أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - همام قباني - الأدب والفلسفة وأشكالهما الفنية















المزيد.....


الأدب والفلسفة وأشكالهما الفنية


همام قباني

الحوار المتمدن-العدد: 4089 - 2013 / 5 / 11 - 08:21
المحور: الادب والفن
    


*عداد وتقديم : هُمام قباني
إن الدارس للأدب الفلسفي والمدقّق في شكله ومضمونه يرى بأنه وصل إلينا عبر أشكال متعددة وأساليب متنوّعة، لابدّ مــن عرضها وإظهار التبادل الدائم بين ما هو فلسفي وما هو أدبي فيها، وهذا طبعاً يُلقي مزيداً من الضوء على عمق العلاقة بين الفلسفة من جهة والأدب من جهة ثانية.
إن الأدب، كما هو معروف، يختصر مجموعة كبيرة من نشاطات الفكر، ويعكس الكثير من جوانب الحياة والوجود، ويــــــنقل المزيد من تصوّرات الإنسان وأفكاره، وذلك عبر صيغ شعرية وملحمية وأسطورية تدخل جميعها في عداد هذا الأدب، وتُشكّل مرحلة تاريخية من مراحل نشوئه وتطوّره، دون أن يعني ذلك أن الشعر أو الفن أصبحا خارجه.
وهذا الأدب يشغل باستمرار أشكالاً وأنواعاً تكوّن مجتمعة خصوصيته كنشاط من أنشطة الفكر الإنساني؛ وتقدّمــــــه كأحد أبرز أشكال التعبير عن الأفكار الفلسفية، بل كأداة بالغة القوة والدلالة على ما في عمق الإنسان من أفكار؛ ولهذا لم يتخذ شكلاً تعبيـراً واحداً ولا طريقة أدائية واحدة، وإنما توزّع على مجموعة متعددة من الأشكال والأنواع من أبرزها: الشعر والمحاورة والرواية والمسرحية وسواها...
1- الشعر:
ذكرنا سابقاً أن الشعر رافق الإنسان منذ فجر التاريخ، وحمّله أفكاره ومشاعره وأحاسيسه منذ زمن بعيد؛ وهو قد سبق الفلسفة وعبّر عن مضمونها قبل أن تبصر النور وتشرق فيها الحياة؛ وظلّ يواكبها منذ نشوئها وتدرّجها وتحوّلها إلى قـــــدر أكبر من الشمول والتجريد، أي حتى بدأت تكوّن فلسفة أو خُطىً أولية في ما غدا فلسفة كاملة بعد حين.
ومما يبين أهمية تلك المواكبة هو أن معظم فلاسفة اليونان – حتى قبل أفلاطون – قد استخدموا الشعر في التعبير عن بعــض أفكارهم الفلسفية، وأحياناً كلها، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر: هيراقليطس، وبرمنيدس وأنباذوقليس وأخيراً هــــوميروس الذي وضع في ملحمتي الألياذة والأوذيسة، الكثير من أفكاره وآرائه الفلسفية... ومثل هؤلاء فعل حكماء الشرق الأوليــــن الذين وضعوا أفكارهم وآراءهم الفلسفية في ملاحم ومنظومات شعرية، ومن ذلك مثلاً ملحمة "جلجاميش" السومرية التي نُظِمَت شعراً في الألف الثاني قبل الميلاد. و"الشهنامة" الفارسية المعروفة بنشيد الفرس البطولي. و"الراجفيدا" التي عبّرت عــــن الأفــــــكار والميثولوجيا الهندية بشكل شعري... وحمل كذلك الشعر العربي، عبر عصوره المختلفة، الكثير مـــــن هموم الفلسفة وقضاياها، وعبّر عن أفكارها ومضامينها، وظلّ يواكبها حتى تحوّلت إلى نوع من التكامل والتجريد. ومـــــــــن هنا جاءت دعوة الفيلسوف الإنكليزي "هوايتهد" إلى ضرورة الالتجاء إلى الشعر للتعبير عن الفلسفة وعن بعض معانيها العميقة. ومما قاله بهذا الشأن: "إن مجرد خلود الشعراء لهو الدليل المادي القاطع على أنهم يعبّرون عن حدس إنساني عميق استطاعت الإنــسانية بمقتضاه أن تنفذ إلى ما في الواقعة الفردية من طابع كلّي شامل".
