مسعود محمود حسن
الحوار المتمدن-العدد: 4064 - 2013 / 4 / 16 - 10:31
المحور:
الادب والفن
ناتالي بورتمان تتألق في أداء دورها في فلم "البجعة السوداء" للمخرج دارين أرونوفسكي. تدور أحداث الفلم في نادي باليه يستعد أعضاؤه لأداء عرض باليه مسرحي تقليدي برؤية إبداعية جديدة عن الأمير الذي يقع في حبّ فتاة يحولها السحر إلى بجعة بيضاء, بينما الساحرة تحوّل نفسها إلى بجعة سوداء وتحاول إغواء الأمير ليقع في عشقها. تؤدي ناتالي بورتمان التي تحمل اسم "نينا" دور البجعتين البيضاء والسوداء. والفلم هنا لا يستهدف العرض المسرحي إنما يلقي الضوء على شخصية "نينا" راقصة الباليه المتألقة في النادي في منافستها الحثيثة مع الراقصات الأخريات للظفر بدور البجعتين, ومن لحظة التنافس الأولى وحتى المشهد الأخير من العرض المسرحي يتوضح لنا الخفايا العميقة في شخصية "نينا".
نينا الفتاة:
نينا فتاة وحيدة لأم, ولم يذكر الفلم أي شيء عن والدها الذي لم يكن له أي وجود في عموم الفلم ولا حتى بلفظة. "نينا" تعاني أيضاً من حرمان في التواصل الاجتماعي والعاطفي والجنسي مع الذكر, وتظهر لديها ميول جنسية مثلية في مراحله الأولى تجاه مثلها الأعلى في المهنة, نجمة الرقص في المواسم السابقة بالنادي الراقصة "بيث", حيث تسترق "نينا" النظر إليها, وتدخل خلسة غرفتها في النادي كلما سنحت لها الفرصة وتأخذ بعض أدواتها الشخصية كحمرة الشفاه وقارورة العطر وحلق الأذنين. وتتجلى ميولها المثلية أكثر مع رفيقتها الأخرى في النادي "ليلي" حيث تمارس معها السحاق في مشهد تخيلي وهمي.
نينا وأمّها:
على الأغلب تكون المشكلة التربوية الرئيسة التي يُعاني منها الطفل الوحيد في الأسرة هو "الدلال الزائد" و"الحب الجارف" الذي يؤدي إلى سلب شخصية الطفل من قبل الوالدين أو أحدهما وتضييق حدود حريته من جهة, وإلى تضخم دافع "الامتلاك" عند الوالدين, ليس باتجاه الأشياء المادية وإنما باتجاه الطفل بما أنه هو مصدر اللذة. وتضخم دافع "الامتلاك" عند أمّ نينا تجاه ابنتها يحرّضها نحو عدم الاعتراف بكينونتها كإنسانة بالغة وراشدة لها الحق في الاستقلال بشخصيتها وحياتها, وإنّما هي لمّا تزل تراها طفلة صغيرة ينبغي أن تبقى في ظل سلطتها وحكمها الأمومي. وتسوق الأمّ لابنتها خطابا تبريرياً لإقناع ابنتها بشرعية حكمها عليها, عصبه الرئيسي أنها ضحّت بحياتها وشبابها من أجلها!
آثار الحكم الأمومي على "نينا" كان قاسياً بما فيه الكفاية لتحفر ندباً وتشوهات في نفسية "نينا", فهي محرومة ليس فقط من صديق ذكر يهبها التوازن الجنسي, وإنما حتى من العادة السرية في فراشها الخاص, فأمّها تلاحقها في كلّ مكان. ولم تكن ثورة "نينا" ضدّ ديكتاتورية الأمّ سوى قيامها برمي جميع دمى الطفولة في حاوية الزبالة, إضافة إلى بعض التمردات العنيفة ضدّ أمّها التي لم تجري على أرض الواقع وإنما في عالم الوهم وأحلام اليقظة. وعلى الأرجح تعود ميول "نينا" المثلية إلى استبداد الأم عليها, إذ يبدو أنه لم يكن مسموحاً لها بفتح باب علاقة مع ذكر من الممكن أن يسرق "نينا" من أمّها, وهذا الفراغ الجنسي لدى "نينا" لا بدّ لشخص ما أن يملؤه, وفي ظلّ غياب حبيب من أحلامها, وفشل مدربها في النادي من اختراق فؤداها, قامت "نينا" بإعادة هيكلة بنيتها النفسية بإزاحة عناصر نفسية لا يمكن إشباعها, وسحب عناصر أخرى يمكن إشباعها محلّها سعياً لإعادة التوازن والتكيّف مع ظروف حياتها, فكان الشخص الأقرب لملء فراغها العاطفي بعد إعادة الهيكلة هو مثلها الأعلى في الباليه الراقصة "كيث"!.
نينا الراقصة وعقدة الكمال:
"نينا" كراقصة باليه تسعى لبلوغ الكمال في مهنتها, وهذا هو الهدف الأسمى في حياتها لا يُضاهيه هدف, ولا يمكن لأي شيء سواه أن يعوقه. و"الغاية تبرر الوسيلة" في منظومة "نينا" الأخلاقية. وإذ لم تنجح دوافع كالحرية والجنس والحب والاستقلال في إطلاق ثورة "نينا" ضدّ أمها, فأنّ دافع الكمال بلغ ذلك المستوى وأشعل ثورتها في وجه أمها ومنافساتها في النادي لتعبّد الطريق أمام ذاتها المتعطشة لملامسة الكمال والذوبان فيه. فهاهو صوتها يرتفع فوق صوت أمّها, وتعصي أوامرها, وتستعين بالعنف الجسدي أحياناً لتجتثّ ما بقي من سطوتها في نفسها. وفي النادي وخلال العرض المسرحي الرسمي ترتكب جريمة قتل بحق زميلتها ومنافستها على دور البجعتين الراقصة "ليلي".
