أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - محمد رمزي - رسالة في اللاهوت الإسلامي















المزيد.....



رسالة في اللاهوت الإسلامي


محمد رمزي

الحوار المتمدن-العدد: 3994 - 2013 / 2 / 5 - 17:26
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


مقدمة
يعتقد معظم الناس أن القرآن كلام الله ، وأنه طريق الخلاص ، وأنه نبراس التقي ، لكن أفعالهم تثبت ما يخالف ذلك تماما ، فلو كانوا يؤمنون بقدسيته ، لما فسروه حسب أهوائهم ، ولما أخذتهم تلك الرغبة الجامحة في تأويله قسرا ، بل نجدهم يتخذون من الكتاب سندا لهم من أجل إخضاع الآخرين . لذلك لا عجب أن يكثر النفاق والجور، وتملق السلطة، لأن معظم المسلمين عجزوا كل العجز عن فهم جوهر الكتاب، إذ استبدلوا بكلام الله بدعهم الخاصة، وهم يحسبون أنهم يتقنون صنعا.
لقد تحولت المساجد إلى ساحات للمساومات السياسية ، إذ أصبح الطاغية يستغل مضامين الكتاب المقدس بهدف ترسيخ هيمنته على العقول ، إن هذا هو أكبر خطر يهدد الدين ، وإني لأعجب كيف أن تلاوة القليل من الآيات كفيلة بأن تجعل أقوى الرجال يهطل الدموع ، كما تفعل أضعف النساء . إن هذا لدليل على عدم استيعابهم للكتاب ، فلو كانوا يؤمنون به إيمانا خالصا ، لما تملكهم الخوف والرعب فلا غرابة أن كثيرا منهم اتخذ لنفسه من القرآن سبيلا لتفسير ظواهر الطبيعة ، على الرغم من أن بين الدين والعلم هوة من الصعب سبر أغوارها ، بل لقد ذهبت الفطنة بكثير من الناس إلى اعتبارها ظواهر الطبيعة أفعالا شيطانية ، وآخرون قادهم الورع إلى اعتبارها أعمالا إلهية ، لذلك راحوا يقدمون القرابين ، مثلهم في ذلك مثل الوثنيين ، والبعض الآخر اعتكف على الصلاة ظنا منه أنها الكفيلة باستجلاب المطر ، إن هذه الطقوس ، لا يمكن أن تنتج إلا من ذات جاهلة بقوانين الطبيعة . إن هذا هو ما جعلنا نقدم للقارئ هذا الكتاب عسى أن يمسح عن عقله ويلات الخرافة. فقد قررنا في هذا المقال إخضاع القرآن للنقد التاريخي ، لكي نبين هل وصل إلينا القرآن كما قال به محمد ، أم تعرض لمجموعة من التحويرات والإضافات ، لكن ونحن نقوم بهذا العمل قررنا تناول الموضوع بحيادية ، وخوفا من أن يؤول كلامنا خطئا نود القول أن مقالتنا هاته لا علاقة لها بالإلحاد ، فهي موجهة إلى أولئك الذين يتخذون من الإسلام وسيلة لإشباع رغباتهم ومطامحهم السياسية ، وإنني لعلى يقين أن مقالتي هذه لن تجد قبولا سيئا عند الطبقة المثقفة إذا ما فهمتها حق فهمها . بعد ذلك سنعمل على فصل الدين عن العلم من خلال دراسة الكيفية التي حدث بها الوحي حتى نفسح المجال للعلم كيما يفسر ظواهره بحرية دون الاعتقاد بالشياطين أو الأرواح الشريرة ، فهاته المسائل ليست سوى خرافات ينسجها العقل ، وهو إذ يفعل ذلك فإنه يعبر عن عجزه على فهم قوانين الطبيعة الأزلية . لذلك سوف نعمل على إعطاء تأويلات جديدة للنص الديني ، ليس الغرض منها تقويضه ، بل جعله يتعايش مع العلم دون أدنى اصطدام ، والتزاما منا بالأمانة العلمية ، فقد استبعدنا العاطفة ، إذ قررنا القيام بنقد علمي ، معتمدين على التراث الإسلامي . وبعد ذلك سننتقل لفحص علاقة الإسلام بالسياسة ، لكي نوضح أن الإسلام لم يأت بتشريع سياسي ، وأن الخلافة والإمارة ليست من نظم الإسلام ، بل هي أنظمة غريبة عن الإسلام ، كان الهدف منها تملق السلطة والرغبة في الترف . وفي الأخير سوف نختم بالمقارنة بين العقائد الأساسية بين كل من الإسلام والمسيحية واليهودية ونكرر القول إن مقالتي هاته لا علاقة لها بالإلحاد أو الكفر بل هي بحث علمي محض ، أو قل إنها اجتهاد لا يهدف إلا إلى فهم طبيعة الأمور الدينية فإذا ما وجد في كلامي هذا ما يشجع على الزندقة والكفر كما يدعي الخصوم فإنني مستعد لسحب كلامي ، ولكنني أعلم علم اليقين أن كلامي لا يتعارض مع جوهر الإسلام أو الروح القدس ، وعليه ينبغي على الخصوم أن يتوقفوا عن إلصاق تهمة الإلحاد والكفر بنا ، لأنهم هم الكفار فعلا ، فالكفر ليس في استخدام العقل بل في حمل السيف وقطع الرقاب وهو سمة لعمري تخص الجماعات الدينية المتطرفة ، التي تفهم الدين على غير حقيقته ، أما أنا فلست سوى بشر يحاول إعمال عقله ، وإنني لعلى يقين أن مقاربتي ليست حقيقة مطلقة أو عقيدة ، بل تحتمل الخطأ مثلها في ذلك مثل باقي المقاربات البشرية وقبل أن أبدأ أريد الإشارة إلى سوء الفهم الذي يعترض القارئ وخاصة للأمور الدينية .
إن القارئ للأمور الدينية يجعل عاطفته تحول بينه وبين حقيقة الأمور ، وهذا ما يجعل الإنسان يذعن لأهوائه الجامعة وهو يحسب أن مثل ذلك التصرف دليل على إيمانه ، فلو كان يؤمن بالكتاب إيمانا خالصا ، لما اعتراه الغضب ، ولما ارتكب أبشع الأمور باسم الله ، أقول ذلك لأنني أعلم الردود الهائجة التي أثارتها مقالتي نقد الفكر الديني " فقد كان من حسن حضي أنني لم أضع إسمي عليها ، فقد نشرتها بدون إسم ، وعلى الرغم من ذلك هجم عليها المتعصبون ، بل إن منهم من تجرأ على شتمي بأقسى العبارات ، فقد تلقاها عبد الله النهاري ، وقال في استجواب له على أحد المواقع أنني عدو الله ، أريد تقويض الدين من أساسه ، بل وصل به الأمر إلى نعتي بالشيطان ، الذي يستحق الرجم . لكنني كنت أنتظر هذا الأمر ، فأنا أعلم علم اليقين أن هؤلاء الذين يدعون أنفسهم " فقهاء " تحكمهم العواطف الجامعة ، التي تغطي بظلامها الدامس نور الحقيقة ، ولكنني لن أرد عليه ولن أجرح مشاعره كما فعل هو معي ، فأنا مزمع على القيام بهذا النقد دونما مبالاة ، لأنني مقتنع بحرية الفكر .


