أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - مصطفى بلحمر - الطفل و الفلسفة: هل هناك فلسفة قاصرة؟















المزيد.....



الطفل و الفلسفة: هل هناك فلسفة قاصرة؟


مصطفى بلحمر

الحوار المتمدن-العدد: 4068 - 2013 / 4 / 20 - 16:20
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


⃰الطفل و الفلسفة: هل هناك فلسفة قاصرة ؟
مصطفى بلحمر ⃰⃰ ⃰
عندما نعالج مسألة العلاقة بين الطفل و الفلسفة فإننا نكون في واقع الأمر، و خلافا لما يبدو عليه الأمر ظاهريا، أمام مفهومين ملتبسين و بصدد علاقة غريبة: المفهومان ملتبسان لأنهما شكلا منذ تبلورهما مجالا للسجال النظري الواسع دون أن يُحسم أمرهما في النهاية. فمن المعلوم أن الفلسفة تتخذ من تعريف نفسها موضوعا للتفلسف و كل مبتدئ في دراسة هذا الصنف من التفكير يصطدم بالسؤال المعلوم: ما هي الفلسفة؟ و في سعيه إلى الإجابة عنه يقف على التعاريف الفلسفية الكثيرة التي قدمت للفلسفة من طرف الفلاسفة أنفسهم لكنه يقف، كذلك، على واقع الاختلاف و التناقض بين هذه التعاريف و على حقيقة أنها تعكس تصور الفليسوف للفلسفة متخذا من فلسفته الخاصة معيارا و نموذجا أكثر مما تعكس ماهية الفلسفة و جوهرها الذي يتعالى عن التطبيقات العينية للمفهوم...
و الحال مثل تلك عندما يتعلق الأمر بمفهوم الطفولة، لقد أشار فيليب أرييس Philippe Ariès في دراسته المشهورة عن صورة الطفل و الحياة الأسرية في ظل النظام السياسي الفرنسي القديم أن التمييز بين الطفل و الراشد لم يكن حاصلا طوال العصور و الوسطى إذ كان ينظر إلى الطفل على أنه راشد صغير ذلك ما تبينه الرسوم و اللوحات التشكيلية التي شكلت متن البحث حيث نرى الطفل يرتدي نفس لباس الكبار و يجري الحديث عنه كراشد "من حجم صغير"، و أثبتت دراسات أخرى أن مفهوم الطفل كما نتداوله حاليا أي ككائن بشري في سن محددة تسبق المراهقة و ذي شخصية متميزة و مستقلة ، إن هذا المفهوم عن الطفل لا يتجاوز عمره المائة سنة، و حتى عندما تشكل مفهوم الطفولة تدريجيا و لاحقا في الفترة المعاصرة ظل مسرحا لأكبر التناقضات النظرية حيث نجد الباحثين يختلفون في تعريفه كما يختلفون في تحديد المدة الزمنية للفترة العمرية المسماة طفولة و يختلفون، كذلك، في ضبط معايير الانتقال من مرحلة الطفولة إلى ما بعدها، و كذا المعيار المعتمد في تحديد هذا الانتقال أهو نفسي أم جسدي أم عقلي (فالون، وينيكوت، فرويد، بياجي، و غيرهم من علماء نفس النمو/ مشكلة المراحل في علم النفس النمو
Le problème de stades en psychologie du développement)
بل الأدهى من ذلك أنه في كثير من المجتمعات لا يتحدد الانتقال من مرحلة الطفولة إلى المرحلة التي بعدها اعتمادا على السن و إنما بحسب طقوس معينة تعرف في حقل الأنثربولوجيا بطقوس المرور أو الانتقال Les rites de passage أي بعد النجاح في القيام بطقوس معينة كاستظهار متون خاصة أو تأدية رقصات محددة أو القيام بأفعال لصالح القبيلة أو الختان أو الصيام أو ما إلى ذلك.
و من جهة ثانية، ذهب باحثون آخرون إلى أن ما يسمى بالطفل أو الطفولة إنما هي فكرة للراشدين يتداولونها فيما بينهم لتحقيق أهداف سياسية أو إيديولوجية دون أن ترتبط حقيقة بواقع الطفولة، هذا ما جعل، مثلا، باحثا كبرونر Brauner يعلن أن "كتبنا عن الأطفال قد كذبت" و ذلك بعد أن استفاق على البون الشاسع بين واقع الطفل و الدراسات التي أنجزت عنه أو الكتب التي ألفت عن الطفولة.
أما العلاقة بين الطفل و الفلسفة فهي، حقا، علاقة غريبة لأنها تجمع بين متناقضين: من جهة أولى الفيلسوف التي تظهر صورته في المخيال الإنساني العام في شكل شيخ وقور يتحلى بالحكمة و ينزوي في ركن من البيت متأملا و زاهدا عن ملذات الدنيا (لنستحضر لوحة الفيلسوف المتأمل Philosophe en méditation لرامبرانت Rembrandt مثلا) و الطفل الكائن الصغير الحيوي الذي لا يكف عن الحركة و الضحك و اللعب و الشيطنة...