ومن أنواع الشعر الأوروبي التي حملت الطابع الفلسفي، بعض قصائد الشاعر الفيلسوف "يوهان هولدرلين" التي كانت بمثابة إلهام لعدد كبير من الفلاسفة الغربيين أمثال "نيتشه وهيدغر وسارتر". وقصيدة "البحيرة" للشاعر المفكر "لامـــــــارتين" التي يصوّر فيها محنة الإنسان في وجوده وكينونته القصيرة وفي انخطافه وسرعة زواله من دون أن يحقق ولو القليل من أحلامه وأمانيه. ومما قاله:
أهكذا أبداً تمضي أمانينا **** نطوي الحياة وليلُ الـــــموتِ يطوينا
تجري بنا سُفُن الأعمار ماخرةً **** بحرَ الوُجودِ ولا نُلقي مراسينا...
يا دهرُ قِفْ، فحرامٌ أنْ تَطِير بنا **** مِن قَبلِ أن نَتَـــــــملّى من أمانـــينا
هيهاتِ، هيهاتِ، أن الدَّهرَ يسمعُ لي **** فالوقتُ يُفْلِتُ، والساعاتُ تُفْنِينَا
تاللَّهِ يا ظلمَةَ، الماضي، ويا عَدَماً **** في ليلةِ الأبـــــــديِّ الدَّهرُ يَرمِينَا
ناشدتُكِ اللَّهَ قولي وارحمي وَلَهي **** أتُرْجِعينَ لنــــــا أحـــــلامَ ماضينَا
فيــــــا بُحـــــــــــيرَةَ أيّامِ الصِّبا أبداً **** تَبْقينَ بالـــــدَّهرِ والأيام تُزْرِينَا
يحمل مضمون هذه الأبيات، على قلّتها، الكثير من التساؤلات الفلسفية من مثل: لماذا لا يتوقف زمن أعمارنا؟ لماذا هذه السرعة في زوال حياة الإنسان؟ لماذا تبقى أحلام الناس معلّقة دون تحقيق؟ ألا يستطيع هذا الدهر أن يذكر التعساء وينسى الهانئين؟ ولكن الشاعر لا يرى إلا الحتمية التي تؤكد زوال الأحياء وبقاء الجمادات!!.
وهناك قصيدة "فاوست" للشاعر الألماني المعروف "غوتة – Goeuthe"، التي تبحث أزمة الحضارة الغربية وصراع الإنسان بين الله والشيطان، وأثر العلم والعقل في وجوده ومستقبله، وحاجته إلى الحقيقة دون سواها!
ومما قاله فيها:
"أنا لا أعرف كيف أتحدّث عن الشمس.
ولا عن الأجرام العلوية
وإنما أعرف بني الإنسان
وكيف يعذب بعضهم بعضاً
لم يزل ابن آدم – إله الأرض الصغير –
على طوره القديم لم يتغيّر
وهو اليوم عجيب غريب
كما كان في اليوم الأوّل".
وقد علّق الناقد المعروف "رينيه ويليك" في كتابه "نظرية الأدب" على هذا النوع من الشعر الفلسفي وعلى قضية التداخل بين الشعر والفلسفة فقال: "هل يغدو الشعر أفضل إذا كان فلسفياً بصورة أكبر؟ وهل يمكن أن يحكم على الشعر بحسب قيمة الفلسفية التي يتضمنها أو بحسب الأصالة الفلسفية أو بدرجة تعديله للفكر التقليدي؟ إن التزامل الحقّ بين الفلسفة والشعر إنما يقع حين يوجد شعراء مفكّرون مثل أمباذوقليس في عصر ما قبل سقراط في اليونان أو خلال عصر النهضة حين كتب فيشينو أوجيوردانو شعراً وفلسفة، فلسفة شعرية، وشعراً فلسفياً؛ وأخيراً في ألمانيا عندما كان غوته شاعراً وفيلسوفاً في وقت معاً".