الفصل الأول :
وضعية القرآن في زمن محمد
لاشك أن القرآن لم ينزل على محمد دفعة واحدة ، بل جاء على شكل أجزاء وهذا ما يفسر استمرار الوحي حوالي ربع قرن وبضع سنين ، فلقد بدأ الوحي عندما كان محمد يقوم بالجهر بالدعوة ، إلى أن توفي في المدينة المنورة سنة 610 ميلادية ، وعليه ، فالقرآن لم ينزل دفعة واحدة وهذا ما تثبته بعض الآيات في القرآن ثم إن القرآن في عصر محمد لم يكن مرتبا في مصحف ، الشيء الذي يقودنا منطقيا إلى حقيقة مفادها أن آيات القرآن لم تكن مرتبة حسب سبب وتاريخ النزول ، فالنقد التاريخي ، لم يكن في تلك الفترة ، وبالتالي فترتيبه هو إن أردنا أن نصفه بلغة مجازية "معجزة" ما كان للصحابة بلوغها . فالآيات لم تصنف تصنيفا تسلسليا ، فلقد كان خليطا من الآيات ، وعليه فما أن انتبه محمد إلى إمكانية ضياع المصحف ، حتى بدأ يرشد الصحابة إلى كيفية ترتيب الآيات ، وهو ما يؤكده السيوطي بحيث نجد محمد يقول " ضعوا آية كذا في موضع كذا " ، إن هذا القول يفضي بنا إلى النتيجة التالية وهي أنه تم إضافة بعض الآيات ، إلى تلك الأجزاء المجموعة آنذاك ، بل إن هناك سورا كان لها أسماء في عهد محمد وهذا ما يمكن أن نستخلصه من قول البخاري ، حيث يقول محمد " من قرأ هاتين الآيتين من سورة البقرة كفتاه " وقد قال أيضا " من حفظ عشر آيات من سورة الكهف عصم من الدجال " إن هذا لدليل على صدق قولنا ، فقد كانت هناك سور في عصر محمد لها أسماء ، وهذا ما يؤكده البخاري نفسه ، لكن إذا كانت هاته السور قد سميت في عصر محمد فإن هناك من السور التي لم تسمى إلا في عصر الصحابة ، كسورة الإخلاص ، فالرسول محمد لم يسم هذه السورة على الرغم من أهميتها ، نقول مهمة لأنه إذا نحن قرأنا مسلم لوجدنا أنها تساوي ثلث القرآن ولما كثرت الآيات فقد وجد أصحاب محمد أنفسهم مجبرون على الحفظ ، خاصة وأن العرب حينئذ عرفوا بقوة حفظهم ، وهذا ما يفسر أن أول سورة نزلت بصيغة إقرأ ، صحيح أن الصحابة اعتموا على الحفظ ، إلا أن أجزاء كانت مكتوبة ، والقصة التي يرويها ابن هشام خير دليل على قولنا ، إذ يروى أن عمر عندما كان لا يزال كافرا ، وجد أخته تقرأ القرآن ، فضربها وأمرها أن تعطيه الصحيفة ، فما نود أن نؤكد عليه أن الصحابة اعتمدوا الحفظ على الرغم من أن بعض السور كانت مدونة في الصحف . فمثلا نجد أبي ابن كعب وهو من الأنصار يحفظ القرآن ، وكذلك معاد ابن جبل وزيد ابن ثابت وأبي الدرداء . وعلى الرغم من أن هؤلاء تعلموا القرآن من محمد ، فلا يوجد دليل قاطع يثبت أن المصحف جمع في عهده، فقد توفي محمد قبل أن يجمع المصحف .
في عصر محمد لم يكن هناك نزاع على المصحف ، لكن سوف نرى كيف أن الصحابة سينهض بعضهم ضد بعض . ففي عصر محمد قلنا لم يكن هناك شيء إسمه المصحف ، لأن نبوة الرسول كانت لا تزال مستمرة ، بل إن الآيات تكاثرت لما دنى أجل النبي ، وهذا ما يؤكده البخاري بقوله " حدثنا عمر ابن محمد ، حدثنا يعقوب ابن إبراهيم ، حدثنا أبي عن صالح بن كيسان عن ابن شهاب ، قال أخبرني أنس ابن مالك رضي الله عنهم أن الله تعالى تابع على رسوله صلى الله عليه وسلم الوحي قبل وفاته حتى توفاه أكثر ما كان الوحي ثم توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد " إذا ما أردنا تأويلا معقولا لهذا الحديث ، لقلنا أنه دليل على أن الرسول محمد لم يجمع المصحف ، لأنه كان لم يكتمل بعد ، وعليه فما يمكن أن نستخلصه انطلاقا مما سبق هو أن القرآن كان مشتتا في أذهان الصحابة ، لأن الرسول محمد لم يترك نسخة مكتوبة ، وهذا ما يفسر نشوب مثل ذلك الصراع ، أقول الصراع ، لأننا نعلم علم اليقين ، الفتن التي نشبت والتي انتهت بتكسير أضلاع عبد الله ابن مسعود . لكن لما كان زيد ابن ثابت هو الشخصية الأساس ، إذ هو الذي كلف بجمع القرآن بأمر من الخليفة ، فسوف أتطرق له في فصل خاص ، لكي أبين هل نقل إلينا القرآن كما قال به محمد أم أنه لم يستطع جمع المصحف . ولكن قبل أن نتطرق لفحص مصحف زيد نود أولا أن نعرف الكيفية التي جمع بها المصحف في مرحلته الأولى ، وهو ما سيكون عنوان فصلنا القادم .







الفصل الثاني
جمع القرآن
يذهب كثير من علماء الإسلام إلى أن الرسول محمد هو الذي كتب القرآن في الصحف أما وظيفة أبو بكر ، فقد كانت هي جمع ما كتبه الصحابة في عصر النبي، وهذا الاعتقاد باطل من أساسه ، لأنه ينبني على مجموعة من المسلمات الخطيرة ، التي تقف أمام الدراسة العلمية الحقيقة ، وعليه فهذا التصور الذي يذهب إليه العلماء ليس إلا هروبا من الاصطدام مع حقائق النقد التاريخي ، ذلك لأن هذا الأخير يثبت أن القرآن لم يكتب قط في عصر محمد ، بل حفظ في الصدور كما أشرت إلى ذلك سابقا .