هذه، إذن، بعض الإشكالات المرتبطة بمسألة الطفولة و الفلسفة، و لكن إذا تركناها جانبا و تجاوزناها مؤقتا و سلَّمنا بأننا تَمكَنا من التواضع على تعريفين لكل من الفلسفة و الطفل كأن نقول، مثلا، بأن ما يُراد بالفلسفة، هنا ،إنما هو ذلك التفكير المُميَّز الذي يقوم، من بين ما يقوم عليه، على طرح الإشكالات و المساءلة و النقد و التأمل في قضايا الإنسان و العالم، و أن المُراد بالطفل ذلك الكائن البشري الذي يعيش ما بين الطفولة الصغرى و المراهقة على افتراض أن هذين الحدين قد اتُّفق عليهما، كذلك، فلنا أن نتساءل بعد ذلك: هل هناك فلسفة للطفل؟ أو بعبارة أخرى: هل هناك فلسفة قاصرة؟ Une philosophie mineure على أننا، هنا، لا نُضمِّن مفهوم القصور minorité La أي معنى قدحي، على خلاف الأمر لدى كانط، مثلا، في مقاله المشهور عن الأنوار حيث يعني القصور لديه عجزا عن استخدام المرء لفاهمته (عقله أو ملكة تفكيره) دون مساعدة الآخرين أو ما هو متداول، عموما، من أن القصور هو حالة من الانحطاط و السفالة، إذ نعني به، فقط، مرحلة زمنية معينة و سنا محددا يسبق سن البلوغ La majorité . فنحن، هنا، أقرب إلى التعريف القانوني للقصور الذي يجعل منه: " حالة الشخص الذي لم يصل بعد إلى حالة البلوغ التي تجعله مسؤولا عن أفعاله و مساءلا عنها قانونا". لطالما جرى الربط بين البلوغ La majorité و هو مفهوم قانوني و اجتماعي يشير إلى السن القانوني الذي يصبح الإنسان بمقتضاه متحملا لمسؤولية أفعاله و بين و النضج La maturité و هو مفهوم بيولوجي يصبح الكائن البشري بمقتضاه مكتمل النمو وقادرا على التوالد La reproduction . و صفة الراشد l’adulte التي تشير أكثر إلى نمو ذهني و قدرة على ممارسة التفكير السليم و الحكيم و إصدار الأحكام الصحيحة.
إن الربط بين هذه المفاهيم و المعادَلة بينها (البلوغ = الرشد = النضج) إنما يؤدي، عن وعي أو غير وعي، عن حسن نية أو سوئها، إلى إقصاء الطفل من دائرة التفلسف بدعوى عدم نضجه. و الحال أن الدراسات الإنسانية بمختلف تخصصاتها خاصة السيكوسوسيولوجية و الأنثربولوجية منها تؤكد نسبية هذه المفاهيم و اختلاف تطبيقها من مجتمع لآخر، و من ثقافة لأخرى، و من عصر لعصر آخر . ههنا يغدو التساؤل عن إمكانية وجود فلسفة قاصرة أمرا مشروعا لأن الطفل قد يكون ناضجا للفلسفة حتى قبل سن البلوغ أو الرشد القانوني. و لا شك أن التساؤل عن إمكانية وجود فلسفة قاصرة إنما هو تساؤل عن سن التفلسف L’âge de philosopher و مساءلة للصورة الشائعة عن الفيلسوف الشيخ...
إن السؤال عن إمكانية وجود فلسفة قاصرة هو سؤال ذو وجهين:
 الوجه الأول ذو طبيعة ميتافزيقية عامة تتمثل في التساؤل عن مدى قدرة الطفل على الإبداع الفلسفي و طرح و معالجة الإشكالات الفلسفية، و لِمَ لا إنتاج المذاهب الفلسفية...
 الوجه الثاني ذو طبيعة بيداغوجية أو ديداكتيكية تتمثل في التساؤل عن مدى قابلية الطفل لتعلم الفلسفة...
فيما يتعلق بالوجه الأول الفلسفي العام، لننطلق، بداية، من المسلمة العامة و التي مفادها أن الطفل لا يمكنه أن يتفلسف إلا متى كان قادرا على أن يجد في ذاته أصلا للفلسفة (طبقا للتمييزالذي يقيمه كارل ياسبرز بين نشأة الفلسفة L’avènement de la philosophie وأصلها L’origine de la philosophie ، حيث تشير النشأة إلى حدث تاريخي فريد تحقق في الزمان مرة واحدة في فترة مضبوطة هي القرن السادس قبل الميلاد و في بقعة جغرافية محددة هي ملطية Milet اليونانية، أما الأصل فهو ظاهرة سيكولوجية متجددة قد يعيشها كل إنسان متى كان قادرا على الاندهاش من العالم و وجوده فيه. )
إن الوجه الأول، إذن، لإمكانية وجود فلسفة قاصرة هو أن يندهش الطفل من وجوده و يستفيق من تلك الدهشة عن طريق إعمال الفكر في هذا الوجود و ما يترتب عن ذلك من طرح للأسئلة و سعي للإجابة عنها، فهل يطرح الطفل أسئلة ميتافزيقية تسمح له بالانضمام إلى نادي الكبار من المتفلسفين؟
كلنا يعلم أن الطفل يشرع، فعلا، في مرحلة معينة من نموه في طرح أسئلة تبدو، في ظاهرها على الأقل، فلسفية من قبيل: من أين جئت و إلى أين يذهب الناس عندما يموتون، إلخ و هي أسئلة تلامس قضايا الميتافزيقا من قبيل أصل الوجود و مصير الإنسان. و أن بعض المهتمين بالشأن الفلسفي قد ابتهج بهذا الطرح الطفولي للأسئلة حيث رأى لفين Jacques Lévine في الطفل فيلسوفا بطبعه، و اعتبر كارل ياسبرزK. Jaspers، بابتهاج أقل، أن أسئلة الطفل هي مؤشر على بداية التفلسف. و لكن ما حقيقة هذه الأسئلة؟ ألا تكون حال هؤلاء المبتهجين كحال العامة الذين يعتمدون، على حد تعبير ابن رشد، قياسا ناقصا عندما يقولون: هذا الرجل يدور بالليل فهو سارق مستنتجين نتيجة من مقدمة صغرى متجاهلين المقدمة الكبرى و هي أن كل من يدور بالليل سارق. هل الفلسفة هي، فقط طرح للأسئلة أم الانطلاق من ذلك الطرح صوب الإجابات الفلسفية (الأطروحات ) التي لا تقل أهمية عن الأسئلة، ثم ما حقيقة أسئلة الطفل؟
لنلاحظ أن الفيلسوف إن كان يطرح أسئلة فإنه لا يكتفي بذلك الطرح و إنما يعمد، أيضا، إلى الإجابة عن الأسئلة المطروحة. فإن كانت الأسئلة هي البداية في طريق التفلسف فيتعين المضي في هذه الطريق حتى النهاية، و الحال أن الطفل عند طرحه للأسئلة لا يكلف نفسه عناء البحث عن أجوبة لها بل، الأدهى من ذلك، أنه لا يطرح الأسئلة على نفسه، و هذا شرط كل تفلسف، بل يوجهها إلى غيره من الراشدين (خاصة الوالدان) و سرعان ما يكتفي بأول جواب يقدم له، ثم إنها أسئلة مكررة لا ينفك أي طفل في العالم عن طرحها و بنفس المفردات تقريبا مما يوحي بأنها صادرة عن غريزة الطفل ككائن ينمو لا عن روية و تأمل و اندهاش من الوجود...
