريبا .. استخدام المضخة ومَنْح الأرض التي يجب ان تُزرع والتي صار استخدامها منحة يقررها هو بعد أن كانت ملكا عرفيّا مقرّرا يقرُّ به الجميع للفلاح الفرد في القبيلة (1) .. وما أن حل النصف الثاني من القرن العشرين حتى غدت الزراعة العراقية بأكملها تدار بواسطة الإقطاعيين الشيوخ في الوسط والجنوب والإقطاعيين الأغوات في المناطق الشمالية.
وبقي الجانب الآخر من الاقتصاد العراقي , وأقصد به الصناعة , متشكلا من الصناعات البدائية وتلك المعتمدة على الحرفة والمعامل الصغيرة التي تستخدم عددا صغيرا من العمال وتعنى بإنتاج النسيج والجلود وبعض المنتجات الغذائية .. وما أن تقدم الوقت حتى شرعت الإدارة البريطانية بوضع الأسس لبعض المشاريع الضرورية التي كان العراق والإدارة البريطانية بحاجة اليها ويستفيدان منها وظهرت الى الوجود الموانئ وسكك الحديد والمشاريع النفطية والمصافي والتي بدورها استوجبت تطوير البنى التحتية الضرورية مثل الطرق والجسور وكذلك السدود المائية لتحسين الزراعة مما أشاع انتعاشا واضحا جلب بدوره توسعا في الإنتاج الخاص فظهرت معامل النسيج وصناعات أخرى بشكل أكثر تنظيما وأكثر قدرة من حيث التمويل والإنتاج وهذا بدوره انعكس على القدرة الشرائية للعراقيين والتي ساهمت بدورها في رفع النشاط التجاري وعموم النشاط الاقتصادي في البلاد.
وما أن حلت نهاية العقد السادس من القرن الماضي وبعد أن جرى تغيير النظام الملكي الذي تم في عام 58 حتى انطلق الاقتصاد العراقي الى مجالات أكثر رحابة وصارت تظهر الى الوجود مشاريع صناعية عملاقة وبعد توزيع الأراضي على الفلاحين إثر مصادرتها من الإقطاعيين تطبيقا لقانون الإصلاح الزراعي صارت الدولة تهتم بتوزيع ما هو ضروري لزيادة فاعلية ومساهمة الزراعة في الإنتاج الاقتصادي العام , من أسمده وبذور محسنه وإرشادات ضرورية لتحسين الزراعة وإنشاء سدود إضافية لزيادة التحكم بالموارد المائية وتوفيرها للزراعة في عموم البلاد وتجنيبها كوارث الفيضانات وفي مجال البناء انطلقت الدولة في طريق حل مشكلة الإسكان بشكل فعال عبر توزيع قطع الأراضي السكنية وتقديم القروض الميسرة لكافة قطاعات الشعب مما خلق استقرارا اقتصاديا للغالبية العظمى من العراقيين والى جانب كل هذا بادرت الدولة الى تحويل المشاريع الكبرى التي أنشأتها الإدارة البريطانية على أساس الملكية الخاصة للشركات الأجنبية , تحويلها الى ملكية الدولة أي الى القطاع العام الذي بدأ بالتوسع الهائل مع بداية العهد الجمهوري فصار , إلى جانب القطاع المختلط , العلامة المميزة للاقتصاد العراقي وبقي الريف مراوحا على حالته من الإنتاج الفردي الصغير ولم ينجح بالتحوّل الى الإنتاج الكبير بسبب الهزّات السياسية الكبيرة والمعارضة التي أبدتها القوى المناوئة للتوجهات العامة للجمهورية إضافة الى عودة القوى القديمة عبر تغلغلها في جميع مفاصل الدولة الجديدة مما أجهز على الكثير من المنجزات وحوّلها الى إجراءات شكلية تعاني من الخلل المزمن وأعاق تطورها ومشاركتها في الإنتاج الوطني.