إن الصحابي الذي سيعمل بجدية على جمع القرآن هو زيد بن ثابت ، فقد قام هذا الشخص بمحاولات جبارة ، ومصحف زيد هو المصحف الذي سيعتد عليه المصحف العثماني ، وقد أعطينا هذه الأهمية كلها لزيد ، نظرا لأن الصحابة الآخرين لم يعملوا إلا على الحفظ ولكن السؤال المطروح هل حفظ الصحابة القرآن كما قال به النبي محمد ؟ أنا لا أعتقد ذلك ، وذلك لأنه إذا نحن نظرنا إلى عدد الآيات بالمقارنة مع المدة الزمنية الطويلة لاضطررنا إلى التسليم أن حفظ القرآن يتطلب معونة من السماء ، لأنه يفوق طاقة الإنسان . بل حتى الرسول كان عرضة للنسيان وهو الذي تلقى الوحي من الله وهاهو الدليل " حدثنا موسى يعني ابن إسماعيل حدثنا حماد عن هشام بن عروة عن عروة عن عائشة رضي الله عنهم أن رجلا قام من الليل فقرأ ، فرفع صوته بالقرآن ، فما أصبح قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يرحم الله فلانا كائن من أية أذكرنيها كنت قد أسقطتها " أصدر أبو بكر أمرا بمحاربة المرتدين ، لذلك أرسل عدد كبير من قراء القرآن الذين كانوا من كبار الصحابة ، فكانت النتيجة وقعة اليمامة ، والتي مات فيها عدد كبير من حفظة القرآن . إن هذا الأمر جعل زيد بن ثابت يشعر بنوع من الخوف على المصحف ، حمل زيد هم جمع القرآن من صدور القراء الذين بقوا على قيد الحياة ،( تجدر الإشارة إلى أن المقاربات الاستشراقية التي تقول بتحريف القرآن هي مقاربات باطلة يمكن أن ندحضها بسهولة ، وذلك لأنه لا يوجد ولو نص واحد في التراث الإسلامي يثبت تعرض القرآن للتزوير والتحريف) ، وذلك لأن بعض الأخبار تحكي أن أجزاء من القرآن فقدت ، وها هو الدليل " حدثنا أبو الربيع ، قال أخبرنا بن وهب ، قال أخبرني يونس عن ابن شهاب قال بلغنا إنه أنزل قرآن كثير ، فقتل علماؤه يوم اليمامة الذين كانوا قد وعوه ، فلم يعلم بعدهم ولم يكتب ، فلما جمع أبو بكر وعمر وعثمان القرآن ولم يوجد مع أحد بعدهم " إن هذا الحديث خير دليل على أن أجزاء من القرآن فقدت ، وهذا ما يحاول الفقهاء المسلمون تجنبه ، فإذا ما أردنا أن نفسر الحديث تفسيرا معقولا ، لقلنا أنه تأكيد على أن بعض الأجزاء فقدت بدون رجعة ، فالحديث يستعمل أسلوب النفي " لم يعلم" "لم يكتب"، و"لم يوجد" ، حتى لو سلمنا مع السيد أو إسحاق الحويني بأن القرآن وصل كما هو ، فإن هذا الحديث يفند زعمه ، فبعض الآيات كانت متناثرة الشيء الذي يعني أن إمكانية الضياع واردة ، وهذا ما يفند زعم بعض الفقهاء الذين يعتبرون أن القرآن حفظ بعناية إلهية حكيمة ، فلو كانت العناية الإلهية هي التي تكفلت بحفظ القرآن لما شاهدنا معاناة زيد وتخوفه من جمع المصحف ، وهذا ما سيتضح من خلال التحليل .
عمل زيد بن ثابت وهو من كبار الخبراء في القرآن ،عمل على محاولة جمع القرآن خوفا عليه من الضياع ، فقد اتسم زيد بروح الأمانة العلمية ، وأمانته ليست موضع شك ، فقد بدل جهدا جبار لم يقم به أحد من الصحابة الآخرين ، فالمصحف الذي تقدم به إلى أبو بكر لهو خير دليل على محاولة صادقة ، وهذا ما تقوله النصوص الإسلامية .
إن المهمة التي تكفل بها زيد ، لم تكن سهلة أبدا ، وهذا ما يدل عليه الحديث في البخاري ، يقول الحديث " حدثنا موسى بن إسماعيل عن إبراهيم بن سعد حدثنا ابن شهاب عن عبيد بن السباق أن زيد بن ثابت رضي اللهم عنهم قال أرسل إلي أبو بكر مقتل أهل اليمامة فإذا عمر بن الخطاب عنده قال أبو بكر رضي اللهم عنهم إن عمر أتاني فقال إن القتل قد استحر يوم اليمامة بقراء القرآن وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء بالمواطن فيذهب كثير من القرآن وإني أرى أن تأمر بجمع القرآن قلت لعمر كيف تفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلى اللهم عليه وسلم قال عمر هذا والله خير فلم يزل عمر يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك ورأيت في ذلك الذي رأى عمر قال زيد قال أبو بكر إنك رجل شاب عاقل لا نتهمك وقد كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى اللهم عليه وسلم فتتبع القرآن فاجمعه فوا الله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن قلت كيف تفعلون شيئا لم يفعله رسول الله صلى اللهم عليه وسلم قال هو والله خير فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر رضي اللهم عنهما فتتبعت القرآن أجمعه من العسب واللخاف وصدور الرجال حتى وجدت آخر سورة التوبة مع أبي خزيمة الأنصاري لم أجدها مع أحد غيره ( لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم ) حتى خاتمة براءة فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله ثم عند عمر حياته ثم عند حفصة بنت عمر رضي الله عنهم"
إذا نحن تأملنا هذا الحديث ، لوجدنا أن زيد يتردد في قبول المهمة التي أسندت له ، الشيء الذي يعني أن المهمة لم تكن سهلة أبدا ، ولكن السؤال الذي يمكن أن نوجهه إلى السادة ، عبد الحميد كشك ، وأبو إسحاق الحويني والسيد ديزاي ، الذين يبذلون جهودا جبارة لتأويل هذا الحديث ، حتى يثبتوا أن زيد لم يشك في قدرته على جمع المصحف ، إني أطرح هذا السؤال على كل هؤلاء : إذا كان زيد بن ثابت واثقا كل الثقة من أنه سيجمع كل آيات القرآن فلماذا تردد ؟ أقول إن زيد ، أدرك بفطنته أن جمع القرآن ما كان ليكون بالأمر السهل ، لأنه كان يعلم أن كثير من القراء كانوا قد سقطوا في معركة اليمامة .
نحن لا نشك في أمانة زيد ، فقد بذل هذا الصحابي جهودا جبارة ، لم يبذلها الصحابة الآخرون ، لقد تتبع زيد جمع القرآن بكل أمانة ، فزيد اتسم بصفاء الروح لهذا نجد الرسول يشهد له بهذه الأمانة ، إذ أمر بأخذ القرآن عنه . غير أن تردد زيد يثير نوعا من الريبة ، إذ كيف لصحابي يشهد له الرسول محمد بالحفظ يشك في قدرته على جمع القرآن ؟
إن التفسير العلمي لموقف زيد ، يقول بأن زيد كان يعلم علم اليقين أن القرآن كان متناثرا مما جعل المهمة في نظره شاقة . وهذا كما قلت سابقا يفند زعم العلماء المسلمين القائل بأن القرآن حفظ بعناية إلهية ، كيف لسادتنا أن يعتقدوا مثل هذا الاعتقاد علما بأن هناك آيات حذفت من القرآن ، ولعل ما يرويه البيهقي ، لهو خير دليل على قولنا .