و لنلاحظ، ثانية، أن كتب تاريخ الفلسفة، فيما أعلم، لا تحتفظ لنا بأي إسم لفيلسوف طفل تماما كما لا تحتفظ، من جهة ثانية إلا في حالات نادرة جدا، بأسماء لفلاسفة نساء مما قد يعني أن مسألة الطفل و الفلسفة قد تكون مرتبطة، بشكل أو بآخر، بمسألة المرأة و الفلسفة، و أن إشكالية سن التفلسف مرتبطة بإشكالية جنس التفلسف Le sexe du philosopher و أن هذا الإقصاء المزدوج إنما نجم عن ذكورية الصورة التي جرى تداولها عبر العصور و عن نوع من تقسيم الشغل الفكري بحسب السن و الجنس حيث غدا الشغل الفلسفي شأنا جديا لا يليق إلا بالكبار من الرجال.
و لا شك أن شروط حياة الطفل و وضعه الاجتماعي و دوائر تحركه و تفكيره قد تحدد، أيضا، انطلاقا من الصورة التي روجها الكبار عنه و التي نقلتها الثقافة، عامة، و الفلسفة، خاصة عن هذا الكائن الصغير، " فطريقة إدراك الطفل و التفكير فيه و كيفية تعامل الراشدين معه تنعكس و تؤثر على حياته و وضعه" كما ترى ماري جوزيه شومبار دو لو Marie-José Chombart De lauwe ، و أن هذا الصورة المتداولة قد انعكست بشكل مباشر على الإيمان بمدى قدرة الطفل على التفلسف. فما هي الصورة التي نقلتها الفلسفة عن الطفل و الطفولة ؟ و هل سمحت تمثلات الفلاسفة بإمكانية تفلسف الطفل ؟
بداية، لنلاحظ مع هنري ماروHenri-Irénée Marrou أن الفكر اليوناني لم يعبأ كثيرا بالطفل و تربيته و أن انشغاله الرئيس إنما كان منصبا على تربية الكبار. و لم تخرج الفلسفة اليونانية، في عمومها، عن المفهوم التقليدي عن الطفولة، فصورة الطفل عند كل من أفلاطون و أرسطو، هي، على العموم، صورة سلبية. فمرحلة الطفولة هي نوع من الدرجة الصفر في نمو الإنسان و مسلسل انتقاله من كائن طبيعي إلى كائن اجتماعي أو مدني. إذا كان الإنسان حيوان اجتماعي أو مدني، كما تصورته الفلسفة اليونانية، فالطفل هو حيوان فحسب لا يكف عن الضجيج و الحركات الفوضوية، فيما يرى أفلاطون أن الطفل عاجز عن تجاوز المحسوسات و غير قادر على التطلع إلى عالم المعقولات و المُثل، فهو لا يختلف عن الرعاع و العامة ممن بقوا سجناء عالم المادة في كهفهم المظلم. و يذهب أرسطو إلى ن الطفل لا يختلف في شيء عن الحيوان بما أنه يظل سجين الحس و الجسد. و هو غير قادر لا على استعمال العقل و لا على اكتساب الفضيلة و بالتالي السعادة. إن الطفولة هي مرحلة شقاء في الوجود و هي، في حياة الإنسان، تقابل الجزء الراغب من النفس أي الجزء اللاعقلي و المفتقر إلى الاستقرار و الاعتدال...
لم تحِد هذه الصورة السلبية المتعلقة بالطفل و الطفولة عى الفلسفة المسيحية و لا الإسلامية، ففي العصور الوسطى كان القديس أوغسطين Saint Augustin يربط بين الطفولة و اللاكمال و يلصق بالطفل الخطيئة الأصليةLe péché original للبشرية جمعاء... و اعتبر بوسوييه Bossuet أن الطفولة هي الظلام والإثم و الحياة البهيمية...
أما فلاسفة الإسلام، فإن الفئة منهم التي اهتمت بالطفل و تربيته من أمثال الغزالي و ابن سينا و ابن خلدون، إن كانت قد دعت إلى العناية بجسده و، أحيانا، حتى بجانبه النفسي، فإنها لم تخرج عن المنظور التقليدي من جهة اعتبار الطفل قاصرا غير بالغ سن الحِلم و أن ذهنه صفحة بيضاء يمكن أن تنقش فيها المعارف منذ الصغر لكن المعارف المتداولة فحسب من قرءان و شعر و نحو و ما إلى ذلك، حيث يبقي الطفل، عموما، كما العوام مبعدين عن الفلسفة و التفلسف..
لقد استمرت هذه الصورة السلبية عن الطفل حتى بداية الفترة الحديثة حيث نجد فيلسوفا كديكارت ما يزال يرى أن الطفولة هي الخطأ L’erreur و أن الطفل عاجز عن إدراك الحقيقة لأنه غير قادر، بعدُ، على إحكام قيادة عقله أو استعماله الاستعمال الحسن، و كل ما هو متطور لديه إنما هو الحواس...
غير أنه مع حلول القرن السابع عشر و خصوصا القرن الثامن عشر و ابتداء من جان جاك روسو، بالذات، ستبدأ صورة جديدة للطفل و الطفولة في التشكل و التبلور، و هي صورة الطفل الطيب الطبيعي الذي يتوفر على قوى و خصال يتعين استغلالها في تنمية قدراته و تيسير سبل اندماجه في الحياة الاجتماعية، و لكن على الرغم من بعض الإيجابية في هذه الصورة الجديدة فإن روسو و أمثاله ممن تحدثوا عن براءة الطفل و طبيعيته لم يجرءوا على اعتباره كائنا ميتافزيقيا قادرا على التفلسف بذاته..