وفي المشرق كما في اليونان وأوروبا تداخلت الفلسفة بالشعر وتفاعلت مع مضمونه؛ ومن يراجع الشعر الحكمي الجاهلي سيجد الكثير من نماذجه التي تشكّل في بعض جوانبها مواقف تكاد تكون فلسفية؛ ومن ذلك مثلاً ما قاله الشاعر الجاهلي "طرفة بن العبد" في الموت الذي يساوي بين جميع الناس بلا استثناء:
أرى قبر نحّامٍ بخيل بماله **** كقبر غويّ في البطالة مفسدِ
أرى الموت يعتامُ الكرام ويصطفي **** عقيلة مال الفاحش المتشدّد
أرى العيش كنزاً ناقصاً كُلّ ليلة **** وما تنقص الأيام والدهر ينفذ
لعمرك أن الموت ما أخطأ الفتى **** لكَالطُّوَلِ المرخى وَثَنياهُ باليدِ
أمر منطقي وحكمة صادقة يقولها الشاعر في أن الموت يساوي بين جميع الناس: العالم، والجاهل، الكريم والبخيل، القوي والضعيف؛ وقطار الزمن سائر لا يتوقف، وأيام عمر الإنسان في تناقص دائم، وكينونته قصيرة مهدّدة بالزوال في أية لحظة، لذا عليه أن يتفرّغ للاستفادة من وجوده القصير إلى أقصى الحدود قبل أن يُجذَبَ بحبل الموت القاطع.
إن هذه الإطلالات الفكرية والفلسفية العميقة تتابعت في البروز والتوسع ولا سيما بعد ظهور الإسلام الذي وقع فيه الأدب وعلى الأخص الشعر، تحت تأثير واقعين كبيرين: واقع الدين الجديد وما يتضمنه من قيم إسلامية جديدة وتعاليم دينية منزلة، وواقع مغاير يريد المحافظة على الفكر القديم وعلى معطياته الخاصة السائدة؛ وهذا ما دفع بالأدباء والشعراء إلى التأمّل والتعمّق والتجريد الذي بدا واضحاً في أشعار الكثير من شعراء العصر الإسلامي ولا سيما في أشعار ابن الفارض وابن عربي وأبي العتاهية وفي الكثير من شعر الصوفية والزند المليء بمثل هذه الإشراقات التي تكاد تشكّل مواقف فلسفية كاملة الظهور. ومن ذلك مثلاً ما قاله ابن الفارض يصف ما يتراءى له من وحدة الوجود في حال الفناء في الذات الإلهية.
فَبِي دَارت الأفلاكُ فأعْجَب لقُطْبها **** المحيط، فإنّ القُطبَ مركزُ نقطةٍ
وكُلُّهم عن سبقِ معنايَ دائرٌ **** بــــــدائرتي، أو واردٌ مـــــــن شريعتي
وروحي للأرواحِ روحٌ وكلُّ ما **** ترى حُسناً في الكون من فيضِ طينتي
ولو لاي لم يوجد وجود، ولم يكن **** شـــهود، ولم تعهد عــــــــهود بذمة
فلا حيُّ إلا عن حياتي حياتَه **** وطـــــــــوعَ مُرادي كـــــل نفس مريدة
فالشاعر هو قطب الكون وسبب الوجود ومصدر كل ما في العالم. وشعوره هذا ينمُّ عن اعتقاده بأن روحه التي هي قبس من الله قد عادت إليه وفنيت فيه حتى جاز أن توصف بكل ما يوصف به هو!.
وهذا أبو العتاهية، الذي اعتكف ينظم الشعر، في مهازل الحياة وخداع الدنيا، وأباطيل المجد؛ ويدعو إلى الاعتبار بحوادث الحياة، ومصائر الرجال، وجبروت الموت، يقول:
كم لابن آدم من لهوٍ ومن لعبٍ **** وللحوادث من شدٍّ وإقدامِ
وكم تخرّمت الأيامُ من بشرٍ **** كانوا ذوي قوة فيها وأجسامِ
يا ساكنَ الدَّارِ تبنيها وتُعمِّرُها **** والدارُ دارُ منيّاتٍ وأسقام
لا تلعبن بك الدنيا وخدعتها **** فكم تلاعبت الـــــدنيا بأقوامِ
يحذّر الشاعر في هذه الأبيات من غرور الدنيا وأباطيلها، وينبّه المرء من عدم الانجراف وراء ملذّاتها، ويذكّره بما كان من أمر غواتها الذين تفانوا في جمع حُطامها ثم خلّفوها ومضوا.
