أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - حسين كركوش - العنف ليس قدر العراقيين ولا مصيرهم الذي لا خلاص منه















المزيد.....



العنف ليس قدر العراقيين ولا مصيرهم الذي لا خلاص منه


حسين كركوش

الحوار المتمدن-العدد: 288 - 2002 / 10 / 26 - 01:51
المحور: اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
    


 / باريس

1

للقاضي عبود الشالجي , رحمة الله عليه ,  كتاب عنوانه( موسوعة العذاب) يقع في  سبع مجلدات , نقل فيه الوانا من  صنوف العذاب تجرع  العراقيون قسما كبيرا منها على امتداد تاريخهم. واستوحى الشالجي فكرة تاليف هذه الموسوعة الرهيبة من وحي هوامش سجلها  عندما حقق كتاب القاضي التنوخي الموسوم ( الفرج بعد الشد. )

واعرف ان ما نقله الشالجي في موسوعة العذاب لا يمكن ايجازه ببعض سطور , واكتفي بنتف عن ممارسات عنف اوردها المحقق في احدى هوامشه :

( تتبع معاوية بن ابي سفيان , عندما استتبت له الامور , عمرو بن الحمق الخزاعي ( من اصحاب الامام علي ) , فاذكى عليه العيون والارصاد ( لانه هرب منه ) , واعتقل امرأته , وحبسها في سجن بدمشق , ثم أمسك بعمرو , فقتله , وقطع رأسه , وأمر احد اعوانه بان يدخل على المرأة في سجنها , وان يضع رأس زوجها في حجرها. وامر هشام بن عبد الملك برأس زيد بن علي بن الحسين , فوضع في حجر زوجته , فقابل عامر بن اسماعيل , قائد الجيش العباسي , ذلك , بان امر بان يوضع رأس مروان الحمار , اخر الحكام الامويين , في حجر ابنته. ولما قتل المنصور محمد بن عبد الله المعروف بالنفس الزكية , بعث برأسه , فوضع بين يدي ابيه. ولما قتل المستعين , امر المعتز , فوضع رأسه بين يدي جاريته التي كان يتحظاها. ولما اعتقل الوزير ابو الحسن الفرات , وولده المحسن , بعث نازوك بعجيب خادمه , فضرب عنق المحسن , وجاء برأسه , فوضعه بين يدي ابيه. واعتقل القاهر كلا من علي بن يلبق , واباه يلبق , ومؤنس المظفر , ودخل القاهر الى موضع اعتقالهم , فذبح علي بن يلبق بحضرته , ووجه برأسه الى ابيه , فلما رآه جزع وبكى بكاء عظيم , ثم ذبح يلبق  , ووجه بالرأسين الى مؤنس , ثم امر القاهر , فجر برجل مؤنس الى البالوعة , وذبح كما تذبح الشاة , والقاهر يراه. ) 

هذه الافعال ( البطولية ) هي , كما قلت , مجرد عينات سنها السابقون وزاد عليها اللاحقون حتى صارت بمرور السنين منهجا مقبولا في حياة الابناء.

فاذا استوت الامور لابنهم صدام ( ِلَََمَ لا نقول هو ابننا ايضا؟  ِلمَ نكابر  ونرفض انتسابه لنا , وهو الذي ظهر منا , ولم يهبط من المريخ ؟  لِمَ لا نقول ان صدام هو ( كعكعة) ُصنعت من ( العجين) العراقي , وليس من عجين اخر ؟ )  اصبحت عبارة ( اطرو اربع وصل ) هي اغنيته التي ينشدها دون ملل. ولم يكتف صدام بالارث البطولي الذي خلفه الاجداد, وانما زاد عليه فاجترح ايات من (البطولة ).  من هذه الايات البطولية  , وهي اكثر من ان تحصى,  واحدة يذكرها حسن العلوي , واخرى يرويها الوزير السابق عبد الكريم فرحان.

فاما التي ذكرها العلوي , فتقول ان صدام والذين معه جاءوا بمرضى انهكهم مرض السل واصبحوا ينتظرون لحظاتهم الاخيرة , وأُِمروا فبصقوا في افواه سجناء في قصر النهاية.

واما التي اوردها الوزير فرحان فتقول ان السجانين في قصر النهاية كانوا يرغمون المساجين الاكثر تدينا هناك, على شرب الخمر , وان بعض رؤوساء الوزارات السابقين , يرغمهم السجانون على الرقص وارتداء ملابس الطراطرة , واجبارهم على هز اردافهم , كما تفعل الراقصات في الملاهي الليلية. وهاتان الحادثتان تبدوان بسيطتين جدا , لو قورنتا بما ارتكبه صدام من حوادث مرعبة تفوق الوصف بحق معارضيه , لكننا نذكرهما للدلالة على انعدام المروؤة والشهامة , بكل المعايير السائدة. 

أرأيتم ابهى واجمل وانصع من هذه الاعمال البطولية. أو ليست هي أمتداد لتلك البطولات التي افتتحنا بها هذه السطور ؟

نفهم ان يتقابل محاربان في ساحات الوغى , فيتقاتلان الى ان تكون الغلبة لاحدهما ويصبح بطلا , فان استسلم  واحد منهما حقن خصمه دمه , واذا استمر مات. ولكن كيف نفهم ان يتبارز سجين مع طليق يملك القوة كلها , ناهيك عن مقاليد البلاد والعباد ؟ فالانسان , حتى لو كان من اعتى جبابرة الارض , يتحول وهو في الأسر الى طفل رضيع , او عصفور داخل قفص. فأين البطولة , بل قل أين المروءة  في الحاق اذى برضيع .

ولكن هذا ما حدث على أيدي الاجداد والأباء والأبناء , ونخشى ما نخشاه انه سيحدث على أيدي الاحفاد في عراق الغد.