يذكر البيهقي في السنن الكبرى أن آيات من القرآن فقدت ، إذ يقول أن أبي بن كعب تذكر أنه في وقت من الأوقات كانت سورة الأحزاب بنفس طول سورة البقرة ويروى أيضا أن أبا موسى الأشعري كان يقول لقراء البصرة : حدثني سويد ابن سعيد حدثنا علي بن مسهر عن داود عن أبي حرب بن أبي الأسود عن أبيه قال ثم بعث أبو موسى الأشعري إلى قراء أهل البصرة فدخل عليه ثلاثمائة رجل قد قرؤوا القرآن فقال أنتم خيار أهل البصرة وقراؤهم فأتلوه ولا يطولن عليكم الأمد فتقسو قلوبكم كما قست قلوب من كان قبلكم وإنا كنا نقرأ سورة كنا نشبهها في الطول والشدة ببراءة أني قد حفظت منها لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى واديا ثالثا ولا يملأ جوف بن آدم إلا التراب "
الآية التي ذكرها مسلم هي بالفعل إحدى النصوص المعرفة التي فُقدت من القرآن التي سنتطرق لها لاحقا. يضيف أبو موسى : "كنا نقرأ سورة نشبهها بإحدى المسبحات ما نسيناها غير أني حفظت منها‏:‏ يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا ما لا تفعلون‏:‏ فتكتب شهادة في أعناقكم فتسألون عنها يوم القيامة" (السيوطي-الإتقان في علوم القرآن).
الرواية المذكورة هنا مستقاة من حديث صحيح مسلم الذي عرضناه سابقا. المسبحات هي السور التي تبدأ ب "يٌسبح" أو "سبح" "لله ما في السموات و الأرض". الكلمات التي تحويها الآية الأولى التي ذكرها أبو موسى هي نفسها التي توجد بالآية 2 من سورة الصف في حين يشبه النص الثاني الآية 13 من سورة الإسراء و هذا ما يفسر لماذا تذكر أبو موسى هاتين الآيتين بالذات.
من البديهي جدا أن يختلف الصحابة حول تلك الآيات ، وهذا الاختلاف هو ما جعل عثمان يحرق باقي المصاحف ، بذريعة أنه يريد تجنيب الأمة التفرقة كما حدث لليهود والنصارى لكن ، سوف نرى كيف أن حرق عثمان لباقي المصاحف لم يكن الهدف منه دينيا بل سياسيا ، ولكن قبل أن نوضح القول في هذه المسألة لابد من الوقوف عند الكيفية التي تعامل بها عثمان مع باقي المصاحف .









الفصل الثالث
أمر عثمان بحرق المصاحف ورد فعل عبد الله إبن مسعود
يعتبر عثمان بن عفان الخليفة الثالث للمسلمين ، وقد كان لتقلده منصب الخليفة الأثر العميق على تطور النص القرآني ، ففي زمن عثمان حدث اختلاف في قراءة القرآن بين أهل الشام وأهل العراق ، الشيء الذي جعل الجيش الذي كان تحث إمرة حديفة ابن اليمان ينقسم إلى صفين ، بل إن الاختلاف طال المصحف نفسه ، إذ إن أهل الكوفة اتبعوا مصحف عبد الله ابن مسعود في حين اعتنق أهل الشام مصحف أبي بن كعب .
هذا الأمر أقلق حديفة بن اليمان ، الشيء الذي جعله يخبر الخليفة بهذا الأمر ، وفي البخاري ما يؤكد قولنا " حدثنا موسى حدثنا إبراهيم حدثنا ابن شهاب أن أنس بن مالك حدثه أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان وكان يغازي أهل الشأم في فتح إرمينية وأذربيجان مع أهل العراق فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة فقال حذيفة لعثمان يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى فأرسل عثمان إلى حفصة أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك فأرسلت بها حفصة إلى عثمان فأمر زيد بن ثابت وعبدالله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبدالرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف وقال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنما نزل بلسانهم ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا وأمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق" إن هذا الحديث لهو خير دليل على تعدد المصاحف ، وإذا ما أردنا فهما سليما لهذا الحديث لقلنا أنه يدل على أن كثير من المسلمين كانوا يعتقدون بالمصاحف الأخرى ، لكن السؤال الذي نريد طرحة يمكن صياغته على الشاكلة التالية ؟
ما السبب الذي جعل الخليفة عثمان يقدم على حرق المصحف ؟ هل السبب هو كون تلك المصاحف تحوي أخطاء أم أنها ناقصة أم لا هي بهذا ولا هي بذلك ؟ حسنا لنفترض أن الأخرى تحتوي على أخطاء فهل هذا يبرر إحراقها ؟ لكن إذا نحن إنطلقنا من حديث البخاري لقلنا بأن لا يوجد ولو تلميح على أن المصاحف الأخرى خاطئة ، إذن ما السبب الذي دفع عثمان إلى هذا الفعل ؟
إذا نحن نظرنا للوهلة الأولى إلى الحديث الذي يورده ابن داوود لوجدنا أن عثمان إنما حرق المصحف ، لأنه خاف أن تتفرق السبل بالمسلمين كما تفرقت بالذين من قبلهم ، الشيء الذي يعني أن عثمان كان يريد إجماع الأمة ، إذن لم يكن الهدف من الحرق هو كون المصاحف الأخرى خاطئة ، إذ أننا لا نجد في حديث الرواة ولو دليلا واحدا يقر بهذا الأمر الشيء الذي يعني أن الهدف كان محاولة تجنيب الأمة الإختلاف ، وقد قام عثمان بذلك الفعل بتشجيع من حديفة ابن اليمان لكن لو نحن سلمنا مع السادة الكرام " عبد الحميد كشك ، وأبو إسحاق الحويني ، وشيخنا الفاضل يوسف القرضاوي ، لو سلمنا معهم بتأويلهم التعسفي الذي شرحناه سابقا ، والقائل بأن حرق المصحف كان من أجل هدف نبيل وهو توحيد الأمة تجنبا للاختلاف والتشتت ، لو سلمنا مع كل هؤلاء السادة بهذا التأويل التعسفي ، وإذا ما غضضنا عنه البصر لتجلى لنا سؤال آخر يطرح مشكلة أخطر سؤال يمكن صياغته على الشاكلة التالية " لماذا تم اختيار نسخة زيد بن ثابت بالذات ؟
يبدو أن اختيار الخليفة عثمان لمصحف زيد لم يكن اختيارا بريئا كما يظهر للوهلة الأولى ، وذلك لأن مصحف زيد لم يكن يتمتع بالشهرة التي كان يتمتع بها مصحف عبد الله ابن مسعود ، الهدف من حرق المصاحف كان القضاء على السلطة السياسية التي كان يتمتع بها قراء القرآن ، إذ إن عثمان لاحظ بفطنته أن أصبح يفقد سيادته شيئا فشيئا ، وذلك نظرا للسياسة الفاشلة التي كان ينهجها ، إذ أعطى السلطة لأقربائه من بني أمية على حساب الصحابة الذين ظلوا أوفياء للنبي .