وقد توالت هذه المواقف والإطلالات الفكرية في الظهور عبر قصائد العديد من الشعراء العربية أمثال ابن الرومي وأبي نواس والمتنبي وابن سينا الذي كان أكثرهم بُعْداً وعمقاً فلسفياً عندما أراد أن يضمّن شعره مواقف فلسفية كاملة الشمول؛ وأبي العلاء الذي ضمّن شعره الكثير من المواقف الفلسفية المتنوعة.
إن من يتصفّح شعر ابن الرومي سيعثر على الكثير من المضامين الفلسفية فيه، وسيراه يستخدم أسلوب التعليل، والاستدلال المنطقي في الكثير من أبياته الشعرية؛ ومن ذلك مثلاً ما نظمه في رثاء ولديه حين قال:
بكاؤكما يشفي وإن كان لا يجدي **** فجودا فقد أودى نظير كما عندي...
وأولادُنـــــــــا مثل الجوارحِ أيّها **** فقدناه كــــــــان الفاجع البيِّن الفقد
لكلٍّ مــــــكانٌ لا يسدُّ اختـــــلاله **** مكان أخـــــيه من جزوع ولا جلد
عل العينُ بعد السمعِ تكفي مكانه **** أم السمع بعد العين يهدي كما تهدي؟
يعلل الشاعر بمنطقة الصادق أن البكاء يُشفي وإن كان لا يُجدي، وخسارة الأب لأحد أبنائه كخسارةٍ لجزءٍ عظيم من ذاته. أما الأبناء فلا يمكن لأحد منهم أن يحل بالمنزلة مكان أخيه مهما كان موقعه؛ وأبلغ برهان على ذلك: العين التي لا يمكنها أن تحلّ محل السمع في التنصّت والفهم؛ والسمع الذي لا يمكنه أن يهدي كما تهدي العين، فهذا كلام في غاية السداد والمنطق صاغه الشاعر بألم وحرقة وقلب مجروح.
ونحن لو تقصّينا المستوى الفلسفي والوعي المنطقي في شعر أبي نواس لوجدناه أكثر صقلاً، وأكثر عمقاً، ولبدا لنا المنطق عنده رفيع الشاعرية الرقيقة والإحساس المرهف ولا سيما حين ينشد تائباً إلى ربه الكريم.
يـــــــا رب عظُمَت ذنوبي كثرة **** فلقد علمت بأنّ عفوك أعظم
إن كان لا يَرجوكَ إلا محسنٌ **** فبــــــمَن يلوذُ ويستجيرُ المجرمُ
أدعوك، ربّ، كما أمرتَ تضرُّعاً **** فإذا رددتَ يدي فمن ذا يرحمُ
مـــــــالي إليك وسيلة إلا الرجا **** وجـــــــميل عفوك ثم أنّي مسلمُ
تطرح هذه الأبيات قضية التوبة التي طال الجدل فيها؛ وتبحث في شروطها وصدقها ومدى قبولها. وهي قضية مهمة يجادل بها الشاعر يمنطق سليم وحوار موزون يهدف إلى غاية العفو والصفح، عن ذاته العاصية، من قبل الخالق الرحيم.
ولما طغى، في عصر المتنبي، الاستبداد والاستئثار والاغتصاب، كانت القوة هي الوسيلة إلى السيادة والسيطرة، ولهذا اعتبرها المتنبي مرتكز الخُلُق ولبّ الحياة وجوهر القيم، فكانت لذلك في شعره العنصر الذي التقى عنده الفخر والمدح، فجاءت من ثم أروع حكمه مسلوخة من معنى القوة ومنسوجة من خيوطها ومحبوكة بنولها. ومن شعره فيها:
أينَ فضلي إذا قنعتُ من الدهرِ **** بعيـــــــــشٍ معجّل التنكيدِ
أبداً أقطعُ البلادَ ونجمي **** في نحوسٍ وهمّتــــــــــي في سُعودِ
عِش عزيزاً أو مُتْ وأنت كريمٌ **** بين طعن القنا وخفق البُنودِ
واطلب العِزّ في لظى، ودع الذلّ **** ولو كان في جنانِ الخُلُودِ!
فالعزُّ في مثل الجحيم، أحب إلى الشاعر من الذل لو كان في مثل النعيم.