وِلمَ لا يحدث ؟

ِلَمَ لا يحدث , ونحن نرفض ان نعيد النظر في تاريخنا وارثنا الثقافي وأسس تربيتنا وعاداتنا وتقاليدنا وذائقتنا الشعرية, وخطابنا السياسي , ولغتنا , نعم لغتنا , ونظرتنا لانفسنا ونظرتنا للاخر المختلف معنا ؟

ِلَمَ لا يحدث ونحن نرفض ان نعري انفسنا ونجلدها جلدا بالسياط , مثلما فعلت قبلنا شعوب الارض , لنعرف هل نحن ( شعب عراقي عظيم ) , ام نحن شعب كبقية الشعوب , لنا مآثرنا العظيمة حقا , مثلما لنا ( رذائلنا الخسيسة , حقا ) ؟

لم لا يحدث ونحن لما نزل حتى الساعة نطرب, أي طرب, للبيت الذي يقول :

وطن تشيده الجماجم والدم / تتهدم الدنيا ولا يتهدم
 
ِلمَ لا يحدث, ونحن نرفض ان ندمر البيت الشعري ونجعله يصبح :

وطن تشيده الجماجم والدم / ( تتقدم الدنيا ولا يتقدم ) ؟

ِلمَ لا يحدث ونحن نردد جميعا باصرار, ان صدام استثناء وليس القاعدة في تاريخنا , وان عبد الرزاق عبد الواحدة ظاهرة غريبة في شعرنا العربي والعراقي , وان تعبير ( اعطوه الف دينار ) استوردناه من الخارج ولم نرثه ؟

ِلمَ لا يحدث ونحن لما نزل حتى الساعة, نؤمن ايمانا قاطعا بمثلنا الشعبي القائل ( الإمام الما يشور يسموه ابو الخرك)؟

يتبع.

2


عبادة القوة وتقديس( البطولة ) , بأحط صنوفها وارذلها , يتعلمها الطفل منا في عائلته. وحتى قبل ان يصل احدنا الفطام , فهو يشاهد أمه تعض سبابتها بنواجذها  ثم تنادي ابنها , إذا عصي امرها : ( والله اكطعك سبع وصل). وعندما يسلم الطفل من عقوبة ( التقطيع ) ويذهب الى الشارع , فان مفردات اقرانه التي يسمعها, لا تختلف كثيرا عن عقوبة التقطيع. فيسمعهم يهددونه , اذا اختلف معهم , ( اشك حلكك , اخلي القندرة بحلكك) , ( أسويك وصلة ما تلاكي وصلة اذا ظفرتك ) , ( ...  اختك على صدرك.)

فاذا دخل المدرسة , اجبرته مناهج التعليم ان يردد ( لاحت رؤوس الحراب ) , ولقنه المربون ان يحفظ عن ظهر قلب :

لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى / حتى يراق على جوانبه الدم

وعندما يدخل سن النضج , فان هذا النضج يقتضي منه ان يقسم , اثناء خدمته العسكرية , ان ( الحراب ) هي شرفه الذي يعتز به اكثر من أي شرف اخر,  رغم ان هذا الشرف او هذه العزة , قد يفقدهما عندما يصبح ( مراسل ) للضابط الذي يأتمر بأمره.

فاذا دخل معترك الحياة , وتقلد مناصب رفيعة في الدولة , فان  طماحه الاكبر هو, ان ( يكطع ) اجساد مواطنيه , وان ( يشك حلوكهم) , وان ( يسويهم سبع وصل) ,حتى ينتقم من ( الابطال ) الذين اذاقوه , او حاولوا ان يذيقوه تلك المآثر البطولية , وحتى يصبح , ايضا , مقبولا في وسطهم ومهيبا في عيونهم ومطاعا من قبلهم.

ومنذ ايام الطفولة والصبا وحتى الكهولة , فان الواحد منا يجد نفسه امام منابر عديدة , كل منبر يصيح به : ( كن بطلا , كن قويا واجعل القوة كعبتك التي تيمم شطرك  نحوها بكرة واصيلا  , خذ الثأر حتى بعد قرن , انصر اخاك وبن عمك وابن محلتك ورفيق حزبك وبن عشيرتك , وسليل طائفتك وقوميتك , انصره ظالما ,  وابصق عليه ضعيفا او مظلوما. )

داخل ( مضيف ) القرية يسمع قصصا عن البدوي الذي أخذ ثأره بعد عشرين سنة , وقال : لقد استعجلت.
 
في شوارع المدينة, يسمع ( المهوال ) السياسي يطالب بممارسة العنف باقصى اشكاله : ( ماكو مؤمراة تصير والحبال موجودة). فيرد عليه ( مهوال ) العشيرة السياسية المضادة بعنف أشد : ( اشرب ماي وانعل فهد , ماكو شيوعي بالبلد ). 

 

في المواكب الحسينية , يردد مع المرددين ( هو اشحصل , جسمه اتفصل , لا عمره ولا مالية) /  هوسة كانت تردد بعد مقتل نوري السعيد وعبد الأله , بالطريقة المعروفة / , ويبهر بصره بريق السيوف المنغرزة في الرؤوس , وتتدرب عيناه , في كل عام وعلى مدى عشرة ايام , على رؤية الدماء التي تسيل من اجساد اللاطمين.  

في المقاهي الشعبية , يسمع الكثير الكثير عن عنترة بن شداد , وعن ( طريقته البطولية) في الاجهاز على الضعيف , اولا ,  كي يرتعب منه القوي , مثلما يستمع لصرخات التحريض التي تتوعده ( أذب عشاك للجلب ) , ان لم تفعل كيت وكيت. 

وفي منتديات النخب الثقافية يسمع الصرخة ذاتها , ولكن شعريا هذه المرة ( خوية , جنت ارضه الجلب يرضع من حليبي – ولا براءة عار متبركع تجيني ) ,  ثم ينشد مع المنشدين ( السيف اصدق انباءا من الكتب ) و ( المجد للسيف ليس المجد للقلم) ,  ويشيح بوجهه مع الشائحين عن , رقة عمر بن  ابي ربيعة, ووداعة ابي نؤاس , ودفقات مظفر النواب الغزلية في ديوانه الِبكر , وزهد ابي العتاهية وشفافية العباس بن الاحنف ودماثة اشعار الشريف الرضي .

وهكذا , تتظافر التربية العائلية , والتربية السياسية , وتقاليد العشيرة , وثقافة المدينة , والموروث الشعبي , والمجتمع  الحضري , والمؤسسة العسكرية , والمناهج التربوية , على صياغة دائرة( بطولية سداها ولحمتها العنف ) , لا تتكسر حلقاتها لشدة الطرق عليها , بل تصبح اكثر استحكاما , و تنغلق  السلسلة على نفسها, ثم تتحول الى كرة ثلج شديدة السواد , يكبر حجمها , كلما تدحرجت أكثر. 
 
انها الدورة الجهنمية  لانتاج البطولة  المشوهة ,وإعادة انتاجها من جديد بطريقة اكثر تشويها
 
وهذه الدورة الجهنمية , وهي دورة حقيقية, تنتج , في نهاية المطاف , ( ابطال ) لا تربطهم بالبطولة , سوى الغرائز البهيمية في احط اصنافها  التي تعميهم من رؤية اي هامش , ولو بسيط , للعفو عند المقدرة او التراجع عند الخطأ , او الندم في لحظة الاسراف, مثلما تنتج أتباعا, هم عبيد خانعين ينتظرون تحريك العصا أو الجزرة , وليست ارادتهم الحرة وقناعتهم الخاصة , ليقوموا بأي فعل.
 