تبعا لذلك يمكن القول أن اختيار مصحف زيد ليكون مصحفا رسميا ، إنما هو اختيار من أجل فرض الطاعة ، إن هذا الفعل الذي أقدم عليه عثمان كان فعلا جريئا ، فعلا لم يستطع أبو بكر وعمر ولو حتى التفكير فيه ، ثم إنه إذا نحن تناولنا الأمر من زاوية أخرى لقلنا بأن عثمان لا يمتلك حق تقرير النسخة الرسمية فهذا الحق يتمتع به الرسول وحده . إن ما قام به عثمان لا يوجد ما يبرره ، فلقد كان فعله قاسيا ، نظرا لأن كثير من المسلمين كانوا يؤمنون بتلك النسخ التي تم إحراقها .
يجب على المسلمين أن يفكروا و يتمعنوا بجدية فيما قام به عثمان بن عفان. لقد كان القرآن يعتبر و لا زال يعتبر كلام الله المنزل على رسوله محمد أما المصاحف فقد كتبت من طرف صحابة محمد المقربون. ما القيمة التي كانت ستعطى للمصاحف التي أحرقت بأمر من عثمان لو بقيت حتى يومنا هذا؟ حاول الصحابة الذين كانوا يعتبرون بشهادة الأحاديث الصحيحة من ذوي الدراية العالية بالقرآن (عبد الله بن مسعود‚ أبي بن كعب.. ) أن يكتبوا المصاحف هاته بأيديهم و بذلوا في ذلك كل جهدهم لكي تكون أقرب ما يمكن إلى الكمال. هذه هي المصاحف التي أمر عثمان إحراقها‚ مصاحف جمعها صحابة أجلاء لا غبار عليهم. فإذا لم تكن فيما بينها اختلافات عميقة فلماذا قرر عثمان إحراق ما كان عزيزا على كل المسلمين والذي يعتبرونه كلام الله المنزل على رسوله؟ لا يمكن قبول الطريقة التي يحاول بها علماء الإسلام المعاصرون تبرير ما قام به عثمان و على الخصوص إذا افترضنا كما يزعم محمد حسان أنه لم تكن هنالك أبدا اختلافات بين النصوص. ماذا سيعتقد المسلمون لو قام أحد في عصرنا هذا بإحراق مصاحف عزيزة على قلوبهم؟ ليس هناك إلا تفسير واحد لكل ما جرى ألا و هو وجود اختلافات نصية عميقة بين المصاحف استوجب معها حل واحد و هو الاحتفاظ بأحدها و تنحية المصاحف الأخرى.
إن هذا الفعل الذي قام به عثمان جلب عليه استنكار بعض الصحابة ، وخاصة عبد الله ابن مسعود ، فهذا الصحابي الجليل كان يعتبر نسخته أكثر موثوقية من نسخة زيد ، إذ إن ابن مسعود كان مقربا من النبي ، ثم إنه دخل الإسلام قبل زيد بن ثابت بمدة طويلة ، لذلك من الطبيعي جدا أن يكون ابن مسعود أكثر دراية بالقرآن من زيد بن ثابت وهاهو الدليل " قال محمد بن معمر البحراني عن يحيى بن حماد قال حدثنا أبو عوانة عن إسماعيل بن سالم عن أبي سعيد الأزدي قال سمعت عبد الله بن مسعود يقول أقرأني رسول الله صلى الله عليه و سلم سبعين سورة أحكمتها قبل أن يسلم زيد بن ثابت "
يتضح من خلال هذه الرواية أن عبد الله ابن مسعود* رفض قرار عثمان ، القاضي بإتلاف المصاحف ، فلقد ظل ابن مسعود يعتقد في نفسه أن مصحفه هو أحسن ما تم جمعه ، لأنه يتسم بالموثوقية نظرا لأنه أخذه مباشره عن محمد . لكن لما كان مصحف زيد بن ثابت هو الذي اعتمدت عليه النسخة العثمانية ، فسوف أتطرق إليه في فصل خاص ، لكي أبين للقارئ أن عثمان لم يأخذ القرآن كما دونه ابن ثابت حرفيا ، بل قام بمجموعة من التعديلات كان لها الأثر البالغ في تطور المصحف ، ذلك لأن معظم الفقهاء في عصرنا يحاولون بذل قصارى جهدهم لتبيان أن عثمان لم يقم إلا بمجمع المصحف دون أن يغير فيه شيئا ، وهذا خطأ شائع من السهل تفنيده .
الفصل الرابع
التعديلات التي أجراها الخليفة الثالث عثمان بن عفان
على مصحف زيد بن ثابت
كان سعيد ابن العاص من خيرة الصحابة الذين لهم دراية واسعة بالقرآن ، وبقواعد اللغة العربية ، لذلك تم اختياره هو وبعض الصحابة الآخرين ، لكي يشرفوا على مراجعة المصحف الذي كان أبو بكر الصديق قد جمعه ، وقد اختار الخليفة هؤلاء الصحابة نظرا لأنهم ينتمون إلى قريش .
أمر عثمان هؤلاء الصحابة أن يكتبوا القرآن بلغة قريش ، لأنها اللغة التي نطق بها النبي محمد ، إذن لم تكن نسخة بن ثابت النسخة النهائية بل تمت مراجعتها ، بل إن زيد تذكر آية كان قد نسيها ، وقرر إدخالها في سورة الأحزاب ، لقد وجدها عند نفس الصحابي الذي كان قد وجد عنده الآيات المفقودة من سورة التوبة ، أقصد الصحابي خزيمة الأنصاري . وإنه لعجب عجاب أن يجد زيد الآية عند نفس الصحابي . هناك من العلماء من يبذل جهود جبارة لإثبات أن الآية من سورة الأحزاب كانت موجودة في مصحف زيد قبل أن تتم مراجعته ، وهذا الزعم باطل من أساسه ، ولا يستطيع الصمود أمام النقد التاريخي ، يقول الحديث : قال زيد : فقدت آية من الأحزاب حين نسخنا المصحف قد كنت سمعت رسول الله يقرأ بها‚ فالتمسناها فوجدناها مع خزيمة بن ثابت الأنصاري -من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه-فألحقناها في سورتها في المصحف يبدو من الجلي أن زيد بن ثابت كان يجهل الآية المذكورة ، وهذا ما يفيده الحديث إذا ما فهمناه حق فهمه ، ذلك أن بعض العلماء المسلمين يدعون أن زيد لم يكن يجهل هذه الآية بل فقط حاول التأكد ، إن مثل هذا القول لا يمكن أن يصدر من حس سليم ، وذلك لأنه ينبني على تأويل خطير . والحديث الذي بين أيدينا يفند هذا الزعم تفنيدا ، إذ يقول " فقدت " والتي إذا نحن بحثنا عن مرادفها في اللغة العربية لوجدناها تعني ضاع مني ، نقول فقد فلان ، أي إذا مات وفارق الحياة ، ونقول فقد عمر ماله ، أي إذا أضاعه ولم يعد بحوزته . لذلك فالمعنى الصحيح في الحديث هو أن زيد فقد ونسي الآية من سورة الأحزاب لذلك بحث عنها ووجدها عند أبي خزيمة الأنصاري . لكن السؤال الخطير الذي يطرح في هذه الحالة : أكان لابد من مرور هذا الوقت الطويل حتى ينتبه زيد إلى ضياع هذه الآية ؟
بصراحة أنا لا أعرف لهذا السؤال جوابا ، ولا أريد أن أشك في أمانة زيد ، لأنه لا يوجد ولو دليل واحد يثبت أن زيد بن ثابت كان له هدف سياسي . بالعكس كان زيد بن ثابت أمينا ومخلصا للرسول ، لذلك لا عجب أن يأمر النبي بأخذ القرآن عنه .
