عبد القادر مزوار ومصطفى أمزيان
الحوار المتمدن-العدد: 4017 - 2013 / 2 / 28 - 02:53
المحور:
السياسة والعلاقات الدولية
إن الوظيفة الرئيسية لنظرية العلاقات الدولية هي في تمكينها من تحسين معرفتنا بالواقع الدولي سواء لفهمه فقط أو لتغييره.إنها تساعدنا على تنظيم معلوماتنا وعلى اكتشاف معلومات جديدة أكثر دقة.إنها تزودنا بإطار للتفكير نحدد فيه أولويات البحث ونختار أفضل الوسائل المتوفرة لجمع وتحليل المعلومات،كما أن النظرية تلفت انتباهنا إلى التمثلات والتباينات وتشحذ أذهان الآخرين لمعرفة دقتها أو عدم دقتها من خلال البحوث التي تطبق أو تجرى على أساسها(1).
هناك علاقة لا يمكن تجاهلها بين العالم النظري المجرد والعالم الواقعي حيث تمارس السياسة،فنحن في حاجة للنظريات حتى تضفي معنى على الكم الهائل من المعلومات التي تغمرنا يوميا...وحتى صانعي السياسة في حال أرادوا اتخاذ قرار إزاء وضع معين. فالكل يستعمل نظريات –بإدراك أو بغيره –(2).
ظهرت منذ القديم محاولات للتنظير لطبيعة العلاقات بين الدول وتطورت هذه النظريات عبر ثلاث مراحل أساسية :
1- المرحلة الأولى : يمكن نعتها بمرحلة النظريات الأولى أو الإرهاصات الأولى للتنظير،فقد أشار كل من أفلاطون وأرسطو إليها في فكرهما السياسي ولكن بسطحية شديدة،ثم تحدث ميكيافيلي عن أخلاق الأمير في السياسة الخارجية كما تحدث" دانتي" مطالبا بإحداث منظمة أو كيان دولي يكون قادرا على فرض السلام العالمي.
2- النظريات التقليدية : وقد وصفها مارتن وايت (3)بأنها متناثرة وغير متسقة ولم تكن خاضعة لمنهج علمي ومن الصعب متابعتها وتيسير فهمها على القارئ. خلال هذه الفترة لم تكن نظرية العلاقات الدولية تتحدث عن علاقات الدول فيما بينها بقدر ما كانت تتحدث عن المجتمع الدولي في إطار دراسات القانون الدولي العام.
3- النظريات المعاصرة: بدأ الاهتمام بدراسة العلاقات الدولية كعلم مستقل له خصائصه المستقلة عن القانون الدولي منذ الثلاثينيات من القرن العشرين في محاولة لتفسير واقع العلاقات الدولية بصورة أكثر إلماما وشمولا عما سبق.
فظهرت المثالية والواقعية والسلوكية والليبرالية والراديكالية...
لكن الإشكالية التي تطرح هي :هل النظريات القائمة اليوم وخصوصا الواقعية واللليبرالية والراديكالية قادرة على تفسير الواقع الحالي للعلاقات الدولية في نظام عالمي أصبح يتكون من عدد لا نهائي من الوحدات التي تتحرك جميعها في آن واحد وأصبحت معها السياسة العالمية تبتعد نسبيا عن الطابع الدولاتي ويفتقد بذلك صفة الدولاتيةl Etatisme (4).
إن أي متتبع للمشهد السياسي العالمي وتطوراته لا يمكن إلا القول أن النظام الدولي شهد خلال الفترة الماضية ولا يزال يشهد تحولات عميقة تختلف عن الحالة التي كان عليها عقب انتهاء الحرب الباردة(5) حيث أصبح التصور التقليدي(6) الذي يتألف فيه النظام الدولي من مجموعة من الدول ذات سيادة غير قادر على الصمود أمام اقتحام الفاعلين الجدد للعبة العالمية..(7) فنحن أمام فضاءات ومجالات تتداخل فيها المصالح الاقتصادية، الأديان،الثقافات، الأفراد،المهاجرون...العلاقات الدولية لم تعد من صنع الدول فقط بل تحركها سياسات جديدة تقودها تيارات العولمة وكل هذا يعيق إمكانية وضع معايير فعالة ونماذج تحليلية قادرة على استيعاب التفاعلات الجديدة للحقل الدولي(8).
عرف النظام الدولي الجديد تحولا في الفواعل Acteurs في حقل العلاقات الدولية فقد دخلت قوى جديدة المسرح الدولي وأثرت فيه فأصبحت اللاعب الرئيس وإلى جانب العلاقات الدولاتية تطورت علاقات عبر وطنيةTransnational تتجاوز رقابة الدول وذلك نتيجة كثافة وتسارع التدفقات الفوق- وطنية والتحت-وطنية(9).
اعتبرت الدول- سابقا- الفاعل المركزي في العلاقات الدولية بينما المنظمات الحكومية وغير الحكومية والشركات المتعددة الجنسية والإعلام وغيرها اعتبرت مجرد فواعل ثانوية لم يكن بمقدورها تجاوز أولوية الدولة. لكن الملاحظ اليوم أن عدد كبير من الفواعل الثانوية أصبحت لها فرصا للخروج والتخلص من وصاية الدول وفرض أجندتها في المسرح الدولي.