وبطولة كهذه تتنمر على الجميع , ولكنها بطولة جبانة, تخشى الطفل الرضيع ,حتى الطفل الرضيع, إن هو تجرأ وخالفها. وهي بطولة تملي اوامرها على الاضعف منها وتذله أي أذلال, ولكنها لا تتورع ان تفتح حتى مخدعها الزوجي لأي ( بطل ) اقوى منها اذا تيقنت انه يريد بها الأذى.

فقد ظل صدام حسين , وهو عصارة هذه البطولة التاريخية , يهدد ( حتى لا نقول ينفذ بمتعة حقيقية )  ابناء جلدته العراقيين بتقطيعهم ( سبع وصل ) , بينما هو يقبل ان يدخل مفتشو الاسلحة الاجانب الى كل زاوية في العراق , بما في ذلك قصوره الخاصة , أي مخدعه الزوجي , دون ان يرف له جفن ,  ناهيك عن ان يستقيل او يقدم على الانتحار, كأي بطل حقيقي تلحق به اهانة انسانية بالغة.

وقبل صدام , كان الحجاج بن يوسف الثقفي ( قاسيا , متغطرسا على ) العراقيين و( قتل في مدة ولايته الف الف وستمائة الف مسلم , ومات في حبوسه ثمانية عشر الف انسان) , لكنه كان( ذليلا  امام عبد الملك بن مروان , حتى انه كتب اليه مرة قائلا  : ان خليفة الله في ارضه , اكرم من رسوله اليهم). 

وبطولة كهذه لا يمكن ان  تحيا او تتجلى  او  تتجسد في ظل الحوار والنقد , وانما في غيابهما. وهي بطولة  يغذيها التدليس والخداع والتآمر داخل الغرف السرية المغلقة , مثلما تتغذى على الغاء أدمية البشر ,  وسحق تفرد الكائن البشري ,  كفرد , وترويج ثقافة ( القطيع ) التي تعتمد , اول ما تعتمد , على شعار ( بالروح , بالدم نفديك يا ... ) , أو ( أمرنا  يا ... خل تفكنا ( بنادقنا ) يثور) .

وهي بطولة منغلقة على نفسها , معتمدة على نفسها , مكتفية بنفسها , نافية لأية بطولة اخرى سواها , رغم انها تكونت , اصلا , وسط الاخرين وبمساعدتهم , وبصيحات اعجاب منهم. 

وليست صدفة ان يكون الشعار المحبب عند صدام هو, ( الشهداء اكرم منا جميعا).فما دام الانسان موجودا على قيد الحياة , فانه يظل , بالنسبة للبطل , مشروع مضاد لبطولته , قد يتحقق في أية لحظة , ولكن عندما يصبح شهيد ( جثة ) , فان خطره يزول.

وليست صدفة , ايضا , ان يسمح صدام في السنوات الاخيرة بطبع كتب تتحدث عن العائلة المالكة , او خصمه الذي اراد قتله وكاد ان يقتل بسببه , عبد الكريم قاسم , او ان يستقبل رسميا عدوه الاخر , عبد الرحمن عارف , بينما ينفذ صدام عقوبة الاعدام في أي شخص تثبت عليه تهمة الانتماء لاي جهة سياسية ما تزال تعارض حكمه. والسبب في ذلك بسيط , هو ان العائلة المالكة وقاسم اصبحوا في عداد ( الشهداء / الجثث ) الذين لا ينافسونه في بطولته , مثلما تحول عبد الرحمن عارف الى ( جثة سياسية ) لا تنافس احدا على البطولة , فكيف بمنافستها لبطولة صدام.

 لكن الجماعات والافراد الذين  ما يزالون يمارسون نشاطا سياسيا, فانهم ينافسونه في بطولته , اليوم , او غدا.

وعلى صعيد الممارسات اليومية , او الهيئة الجسدية , فالبطل يجب ان يكون ذا هيئة طاووسية , أوداجه منتفخة , ملامحه قاسية , كلامه فيه تكلف كثير , مشيته متبخترة , ووجهه عبوسا , لا تعرف النكتة طريقها  , أبدا ,الى لسانه , وإذا ضحك في محفل عام وبانت نواجذه , ندم ,أي ندم. 

يقال ان صدام أمر صبري ناجي الحديثي , عندما اصبح هذا وزيرا للخارجية , ان يطلق شاربه , وان لا يظل حليق الشارب , مثلما كان قبل استيزاره.  فالشارب , خاصة اذا كان كثا , هو عند صدام من ( عدة الشغل  ) الضرورية لفحولة البطل, والنافية لمظاهر ( الانوثة والميوعة ) , أي في نظر البطل, الخروج عن نمطه هو, نمط بطولته .  وليس من  المسموح به ان  يبتعد الفرد , حتى لو كان تابعا ذليلا او تلميذا مطيعا للبطل , عن مظاهر الفحولة البطولية لسيده او مريده , مهما كانت هذه المظاهر بسيطة او جزئية. 
 
ويتذكر العراقيون الحملة( البطولية ) التي نفذتها قبل ثلاثين عاما, شرطة الاخلاق , نعم الاخلاق , في شوارع بغداد لمكافحة مظاهر( الميوعة) عند الذكور , و(التبرج) عند النساء . فاذا كان الذكر طويل السالفين , قصت له شرطة الاخلاق سالفيه وسط الشارع , واذا كانت الانثى قصيرة الثوب , رشت سيقانها بالاصباغ , امام انظار الجميع.

انه الاصرار على مسخ الانسان الفرد وتدمير أدميته , و ( كسر عينه) , وفقا لمفاهيم البطولة السائدة , ليصبح بعد ذلك ( صفرا ) , لا يضر , ولكنه ينفع , متى ما رغب البطل في ضمه لمجموع الاصفار التي يحتاجها في الحروب التي يشنها  وفي التظاهرات او الاستعراضات التي تقام تمجيدا لبطولته.

وما زالت راسخة في اذهان العراقيين ( حملة ) العمل الشعبي , و ( الحملة ) الترشيقية , وبعدهما ( الحملة ) الايمانية. فالاسلوب التربوي عند البطل يجب ان يتم , بالضرورة , عن طريق ( الحملات ) الجماعية , وليس عن طريق محاورة النخب , او الافراد ,  باسلوب ( اسمع وناقش ) , وانما على طريقة ( اسمع ونفذ). انها ثقافة القطيع.