من الممكن القول إن القطاع العام كان شكلا من أشكال تحويل الاقتصاد العراقي الى وحدة اقتصادية متماسكة والحقيقة التي لا مراء فيها هي أن الاقتصاد الموحّد يساهم مساهمة فعالة في توحيد البلاد عبر جعل كل أجزائها تعتمد على بعضها البعض ولا تتمكن من الاستغناء عن الترابط الذي يؤدي بالضرورة الى وطن موحّد
ومن الحقائق المعروفة أن تشكّل الأمم قد جاء نتيجة لظهور الاقتصاد الموحّد والسوق الواحدة وبالقدر الذي فرض هذا التوحيد نفسه كانت تتشكّل الأمم ومن نافلة القول إن هذا التوحيد للنشاط الاقتصادي قد تم على يد البرجوازية الصناعية التي نمت الى الحد الذي باتت تشعر فيه بحاجتها الى إزاحة الطبقة المسيطرة آنذاك في أواسط القرن التاسع عشر في أوربا وهي الطبقة الإقطاعية فكانت الثورات البرجوازية التي قادت الى تشكيل الأمم الأوربية ذات التشكيلة الاقتصادية المتكاملة الموحدة وكان من الواضح إنه بالقدر الذي تتعزز فيه هذه التشكيلة الاقتصادية فإن وحدة الأمم , كلّا على حدة , كانت تتعزز أكثر.
وقد عزز هذا التوجه ما كانت تتطلبه الطبيعة الاقتصادية للنشاط الصناعي الرأسمالي لبرجوازية أوربا من حريات , خاصة حرية التملك وقدسيّتها وما تتطلبه هذه الملكية المقدسة من ضمانات قانونيّة وضمان ديمومتها عبر نظمٍ سياسيّة تعتمد الديمقراطية ومشاركة الشعب بالاختيار للنخبة الحاكمة وأيضا للإصلاحات الضرورية للقوانين وباقي شؤون الحياة اليومية من حقوق وواجبات وخدمات .. فهذه المتطلبات , الحريات العامة والديمقراطية , وضعت الأسس لانطلاق التطوّر الاقتصادي لدول اوربا . وقد سبق أن قدمت الحملات النابوليونية خدمة كبيرة في هذا المجال بعد أن وجهت , في أواخر القرن الثامن عشر وبداية التاسع عشر ضربة قاضية لنفوذ الكنيسة وأبعدتها عن التدخل الواضح في السياسة العامة للدول وقَصَرَت دورها على التوجيهات الروحية والاهتمام بقضايا الأيمان وتهذيب النفس المسيحية من أدران الشر . وبذلك انطلقت الدول الأوربية على طريق تأسيس الدولة المدنية وفق القوانين الوضعية وما تتطلبه حاجة التطوّر الاقتصادي العاصف الذي أوجدت بداياته الثورة الصناعية في العقود السابقة وبذلك جرى تمهيد الطريق لتوحيد الكثير من الأمارات المتصارعة في دولة واحدة ينتظمها اقتصاد متشابك معتمدٌ على وجود سوق واحدة موحدة تمثلها تلك الدولة وشعبها. وقد صان هذا الواقع وحدة الدول الأوربية باستثناء بعض الهزات السياسية العاصفة والحروب التي أدت إلى إعادة تشكيل بعض دول القارة الأوربية.
ولننظر الآن الى الحالة الاقتصادية التي أحدثها الاحتلال في العراق وقبله النظام الذي كان يقود البلاد وهو النظام الذي صار من المُسَلّم به إنه كان نتاجا للبرنامج الأمريكي في التغلغل الى داخل البلدان التي كانت تدار من قبل بريطانيا قبل الحرب العالمية الثانية والتي عجزت بريطانيا عن الاستمرار في إدارتها بعد أن خرجت منهكة من الحرب فاستعانت بالولايات المتحدة الأمريكية على أمل أن تضمن هذه الاستعانة بعضا من المصالح البريطانية , إلا أن الولايات المتحدة تصرفت بالأمر على أساس الاستحواذ الكامل فصارت تخطط للانقلابات العسكرية والإطاحة بالأنظمة والمجيء ببدائل تكون ممتثلة بالكامل لمصالحها وتوجيهاتها وقد كان النظام في العراق من هذا النوع.