والنظريات التي كانت تفسر العلاقات الدولية كانت تركز على الدولة كفاعل رئيس ومن زاوية سياسية محضة،غير أن الصعود المتزايد للفواعل من غير الدول فرض زوايا أخرى ورؤى أخرى تمزج بين المجالات المرتبطة بالسياسات العليا (مسألة الأمن مثلا) والمجالات الدنيا اليومية.وبهذا لم تعد الدول لوحدها من يبحث عن تحقيق القوة والأمن حسب المنطق الأروني (R.Aron) .
هذه التحولات فرضت تحديات كبيرة للنظريات الدولية...وهي إن كانت-في معظمها- تتماشى مع طبيعة العلاقات الدولية لفترة الحرب الباردة وما قبلها،فإنها أصبحت تواجه صعوبة للتكيف مع تحولات عالم ما بعد الحرب الباردة...الأمر الذي يتطلب الإقرار بمختلف التحولات الدولية والاعتراف بها والبحث عن نظريات تفسيرية للعلاقات الدولية جديدة أو القيام بمراجعة نقدية للأنساق الفكرية والمنهجية للنظريات الحالية فليس المطلوب هو زوال النظريات السابقة ولكن تعديلها لتتكيف مع معطيات النظام العالمي الجديد.
إن تراجع القدرة التفسيرية لمجموعة من الإطارات التنظيرية والمفاهيمية الكلاسيكية الخاصة بالحقل الدولي (المقاربة الواقعية والمثالية..)(10) أدى إلى ضرورة البحث عن مقاربة جديدة للتنظير الدولي تدمج مختلف الحقول المعرفية المعنية لمحاولة فهم تعقد النظام الدولي الراهن وتكون أكثر اقترابا من ملامسة مختلف الظواهر المعقدة للسياسة العالمية،فلا يمكن لأي مقاربة منفردة أن تستوعب التعقيد المميز للسياسة العالمية المعاصرة(11).
الدارسون للعلاقات الدولية يوضحون أن تغيرات هيكلية قد طرأت على السياسات الدولية وترتب عن ذلك عجز التنظير الدولي عن تقديم أنساق نظرية قادرة على استيعاب مختلف التفاعلات الدولية وهذا ما يفرض إعادة نظر جذرية في ثوابت شبكاتنا التحليلية باعتبارها لم تعد تنسجم مع طبيعة وأبعاد المتغيرات الجذرية التي تعيشها الإنسانية(12). إننا في حاجة إلى مقاربة للعلاقات الدولية تنطلق من المتغيرات العديدة التي أصبحت تطبع النظام الدولي الراهن(13) تدمج منظورات وتصورات جديدة تتجاوز التقسيمات التقليدية والتعاريف" الجامدة" للنظريات القائمة لتأسيس أخرى جديدة لا تقتصر وظيفتها على الوصف والتفسير ولكن تتعداها إلى وظيفة التنبؤ.
• باحثان في العلوم السياسية والعلاقات الدولية.
الهوامش:
(1): جيمس دورتي وروبرت بفالستغراف – النظريات المتضاربة في العلاقات الدولية،ترجمة وليد عبد الحي،مكتبة كاظمة الطبعة الأولى 1985 ص 39.
(2): ستيفن وولت – العلاقات الدولية:عالم واحد،نظريات متعددة. ترجمة عادل زقاق وزيدان زيداني.
(3): مارتن وايت مؤسس ما يعرف بالمدرسة البريطانية للعلاقات الدولية،وهو رائد البحث في العلاقة بين تقاليد النظرية السياسية وبين نظرية العلاقات الدولية.
(4): برتران بادي،ماري كاود سموث – انقلاب العالم – ترجمة سوزان خليل – دار العالم الثالث 1998 ص 9.
(5): وليد محمد عبد الناصر –المعادلات الجديدة: تحولات موازين القوى في النظام الدولي.يناير 2012 على الموقع: http://digital.ahram.org.eg/articles.aspx?Serial=780533&eid=2671
(6): يشير برتران بادي إلى أن المنظور التقليدي كان يرتكز على ثلاث مبادئ رئيسية وهي الترابية والسيادة والأمن وأن هذه المبادئ لم تستطع الحفاظ على توازنها أمام التحولات العالمية التي مست كل المجتمعات الإنسانية.
(7): مصطفى بخوش- مستقبل الدبلوماسية في ظل التحولات الدولية الراهنة-مجلة المفكر-العدد 3- ص86.
(8): برتران بادي وماري كلود سموث، المرجع السابق ص9.
(9): مصطفى بخوش،المرجع السابق ص91.
(10): محمد سعدي – من أجل رؤية معقدة للسياسة الدولية، نموذج سوسيولوجيا العلاقات الدولية-مجلة فكر ونقد العدد 46 فبراير 2002 ص97.
(11): ستيفن وولت، المرجع السابق.
(12): محمد سعدي ،المرجع السابق ص96.
(13): برتران بادي ،المرجع السابق ص9.
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