حتى لا نطيل لنقم بتركيب شامل للنتائج التي توصلنا إليها حتى ننتقل إلى إشكالية أخرى متعلقة بالإشكال السياسي في الدين الإسلامي .
من خلال ما سبق يمكن القول أن جمع القرآن لم يكن في عصر محمد ، بل جمعه الصحابة بعد وفاة النبي ، فلما لاحظ زيد ابن ثابت مقتل كثير من قراء القرآن في وقعة اليمامة ، تخوف على المصحف ، فبدل جهودا جبارة لمحاولة جمع القرآن من صدور القراء ، فاعتنى بهذا الأمر أيما عناية ، وقد انتبه زيد بفطنه إلى صعوبة الجمع لكن هذا لم يقف عائقا أمام رغبته في جمع نسخته ، غير أن المثير في الأمر هو فقدان بعض الآيات والتي وجدت مع أبي خزيمة الأنصاري ، وهذا ما يفند الزعم القائل بأن القرآن حفظ بعناية إلهية ، إذ لو صح هذا الأمر لما شاهدنا تردد زيد ، لكن من طبيعة الحال لم يكن زيد هو الوحيد الذي جمع القرآن بل قام بنفس العمل صحابة آخرون كان من بينهم عبد الله ابن مسعود . لكن عندما لاحظ عثمان الاختلافات الواضحة بين المصاحف ، أمر بإتلافها باستثناء نسخة زيد ، الشيء الذي جلب عليه استنكار بعض الصحابة مثل عبد الله ابن مسعود ، وكذا المؤمنين الذين كانوا يؤمنون بتلك المصاحف ، إذ إن العمل كان في منتهى القسوة . إذا نحن نظرنا للوهلة الأولى لعمل عثمان لقلنا أنه كان لهدف ديني محض وهو حمل الناس على الوحدة وتجنيبهم التشتت كما حدث مع اليهود والنصارى ، لكن ما أن نمعن النظر حتى نجد أن عمل عثمان هذا إنما له مبرراته السياسية ، لقد أراد عثمان بذلك العمل القضاء على السلطة السياسية التي كان يتمتع بها بعض القراء مثل عبد الله ابن مسعود ، وإلا لماذا تم اختيار مصحف زيد بن ثابت بالذات لكي يكون بمثابة نسخة رسمية . إذن الهدف لم يكن دينيا بل سياسيا . لكن ما يهمنا نحن ليس فيما إذا كان لعثمان أهداف سياسية أم لا ، لأن هذا الأمر يحتاج لبحث مفصل ، بل المهم هو أن خلافة عثمان كان لها دور حسام في تطور المصحف ، فقد قام بما لم يجرؤ أبو بكر وعمر على القيام به . ولم يكن مصحف زيد ، النسخة النهائية بل تعرض للمراجعة ، إذ إن الخليفة أمر أن تكون اللهجة التي يدون بها القرآن لهجة قريش كونها لهجة رسول الله . وعلى العموم يمكن القول أن جمع القرآن تحكمت فيه مجموعة من السياقات ، سياسية واجتماعية .



الفصل الخامس
السياسة والدين: انفصال أم اتصال ؟
يذهب كثير من المسلمون إلى أن الإسلام هو اعتقاد روحي ، بالإضافة إلى كونه تشريع سياسي ، نحن لا نختلف معهم ، في ما يتعلق بالجزء الأول من هذا التصور ، ذلك لأن كل الأديان إنما جاءت لحمل الناس على التقوى وفعل الخير ، عن طريق إشاعة الحب والروابط الأخلاقية بين الناس ، وقد كان هذا هو هدف السيد المسيح ، الذي طبع تعاليمه في قلوب الناس ، فقد أراد المسيح تطهير النفوس من نقائص الطبيعة البشرية ، لذلك فلم يكن يهدف إلى شيء آخر غير الخلاص الأخروي ، إذ لو كان له هدف سياسي لأمر الناس بالثورة ضد حكومة القيصر ، الذي كان مخلصا لدين الوثنية . لكن ما قولة المسيح " ما لقيصر لقيصر وما لله لله " إلا دليل على أن المسيح لم يهدف أبدا إلى تأسيس حكومة أو خلافة بلغة المسلمين ، بل كان هدفه ، دينيا محضا ، وكذلك هي سائر الأديان ، إذ لو كان الغرض منها تقديم تشريعات سياسية لحق لنا التساؤل : لماذا أعطى الله للإنسان العقل ؟ إذا نحن قبلنا بالتصور القائل بأن الدين تشريع سياسي فإن هذا السؤال يبقى بدون جواب . وعليه لما كان الإنسان موسوما بالعقل ، فإن هذا دليل على الله إنما أعطى للإنسان حرية الاختيار ، وليس في ذلك أدنى شك .
يلزم عن ذلك أن غرض الدين ليس هو غرض السياسة ، إذ أن هدف الدين هو خلاص الروح ، بينما هدف السياسية هو الملك والسلطة ، ولما كان هذا هكذا وجب القول بأن هناك اختلافات عميقة ، اختلافات قد تصل إلى درجة التناقض . ولما كان الأمر كذلك لابد من الإقرار بأن نظام الخلافة لا علاقة له بالدين ، فالدين لم يلزم الناس باتباع نظام يتعالى عليهم ، ولكن حتى تتضح الأمور أكثر يتوجب علينا التساؤل أولا عن ما هي الخلافة ؟
تعتبر الخلافة عند المسلمين مرادفا للإمامة ، وهي من خلفه يخلفه خلفا ، أي إذا ناب عنه ، ومثله وقام مقامه . والإمامة كما يعرفها الشيخ البيضاوي " عبارة عن خلافة شخص من الأشخاص للرسول عليه السلام في إقامة القوانين الشرعية وحفظ حوزة الملة ، على وجه يجب إتباعه على كافة الأمة " من خلال قول البيضاوي يمكن القول أن الخلافة هي أن يقوم شخص ما مقام رسول الله لكن ، قول الشيخ البيضاوي هذا إنما قول فاسد ينبني على أسس ومنطلقات خاطئة ، وذلك نظرا لأنه ينطلق من قياس مفاده أنه لما كان الخليفة قائما على أمور الدين ، فإنه بمنزلة الرسول من المؤمنين ، وهذا القياس للأسف ينطلق منه حتى ابن خلدون في مقدمته ، إذ يقول معرفا الخلافة " هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي ، في مصالحهم الأخروية ، والدنيوية الراجعة إليها إذ أحوال الدنيا ، وترجع كلها عند الشرع إلى اعتبارها بمصالح الآخرة ، فهي في الحقيقة خلافة عن صاحب الشرع في حراسة الدين وسياسة الدنيا به " إن خطأ البيضاوي وابن خلدون هو الانطلاق كما قلت سابقا من قياس مفاده أن منزلة الخليفة كمنزلة الرسول بالنسبة للمسلمين . فمولانا ابن خلدون يريد أن يقنعنا بأن الخليفة لا يختلف عن الرسول من حيث أن كلاهما يهدف إلى الحرص على أمور الشرع ، غير أن سيدنا لا يقدم دليلا على زعمه ، بل إن زعم ابن خلدون هذا لا يمكن أن يصمد أمام النقد العقلاني ، كونه يتجاهل شيئا أساسيا وهو أن الرسول يستمد السلطة من الله مباشرة ، لذلك فإن أقواله وأفعاله لا تكون موضع جال في حين أن الخليفة يستمد سلطته من جموع المسلمين ، لذلك فهو لا يبقى بمنأى عن النقد والعصيان . فإذا كانت الخلافة تعني العمل طبقا لما جاء به الشرع فما الرأي الذي يجب أن يبديه المرء في ما قام به معاوية من سفك للدماء وهتك للأعراض ، وما الذي يجب أن يبديه المرء في أعمال مروان بن عبد الملك ؟ إن عملهما لدليل على أن الخلافة لا تصلح نظاما للحكم ، لقد فقدت مبرر وجودها وجوهرها ، إذ أصبحت تقوم على أساس التصفية موظفة في ذلك مفهوم " أعداء الله " ، وبالتالي صارت الخلافة وسيلة لاستعباد الناس ، بدل أن تكون محررة لهم .