فقد بدأ هذا النظام منذ أواخر السبعينات بإعادة النظر في النمط الاقتصادي للبلاد والعمل على تحويله من القطاع العام الى شكل من القطاع المختلط والخاضع لسيطرة صارمة من قبل راس النظام وحاشيته مما أوجد شكلا اقتصاديا مشوّها وصار تأثير النشاط الاقتصادي يتضاءل في موضوعة شد أجزاء البلاد لبعضها عبر وحدة اقتصادية متكاملة خاصة بعد نشوب الحرب مع إيران , حيث تحوّل اقتصاد البلاد الى الاعتماد على موارد أخرى غير الإنتاج الاعتيادي في المجال الزراعي والصناعي والاستخراجي , موارد جلها من القروض والمساعدات الخليجية والغربية من أجل إدامة الحرب على إيران والحد من نفوذ الثورة الإيرانية على المصالح الحيوية للغرب في منطقة الخليج .. وأعقبت هذه الحرب حربٌ أخرى هي حرب الكويت الأولى والتي عند نهايتها ابتدأ الحصار الذي دام اثنتي عشرة سنة ومنذ بدايته دفعت الولايات المتحدة وسياستها العراق الى وضع تبدو فيه أجزاؤه متفاوتة في تطورها الاقتصادي وحتى التطور في المجال الإداري والاجتماعي والقانوني فقد ابتدأت بتوفير ما أُطلق عليه الملاذ الآمن شمال الخط 36 وهو الأمر الذي كان ظاهره حماية الكرد العراقيين من بطش السلطة ولكننا وجدنا إن جزءا من قيادة الكرد قد استعان في العام 96 بنفس قوات السلطة , التي كان يُخشى من بطشها, وذلك لردع الجزء الآخر من القيادة الكردية والتي كان يمثلها الاتحاد الوطني الكردستاني بقيادة جلال الطالباني. وقد كان للملاذ الآمن جانبٌ آخر شديد الخطورة ولكن على المدى البعيد , إذ إنه مثلما وفر الأمن للكرد العراقيين في منطقة كردستان العراق فقد وفر أيضا الأسس المادية الاقتصادية والاجتماعية والتي ستتحوّل الى عوامل موضوعية لانفصال هذا الملاذ في المستقبل عبر خلق التفاوت في التطوّر الاقتصادي بينه وبين باقي أجزاء العراق خاصة وإن الاحتلال قد دفع وبشكل مخطط له بوضوح الى جعل الوسط والجنوب يغرقان في فوضى لا مثيل لها في مختلف الجوانب الاقتصادية عبر نشر الفساد الإداري وتدمير المشاريع الاقتصادية التي تمتلكها الدولة وهي مشاريع عملاقة وتمثل جزءا كبيرا من ثروة البلاد وكذلك عِبْرَ إعاقة وقوف الاقتصاد على قدميه من خلال تدمير الطاقة الكهربائية والحؤول دون إعادة إعمارها تحت مختلف الذرائع , الأمنية منها والطائفية وفوضى الاقتصاد وجعل الأمر يبدو متسما بالعقم من خلال تقديم المصالح الفئوية والقبلية والكتليّة وغيرها وإبعاد الحاجة للموقف الوطني الذي يحتاجه الجميع لأنه يمثل أفق التطوّر واستتباب الأمن.
وقد جرى دفع التفاوت بين الشمال (كردستان) والوسط والجنوب إلى أبعد مدى, وقد رحّب القوميون الكرد بهذا الأمر وعدّوه وسيلة لتقوية الأمل بتشكيل الدولة الكردية الحلم وصار الجميع في كردستان يتوجّه بالنشاط الاقتصادي إلى كل الاتجاهات عدا اتجاه واحد هو باقي العراق .. لأن دعاة التقسيم أدركوا مدى أهمية الروابط الاقتصادية بين أجزاء العراق في الحفاظ على وحدة أراضيه. فصار من السهل رؤية الفرق في حجم التبادل بين شمال الخط 36 وبين جنوب هذا الخط بالقياس الى حجمه مع تركيا أو إيران وربما تكون العلاقات مع جنوب هذا الخط مقتصرة على الحصول على ال17% من الميزانية الاتحادية وأيضا على المناورة السياسية التي تبقي الصراع بين أطراف الجزء العربي على أشدّه للإبقاء على الشلل الى المدى الذي يمنع المركز من الفاعلية في الحفاظ على وحدة البلاد , وليس هذا حسب , إذ إننا نرى أن هناك تعطيلا متعمدا لإقرار القوانين التي تمنح الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية إيقاعا منتظما يسمح بالتطوّر السريع وهذا يجري تحت يافطة المشاركة في إدارة شؤون البلاد ولكننا لا نجد أية إشارة لما يمكن أن يكون مشاركة من المركز في الشأن الخاص بالإقليم ولو أن البعض يرى , وهو محق , إن المركز لا يمتلك القدرة على المشاركة الايجابية في شؤون الإقليم
كل هذا يجعل, في حال استمراره , من موضوعة وحدة أراضي العراق شيئا أقرب الى اليوتوبيا منه الى الواقع.