نستطيع أن نخلص، إجمالا، من هذا العرض السريع و غير الكامل لتطور صورة الطفل لدى الفلاسفة أن هذه الصورة ذات وجهين: وجه يقوم على اعتبار الطفل عاجزا قاصرا غير مؤهل للتفكير المجرد بل وشريرا... و وجه يعتبر الطفل كائنا طبيعيا خيرا و بريئا و لطيفا و بحاجة إلى رعاية... و الوجهان، معا، هما لعملة واحدة هي أن الطفل غير مؤهل لخوض غمار التفلسف، و أن لا مكان لفلسفة قاصرة ، فالوجه الأول من الصورة يقوم على فكرة أن الطفل شيطان l’enfant Diable و الثاني على أنه ملاك L’enfant ange أو مسيح L’enfant Jésus ومعلوم أن الشياطين هم تحت الفلسفة و الملائكة فوقها، و بالتالي فالوجهان يتكاملان و يشكلان صورة الطفل المبعد عن إبداع الفلسفة لأنها، كما نعلم، خاصية إنسانية جديرة بكائن في حالة وسطى بين الشيطان و الملاك، على حد تعبير باسكال ، أو في حالة وسطى بين المعرفة و الجهل على حد تعبير أفلاطون، و هو ما لا ينطبق لا على الشياطين و لا على الملائكة.
لا مجال، إذن ، للبحث عن فلسفة قاصرة في بعدها الأول فإبعاد الطفل عن التفلسف بالمعنى الأول أي بمعنى طرح الإشكالات الفلسفية و معالجتها و إمكانية تأسيس المذاهب الفلسفية هو أمر لا رجعة فيه لأن هناك شبه إجماع على استثناء الطفل من هذه الممارسة الفكرية. و كل ما يتبقى علينا بحثه هو مدى وجود فلسفة قاصرة في البعد التعليمي للمسألة أي هل الطفل قادر على تعلُّم التفلسف، و هو ما سيتم بشكل أو بآخر من خلال تدخل الكبار أو مساعدتهم.
فيما يتعلق بالبعد البيداغوجي لتفلسف الأطفال، الأمر مرتبط بالموقف من مسألة النضج نفسها : هل الطفل له من المؤهلات الذهنية ما يمكنه من تعلم الفلسفة و ممارسة التفلسف في بعده الديداكتيكي؟
لقد طرحت مسألة تعلم التفلسف منذ الفلسفة اليونانية و أشهر من طرحها أفلاطون نفسه ، خاصة في محاورتي جورجياس Gorgias و الجمهورية La république.
يعرض أفلاطون موقفين من تعلم التفلسف أولهما للسوفسطائية و يأتي على لسان كاليكليس و الثاني لأفلاطون نفسه و يأتي، كالعادة، على لسان سقراط. و على الرغم من التباين الكبير بين الموقين فإنهما يلتقيان في منع الطفل من تعلم الفلسفة أو ممارستها.
يرى السوفسطائي كاليكليس Calliclès ( و هو أحد أشهر السوفسطائيين كما هو أحد أشهر شخوص المحاورات الأفلاطونية بعد سقراط طبعا) أن المرء لا يمكن أن يستفيد من الفلسفة و لا أن يتمتع بسحرها ما لم يُقبل عليها في السن المناسبة، فلا يتعين عليه أن يمارسها في سن مبكرة و لا في سن متأخرة و إنما في سن وسطى هي سن المراهقة أو الشباب. ذلك أن إقبال الطفل أو الشيخ على التفلسف أمر معيب و يُعَرِّض صاحبه للسخرية. الشباب وحدهم الجديرون بالتفلسف و الإفادة من الفلسفة في تطوير قدراتهم الفكرية، بقول كاليكليس في محاورة جورجياس مخاطبا سقراط : " إن الفلسفة يا سقراط، بدون شك، لا تخلو من سحر إذا خصص المرء حياته لها باعتدال في الشباب و لكن إذا ما أخرنا اشتغالنا بها عما ينبغي، كان الأمر كارثة، و إذا ما كان هناك شخص موهوب استمر في التفلسف حتى سن النضج فيستحيل ألا يصير غريبا عن الأشياء التي ينبغي أن يعرفها ليصير إنسانا مهذبا محترما" .
يتعين على الطفل كما على الكبير في السن ألا يُمارسا الفلسفة و إلا صارا كائنين مضحكين متهتهين، و حتى الشباب و المراهقون يتعين عليهم أن يتعاطوا للفلسفة بمقدار، يقول كاليكليس: " إن الفلسفة حسنة إذا أخذنا منها ما ينفع في التعليم، و ليس من عار إذا ما تفلسف الإنسان و هو شاب، و لكن المرء الناضج يأتي شيئا مضحكا يا سقراط إذا ما استمر في التفلسف، و أشعر من ناحيتي إزاء هؤلاء الذين يفعلون ذلك بما أشعر به حيال رجل يُتَهتِه و يلعب كالطفل. و عندما أرى طفلا يُتهتِه و يلعب بحكم سنه، فإني أُفتَن به و أراه فاتنا، و يتفق تماما مع طفولة إنسان حر، بينما إذا استمعت إلى طفل يعبر عن نفسه بوضوح فإن ذلك يحزنني و يصدم أذني و يبدو لي أن فيه شيئا من الامتهان، و لكن إذا استمعنا إلى رجل كامل يُتَهتِه على هذا النحو، و إذا رأيناه يلعب، فإن ذلك يبدو مضحكا و غير جدير بأن يكون إنسانا و يستحق الجَلد.
ذلك بالضبط هو شعوري نحو الفلاسفة، فعندما يكون المرء شابا أتذوق الفلسفة لديه، و تكون في مكانها، و تدل على طبيعة إنسان حر، ويلوح لي الشاب الذي لا يتعاطاها ذا نفس غير حرة، و عاجزة دائما عن أن تسمو إلى شيء نبيل و جميل، و لكني أقول لنفسي يا سقراط عن الرجل الكهل الذي يرى أن يمضي في الفلسفة دون توقف: إن ذلك الرجل جدير بالجَلد."