وما فائدة النقاش , اذا كان المريد أوكل أمره لمرجعية البطل ؟؟؟ ففي عرف البطل , لا توجد مرجعيتان , ناهيك عن عدة مرجعيات متعددة , انما مرجعية واحدة , مرجعيته هو , التي لا يأتيها الخطأ من وراء او من قدام , والتي تعرف وتلم بكل شيء , من  طريقة تنظيف الاسنان حتى علم الذرة , والتي تملك القدرة على قراءة افكار الناس وهم ما يزالون نطفا في الارحام. 

وما تزال طرية في ذاكرة العراقيين تلك الجولات ( التعليمية ) التي كان يقوم بها صدام ل( يعلم ) العراقيين كل شيء, كل شيء, كل شيء.

اما فيما يتعلق بالازياء , فقد حرص صدام ان يعتمر الكوفية مرة , والقبعة مرة ثانية وبزة الجنرال مرة ثالثة وازياء الشباب وملابس الشيوخ ... الخ .


وهذا ليس,  فقط, هوسا او ولعا في حب الظهور , او تقليد الموضة , او اشباع رغبات مكبوتة منذ الطفولة , بقدر ما هو اصرار على ان يكون صدام  ( أب ) للجميع , و ( نائب ) عن الجميع و( ممثل ) للجميع و ( ناطق ) باسم الجميع. ازياء صدام المتنوعة هي رسالة   عملية ل( رعاياه ), كل رعاياه , يستوي فيهم الريفي والحضري والعالم والجاهل والعسكري والمدني , والعربي والكردي مفادها ( انا العراق ,والعراق انا).

وهذا كله من اجل ان يجسد( البطل القائد) الامة باكملها , ومن اجل ان تذوب الامة كلها في كيانه هو , فتصبح الراية الوطنية , رايته الخاصة هو/ والعكس صحيح ايضا/ التي  يتوجب الدفاع عنها حتى القطرة الاخيرة من دم اي واحد من رعاياه. وهذا الدفاع يجب ان يتم , بالضرورة , بطريقة بكماء , خرساء وعمياء.

عرف عن شاعر بروسي مشهور قوله , ( اينما توجهت الراية البروسية , نتوجه وراءها). وكان ذاك الشاعر وفيا لشعاره , إذ قتل وهو يدافع عن الراية البروسية في احد خنادق الحرب العالمية الاولى. وعندي لو ان ذاك الشاعر , طلب منه باسم الدفاع عن الراية , ابادة المئات , فانه لن يتردد. وهذا هو الخراب الروحي الحقيقي.


يتبع.

3

عندما تتمنى  الضحية ( عيشا كريما) لجلادها


في صحيفة عراقية   معارضة تصدر في الخارج ,  خاطب مالك  الصحيفة , صدام حسين بقوله :

( انني لا اريد , كعراقي , ان تكون ذليلا على شاشات التلفزة الامريكية , حين تتمكن قوات المارينز من اسرك , ولا اتمنى , كأي عراقي /  لاحظوا مقدار الثقة في  التعميم في قوله كأي عراقي /  , ان يتشفى البيت الابيض بعرضك امام الشعب الاميركي , مطأطأ الرأس).

 

 

 

 

 

 

 


 

وفي عدد اخر, عاد   الكاتب  نفسه فوجه , عبر صفحات صحيفته , رسالة الى ( سيادة الرئيس صدام حسين المحترم ) , طالب فيها صدام ان يتنحى عن الحكم ,  قائلا له :

 ان هذا الحل ( سيحافظ على حياتك وحياة اسرتك , ويضمن لك عيشا كريما / نعم بالحرف الواحد , عيشا كريما /  في البلد الذي تختاره).

 

 

وفي نفس العدد  ,  هاجم  مالك الصحيفة ذاتها  بقسوة , اولاءك الذين ينتقدونه شخصيا من المعارضين العراقيين , ووصفهم بانهم ( قوادين ).

و ( سيادة الرئيس صدام حسين المحترم ) الذي يخاطبه السيد مالك الصحيفة , هو نفسه الذي شن , كما يعترف  الكاتب نفسه في نفس العدد, ( الحرب على البشر والشجر والجيران والاصدقاء والاحبة والطيور والاهوار والجبال) . والمعروف ان  افعال كهذه تدخل في عداد ( الجرائم ضد الانسانية ) , او ابادة الجنس البشري ( genocide ).

السيد  مالك الصحيفة يكتب هنا , بصفته معارض  لصدام , و  ضحية  من ضحاياه , كما يؤكد.
 
وعلى الارجح , فانه  عندما يعنون رسالته الى ( سيادة الرئيس صدام حسين المحترم ) , فانه يريد ان يسلك ( الاسلوب المتحضر ) في المخاطبة , حتى مع  خصومه السياسيين , او انه يفكر وفق القاعدة القانونية ( المتهم بريء حتى تثبت ادانته) . وهذا امر حسن جدا.  لكن المفارقة هي , ان السيد مالك الصحيفة لا يستخدم نفس ( الاسلوب الحضاري )  , ولا نفس التحفظ القانوني, عندما يخاطب منتقديه , او خصومه , او اعداءه في صفوف المعارضة العراقية , فيصفهم بانهم ( قوادين) , رغم انهم لم يرتكبوا بعد جريمة قتل ( البشر والشجر ... ) , وانما يفكرون مجرد تفكير , قد  يعدلون عنه لاحقا , ب (تدمير العراق), كما يفترض الكاتب في رسالته لصدام.
 
ربما سيقول الكاتب بانه وصف منتقديه او خصومه في المعارضة العراقية بهذا الوصف الشنيع , لانهم هم الذين بدأوا بمهاجمته , او انهم يريدون , من وجهة نظره السياسية الخاصة , الحاق الدمار بالعراق واهل العراق , إذا استلموا مقاليد البلاد غدا.
 
حسنا ,  أواليس صدام , الذي بدأ بشن ( حربه على البشر والشجر) , ألحق هو الاخر, قولا وفعلا, وعلى حد تعبير الكاتب نفسه , الاذى بالعراق , وألحق أذى شخصي بالكاتب , على حد  اعترافه هو, ايضا ؟
 
فلماذا يخاطبه الكاتب ب( سيادة الرئيس المحترم ) , بينما يصف خصومه المعارضين ب( القوادين ) ؟ اليس الاولى ان يترفع عن اطلاق هذه الصفة على جميع خصومه.