في الجانب الآخر كان الإصرار الأمريكي على التعامل مع العراق على إنه سنة وشيعة وكرد سببا في البروز التدريجي للحدود بين أتباع المذاهب والأديان في أجزاء العراق الوسطى والجنوبية , في البداية كانت تنمو الحواجز النفسية والتي شجع على ظهورها الخوف بعد أن صار اللجوء للطائفة والقبيلة من الظواهر الطبيعية طالما لا تتوفر سلطة القانون الحاسمة التي تمنع العنف وتحمي الفرد وبعد ذلك صارت الحواجز واقعية تماما وصارت كل محافظة أو منطقة تتعامل وفق كونها كيانا موحدا طائفيا وقد ساعد على هذا التوجه ذلك الاندفاع والحماس الطائفي للقوى السياسية الدينية ومن مختلف الاتجاهات مما سهّل كثيرا التدخل الخارجي في الشؤون الداخلية وأصبح من الممكن لمن يريد التدخل أن يتدخل كما يشتهي طالما امتلك ما يكفي من المال لإدارة هذا التدخل بعد أن تراجع الإحساس بالوطنية والوطن الى الخلف حتى صار نوعا من الهذر وسمة من سمات الحمقى .. نعم صار بإمكان حائزي المال وخاصة مشايخ النفط أن يتدخلوا في شؤون العراق الداخلية بسبب حمق الكثير من القادة السياسيين الذين وجدوا أنفسهم في واجهة المشهد السياسي دون أن يمتلكوا مقوّمات هذا الوجود
وكلما ازدادت وقائع المواجهات المناطقية والطائفية صارت الأرض مهيأة بصورة أفضل لمزيد من النمو للحواجز النفسيّة التي تحول دون توحيد العراقيين في النشاط اليومي اجتماعيا واقتصاديا وصار من اليسير بلوغ مرحلة الفتح (البايدني) في التقسيم وقد يدلي البعض برأي غريب من قبيل " لندع الأمور تسير باتجاه التقسيم تقسيم الأرض ثمنا للحفاظ على الإنسان , ولكن المرء بإمكانه أن يكتشف الطابع المخادع لهذا الرأي عندما يتذكر أن الكثير مما يمكن أن لا نراه اليوم سيكون بعد التقسيم سببا في القضاء على الآلاف المؤلفة من العراقيين ونكون قد خسرنا الأرض ووحدتها وإنسانها .. وقد يكون حقلٌ صغيرٌ لزراعة الطماطم سببا في قتال من الممكن أن ينشب بين قبيلتين من قوميتين أو دينين أو مذهبين مختلفين , فكيف سيكون الحال لو أن الأمر ليس حقلا للطماطم بل حقلا للغاز أو النفط أو منجما لمعدن ثمين أو نهرا أو ماءا للسقي وكيف إذا كان الأمر متعلقا بمنطقة آثارية أو ربما مساحة من الأرض تشكل موقعا ستراتيجيا للدفاع عن الإقليم السني أو الكردي أو الشيعي ولو تشكلت هذه الأجزاء التي يسمونها أقاليم وهي في حقيقتها دويلات لا حول لها ولا قوة أمام التهديدات الخارجية فما الذي يمنع من انقسامها الى أقاليم أصغر وفق أقليات أخرى وقبائل تطالب بدولتها وأميرها وشيخها.
إن ما يمكن أن يكون عاملا ايجابيا في توحيد العراق ودفع التقسيم عنه هو العامل الاقتصادي أو بالأحرى تحديد ملامح النمط الاقتصادي له . أما النمط الذي يعتمد المبادرة الفردية والقطاع الخاص أي النظام الرأسمالي وبالتالي فإننا سنكتشف أن البرجوازية العراقية والرأسمالية الوطنية العراقية لو تطورت الى الحد الذي يكفي لإدارة هذا النمط الاقتصادي سوف تستقتل من اجل فرض ملامح السوق العراقية الموحدة وبالتالي سوف تسقط أي مشروع للتقسيم.