الجديد في موقف كاليكليس هو إبعاد الفلسفة عن الكبار و الشيوخ و النزول بسنها إلى مرحلة المراهقة و الشباب أما، فيما يتعلق بالطفل، فالصورة نمطية: بتعين على الطفل أن يتهته و يلعب بعيدا عن كل سعي إلى التفلسف، ففي ذلك، فقط، تكمن ماهيته و يغدو إنسانا حرا ذا فتنة...
أما أفلاطون فلا يحبذ، على ما يبدو، تعلم الأطفال الفلسفة و ذلك على الرغم من أنه يرى أن الفلسفة ضرورية للإنسان في كل سن من حياته بما أنها تعبر عن ماهيته المتمثلة في التفكير و التعقل غير أنه يرى، كذلك، أن احتكاك الإنسان بالمادي و المحسوس حتم عليه نوعا من التربية الصارمة حتى يعانق مجددا عالم المعقولات، و في هذا النظام التربوي الذي يعرضه الفيلسوف اليوناني الكبير في محاورة الجمهورية نراه يؤخر إمكانية التفلسف إلى ما بعد سن الثلاثين لعموم الناس، و إلى الخمسين للحكام الفلاسفة و ذلك بعد أن يكونوا قد تلقوا كافة العلوم. يقول أفلاطون في الكتاب السابع من الجمهورية: " فإذا شئت ألا نشفق على من اخترتهم من الشبان الذين بلغوا سن الثلاثين، فمن الواجب اتخاذ كل الاحتياطات الممكنة، قبل أن نجعلهم يفرغون للديالكتيك.... و من أهم الاحتياطات أن تمنعهم من ممارسة الديالكتيك و هم لا يزالون في حداثتهم، و لعلك لاحظت من قبل أن المراهقين الذين تذوقوا الديالكتيك لأول مرة يسيئون استعماله، و يتخذونه ملهاة، و لا يستخدمونه إلا للمغالطة، فإذا ما قام أحدهم بتفنيد حججهم، فإنهم يحاكونه و يفندون حجج الآخرين على نفس النحو، شأنهم في ذلك شأن الجرو الذي يجد لذة في جذب كل من يقترب منه و تمزيق ملابسه".
و مهما يكن، فإن الموقف الأفلاطوني من المسألة لا يخلو من اضطراب و التباس، خاصة إذا لاحظنا في بعض المحاورات أن سقراط شخصية أفلاطون الرئيسة لا يتردد في محاورة الأطفال و ذلك من أمثال ليزيس Lysis، و مينون Ménon ، و خرميدس Charmide ، و منيكسين Ménéxène، و غيرهم. فعلى سبيل المثال لا يبدو أن سن ليزيس بطل المحاورة الأفلاطونية عن الصداقة التي تحمل إسمه، تتجاوز الإثني عشر ربيعا بل المرجح أنها تقل عن ذلك لأن أطوار هذه المحاورة تجري في قاعة للرياضة البدنية أو المصارعة للأطفال بين سن العاشرة و الثانية عشرة Palestre و أن سقراط يخاطب ليزيس بعبارة Pais التي تعني طفل أو حتى بعبارة Paidikos التي تعني طفلا صغيرا لا بعبارة Neanikoi التي تعني شابا...
و لا يبتعد موقف أرسطو كثيرا عن الموقف الأفلاطوني فهو يؤخر إمكانية تعلم الفلسفة إلى سن متقدمة. إن ما ينبغي أن يتعلمه المرء في الصغر ليس الفلسفة و إنما الشجاعة ثم باقي العلوم الضرورية كتمهيد لممارسة الجدل الفلسفي. و لم يعبأ الفيلسوف الاسطاجيري كثيرا بتعليم الفلسفة لنيقوماخوس و إنما ركز تعليمه على القيم العملية...
و يسير على هذا النحو الرافض لتعلم الفلسفة من طرف الأطفال جل الفلسفة الكبار عبر تاريخ الفلسفة، غير أننا نجد في هذا التاريخ مواقف متميزة أشهرها موقف أبيقور Epicure الذي يرد في رسالته المشهورة إلى منيسي lettre à Ménécée التي يشرح فيها إلى مُراسِلِه كيف أن السعادة ممكنة التحقيق متى أدرك الإنسان حقيقة وجود الإنسان و العالم، و خلص النفس من الاضطراب و الهواجس التي تكدر صفوها. و الفلسفة هي الطريق لبلوغ السعادة و لا يوجد سن خاص للإقبال على التفلسف فلا ينبغي تأخير ذلك بدعوى صغر سننا و لا الكف عن التفلسف عند الكير بدعوى الشيخوخة. ففي الفلسفة صحة الروح و يتعين علينا أن نطلبها كما الفلسفة طوال العمر لأن الصغار ينضجون بالتفلسف و الكبار يحافظون على توقد الذهن و يتخلصون من كل أسى و أسف. الفلسفة عند أبيقور ممارسة و طريق لبلوغ السعادة لذا فهي مطلوبة في كل وقت وحين... لا يحسم أبيقور في سن التفلسف بل يجعلها ممتدة على العمر كله و لا يختص بالفلسفة فئة من الناس كما هي الحال عند السوفسطائية (الأغنياء)، مثلا، أو أفلاطون (الحكام الفلاسفة) أو أرسطو (العلماء) أو ابن رشد (أهل البرهان) أو كوندورسي (الأمراء )، بل يجعلها شأنا عاما للجميع...