ثم ,  كيف يخشى انسان ما , خاصة اذا كان ضحية لجلاد ( شن الحرب على البشر والشجر) , ان تلحق اهانة بهذا الجلاد , أو يتمنى  لهذا الجلاد ( عيشا كريما ) , اولا يريد له ان يكون ( ذليلا , مطأطأ الرأس ) , سواء على ايدي ( قوات المارينز ) , او على ايدي شعبه ؟ 

انه لامر غريب ان تتمنى ضحية لجلادها ان ( يعيش عيشا كريما).

وهو  امر غريب , ايضا , ان تنصح  الضحية جلادها ان يفعل اي شيء , حتى يتجنب ( طأطأة الرأس ) في نهاية عمره.

قبل اكثر من عشرين عاما , وصل لاوربا فتى عراقي لم يبلغ  الخامسة والعشرين بعد  , من العراق لاكمال دراسته. ومرة ُطرحت امامه صورة نشرتها أنذاك منظمة العفو الدولية , لمعارض عراقي ظهرت اثار التعذيب التي تلقاها في مديرية الامن العامة , بادية على ظهره. واُنتظر تعليق الفتى عليها. ولم يتردد لحظة واحدة ان يقول بثقة لا تعرف الشك , بان ( هذا ( ضحية التعذيب ) عراقي خائن للحزب والثورة , فكيف تريدون من الحزب ان يعامله ). 

والان , وبعد كل الذي حدث في العراق , نسمع من عراقيين فروا من العراق , وجاءوا يطلبون اللجوء في البلدان الاوربية , كلاما يحمل اعجابا واضحا بما فعله صدام. فما ان تسترسل في الحديث مع هولاء , وجلهم من الشباب , فانهم يلعنون صدام لعنا , لكنهم يقولون بعفوية فيها من البراءة الشيء الكثير , بان صدام شيد البناية الفلانية , وبنى الجسر الفلاني , وانجز كيت وكيت وكيت , وناطح الاميركيين واهان حكام الخليج , وفتك حتى بصهره , عندما تمرد عليه.   

وعندما يتحدث هولاء عن صدام ,او  نجليه  , او حسن علي المجيد , فانهم يتحدثون عنهم بمهابة وخوف , حتى اذا وصلوا الى عزة الدوري او محي الدين معروف , على سبيل المثال , أغرقوهما بسيل من النكات.

ومن  الصعب اقناع هولاء الناس بان صدام احدث خرابا في العقول والنفوس والارواح , وان الارواح التي خربت , انما هي ارواحهم , هم. فهاهم يلعنون صدام ,  لكنهم , في الوقت نفسه , يكنون  ل(بطولته) اعجابا واضحا.
 
وعندما تتقمص الضحية لبوس جلادها , اوتعجب به , او تتمنى له الخير والعيش الكريم , فان الخراب الاكبر يكون قد حصل. وتكون( البطولة ) , في هذه الحالة , قد وضعت بيوضها المرشحة ان تفرخ ,( ابطال) من نسق وطراز جديدين, في كل منعطف تاريخي قادم, مثلما يكون الزيت قد وضع في عجلة دولاب العذاب,  واصبح جاهزا للدوران من جديد , ليتم قطع رؤوس ضحايا جدد, ووضعها في احضان الاباء والامهات والابناء , وبذلك تزداد من جديد عدد صفحات ( موسوعة العذاب).


يتبع.

4

لكن , هل يعني كل ما قلناه , ان سفك الدماء وقطع الرؤوس , والاستمرار في ممارسة هذه الاعمال ( البطولية ) , هو قدر العراقيين , الذي لا مفر ولا مناص منه , أو ان العراقيين ( يعشقون سفك الدماء) , كما يقول البعض منا , أو من غيرنا ؟

هل يعني , ان ( العنف ) هو صفة بايولوجية عند العراقيين , تمنحها لنا الجينات الوراثية , مثلما تمنح لون البشرة , ولون العينين ؟ 

هل يعني , ان اهل العراق هم قولا وفعلا , (عبيد العصا ), مثلما وصفنا مرة الحجاج بن يوسف الثقفي ؟

بالتاكيد لا. وكل ما يقال عن ( عنف) العراقيين الذي ( يرضعونه مع حليب امهاتهم ) , هو هراء عنصري , ينتجه اصحابه  لتبرير المذابح السابقة التي لحقت بالعراقيين , وربما اللاحقة , ايضا.

العنف , حتى باحط انواعه البهيمية , عرفته مجتمعات العالم كلها , بما في ذلك , بل قبل ذلك , المجتمعات الغربية. واذا نابزنا البعض , على سبيل المثال , بسحل افراد العائلة المالكة في الشوارع( وهو فعل شنيع , حقا), فان عليهم , ايضا , ان يعيروا الغربيين الذين اخرجوا جثث ملوكهم من القبور , ثم قاموا بتعليقها على المشانق وهي عظام , تشفيا وحقدا.


لكن هذه المجتمعات الغربية  هي نفسها التي الغت عقوبة الاعدام , وهي نفسها التي شرعت قوانين حقوق الانسان , وهي نفسها التي يرفع ابنائها الان اصواتهم لمطالبة حكوماتهم بالاعتذار عن الجرائم التي نفذتها دولهم اثناء الحقب الاستعمارية, وهي نفسها التي تنشط فيها حركات مناهضة للعنصرية , وهي نفسها التي تأوي على اراضيها الاف الغرباء المبعدين عن اوطناهم.

والعراق ليس استثناءا , واهل العراق لا يختلفون عن هذه الشعوب , فهم من صنف البشر , على اي حال . والعنف العراقي ( اذا صحت هذه التسمية )  تضافرت على انتاجه اسباب كثيرة , منها التاريخ  والجغرافيا والمناخ : سلالات حاكمة مختلفة , وغزوات خارجية  تاتي عبر الحدود واخرى مضادة , ومجاعات واوبئة وفيضانات جعلت العراقي يبحث عن ( البطولة ) بحثا , من اجل ان يبقى على قيد الحياة , حتى لو كان بقائه سيتم على حساب اقرب الناس اليه.بل ان هذه العوامل التاريخية والجغرافية جعلت العراقي , ربما ( واشدد على مفردة ربما ) يبحث بنفسه عن ( بطل ) قوي , يعينه على مواجهة الكوارث اليومية التي تفتح افواهها  باستمرار لافتراسه.

ويبدو ان العراقيين اذا لم يجدوا ( بطل ) من لحم ودم امامهم على ارض الواقع , فانهم  يلجأون الى التاريخ ليجدوا فيه ضالتهم , واذا لم يسعفهم التاريخ , استنجدوا بالمخيلة لتخلق لهم ( بطل ) يعينهم على مواجهة المحن التي يعيشونها يوميا. 