وكان ابن سينا، هو الآخر، فيلسوفاً شاعراً في بعض أعماله. وقد أراد أن يحمّل بعض شعره موقفاً فلسفياً كاملاً؛ وما قصيدته "العينية"، في خلود النفس وعلاقتها بالبدن، إلا الدليل الساطع على قدرة الشعر في التعبير عن موضوعات فلسفية ودينية بالغة العمق، ولكنها وبسبب التصاقها بالإنسان كانت أكثر تأثيراً من خلال الشعر بالمقارنة مع لغة الفلسفة. فها هو يقول فيها:
هَبطَتْ إليكَ من المحلِّ الأرفعِ **** ورقـــــــــــاءُ ذاتُ تعزُّزٍ وتمـــنُّع
محجوبةٌ عن كُلِّ مقلةِ ناظرٍ **** وهي التي سَفَرت ولم تتبرقَـــــــــــعِ
وصلت على كُرهٍ إليكَ وربما **** كَرِهَتْ فراقكَ وهي ذاتُ تفـــــــجُّعِ
وأظنُّها نسيتْ عهــوداً بالحِمى **** ومــــنازلاً بـــــــفراقها لـــــــم تَقْنعِ
حتى إذا قَرُبَ المسيرُ إلى الحِمى **** ودنا الرحيلُ إلى الفضاء الأوسعِ
سَجَعَتْ وقد كُشِفَ الغطاءُ فأبصرتْ **** ما ليس يُدْرَكُ بالعيون الهُجّع
فـــــكأنّها بـــــــرقٌ تألّقَ بالــــــحِمى **** ثـــــم انطوى فـــكأنّه لم يلمعِ
فالنفس، في هذا الشعر الجميل، تعتبر جوهراً روحياً، انحدرت من العالم العلوي إلى الدنيا، وحلّت في الجسد، وغدت أسيرةَ فيه تتقاذفها أغراضُه وأهواؤه، لكن، كما يظهر، راحتها وسعادتها إنما هما في النجاة من سلطان المادة وفي التسامي نحو العالم العلوي الذي هبطت منه.
ونلاحظ في النهاية أن الجوانب التي تجمع بين الفلسفة والشعر هي كثيرة، ومرافقة لكل زمان ومكان، ولكل شعب وأمّة؛ والاكتفاء ببعض أمثلة يدخل في نطاق المثل القابل للتعميم؛ ولا يمكننا مهما أوردنا من الأمثلة أن نحصر التداخل، بين الفلسفة والأدب، على الشعر وحده وإنما شمل هذا التداخل فروعاً أخرى كانت مهمة في هذا المجال كالمحاورة والرواية والمسرحية؛ ويبالغ بعض النقّاد فيقول أن المسرحية تشكّل في عصرنا الراهن ذروة هذا التداخل بين هذين النشاطين للفكر، وخاصة عندما يكون موضوعها الوجود الإنساني المباشر.
2- المحاورة:
المحاورة هي من الأشكال المهمة والأساليب الناجحة في نقل الفكر الفلسفي وفي حفظه وتخزينه. وقد جرى استخدامها في هذا الموضوع منذ زمن بعيد بسبب ما تحمله من إمكانيات الإيصال البسيطة وطرق الحوار السهلة التي تعتمد في أسلوبها على اللغة اليومية المتصلة بالحوار والجدال والمحادثة والتساؤل..
وبالنظر لدور المحاورة وأهميتها فقد قدّم أفلاطون في كتابيه "الجمهورية، والمحاورات" الكثير من آرائه وأفكاره الفلسفية في شكل محاورات، أدارها بكلّ مهارة على لسان أستاذه سقراط وبقية المحاورين. كما استخدمها، أيضاً، للتعبير عن أفكاره السياسية والميتافيزيقية والأخلاقية حتى باتت لا تُفهم فلسفته من دون الإطلاع على محاوراته.
وقد تواصل استخدام المحاورة كشكل من أشكال الإنتاج الفكري على أيدي بعض الفلاسفة الغربيين كالقس "بركلي" الفيلسوف العقلاني التجريبي الذي نقل إلينا عبر محاوراته إشكالية العلاقة بين الموقف المادي والموقف الروحي. وقد أجرى تلك المحاورة بين شخصين يمثّل كل منهما موقفاً محدداً ورؤية مختلفة فـ"هيلاس" يعبّر عن الرؤية المادية للوجود و"فيلونوس" يعبّر عن الرؤية الروحية لهذا الوجود، وكان كل منهما يحاور الآخر في فكره وتسويق رأيه وإثبات وجهة نظره.
