|
كان الشعر ولا يزال...
خالدالصلعي
الحوار المتمدن-العدد: 4002 - 2013 / 2 / 13 - 14:51
المحور:
الادب والفن
كان الشعر ولا يزال بركان انفجار ، يحرك سواكن المجتمع عموديا وأفقيا ، يقلق الحاكم الغافي في أبراجه الحريرية ، ويشحذ همم الشعوب الهائمة في حلكة مصيرها..طورد الشعراء ، وقتلوا وحوربوا ، وألبوا ضدهم الفقيه والسياسي والعسكري ورجل الشارع ...لكن هؤلاء جميعهم يسترقون سمع صوته ، وقراءة حروفه . كان الشعر ولا يزال ، زلزال الطمأنينة والاستكانة ، يرج أرضها العاقر ، وسطحها الضامر ، يثور من أجل تجاوز الراهن ، مخلصا لمبدأ التطور في أرقى تجليات الروح الانسانية اذ تلتئم بروح الكون فيزيقيا وميتافيزيا ...وهذا هو سر الحرب الضروس التي يتعرض اليها الشعر من كل حدب وصوب ، لأنه يجمع المتناقضات ، ليمنح الانسان بعده الشمولي ، والطبيعة لغتها الخبيئة ، وحده الشاعر من ينطقها على لسانه ، ويقدمها بوحا طازجا للأسماع التواقة الى صوت ناي بلا قصب ، وخرير ماء بلا انسياب ، ووجود طافح بالأمل والكينونة ككائن محسوس ومعاش . وليس ككائن متعب كئيب . كان الشعر ولا يزال عاصفة الزمن الخامل ، به يدرك الانسان أن للعالم جهات متعددة ، وليس له جهة واحدة ، وحين تشتد العاصفة ، يدرك الانسان أن البالوعة لا تختار بين الحرير والقش ، أو بين الدقيق والثخين ، او بين السيد والعبد ، من هنا تم استدعاء الآلات المتحكم فيها عن بعد ، لتخمد أوار العاصفة ، وتهذب من هيجانها . لكنهم جميعا الآلات والمتحكمون نسوا أن الروح من أمر ربي ، وأن الشاعر كائن لا يمكن برمجة مواقيت انبعاثه أو عودته ، بحكم مبدأ العود الأبدي الهايدجيري ، أو النشأة التوليدية النيتشوية ، فهو لا يؤمن الا بالشاعر الجلي ، اما الشاعر الغائب ، فتلك قضية تهم مجالا آخر ، لايعني الشاعر في شيئ . كان الشعر ولا يزال وسيضل لغة المنبوذين ، ليس بالمفهوم البودليري ، بل بالمفهوم الأبولينيري ، لأن الواقع فعلا ظاهرة متجاوزة بالنسبة للفنان ، للشاعر ، والرؤية هي مستقبل قريب ، ان لم يعشه الشاعر ، تبقى له ريادة الحدس والتنبؤ. فالشاعر ليس بالضرورة ابن بيئته كما تسوق نظرية الارتهان الى الواقع ؛ بل هو يحمل في احشائه بيئته ، ويتشرد بها في ملكوته الشعري الذي يكف أن يكون ذاتيا كلما انبجس الوعي عن تكوين أصيل لشعرية الشاعر ، وبذلك يصبح الشاعر غجري الطبع ، لا مستقر له ، رحالة ليس بأثر الخطو ،وانما بأثر الحرف ؛ وان ترسخ جسده في مكان أضيق من خرم ابرة ، أو سم خياط . والا فكيف نفسر ابداعه الذي يتجاوز الواقع الذي يعيشه ، والظواهر الحافة به ، واستعابه لمختلف الفنون والعلوم والعقائد ؟ وتجاوز الواقع وما وراء الواقع ؟ كيف نفسر أسفاره التي تجوس المحيطات والآفاق البعيدة ؟ بل كيف ننكر بساتينه ودواليه ، أزهاره وأشواكه ، صحاريه وبحاره ، أرضه الشخصية وسماءه الذاتية ، وتجواله فيما قبل التاريخ ،حيث لم يكن غير العماء سيد الوجود ؟. الشاعر روح الكون اذن ، بالقوة وبالفعل ،بالنظرية و بالتطبيق ، بالمعاش وبالتأمل . انه التجاوز في أرقى صوره ، والتأصيل الشفاف للوجود المتجدد . لذلك تجده أبدا مطاردا من قبل ثقافة الواقع ، لأنه العدو الصريح لكل واقع ، لا يخفي وجهه ، ولا يتقنع ، ولا يأخذ بمبدأ التقية ، ولا يحرص على حياة هو غير مقتنع بها ، أما لغة التهديد والسيف والوعيد ، والمشنقةوالمقصلة والنفي ، فهي حقائق معطاة ، وقد يحيا بفضلها حياة أرقى من حياة النكران والاقصاء واللامبالاة ، أو الخضوع والاستكانة. الشاعر هو المحارب الجسور لكل ثبات ويقين خارج منظومة شعريته ، لا يؤمن بالضرورة ،الا ضرورة التغيير والتحول الى الأرقى والأسمى والأبهى ، تراندستالي في وحل واقعه ، اشراقي في عتمة مجتمعه . لأنه الجوهر الذي يحن الى جوهر الوجود الانساني ، فيبغض العرضي والفاني ، ويصارع ذرائعية تبرير التمكين ، بفرضية الامكان ، ويشاكس علة التعيين بوجوب الامعان ، ويأبى الانصياع للظاهر ، لايمانه القوي والراسخ بأن ليس هناك ظاهر بغير باطن ، وما دامت هذه حقيقة الحقائق التي لا ينكرها الا متزمت أرعن ،فلم لا ننخرط جميعا في البحث عن نفائس هذا الباطن ؟ . لا يتعلق الأمر اذن ب"أنا " الشاعر ، بقدر ما يتعلق بحقيقة الأشياء وجوهر الوجود وكنه الكينونة ، فأنا الشاعر مهما تضخمت وانتفخت هي في حقيقة كوة ضوء صغيرة ، لكنها قد تضيئ كونا كبيرا ، من هنا تصبح انا الشاعر لا شيئ أمام حقائق الوجود الجوهرية والباطنية والسرية . واذا كان الجميع يتفق على ظواهر الأشياء ويقف عند عتبة قشورها ، فان الشاعر وحده يأبى الا أن يعارض هذا التوجه وهذا الانقياد ، ليغوص الى بواطن الظواهر وأعماق أعماقها ،وكأن لسان حاله يصرخ في الموتى ؛ أريد الحياة . والحياة بطبيعتها لا تتجلى في ظواهر الوجود وتعيناتها السطحية، فتلك هي انعكاسات الانعكاس ، بقدر ما تتجلى في المخبوء والمستور والباطن والخفي والعميق والغائب . تماما كأي كائن في طور الفقدان والغياب المؤقت ، قبل أن يتحول الى بذرة أوجنين أومشروع . من هنا يكون الشاعر قبل وبعد ، وحرف الربط هو تجربته الذاتية التي ترتق البعدين في مداهما اللامحدود ، والمنسرح بغير حدود . الروح حين تئن وتصرخ لا يسمعها غير الشاعر . والروح هنا بمفهومها العربي وليس الألماني او الفرنسي ، انها الجوهر الكلي ، وقد اقتيد الى معقل المادة عنوة واغتصابا ، فتشيأ الكون واصبح كل شيئ مجرد بضاعة ، حتى الروح بدأت تتسرب اليها سمات البضاعة بفعل انخراط المحسوبين على الشعر في بيع رؤاهم ،وتطلعات شعوبهم ،وأحلام مجتمعاتهم ، ورهان الانسانعلى انسانيته ، بكل مداليلها الفيزيقيةوالميتافيزيقة المقدسةوالمدنسة ، الى رأس مال لا جنس له ولا وطن ولا انتماء . كأننا أمام تنين كوني وليس صيني . فاصبح الشعر مبعثه ليلة حمراء أورحلة بلهاء ، أوحسابا بنكيا بين جدران صماء ، الى درجة أن الدماء أصبحت تجري تحت أرجل شعراء الغباء وعلى وقع قهقهاتم البذيئة .فكاد الشعر يموت لولا أنه روح أصيل ، الا من اصوات قٌدر لها ووعت رسالتها أن تغرد خارج السرب ،وبعيدا عن القطيع . وتلك هي روح الروح . ولولا ان من شأن طبيعة الوجود ان يعتصر اللب لبه ،كلما دب الفساد في قشوره ، ويستقطر الجوهر جوهره كلما هاجم الصدأ أديمه ، لما أدركنا المشي في جنازة الشعر ، ولما استطعنا تقديم العزاء في فقدان الروح .
#خالدالصلعي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مزامير صامتة
المزيد.....
-
تعدد الروايات حول ما حدث في أصفهان
-
انطلاق الدورة الـ38 لمعرض تونس الدولي للكتاب
-
الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح
...
-
في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
-
وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز
...
-
موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
-
فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
-
بنتُ السراب
-
مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا
...
-
-الضربة المصرية لداعش في ليبيا-.. الإعلان عن موعد عرض فيلم -
...
المزيد.....
-
صغار لكن..
/ سليمان جبران
-
لا ميّةُ العراق
/ نزار ماضي
-
تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي
/ لمى محمد
-
علي السوري -الحب بالأزرق-
/ لمى محمد
-
صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ
...
/ عبد الحسين شعبان
-
غابة ـ قصص قصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
اسبوع الآلام "عشر روايات قصار
/ محمود شاهين
-
أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي
/ بدري حسون فريد
-
أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية
/ علي ماجد شبو
المزيد.....
|