و يمكن تصنيف موقف كوندياك Condillac Etienne Bonnot de ضمن الفلاسفة الداعين إلى النزول بالفلسفة إلى سن الطفولة، لكن دعوته هذه لا تخلو من طابع نخبوي، فهو يرى: " إن تعليم التعقل/الحكمة لأمير لا يكون مبكرا أبدا، لكن يتعين انتظار السن المناسبة لتعليم ابن بورجوازي الفلسفة، أما ابن الفلاح أو المرأة فالأمر دائما مبكر جدا على تعليمهما هذا الصنف من التفكير"
غير أن الفيلسوف الفرنسي ميشيل دي مونتين Montaigne ربما كان أوضح فيلسوف دعا إلى تعلم الفلسفة من قبل الأطفال و تعليمهم لهذا الصنف من التفكير البشري. ففي أبحاثه Les essais، خاصة الأبحاث عن تربية الأطفال De l’institution des enfants يعترض مونتين على أولئك الذين يرون أن الأطفال لا يستطيعون التفلسف و ينعتهم بالخطأ في الحكم، و يرى، من جهة أولى، أن الأطفال قادرون على تعلم الفلسفة و ، من جهة ثانية، أن الفلسفة ضرورية في تربية الأطفال . فإذا كانت غاية التربية إعداد الأطفال للحياة فالفلسفة هي السبيل إلى هذا الإعداد، و حيث إنه لا توجد سن محددة للشروع في تعلم العيش بل الأمر يتعلق بالعمر كله فكذلك الشأن بالنسبة لتعلم التفلسف، فهو خاصية إنسانية من الصغر و حتى الكبر. إن الفلسفة جديرة بتعليم الأطفال الحذر اللازم لحياة سليمة و تقيهم من كثير من الصعوبات و المشاكل، على أن مونتين يرى أن ثمة مجالات في الفلسفة لا تلائم الأطفال (الجدل مثلا) كما أن هناك مجالات بسيطة مفيدة لهم. لذا يتعين اختيار ما هو مناسب من مواضيع و نصوص ليتلقنها الأطفال تبعا لسنهم. و لا ينحصر تعلم الفلسفة من قبل الأطفال لدى مونتين على القراءة فحسب، بل يتعداه إلى الكتابة، أيضا.
غير أن دعوات هولاء الفلاسفة ظلت مجرد دعوات لم يتبعها سعي حقيقي إلى فتح باب تعلم الفلسفة أمام الأطفال، و كان علينا انتظار القرن العشرين لنشهد بداية النضال من أجل النزول بسن تعلم الفلسفة إلى ما قبل المراهقة أو ما قبل السنة الثانية باكلوريا. و كان علينا انتظار تطور العلوم الإنسانية و خاصة منها الدراسات السيكوسوسيولوجية التي أبانت عن أن الطفل كائن ذو شخصية متميزة و قادر، في سن مبكرة، على التفكير المجرد و التفكير النقدي. و زيادة الوعي بحقوق الطفل بما فيها حقه في التفكير الحر و التعبير المستقل، و لكن، أيضا، و هذه من المفارقات، كان علينا انتظار الهجوم على الفلسفة لتبلور حركة احتجاجية واسعة ضد السياسة الإقصائية للأطفال من تعلم التفلسف و قد كانت فرنسا، على الخصوص، مسرحا لهذا النضال إذا تشكلت هناك مجموعة للدفاع عن تعلم الفلسفة و توسيع نطاق تدريسها و عملت على تقويض الحجج التي استند عليها دعاة الإقصاء و هذه الحركة مشهورة باسم الكريف GREPH الذي هو اختصار لمجموعة الأبحاث في تعليم الفلسفة Groupe de recherches sur l’enseignement de la philosophie .
تأسست مجموعة الكريف سنة 1974 برئاسة الفيلسوف جاك دريدا و ضمت عددا من الفلاسفة أشهرهم فلادمير جانكلفيتش، و التحق بصفوفها جل الباحثين في الفلسفة و مدرسيها بالجامعة و الثانوي و شارك في ندواتها فلاسفة كبار من أشهرهم بروني R. Brunet و دوزانتي Jean-Toussaint Desanti و شاتلي François Chatelet و دولوز Gilles Deleuze و كولومبيل Jeannette Colombel و غيرهم. و قد تقوت الحركة عندما تحولت إلى جبهة لمقاومة الإصلاحات التي أعلن عنها وزير التربية الفرنسي المشهور روني أبي René Haby و التي كان من بين أهدافها الرئيسة إقصاء الفلسفة من التعليم الثانوي التأهيلي.
المسيو هابي شغل وزيرا للتربية الوطنية في حكومة جاك شيراك و حكومتي ريمون بار الأولى و الثانية و ذلك ما بين 28 ماي 1974 و 5 أبريل 1978، و كان الرئيس الفرنسي، آنذاك فالري جيسكار ديستانغ Valéry Giscard D’estaing 1974/1981 يتحدث عنه كخبير و تقني في البيداغوجيا. أصدر المسيو هابي سنة 1975 إصلاحا عرف طريقه إلى التصديق سنة 1977، يتمركز هذا الإصلاح على فكرة نظام الإعدادية الوحيدة Collège unique و بالتالي توحيد التخصصات و المسالك، و يقوم، فيما يخص الفلسفة، على إدراجها في السنة الأولى ثانوي بمعدل 3 ساعات أسبوعية، لكنه يجعل تعلمها قي القسم النهائي للباكلوريا أمرا اختياريا optionnel... لقد نزل هذا القرار كالصاعقة على المشتغلين بتعليم و تعلم الفلسفة إذ نجم عنه تقليص كبير في حصص تدريسها و تجميد لتوظيف مدرسي المادة لسنوات. لقد ثارت ثائرة مدرسي الفلسفة و انتفضوا ضد الإصلاحات و أجمعوا على رفضها. لم يكتف المدرسون برفض الإصلاحات ولا بعقد جموع استثنائية عامة لمناقشة الأزمة الطارئةétats généraux بل فتحوا نقاشا واسعا حول تدريس الفلسفة و ضرورة توسيعه عموديا و أفقيا... و قد وجهت الكريف GREPH سهام النقد إلى الحجج التي تذرع بها المعارضون لتوسيع نطاق تدريس الفلسفة و على رأسها حجة النضج للتفلسف. لقد بين جاك دريدا Jacques Derrida أن هناك حقا لممارسة الفلسفة un droit à la philosophie، و هو حق لا يمكن بحال من الأحوال حرمان الأطفال منه، و أن فكرة عدم نضج الأطفال هي فكرة ذات خلفية فلسفية طبيعوية naturaliste متجاوزة و ذات محرك إيديولوجي سياسوي.