يذهب كثير من العلماء إلى ضرورة نصب الإمام ، وهذا القول ليس إلا تأويلا لبعض النصوص الدينية ، بل إن هذا القول افتراء وبهتان على الرسول ، إذ كيف تكون الخلافة فرضا ولا يوجد نص صريح في القرآن يقول بوجوبها . وعليه لما كان الأمر كذلك فإن بعض العلماء قادتهم الفطنة إلى تأويل بعض الآيات في القرآن تأويلات قسرية منها مثلا تأويل الآية القائلة " يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم " إن تأويلات الفقهاء لهاته الآية لا علاقة لها بالمنطق والتفكير السليم ، ذلك أن رجال الدين يستغلون غموض كلمة " أطيعوا " لكي يبرروا صدق زعمهم ، والحقيقة أنه لا يوجد في هذه الآية ما يدل على وجوب الخلافة ، طالما أن كلمة أطيعوا غامضة . فإذا كانت تعني الطاعة المتمثلة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فلا أحد سيختلف إذا ما أردنا فهما سليما لهذه الآية ، لكن إذا كان المقصود بالطاعة الخضوع الأعمى ، فإن هذا الأمر لا يعدو أن يكون افتراء على الله ورسوله . وحتى لو سلمنا مع السادة العلماء بصدق زعمهم والقائل بأن الدين أوجب الإمامة ، فإن الخلافة بما هي نظام حكم فقدت شرعيتها ، أي لنقل بلغة ماركس نظام رجعي تجاوزه التاريخ ، لكن لما لم يكن للخلافة أصلا في الشرع وجب القول ، أن كثيرا من العلماء ، إنما يكذبون بذلك على الرسول ، إذ يقولونه ما لم يقله صراحة ، وهم يحسبون أنهم يتقون صنعا . وإنني لأعجب كيف تجرأ السيد قطب بوقاحة لم يسبق لها مثيل على النص الديني لكي يستخرج منه ما يدعم أهدافه السياسية ، وعلى الرغم من محاولاته الكثيرة إلا أن محاولاته باءت بالفشل ، إذ تعذر عليه إيجاد دليل واضح من القرآن والسنة على صدق زعمه . فحتى إن أمرنا الشرع بطاعة الخليفة فهل يمكن أخذ هذا القول ذريعة للقول بأن الخلافة واجبة . ولكي ندحض زعم كل من السادة " الشيخ البيضاوي ، عبد الحميد كشك ، سيد قطب ، نستحضر مثالا كان قد أعطاه شيخنا الفاضل علي عبد الرازق ، إذ قال " ..أولسنا قد أمرنا شرعنا بإكرام السائلين ، واحترام الفقراء ، والإحسان إليهم ، والرحمة بهم ، فهل يستطيع دون عقل أن يقول إن ذلك يوجب علينا شرعنا أن نوجد بيننا فقراء مساكين وقد حثنا تعالى عن الرق ، وأمرنا أن نفك رقاب الأرقاء ، وأمرنا أن نعاملهم بالحسنى ، وأمر بكثير غير ذلك في شان الأرقاء ، فما دل ذلك على أن الرق مأمور به في الدين ولا على أنه مرغوب فيه "
إن الاختلاف بين الدين والسياسة قد يصل إلى درجة التناقض ، وذلك لأن الرسالة إنما تكون عن طريق الموعظة الحسنة ، وهذا واضح في بشرى عيسى ابن مريم وفي أقوال الرسول الكريم محمد ، فالرسول ما كان ليكره الناس على اعتناق الدين عن طريق السيف ، إذ إن السيف له سلطان على الأجسام لكن ليس له سلطان على القلوب ، وعليه فالنبوة تقوم على أساس الفضيلة والتقوى والموعظة بالتي هي أحسن ، أما السياسية فإنها تقوم على تملق السلطة وتستخدم لغة السيف . وبالفعل هذا ما فعله عمر في سقيفة بني ساعدة ، فقد قال عمر لسعد بن عبادة الذي رفض البيعة ، قال بما معناه ، لولا أن رسول الله قد نهاني عنك ، لكنت قد ضربت عنقك " من خلال القولة التي يوردها الجابري ، نستطيع فهم سر التناقض بين الدين والسياسة . والمتمثل في أن الرسالة تكون عن طريق الحوار ، فلا إكراه فيها " لو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين "
لقد ارتبطت الخلافة في تاريخها بالاغتيالات وسفك الدماء ، وما حدث لعمر وعثمان وعلي لهو خير دليل على قولنا ، إذ لو كان هناك إجماع على الخلافة لما تم اغتيال هؤلاء الصحابة ، لكن ما موتهم إلا دليل على أن الخلافة لم تكن بالإجماع ، زد على ذلك أن الخلافة كانت سببا في ارتكاب مجازر تقشعر لها الطبيعة وينكرها العقل ، فها هو الطبري نفسه يورد رواية مفادها أن عدد ضحايا الجمل بلغ ستة آلاف " حدثني عمر بن شبة ، قال : حدثنا أبو الحسن ، قال : حدثنا محمد ابن الفضل ابن عطية الخرساني ، عن سعيد القطعي قال : كنا نتحدث أن قتلى الجمل يزيدون عن ستة آلاف "
يلزم عن ذلك أن الخلافة لا أصل لها في الدين ، وذلك لأن غاية الدين هي التقوى ، بينما غاية السياسة هي الملك ، بل إن الاختلاف بينهما يصل إلى درجة التناقض ، كما يمكن أن نستخلص أن الخطأ الذي وقع فيه كل من ابن خلدون ، سيد قطب ، البيضاوي ، وكذا ابن حزم ، راجع إلى الخلط بين وظيفة الرسول ووظيفة الخليفة ، والحال أن الاختلاف بينهما عميق ، حتى لو افترضنا مع هؤلاء السادة صدق زعمهم ، وهو زعم يمكن أن ادحضه بسهولة ، نظرا لأنه لا يستطيع الصمود أمام التحليل النقدي ، حتى لو سلمنا معهم بصدق زعمهم ، فإن هناك اختلاف بين سلطة النبي وسلطة الخليفة ، فالأولى مستمدة من الله ، لذلك فهي بمنأى عن النقاش والجدال ، على خلاف سلطة الخليفة التي ترتبط بجموع المسلمين ، لذلك فإذا كانت مصدر تبجيل بالنسبة للبعض ، فهي ليست كذلك بالنسبة للبعض الآخر ، الشيء الذي يفضي بنا إلى نتيجة منطقية أخرى ، مفادها أنه لما كان الدين لم يأمر بالخلافة ، فإن المسلمين لم يجمعوا عليها ، وإلا لماذا أشهر عمر سيفه في وجه سعد بن عبادة ، الذي رفض مبايعة أبي بكر . وعلى العموم يمكن القول أن أقوال رجال الدين التي ترى وجوب الخلافة ، لا أصل لها في الدين ، بل هي بدع الغرض منها تملق السلطة . ولكي لا يعترض علينا معترض ، قائلا : إذا كانت الخلافة غريبة عن الدين بماذا نفسر حكم "الخلفاء الراشدين" ؟ أقول نفسرها بأنها كانت في سبيل الملك والثروة ، الشيء الذي جعلها لأغراض غير دينية ، هذا ما سيتضح في الفصل القادم .