ولعل الامر من الطرافة السوسيولجية والنفسية , لكنها طرافة تتعلق بموضوعنا , ان نذكر هنا مجموع الالقاب التي اسبغها  عوام الناس في العراق على الامام العباس بن علي بن ابي طالب. فقد اعتاد هولاء الناس , اذا اردوا القسم , ان يصفوا الامام الحسين بقولهم : ( وحق الحسين سيد الشهداء. أو , والحسين سيد شباب اهل الجنة). واذا تعلق الامر باخيه الامام الحسن , فانهم يقولون : ( وحق الحسن كريم اهل البيت). واذا وصلوا لابيهم الامام علي , قالوا ( وحق علي بن ابي طالب داحي باب خيبر ).

لكن , عندما يصل الامر باخيهما العباس , وهو , كما نعرف , لا تربطه , مثل اخويه , صلة نسب  بفاطمة ابنة النبي محمد , فانهم يضفون عليه ألقاب , قد لا يعرفها العباس نفسه. فهم يقولون : ( والعباس قمر بني هاشم. والعباس ابو راس الحار. والعباس ساقي عطاشى كربلاء. والعباس حامل القربة.  والعباس ابن البدوية. والعباس اللي ترهب بيبانه( ابوابه). وابو فضل العباس. ) وقد يقسم  عوام  العراقيين  باغلظ الايمان كذبا , لكنهم لا يمكنهم ان يفعلوا ذلك , اذا طلب منهم ان يقسموا بالامام العباس. واخترعوا له ( خطة العباس) , واذا اراد احدهم ان يؤكد براءته بشكل قاطع , فانه يقول : اجتافاتي ( كتفاي ) للعباس اذا كذبت ( اي , ادع العباس ينزل بي القصاص الذي يريده).

انها محاولة للتشبث ببطولة مضادة والاحتكام اليها , حتى لوكانت هذه البطولة تاريخية او مبالغ فيها, يتدرع بها الناس لمواجهة عجزهم امام ( البطولات الواقعية ) التي تفتك بهم و يتجرعون عذاباتها يوميا , سواء كانت هذه البطولات الواقعية على هيئة حكام طغاة , او طبيعة قاسية ,او  أوبئة مدمرة , او فئات اجتماعية قوية. 

 مرة, بعد انقلاب 8 شباط 1963 بايام , كنت اقف امام ضريح الأمام العباس , وبقربي شيخ يبكي بحرقة ثكلى فجعت باولادها جميعا. وكان الشيخ يهز شباك الضريح  وهو يخاطب الأمام العباس بصوت مسموع : ( يالعباس , ارديك اتفرغص ( اي , تستله  كما  الشعرة من العجين) ابني  اعليوي من ايدين الحرس القومي , وتجيبه الي سالم. ) وعندما يكفكف دموعه يبدأ بالصياح ثانية , طالبا من الأمام العباس ان يمنحه ( مراده) دون تاخير.

واضح ان هذا العراقي المخذول , المظلوم , المُحبَط , العاجز , والذي لا يملك حولا ولا قوة يواجه بهما جبروت ( بطولة معاصرة ) فتكت به وسلبت منه اعز ما يملك , ليست لديه اية وسيلة اخرى  غير ان يلجأ الى بطولة مضادة , هو على يقين , انها قادرة على الوقوف بوجه هذه ( البطولة ) التي الحقت به اذى. وهذا الرجل المظلوم يلوذ بالأمام العباس , لانه على قناعة بان هذا الأمام يملك وحده بطولة خارقة قادرة على الوقوف امام هذه البطولة الدنيوية و بالامكان الاعتماد عليها في تحقيق ما يتمناه.

وعندي , لو ان هذا العراقي المظلوم كان  باستطاعته ان يعبر عن رايه مثلما يريد , او ان يتظاهر علانية ضد سلطة الحكومة او الحرس القومي , او ينشر مطلبه في احدى الصحف , او يستعين بمحام يدافع عن حقه , لكان جرب هذه الوسائل , قبل ان يلجأ الى بطولة تاريخية ,  ممثلة بالأمام العباس , للاستعانة بها.
 
يتبع

5


 ما المطلوب تحقيقه في عراق الغد ؟

تشير كل الدلائل الى ان صدام حسين بدأ منذ الان ( يعد ايامه بملعقة القهوة ). فهو الى الطريق لملاقاة حتفه. وما محاولته الان للبحث عن ( شاهبور بختيار ) عراقي  يجعله رئيسا لحكومة جديدة ( معارضة ) , ويُلقي عليه اوزار ما شهده العراق من كوارث على امتداد ثلاثة وثلاثين عاما , إلا دلالة على ما نقول. ومن يدري , فقد تعاجله القوات الاميركية قبل ان يجد هذا البديل ( الديمقراطي ) , وقد لا تفعل. لكن المهم ان التجربة الصدامية وصلت الى طريق مسدود , لا بد ان تنتهي.

لكن , ما ذا بعد ؟ هذا هو السؤال الاعظم.
 
 
 
انه لسوء حظنا نحن اهل العراق , وربما لحسن حظنا ايضا , ان ندخل الالفية  الثالثة مع حاكم بمواصفات صدام حسين. سوء الحظ مرده الى ان سكان الكرة الارضية , اقله اولاءك الذين يملكون ما نملك من ثروات مادية وبشرية , دخلوا  الالفية الجديدة  وهم يحملون  مفاتيح ثورة الاتصالات العظيمة , وهي ثورة ما تزال واعدة وفي بداية طريقها, بينما دخلنا هذه الالفية و نحن نعتمد على انجازات القرن السابع عشر , ان لم نقل القرن الاول. وبينما يكثر الحديث في ارجاء المعمورة كلها , بهذا القدر او ذاك , حول حقوق الانسان والحريات العامة والتسامح بانواعه والانفتاح على الاخرين , فان صدام حولنا الى فئران بشرية ُتجرى عليها تجارب مختبرية من كل الاصناف.

 اما حسن الحظ فسببه, اننا دخلنا الالفية الثالثة وقد تجرعنا خلال الثلث الاخير من القرن الماضي انواع الغصص على يد صدام حسين. بمعنى ان صدام ونظام حكمه هما زبدة زبدة الظلم الذي عرفناه على امتداد العصور. فقد ولغ صدام في دمائنا , وهتك اعراضنا وخرب ارواحنا , بطرق بز بها جميع الظلمة السابقين الذين تعاقبوا على حكمنا. وبهذا المعنى , فان صدام هو حثالة الحثالة داخل كأس الظلم العراقي, الذي طفح بطريقة لا سابقة لها في تاريخ العراق.