ما حقيقة ثورة نينا؟
ما حدث على أرض الواقع أنّ "نينا" لم تثر على البيئة الاجتماعية المحيطة بها, وإنما ثارت على بيئتها النفسية. بمعنى أنّها تركت الأسباب الحقيقية لمشكلتها التي تكمن في الخارج الاجتماعي, وزحفت نحو النتائج النفسية لتلك الأسباب على شخصيتها! لذا هي لم تصرخ في وجه أمها, ولم تعصي أوامرها, ولم تضربها, ولم تقتل زميلتها في النادي, فهي وإن فعلت ذلك كانت تفعله في "أحلام يقظتها" و"أفعالها الوهمية". وكما كان هناك بجعتين في العرض المسرحي, كان هناك لـ"نينا" شخصيتين أيضاً, الأولى هي"نينا كما تحبّ أن تكون", والثانية "نينا كما هي عليه". وثورة "نينا" كانت بين هاتين الشخصيتين, الأولى ضد الثانية. وهدف الثورة كي لا ننسى هو بلوغ "الكمال" وليس التحرر والاستقلال والحبّ.
أيّتهما هي نينا: البجعة البيضاء أم السوداء؟
"نينا كما تحبّ أن تكون" يتطابق حالها مع حالة "البجعة البيضاء" التي تحلم بأن يُتوّج حبّها مع الأمير باللقاء الأبدي. وهذا ما يُفسر لنا نجاح "نينا" خلال البروفات في أداء دور البجعة البيضاء, على عكس أدائها لدور البجعة السوداء الذي إن بقي على ما هو عليه فأنها لن تحظى بالمشاركة في العرض الرسمي, لأنّ المسرحية تستلزم أن تقوم نفس الراقصة بأداء محترف للدورين. ولم يكن أمام "نينا" لكي تنجح في أداء الدورين إلا أن تتقمص حالة البجعتين, فقامت بإسقاط شخصية البجعة السوداء على شخصيتها الثانية, لتصبح البجعة السوداء هي"نينا كما هي عليه" والبجعة البيضاء هي "نينا كما تحبّ أن تكون". ووجه الشبه بين "البجعة السوداء" و"نينا كما هي عليه" يكمن في الرغبة غير المشروعة بامتلاك ما ليس لك بأخلاقية منحرفة, فكما أنّ "البجعة السوداء" امتلكت في النهاية حبيباً ليس لها, كذلك فأنّ امتلاك أم نينا لـ"نينا" لم يكن امتلاكاً مشروعاً لأنه أدّى إلى أن تصبح "نينا" ليست "نينا", وأيضاً سعي "ليلي" راقصة الباليه المنافسة لـ "نينا" للحصول على دور البجعتين لم يكن سعياً مشروعاً لأنه تمّ بأخلاقية منحرفة. وتفترض المسرحية أنّ البجعة البيضاء تنتحر في النهاية كاحتجاج على خيانة الأمير العاشق الذي يستجيب لإغواء البجعة السوداء, لكن جرى في الفلم أيضاً حالة انتحار ثانية؛ إذ قامت "نينا البيضاء" بطعن "نينا السوداء" في بطنها, أيّ أنّ "نينا كما تحب أن تكون" قتلت "نينا كما هي عليه", وبذلك أصبحنا أمام منتحرتين, الأولى هي "البجعة البيضاء" وهو انتحار مسرحي, والثانية هي "نينا السوداء" وهو انتحار حقيقي!
لماذا انتحرت نينا؟
هذا هو السؤال الأهم في الفلم, وقبل الجواب لا بأس من أن نسوق مثالاً واقعياً عايشناه جميعاً قبل فترة قصيرة, وهو إحراق الشاب التونسي "محمد بو زيد" لنفسه. ونتساءل هنا: لماذا انتحر "محمد بو زيد" يا ترى؟ وإحدى التفسيرات المقبولة لهذا السؤال هو أنّ "محمد بو زيد" كانت لديه شخصيتين كالتي امتلكتهما "نينا", أي شخصيته كما هو عليه, وشخصيته كما يحب أن يكون, والشخصية الأولى لا تمثّل "محمد بو زيد" بقدر ما تمثل الأطراف التي أسهمت في تكوينها من نظام حكم, ورئيس دولة, وأجهزة أمنية, وثقافة اجتماعية. وحين تلقى الرجل الصفعة على وجهه ثارت شخصيته الثانية (كما يحب أن يكون) على شخصيته الأولى (كما هو عليه) فأحرقتها وهي لم ترد سوى أن تحرق من ساهم في تكوينها وحسب. وبذات الرؤية طعنت "نينا البيضاء" "نينا السوداء" ولم ترد سوى أن تطعن أمّها ومنافستها!
والكمال الذي قالت "نينا" أنها بلغته في جملتها الأخيرة قبل الموت قصدت به كمال الأداء المسرحي فقط, أما كمال الحياة فهي لم تبلغه لأنّ كمال الحياة هو أن تعيش كما تحب أن تعيش لا كما يحب الآخرون أن تعيش.
مسعود محمود حسن
#مسعود_محمود_حسن (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