وأما النمط الذي يعتمد القطاع العام وهذا النمط في الوقت الحاضر وضمن الظروف الدولية الحالية لا يمتلك مقومات قيامه ولكننا من الممكن تحديد الفائدة من سيادته على باقي الأنماط الاقتصادية , ففي القطاع العام من الممكن إقامة المشاريع الكبرى التي تتطلب تمويلا ضخما وهذه المشاريع سوف تحتاج دون شك الى ان تكون السوق العراقية سوقا موحدة ومضمونة لصالح الإنتاج الوطني الذي سيحظى بالحماية القانونية تحت ضوابط محددة وبالتلازم مع توجيه عناية خاصة بقوى الإنتاج ومصالح المنتجين.
ولكن الذي يجري هو بالضد تماما من إمكانية تحقق أحد هذين النمطين؛ فلا القاعدة القانونية والاقتصادية لنشوء الاقتصاد الرأسمالي سُمِحَ لها بالتكوّن ولا سُمِحَ للقطاع العام بانتشال مشاريع الدولة من الخراب وإعادة الحياة اليها بدلا من تحولها مع مرور الوقت إلى أنقاض متداعية لتبرير بيعها بأسعار رمزية بعد ذلك لقطاع خاص سيبيعها بالتأكيد , بسبب ضعف وطنيته , باعتبارها نفايات معدنية أو ما شابه مثلما باع البعض أسلحة العراق ودباباته وكل شيء وقعت أيديهم عليه باعتباره حديد خردة الى دول الجوار وبعض التشكيلات العسكرية التابعة لبعض الأحزاب وخاصة الكردية لتحقق تفوقا عسكريا على المركز.
وقد يكون من المفيد التذكير بأن عملية تخفيض الديون العراقية التي قام بها نادي باريس كان أحد شروطها الالتزام باقتصاد السوق ورغم هذا فإن الواقع الذي تحقق فعلا هو أبعد ما يكون عن اقتصاد السوق وهو بالتأكيد ليس الاقتصاد الموجه .. إنه اقتصاد الفوضى والفساد .. ذلك إن اقتصاد السوق له مفهومان أو وجهتان فإما أن يكون اقتصادا تسرح فيه المصالح الأجنبية وتمرح وتسحق في طريقها أية بذرة لنمو الإنتاج الصناعي والزراعي الوطني وهو ما لم يحظَ بفرصته بسبب الفوضى وغياب الأمن , وإما أن يكون اقتصادا يخضع لمتطلبات السوق عرضا وطلبا ولكن تحت مظلة الحماية التي توفر بيئة صالحة لنمو الإنتاج الوطني ريثما يكون قادرا على منافسة المنتجات الأجنبية وعند ذاك من الممكن التفكير برفع مظلة الحماية عنه .. ولكننا لا نجد أية إشارة إلى إمكانية قيام مثل هذا النظام بسبب تحكم الجهات الدولية بقرارات العراق الاقتصادية استنادا الى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة.
حقيقة مهمة يمكن استخلاصها من تجارب الشعب العراقي وباقي الشعوب مفادها أن هناك قوى تساهم كثيرا في تفتيت أية دولة في حال آلت الأمور إليها وهي القوى القبلية والقوى الدينية المتعصبة وقوى الإقطاع وأخيرا القوى القومية المتشددة، ولكل واحدة من هذه القوى سببها لتحويل البلاد , وخاصة البلاد المتعددة التكوينات , إلى كانتونات معزولة عن بعضها ومستعدّة لإعلان انفصالها.