 وفي اللحظة التي نتخلص فيها من نظام صدام حسين , ستكون امامنا فرصة تاريخية , حقا, سيقودنا التفريط بها الى ارتكاب عملية انتحار جماعي , ليس بحق انفسنا , وانما بحق اجيالنا اللاحقة.

انها فرصة فريدة وذهبية, علينا استغلالها من اجل طرح السؤال الاعظم : لماذا حدث ما حدث ؟ وهو سؤال يحمل في ثناياه اسئلة خطيرة اخرى.

كيف استطاع صدام حسين ان يحكم بلدا مثل العراق عرف تاريخيا بنشاطه الديناميكي الفوار وعلى جميع الاصعدة , بقبضة حديدية و لاكثر من ثلث قرن , وبطريقة لا يستطيع الطائر , حتى الطائر , ان يحلق دون موافقة صدام ؟

كيف تسنى لحسن علي المجيد ان يقود جيشا مثل الجيش العراقي , كان جنرالاته يقومون بانقلاباتهم وكانهم يقومون بنزهة على شاطيء دجلة ؟

لماذا تتواجد , ولاول مرة في تاريخ العراق المعاصر , جميع الاحزاب العراقية المعارضة , وبعضها كان على ارض العراق حتى قبل ان يولد صدام,  بكل فيها من قادة وكوادر وقواعد خارج العراق ؟

ألم نردد في مجالسنا الخاصة والعامة , وما نردده صحيحا , بان صدام والحاكمين معه , ليسوا اكثر من عصابة او مجموعة من الزعران ؟ فكيف استطاعت هذه العصابة ان تاخذ شعبا باكمله , باحزابه وعلمائه وجنرالاته وثوراته وحوزاته الدينية , ورؤوساء عشائره , رهينة بيدها ؟

 وعندما تمسك عصابة بتلابيب شعب باكمله , وعلى امتداد ثلث قرن  فلا بد ان يكون هناك خلل جماعي عميق.  فاين يكمن هذا الخلل ؟ ومن المسؤول عنه ؟ واي طريق يسلك عراق الغد  , ليس فقط  من اجل ان لا تتكرر الكارثة الصدامية ثانية , ولكن حتى نبني عراقا جديدا حقا , ربما يشكل ( ولم لا ) قطيعة مع العراق الذي عرفناه ؟

اجوبة هذه الاسئلة تحتاج الى جهود فردية وجماعية , ومساهمات  من قبل الاحزاب السياسية ورجال التربية والمؤسسة العسكرية والمؤسسات الدينية. انها عملية طويلة جدا و صعبة جدا ومعقدة جدا وشاقة جدا جدا جدا. وهي تحتاج الى جهد جماعي يساهم فيه كل سكان العراق.  وهي عملية لن نحصل على ثمارها اذا سلكنا طريق ( عفا الله عما سلف) او طريقة تضميد الجراح بالمسكنات المؤقتة , او الخوف من نشر غسيلنا على الحبال امام الملأ , مثلما لن نحصل على ثمارها اذا تركنا لنزوات الانتقام والثأر ان تنفلت من عقالها.
 
النقد والنقد وحده هو ما نحتاج اليه , النقد الذي يتعدى الجلد وينفذ الى الاعماق , النقد الذي ينكأ الجراح ولا يضمدها, النقد  الذي يجب ان يطال كل شيء , كل شيء , كل شيء.

وهذا النقد لا يتم إلا بوجود مساحة واسعة من الحرية , تكفل حرية التعبير بانواعها , بما في ذلك حرية الصحافة والتاليف والنشر والتظاهر وتكوين الاحزاب وتشكيل  جمعيات المجتمع المدني .

ونحن نرى ان أولى الاوليات الاكثر الحاحا في عراق ما بعد صدام حسين , يجب ان تهتم بالقضايا التالية :

- التاكيد على ان القانون , والقانون وحده ,هو الفيصل الذي يخضع لسطوته العراقيون , جميع العراقيين. وان ترافق ذلك حملة توعية شاملة تجعل كلمة ( القانون ) ك(البسملة ) على افواه الناس.فعندما يسؤل احد الناس , لماذا فعل كذا ولم يفعل كذا , يرد : القانون معي , وانا احتكم اليه. وعندما يطالب الفرد بان يؤدي امرا  يعتقده مخالفا للقوانين , يقول : القانون لا يجبرني على ذلك . وعندما يتخاصم اثنان , فان احدهم يقول للاخر :  سالجأ الى القانون... الخ.

- تفرض عقوبات قانونية صارمة بحق كل من يحاول الحاق الاذى باي شخص متهم بالتعاون مع نظام صدام , حتى لوكان هذا الشخص ارتكب جرائم الارض كلها , فهذا امر تتولاه   السلطات المختصة وحدها وفقا لما يمنحها القانون من صلاحيات.

- يحال صدام حسين واركان حكمه الى محاكم  علنية يتكون اعضائها من قضاة مشهود لهم بالنزاهة وعفة الضمير , ويسمح  لصدام واركان حكمه باختيار ما يشاؤون من المحامين , ويحق لاي جهة قانونية في العالم كله حضور جلسات المحاكمة. وان تنقل وقائع المحاكمات على الهواء مباشرة , ويتم التطرق لجميع الاسرار , اذ لم تعد في العراق  بعد الان اية اسرار , بما في ذلك التي تتعلق بامن الدولة , لانها اصبحت معروفة لمن هب ودب.ولتستمر هذه المحاكمات سنة او سنتين او عشر او مئة. فالعبرة ليست في الانتقام او الثار , وانما   في الاطلاع على جميع ما حدث خلال الثلث الاخير من القرن الماضي. ولتكن محاكمة نظام صدام ,( محاكمة العصر) التي لا مثيل لها , ولتكن ايضا عملية تربوية للاجيال القادمة , اكثر من كونها محاكمة عادية. 

- تخصص احدى القنوات التلفزيونية العراقية , ولتكن , مثلا ,(  قناة الشباب) التي يديرها حاليا عدي بن صدام , لنقل وقائع المحاكمات. وتتخصص القناة , علاوة على ذلك , بتقديم برامج تدور مواضيعها حول مراجعة الحقبة الصدامية : استضافة ضحايا التعذيب , الكشف عن الممارسات التي كان النظام يتبعها في شراء الذمم وتجنيد الناس في اجهزة المخابرات , اعطاء تفاصيل حول عمليات الاغتيال التي نفذها النظام , كشف اسماء النخب السياسية والثقافية العربية والاجنبية التي تورطت بعمليات رشا لغرض دعم النظام , مقارنة التجربة الصدامية بما سبقها في تاريخ العراق ,من قبل مؤرخين متخصصين ... الخ.