ومن الذين اعتمدوا الشكل الحواري، أيضاً، كأداة للتعبير عن موضوعات الأدب الفلسفي: الفيلسوف الإنجليزي المشهور "دايفيد هيوم" الذي ركّز في كتابه "محاورات حول الدين الطبيعي". على موضوعات العقل والعلم والشكّ والإيمان واليقين، من خلال الحوار الذي أجراه بين شخصيات "فيلون" "كليانشس" و"دميان". وقد تمكّن بهذا الشكل الحواري من إظهار أفكاره وتوصيل آرائه بكل دقة ووضوح.
وفي الفكر العربي الإسلامي، كما في الفكر الغربي، نجد بعض فلاسفة الإسلام، قد اعتمدوا الشكل الحواري في التعبير الأدبي الفلسفي، وبخاصة عند تناولهم لبعض المشكلات الوجودية المهمة التي تتعلّق بموقع الإنسان من العالم، وموقفه بين مسلمات الوحي الإلهي ومقولات العقل وسواها...
ومن أبرز فلاسفة المسلمين الذين مارسوا الشكل الحواري كأسلوب أدبي للتعبير عن أفكارهم الفلسفية "ابن طفيل" الذي تُمثّل قصته المشهورة "حيّ بن يقظان" أعظم عمل حواري فكري جرى بين شخصيتين تُمثل إحداهما العقل البشري، وتمثل الأخرى الوحي الإلهي. "فحيّ الناشىء" كان يرمز إلى العقل الطبيعي بما هو السبيل المؤدي إلى الحقيقة؛ و"إبسال الورع" كان يُمثل الوحي أو الهداية الإلهية التي توصل إلى تلك الحقيقة.
وإن مَنْ يتتبع المؤلفات الأدبية الشرقية والغربية التي تحمل أفكاراً فلسفية سيجد الكثير من نماذجها التي تفيض بالجدل الحواري الذي يؤدي في أحيانٍ كثيرة إلى مواقف فلسفية كاملة الشمول والتجريد...
3- الرواية أو القصة:
والرواية بالرغم من أنها عمل فني مميز يقتضي الانسجام والتماسك والمحافظة على الوحدة الفنية، إلا أنها تعتبر أسلوباً من أساليب الأداء الفكري، وشكلاً ناجحاً من أشكال إيصال الأفكار إلى الناس. والروائي الذكي الناجح هو الذي يوصل إلينا عبر روايته فِكرَهُ، واضحاً وكاملاً، ولكن من غير ان يخلّ بالشروط الفنية للرواية، وإلا بطلت أن تكون رواية أو أدباً فلسفياً.
ونحن لا نشك بأن الرواية قد قدّمت في شكلها العام نقلة نوعية متطورة للفكر الفلسفي، وهذا ما يفسّر لجوء العديد من الفلاسفة والأدباء إلى الأنواع الروائية للتعبير عن أفكارهم الفلسفية؛ ومن ذلك مثلاً رسائل ابن سينا القصصية والرواية المسماة بـ"رسالة الغفران" للمعري، وقصة "حيّ بن يقظان" الحوارية التي ألمحنا إليها سابقاً لابن طفيل. وتعتبر هذه الرواية الأخيرة من أكثر المحاولات الروائية نجاحاً في العصر الوسيط بسبب ما كان يتوفر فيها من شروط الصياغة الفنية والسرد القصصي تخصيصاً؛ ويظهر ذلك بجلاء في محاولة "ابن طفيل" بوعي وبشكل قصصي من خلال تطوره الطبيعي، ودون معرفة مسبقة بالشرائع الدينية أن يبلغ حالة عقلية اجتماعية راقية؛ وأن يصل إلى حقيق الله وإثبات وجوده، وهذا هو سر خاتمة هذه الرواية الحوارية حين يلتقي "حيُّ الناشىء" وحده في جزيرة نائية لم تطأها قدم إنسان مع "إبسال الورع" الذي يمثّل الدين المنزل، فإذا أفكارهما واحدة، والحقيقة عندهما واحدة. وهذا دليل أكيد على جرأة الاعتقاد وعلى التصريح بأن العقل قادر على بلوغ الحقيقة – حقيقة وجود الله – وبأنه يقود فيما لو أُحسِن استخدامه إلى ذات النتائج والحقائق التي يصرّح بها الأنبياء وتحملها الشرائع السماوية.