وفي الجانب الآخر هناك قوى تساهم كثيرا في توحيد بلادها هي تلك القوى التي تستمد مواقفها وسياستها من نمط الاقتصاد وطبيعة قوى الإنتاج وعلاقاته وهذه في العادة قوى البرجوازية الوطنية والتي تعتمد العلاقات الرأسمالية في إدارة الاقتصاد. وأيضا القوى المنتجة من كادحي البلاد عمالا وفلاحين ومثقفين تقدميين وكسبة وهذه القوى تميل الى الاقتصاد الموجه من خلال وجود قطاع عام قوي ونظام قانوني صارم يحفظ للأفراد حقوقهم وللبلاد وحدتها عبر التمسك بوحدة المصالح الطبقية للقوى المنتجة والتي ترتفع وتسمو على المشاعر الفئوية والدينية والطائفية والقبلية. ولكننا لا نرى هذا أو ذاك من قوى التوحيد وبدلا عنها نرى قوى التمزيق تصول وتجول في الشأن اليومي لحياة العراقيين وإدارة بلادهم، ويتحول العراق الى دولة تعتمد استخراج البترول فقط وتعتاش على الريع الذي يأتيها من هذه الصناعة. وفي ظل فساد إداري ومالي وأخلاقي خرافي سيطالب جميع اللصوص بفرصتهم للنهب وقد تتصاعد هذه المطالبات كلما جرى اكتشاف منبع جديد للثروة, نفط أو غاز أو أي معدن ثمين فتتحوّل هذه المطالبات الى مطالبة بإقليم وعندها تصبح الفدرالية غاية المنى ولا بأس بعد ذلك بالتوسّل الى الشأن الديني والمذهبي والقومي، وعندما لا تتوفر الظروف لإتمام هذا المطلب سيبدأ, وقد بدأ فعلا , التلويح بالسلاح والعنف وبإمكان الجميع ملاحظة إيقاع العنف الإرهابي والذي يتناغم تماما مع هدف التقسيم وإضافة الوقود لنار الصراع وإنشاء المزيد من الحواجز النفسية بين الطوائف والأثنيات ويمكن لأي مراقب أن يتلمّس الحماس القطري والتركي والسعودي (بالرغم من خشية آل سعود من تصاعد النفوذ القطري ) وهذه الأطراف لا يمكن اعتبارها متمردة على الإرادة الأمريكية، ويحار المرء في شأنها فإذا اعتبرها وسائل أمريكية للتأثير قيل إنه يفكر بطريقة نظرية المؤامرة وإذا اعتبرها مقطوعة العلاقة مع العم سام اتهم بالسذاجة من البعض, وما على المرء سوى انتظار تصاعد هذا الصراع الغبي وحينها سيرى الجهود الخيّرة للعم سام في إصلاح الأمر عبر وساطات تصب في الهدف النهائي للتقسيم.

هوامش
---------
1)في رباعية الشهيد شمران الياسري توضيح رائع لهذه الحالة وباسلوبه الروائي المميّز



#أسعد_محمد_تقي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- نابوكو و تحرير أوربا عبر تدمير العراق وسوريا
- ويحدّثونك عن الربيع العربي
- الدكتور عبد الخالق حسين بين النوايا الطيبة والموقف من اليسار
- النكتة الأمريكية
- ماذا يحدث ؟
- حول تشكيل الحكومة العراقية الدستوريّة الثانية..آراء وملاحظات
- من سيكون الأقدر على الوصول الى منصب الإدارة... منصب رئيس الو ...


المزيد.....




- لعلها -المرة الأولى بالتاريخ-.. فيديو رفع أذان المغرب بمنزل ...
- مصدر سوري: غارات إسرائيلية على حلب تسفر عن سقوط ضحايا عسكريي ...
- المرصد: ارتفاع حصيلة -الضربات الإسرائيلية- على سوريا إلى 42 ...
- سقوط قتلى وجرحى جرّاء الغارات الجوية الإسرائيلية بالقرب من م ...
- خبراء ألمان: نشر أحادي لقوات في أوكرانيا لن يجعل الناتو طرفا ...
- خبراء روس ينشرون مشاهد لمكونات صاروخ -ستورم شادو- بريطاني فر ...
- كم تستغرق وتكلف إعادة بناء الجسر المنهار في بالتيمور؟
- -بكرة هموت-.. 30 ثانية تشعل السوشيال ميديا وتنتهي بجثة -رحاب ...
- الهنود الحمر ووحش بحيرة شامبلين الغامض!
- مسلمو روسيا يقيمون الصلاة أمام مجمع -كروكوس- على أرواح ضحايا ...


المزيد.....

- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل
- شئ ما عن ألأخلاق / علي عبد الواحد محمد
- تحرير المرأة من منظور علم الثورة البروليتاريّة العالميّة : ا ... / شادي الشماوي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - أسعد محمد تقي - حديث عن التقسيم