- ُتحرَم تحريما باتا وقاطعا كل محاولة لعسكرة المدارس , خاصة الابتدائية منها. ويعهد الى لجان تتالف من تربويين مشهود لهم بالكفاءة , لاعداد مناهج مدرسية تهدف الى غرز مفاهيم تسامحية , وترسم  للناشئة معاني جديدة للبطولة منها , البطل الحقيقي هو الذي يعترف بخطأه امام الجميع ويتراجع عنه, والذي يعفو عند المقدرة , والذي يتنازل عن منصبه  اذا ثبت فشله... الخ.

- تعتذر الدولة العراقية رسميا عن ما لحق بالمهجرين العراقيين , بحجة التبعية لايران ويعاد هولاء الى وطنهم  وسط احتفالات شعبية ورسمية ويعوضون عن كل ما لحق بهم من اضرار.

- تعتذر الدولة العراقية رسميا عن ما لحق بمنطقة كردستان وسكانها ,  وخصوصا قصف حلبجة بالمواد الكيمياوية , وحملة الانقال وغيرها.

- تقام نصب تذكارية لكل ضحايا الاضطهاد و خصوصا لضحايا التهجير وعمليات الانفال وحلبجة , في العاصمة وبقية المدن العراقية.

- تحويل السجون الاستثنائية , كسجن مديرية الامن والمخابرات والرضوانية وغيرها , الى متاحف عامة , على غرار المتاحف الموجودة في بعض البلدان الاوربية المختصة بتاريخ التعذيب وادواته , وتشجيع الناشئة الصغار على القيام بزيارات منظمة مع دليل مرشد , لهذه المتاحف.

- يقلص عدد الجيش العراقي الى حده الادنى , وان لا تتعدى الخدمة الالزامية الستة اشهر.

- تمنع وسائل الاعلام المرئية من تقديم صور رئيس الجمهورية بمناسبة او بدونها , ويفضل ان يتم التركيز في مستهل نشرات الاخبار الداخلية , على اخبار عامة الناس و واعطاء اهمية بارزة لاخبار الفعاليات الفنية والثقافية , وابراز اخبار وفيات الفنانين والمثقفين العراقيين والرياضيين او عند فوزهم بجوائز , قبل ابراز اخبار المسؤولين الحكوميين. 

- يعاقب القانون بشدة كل عراقي استعان بمنصبه الرسمي , او  باية وسيلة غير قانونية لتمرير معاملاته لدى موظفي الدولة , ويتم التشهير بمرتكبي اختلاسات المال العام , وينظر اليهم كمنبوذين لا حياء لهم.

- يسمح لكل من يرغب من العراقيين باستحصال جواز سفر , بدون اي تعقيدات , والغاء رسوم السفر المفروضة الان , ويصبح من حق اي عراقي مغادرة البلاد والعودة اليها , متى ما يشاء , واينما يشاء.

- يسمح لكل عراقي بالحصول على الاشتراك في شبكات الانترنيت , واقتناء صحون لاقطة للاطلاع على اية قناة يرغب بمشاهدتها , والاشتراك في اية صحيفة او دورية غير عراقية , دون تدخل من مقص الرقيب , الا في الحالات القصوى , مع ذكر التبريرات لذلك.

بالطبع , نحن ندرك ان الامور لا تتم معالجتها بعصا سحرية , مثلما ندرك جيدا ان مرحلة ما بعد صدام حسين حبلى بكل انواع المفاجأت , بما في ذلك التي لا تخطر على بال احد ونحن نعرف ان التغيير الذي ننشده لن يتم عن طريق اثارة  ( الفزعة ) او ( النخوة) او( الحمية ) وليس على طريقة ( كلنا اخوان , يا جماعة). وقد تشهد هذه الفترة , خصوصا في ايامها الاولى خروقات فضة , ووقوع ضحايا برئية. وربما  ستجيء  رياح التغيير  , اصلا , بما لا تشتيه سفن الحالمين بعراق جديد مغاير لعراق اليوم. فنحن امام عملية مخاض عسيرة , تنطوي على المزيد من الالام. لكن  قدرالعراقيين , كل العراقيين هو , مواجهة الامور بمسؤولية عالية , وبذهن منفتح , ينظر الى الوراء , لا حبا بما حدث , وانما رغبة في تجاوزه. 

 

.

حسين كركوش / باريس

 24/ 1. / 2..2 


 



#حسين_كركوش (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الخارجية الاميركية تعلم العراقيين اصول الكلام : هزلت ورب الك ...
- حتى لا يتكرر( كرسي الزيات) مرة اخرى


المزيد.....




- السعودية.. 28 شخصا بالعناية المركزة بعد تسمم غذائي والسلطات ...
- مصادر توضح لـCNN ما يبحثه الوفد المصري في إسرائيل بشأن وقف إ ...
- صحيفة: بلينكن يزور إسرائيل لمناقشة اتفاق الرهائن وهجوم رفح
- بخطوات بسيطة.. كيف تحسن صحة قلبك؟
- زرقاء اليمامة: قصة عرّافة جسدتها أول أوبرا سعودية
- دعوات لمسيرة في باريس للإفراج عن مغني راب إيراني يواجه حكما ...
- الصين تستضيف محادثات مصالحة بين حماس وفتح
- شهيدان برصاص الاحتلال في جنين واستمرار الاقتحامات بالضفة
- اليمين الألماني وخطة تهجير ملايين المجنّسين.. التحضيرات بلسا ...
- بعد الجامعات الأميركية.. كيف اتسعت احتجاجات أوروبا ضد حرب إس ...


المزيد.....

- الحزب الشيوعي العراقي.. رسائل وملاحظات / صباح كنجي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية الاعتيادي ل ... / الحزب الشيوعي العراقي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيو ... / الحزب الشيوعي العراقي
- المجتمع العراقي والدولة المركزية : الخيار الصعب والضرورة الت ... / ثامر عباس
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 11 - 11 العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 10 - 11- العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 9 - 11 - العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 7 - 11 / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 6 - 11 العراق في العهد ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 5 - 11 العهد الملكي 3 / كاظم حبيب


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - حسين كركوش - العنف ليس قدر العراقيين ولا مصيرهم الذي لا خلاص منه