وفي عصرنا الحديث نجد بعض هذه المواقف الفكرية والفلسفية في أعمال الكثير من الروائيين العرب أمثال: نجيب محفوظ، ومصطفى محمود، وجبرا إبراهيم جبرا، وسهيل إدريس وأمين الرحاني. كما يبدو هذا الموقف أكثر وضوحاً وأكثر إشراقاً في مؤلفات جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وإيليا أبي ماضي وعباس محمود العقّاد وسواهم.
وأما أبلغ من يمثّل الأفكار الفلسفية عن طريق الرواية الحديثة في الغرب فهو الفيلسوف الوجودي "جان بول سارتر" الذي تعتبر رواية "الغثيان" من أوسع رواياته انتشاراً ومن أكثرها كثافة فلسفية؛ وهي بالتالي تعبّر عن الموقف الوجودي الذي استحوذ على كامل كتاباته، وعلى الأخص روايته الضخمة "دروب الحرية" التي أنضجت موقفه الوجودي الذي وُضِعَتْ أسسه الأولية في رواية "الغثيان".
وهذا الموقف الفلسفي الذي نراه كاملاً في عدد من روايات سارتر نراه كذلك في روايات العديد من أدباء الغرب، فهو يكاد يكون كاملاً في روايات "ألبير كامي وديستيوفسكي وتولستوي وتشيكوف وغوركي وهمنغواي وبكت وويلز ولورنس وإبسن وبروست وبلزاك وستندال وكافكا" وسواهم... فهؤلاء كانوا روائيين فلاسفة وإن كانت فلسفاتهم قد بقيت مطوية خلال مجموعة من المواقف البشرية التي عاشتها شخصياتهم الروائية الخالدة.
وأما بعض النقاد المحدثين الذين يستبعدون وجود "الرواية الفلسفية" فإنما يعبّرون بذلك عن فهم خاطىء للفلسفة، وكأن الفلسفة في نظرهم لا يمكن أن تكون إلا مذهباً مركّباً مكتملاً مكتفياً بذاته. ولكن إذا تصوّرنا الفلسفة على أنها مخاطرة روحية يحيا فيها المفكّر ضروباً مختلفة من التجارب الوجودية فإننا لن نجد حرجاً في أن نعبّر عن تلك المخاطرة بأسلوب روائي تنكشف من خلال مواقف الإنسان بإزاء العالم والآخرين. وبينما نجد أن الباحث النظري يحاول أن ينتزع معانيه وأفكاره بطريقة مجرّدة، ويؤلف فيما بينها بشكل عقلي محض نجد أن الروائي يحاول أن يعبّر عنها تعبيراً حياً مشخّصاً، بأن يضعها في سياقها الفردي او الجزئي أو العامي. وتبعاً لذلك فإن الوجوديين يعلّقون أهمية كبرى على "الرواية الميتافيزيقية" بوصفها كشفاً عن الوجود بأسلوب حي مشخّص لا نكاد نجد له نظيراً في أي أسلوب آخر من أساليب التعبير. ولهذا السبب اعتُمِدَت الرواية الفلسفية من قبل العديد من الروائيين الغربيين والروائيين العرب دون أي تأخير أو حرج...
4- المسرحية:
تقدم المسرحية أو الدراما شكلاً آخر من أشكال الفكر الفلسفي، ولكن عبر الأداء البشري المُشخّص الذي يحمل إلينا بواسطة الحركات والأصوات والشخصيات؛ مشكلات ومواقف فلسفية لا تقل أهمية وقدراً عن المشكلات والمواقف التي عرفها الشعر والمحاورة والرواية.