لقد أدت ردة الفعل القوية هذه إلى تخلي السيد هابي عن الجانب المتعلق بالفلسفة من إصلاحاته على الرغم من بعض المواقف المؤيدة له صراحة أو ضمنا، و مكنت لاحقا من النزول بتدريس الفلسفة إلى ما قبل السنة النهائية للباكلوريا، و لكنها، مع ذلك، لم تنزل بذلك التعليم إلى المرحلة الابتدائية مرحلة الطفولة بامتياز. إن هذه الثورة، ثورة تدريس الفلسفة للأطفال، و خلافا لكل التوقعات لم تتحقق في فرنسا و إنما في الولايات المتحدة الأمريكية باسم تيار الفلسفة للأطفال: PPE
ظهر تيار الفلسفة للأطفال PPE (philosophie pour enfants)، أول مرة في الولايات المتحدة الأمريكية على يد ماتيو ليبمان Matthew Lipman لينتشر بعد ذلك في باقي ربوع العالم خاصة في كندا ( خصوصا بجامعة لافال و تحت إشراف ميشيل ساسفيل ) Michel Sasseville) و فرنسا )مع ميشيل توزيMichel Tozzi و أوسكار برنيفيي Oscar Brénifier ، جاك لفين Jacques Lévine خاصة) .
ماتيو ليبمان فيلسوف أمريكي معاصر، عمل أستاذا للمنطق بجامعة كولومبيا Columbia University ، أصبح منذ سنة 1969 يتخذ مسافة نقدية من ممارسته التعليمية فلاحظ أن فكر الطلبة، عندما يلجون الجامعة، يكون قد تشكل و لم يعد بالإمكان تعديله أو تطويره، و من ثم آمن بضرورة الاشتغال في مستويات أدنى (المرحلة الابتدائية و الثانوية) لتعويد التلاميذ التفكير المستقل و النقدي و إعدادهم الإعداد الجيد لولوج الجامعة. هكذا وضع ليبمان برنامجا لتدريس الفلسفة للأطفال كما أسس معهدا لدعم و تطوير هده البيداغوجيا الجديدة (Institut pour l avancement de philosophie pour enfants المعروف اختصارا IAPC )، يتكون برنامج ليبمان، كما تقدمه ماري فرانس دانييل، من سبع قصص Romans من تأليفه، تتوزع مواضيعها على النحو التالي:
 قصة Elfie للأطفال ما بين الخامسة و السادسة من العمر، و تدور حول مسألة التكيف مع العالم المدرسي.
 قصة Kio and Gus للأطفال ما بين السادسة و الثامنة من العمر، و تشكل مدخلا لعلمي الحيوان Zoologie و البيئة Ecologie، و تروم تعويد التلاميذ قواعد و مبادئ المنطق من تصنيف Classification، و هوية identification، و تشكُل مفاهيم formation de concepts، و أمثَلة Exemplification، و برهان Raisonnement.
 قصة Pixie للأطفال ما بين الثامنة و العاشرة و هي تواصل أهداف المراحل السابقة و تمهد للمنطق الصوري في المستوى التعليمي الموالي، تفيد هذه القصة في مجال تعلم البنيات السمنطيقية و السانتاكتيكية للجمل كما في مفهوم العلاقة و عناصر البرهان اللاعقلي كالتمثيل analogie و الاستعارة métaphore .
 قصة Harry Stottlemeiers discovery للأطفال ما بين العاشرة و الثانية عشرة، و هي عبارة عن سلسلة من الحوارات الفلسفية التي تجريها مجموعة بحث من الأطفال Communauté de recherche
 ثلاث قصص هي Lisa و Suki و Mark للأطفال في المرحلة الثانوية، و تسعى هذه القصص، على التوالي، إلى تطبيق القواعد المنطقية المكتسبة سابقا في مجالات الأخلاق و الجمال ثم السياسة.
يقوم المنهاج الليبماني، إذن، على القصص لكنها قصص هادفة و مؤلفة بعناية، فشخوصها متفردون و متميزون لكنهم يلتقون ، جميعا، في البحث عن معنى للتجربة الوجودية للطفولة و يعملون على مساءلة جوانب و مظاهر محددة من معيش الطفل اليومي. فهم يشكلون نماذج مثالية للأطفال. إن مضامين القصص هي مضامين فلسفية، لا بالمعنى التقليدي للفلسفة، و إنما بمنظور ليبماني جديد يتمثل في اعتبار الفلسفة بحثا عن دلالة و معنى الوجود و نشاطا للذات و إعمالا للفكر و تعودا على التفكير النقدي و المستقل... يتضمن المنهاج الليبماني القصصي طرحا فلسفية في مجالات المنطق و الأخلاق و الجمال و الابستمولوجيا معروضا بشكل جديد في غير ارتباط مع الأنساق الفلسفية التقليدية فالكتاب المدرسي هنا ليس الكتاب التقليدي الذي يتضمن نصوصا و تمارين فلسفية و إنما هو متن قصصي روائي ممتع و مسل يتعرف فيه الطفل على ذاته و يجد فيه ألفة و يتماهى مع شخوصه. إن الأمر يتعلق بتحوير ديداكتيكي حقيقي للفلسفة العالمة و صوغها في قالب روائي قابل للتعلم من طرف الأطفال تبعا لسنهم.
أما الطريقة المعتمدة من قبل ليبمان في التدريس فتقوم على جعلهم يستمتعون بالفلسفة و يشاركون في التفلسف لذا قامت الطريقة على مرتكز أساس هو مجموعة الأبحاث Communauté de recherches و على الممارسة الفكرية الانعكاسية La pensée reflexive و على الفكر النقدي و الإبداعي Pensée critique et créative . يجري درس الفلسفة للأطفال على طريقة ليبمان من خلال مراحلة ثلاث:
1- مرحلة القراءة: يقرأ التلاميذ بصوت مرتفع ، بصورة جماعية و فردية فصلا من القصة المقررة.
2- جمع الأسئلة Collecte des questions المرتبطة بالفصل موضوع القراءة و الربط بينها و بين تجارب الأطفال اليومية.
3- مرحلة المناقشة، و هي الأهم في نظر ليبمان، و تدور حول المواضيع و الإشكالات التي جرى حصرها في المرحلتين السابقتين.
يتبين من منهاج و طريقة تدريس الفلسفة للأطفال كما قدمها ليبمان أننا أمام تصور ديداكتيكي جديد يعتمد النص الأدبي (القصة) متنا و القراءة و المساءلة و المناقشة طريقة لتحقيق أهداف التعلم التي هي بلوغ الفكر النقدي الإبداعي المستقل، و تسمح وسيلة العمل من خلال مجموعة البحث بتعويد الطفل الانخراط الإيجابي في المناقشة فضلا عن تمكينه من الوعي بذاته الذي يتبلور من خلال احتكاكه بغيره كما يتعود الطفل احترام الغير و الرأي الآخر تقدير الذات و تعلم آداب المناقشة و الديمقراطية و حرية التفكير... و تقوم الطريقة، أيضا، على الربط بين الدرس و الحياة و جعل التلميذ فاعلا و الأستاذ ميسرا و منظما للمناقشة.
أما المصادر النظرية لفلسفة الأطفال كما جاء بها ليبمان، و حسب رأي ماري فرانس دانييل Marie-France Daniel دائما، فهي متعددة تتراوح بين المذهب الإنساني المعاصر Humanisme Contemporain و الفلسفة الجذرية (نظرية الوعي المشترك théorie de la conscientisation) و السلوكية (Behaviorisme) و البنائية (ِConstructivisme)، لكن دانييل تؤكد أن أهم مصدر له تأثير مباشر على تشكل الفلسفة للأطفال عند ماتيو ليبمان هو البراجماتيىة ((Pragmatisme كما بلورها كل من شارل ساندرس بيرس (Charles Sanders Peirce) و جورج هربرت ميد (George Herbert Mead) و جوستوس بوشلر (Justus Buchler)، و خصوصا جون ديوي (John Dewey)، يتجلى التأثير البراجماتي في عدة جوانب خاصة منها: فكرة مجموعة البحث و التركيز على النشاط و الخبرة و المساءلة التي هي صورة للشك البراجماتي و الديمقراطية و الربط بين التعلم و الحياة و ما إلى ذلك...
و لنا أن نتساءل، في ختام العرض، عن جدوى تيار الفلسفة للأطفال كما بلوره ليبمان على وجه الخصوص، هل
من شأنه فعلا، أن يحقق الأهداف المسطرة من تعليم الطفل أن يتفلسف و يفكر بذاته، تتشكك ماري فرانس دانييل في إمكانية القدرة على التحقق من أهداف هذه البيداغوجيا عن طريق الاختبارات و ذلك على الرغم من أن عددا كبيرا من الدراسات قد أجري من أجل التحقق من بعض مظاهر هذه البيداغوجيا منها مثلا: التأكد من مدى اهتمام التلاميذ بها، أو دورها في التفكير المنطقي أو الأخلاقي للأطفال أو تطوير الفكر الإبداعي لديهم أو الاستقلالية و تقدير الذات، أو اللغة و مهارات القراءة، أو حتى تطوير قدراتهم في مجالات الرياضيات و العلوم... كما لنا أن نتساءل، من جهة أخرى عما إذا كانت هذه البيداغوجيا الجديدة تغير، فعلا، من صورة الطفل و تمكنه من حقه في التفلسف و توسع آفاق تدريس الفلسفة بضم جماهير الأطفال إليها، أم أن هذا التيار الجديد إنما هو صرخة أخيرة من صرخات المودا سرعان ما يخبو بريقه، هل لنا أن نثق في أعمال ليبمان و نسعى إلى تأصيلها و تنزيلها في واقعنا التعليمي بالنزول بالفلسفة إلى المرحلة الابتدائية، أو، على الأقل، إن اقتصرنا على الثانوي فبتعديل البرامج و التخلي عن الكتب المدرسية المتداولة حاليا و ما تضمه من نصوص عسيرة الهضم بالنسبة للتلاميذ و تسبب للأستاذ الصداع فنستبدلها بنصوص ليبمان المسلية، فنبرمج قصة ليزا Lisa في الجذع المشترك و قصة سوكي Suki في السنة الأولى باكلوريا ثم قصة مارك Mark في السنة الثانية باكلوريا، ألم يكن بالإمكان الاستعانة ببيداغوجيا ليبمان لإنقاذ تجربة جديدة في تدريس الفلسفة بالمغرب ولدت ميتة مع الأسف و أقبرت في مهدها هي تجربة تدريس القصة الفلسفية بالمرحلة الثانوية (السنة الأولى باكلوريا) من خلال نموذج قصة حي بن يقظان لابن طفيل؟ أسئلة جديرة بالتفكير و التعميق، فيما اعتقد، لكني لا أملك جوابا عنها الآن.
-----------------------
⃰ مداخلة ألقيت في ندوة عن الطفل و الفلسفة.
⃰ ⃰ من أكاديمية طنجة تطوان.



#مصطفى_بلحمر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- كاميرا مراقبة ترصد لحظة اختناق طفل.. شاهد رد فعل موظفة مطعم ...
- أردوغان وهنية يلتقيان في تركيا السبت.. والأول يُعلق: ما سنتح ...
- صحة غزة تعلن حصيلة جديدة لضحايا القصف الإسرائيلي
- الدفاع الروسية تكشف خسائر أوكرانيا خلال آخر أسبوع للعملية ال ...
- بعد أن قالت إن إسرائيل ترتكب إبادة جماعية في غزة.. أستاذة جا ...
- واشنطن تؤكد: لا دولة فلسطينية إلا بمفاوضات مباشرة مع إسرائيل ...
- بينس: لن أؤيد ترامب وبالتأكيد لن أصوت لبايدن (فيديو)
- أهالي رفح والنازحون إليها: نناشد العالم حماية المدنيين في أك ...
- جامعة كولومبيا تفصل ابنة النائبة الأمريكية إلهان عمر
- مجموعة السبع تستنكر -العدد غير المقبول من المدنيين- الذين قت ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - مصطفى بلحمر - الطفل و الفلسفة: هل هناك فلسفة قاصرة؟