وتبرز أهمية المسرحية، كفنٍّ أدبي من خلال دورها الكبير في تحويل الأفكار إلى بشر، وفي إيصال الموضوعات والمشكلات عبر الأصوات والحركات إلى جمهور كبير من الناس، وبذلك يمكن مشاهدة الفكرة أو المضمون أدبياً كان أم فلسفياً في أشخاص الممثلين. ولكن هذا لا يعني أن كل مسرحية تحمل بالضرورة مضموناً فلسفياً بقدر ما يعني إمكانياتها في التعبير المباشر عن مشكلات فلسفية؛ الأمر الذي شجّع العديد من الفلاسفة على تقديم أفكارهم وآرائهم في مسرحيات فلسفية مشخّصة؛ ومن أبرز هؤلاء "غوتة وسيمون دي بوفوار وألبير كامي وجان بول سارتر" وسواهم؛ فقد تجاوز هؤلاء الكتّاب بعطاءاتهم النص الفلسفي بما فيه من جمود وعقلانية مفرطة إلى الرواية والمسرحية التي تساعد عبر أدواتها المشخّصة على إيضاح الأفكار والمشكلات التي تتعلق بوجود الإنسان وبعلاقاته مع الآخرين. ولما كانت الحقائق الفلسفية تطاول وجود الإنسان، ولما كان الإنسان يتعقّلها وينفعل بها، بحيث تمتزج مدركاته العقلية مع انفعالاته ومشاعره، فإن الفلسفة بالتحديد وَجَدَت في المسرحية وسيلة هامة للتعبير ليس فقط عن الرؤية الفكرية، وإنما عن مجمل الموقف البشري، بما هو عقل وإرادة ومشاعر وأحلام وتأملات. وبسبب هذا الموقع الكبير الذي تحتلّه المسرحية في مجال الأدب الفلسفي فقد قُدِّم الكثير من نماذجها من بينها على سبيل المثال لا الحصر، مسرحية "فاوست" للأديب الغربي المعروف "غوتة" الذي قدم فيها تجربة ثقافية بالغة الغنى في مجال العلم والأدب والفلسفة. مسرحيات "الغثيان، وسجناء ألطونا، والأبواب المغلقة، والذُباب، والدوامة" لسارتر التي يصح اعتبارها نماذج شديدة الأهمية في مجال الأدب الفلسفي. وبعض مسرحيات شكسبير التي نَقَلَت عبر أشخاص الممثلين الكثير من الآراء والأفكار الفلسفية...
وخلاصة القول، فإن الإنسان قد شكّل موضوع العلاقة المتداخلة بين الفلسفة والأدب سواء كان يعبّر عن تمثُّلاته لوجوده إزاء الطبيعة والكون؛ أو يبحث عن ذاتيته بين العقل والمشاعر أو يفتش عن هويته ومصيره وسط تطورات الحضارة والعلم؛ فإنه في كل هذه الحالات إنما كان يربط الفلسفة بالشعر والمحاورة والرواية والمسرحية بروابط وثيقة كانت تظهر أحياناً متداخلة وأحياناً أخرى متفاعلة؛ لكنها وبأية صورة ظهرت كانت تعكس حاجة الفلسفة والأدب لعمليات تبادل وتفاعل وتداخل؛ وخاصة في الوقت الحاضر حيث يظهر الإنسان في صورة مأساة وضحيَّة، ويتلمّس وجوده الضائع ومصيره الغامض وسط العلم ومأزق الحضارة. ولهذا كان للفلسفة تأثير عميق ينساب بصوره مختلفة إلى مضمون الأعمال الأدبية كما إلى شكلها وأنواعها الفنية المتعددة...محبتي .
المصدر:
كتاب جدليّة العلاقة بين الفلسفة والأدب/ للكاتب عبد الرحمن سلوم
ملحمة الشعر الاروبي . / ترجمة علاء الساقي
وبعض من القصائد المختارة لشعراء عرب



#همام_قباني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- الفنان السعودي حسن عسيري يكشف قصة المشهد -الجريء- الذي تسبب ...
- خداع عثمان.. المؤسس عثمان الحلقة 154 لاروزا كاملة مترجمة بجو ...
- سيطرة أبناء الفنانين على مسلسلات رمضان.. -شللية- أم فرص مستح ...
- منارة العلم العالمية.. افتتاح جامع قصبة بجاية -الأعظم- بالجز ...
- فنانون روس يسجلون ألبوما من أغاني مسلم موغامايف تخليدا لضحاي ...
- سمية الخشاب تقاضي رامز جلال (فيديو)
- وزير الثقافة الإيراني: نشر أعمال لمفكرين مسيحيين عن أهل البي ...
- -كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟ ...
- ألف ليلة وليلة: الجذور التاريخية للكتاب الأكثر سحرا في الشرق ...
- رواية -سيرة الرماد- لخديجة مروازي ضمن القائمة القصيرة لجائزة ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - همام قباني - الأدب والفلسفة وأشكالهما الفنية