الفصل السادس
حكم الخلفاء الراشدين كان حكما لادينيا
نحن لا ننكر أن هدف الرسول كان من أجل نشر الدين والحفاظ عليه ، على خلاف الخلفاء الذين كان لهم هدف سياسي ، وإلا لماذا اختلف الصحابة فيما بينهم ، فلقد قال الأنصار منا أمير ومنكم أمير " لم يقبل أبو بكر بهذا الحل المنصف ، قائلا بما معناه منا الأمراء ومنكم الوزراء . فلو كانت الخلافة لأسباب دينية لما شاهدنا اختلاف الصحابة . يزعم ابن خلدون ، أن الخلافة هي نظام يقوم على أساس الحرص على أمور الشريعة وتطبيقها في المجال العام . هذا الزعم الذي تقدم به ابن خلدون ، لا نجد له سندا تاريخيا ، بل إنه لا يستطيع الصمود أمام التحليل النقدي ، فمولانا ابن خلدون لا يجنب نفسه عناء البحث عن أدلة على زعمه . إن زعم ابن خلدون يمكن أن ندحضه بسهولة ، إذ لو كان الهدف من الخلافة دينيا لما اختلف الصحابة ، بل إن الاختلاف بينهم في سقيفة بني ساعدة كاد أن يصل إلى درجة إراقة الدماء . فمعلوم أن سعد ابن عبادة ، وهو صحابي من الأنصار ، رفض مبايعة أبي بكر قائلا " والله حتى أرميكم بما في كنانتي من نبلي ، وأخضب سنان رمحي ، وأضربكم بسيفي ما ملكته يدي ، وأقاتلكم بأهل بيتي . ومن أطاعني من قومي . فلا أفعل ..لو أن الجن اجتمعت لكم مع الإنس ما بايعتكم حتى أعرض على ربي وأعلم ما حسابي ، فكان سعد لا يصلي بصلاتهم ولا يجمع معهم ، ويحج ولا يفيض معهم بإفاضتهم فلم يزل كذلك حتى هلك أبو بكر رحمه الله "
إذا كانت الخلافة واجبة كما يزعم سيد قطب ، وابن حزم فلماذا رفض هذا الصحابي الجليل مبايعة أبي بكر ، أقول إن هذا الصحابي الجليل أدرك بفطنته أن الأمر لم يعد كما كان الحال مع النبي محمد ، لقد أردك أن الخلافة إنما باتت وسيلة للملك ، وإلا لماذا رفض المبايعة ، إذا كانت الخلافة واجبة في الإسلام ، وإذا كان لأبي بكر هدف ديني كما يزعم شيخنا الفاضل محمد حسان ، فلماذا رفض البيعة ، أيعقل أن يرفض إنسان متشدد وغيور على الدين في زمننا الحالي ، أيعقل أن يرفض نظاما حريصا على ذلك الدين الذي يؤمن به ؟ أنا لا أعتقد ذلك ، لأنه لا يمكن لسعد بن عبادة ، أن يختار اختيارا يتعارض مع الدين وهو المؤمن بكلام الله المنزل . بالتأكيد رفض سعد بن عبادة له مبرراته السياسية ، هاته المبررات التي يمكن الكشف عنها إذا نحن استبعدنا العاطفة . والمبرر المعقول لعمل بن عبادة هو أن أبو بكر لم يكن له هدف ديني ، إن موقف ابن عبادة كاد أن يعرضه للهلاك، ذلك لأن عمر أشهر سيفه في وجه الصحابي الجليل قائلا بما معناه : لو لا أن رسول الله كان قد نهاني عنك لكنت قد ضربت عنقك " منذ تلك اللحظة التي تم فيها اعتبار أبو بكر قائما على أمور دين الله ، بات الخارج عن طاعته ، أو المناوئ لحكمه ، بات يعتبر مرتدا عن الدين .
من الطبيعي جدا أن تنهض كثير من القبائل ضد خلافة أبي بكر ، لأنه لا يوجد نص واحد ينص عليها ، وعليه فعندما رفضت بعض القبائل إخراج الزكاة ، فقد رفضت كونها لا تعترف بحكومة أبي بكر ، إذن لم يكن الصراع بين أبي بكر وتلك القبائل التي رفضت أخراج الزكاة صراعا دينيا ، بل صراعا ذو صبغة سياسية . لو كانت العمل الذي قام به أبو بكر ، من أجل هدف ديني ، فلماذا عارض عمر ابن الخطاب قرار أبي بكر بمحاربة من سماهم مرتدين "كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قالها عصم مني نفسه وماله إلا بحقه ، وحسابه على الله "
إن الحروب التي قام بها أبو بكر هي التي روجت لمفهوم المرتدين ، فالمرتدين لها معنيين ، قد يكون المعنى دينيا ، بحيث يكون المرتد هنا ذلك الذي خرج عن ملة الإسلام ، ولم يعد يؤمن بالركائز الأساسية التي يقوم عليها الدين . وقد يكون المرتد مفهوما إيديولوجيا ، أي يستخدم لإلصاق تهمة الكفر بالخصم السياسي . لقد جعلت الحروب التي قام بها أبو بكر الناس يعتقدون أن أبو بكر هو المسؤول عن حماية الدين من المارقين والزنادقة ، لذلك أصبحوا يقدسون أبو بكر حتى أن كثير منهم اعتبره خليفة الله في الأرض . وقد انتقل هذا الاعتقاد الفاسد عبر الأجيال ، حتى أن كثيرا من علماء الدين المعاصرين لنا صاروا يفهمون الخلافة باعتبارها عقيدة من عقائد التوحيد ، أما الذي لا يؤمن بها فإنه عدو الإسلام والمسلمين ، بل إنه منحرف يجب تقويمه ولو بالسيف . ومما يؤكد أن ولاية الخلفاء لم تكن لأهداف دينية ، أن عثمان ، وهو الخليفة الثالث للمسلمين ، أسلم المناصب العليا في الدولة لبني أمية ، في حين تم استبعاد بنو هاشم . لقد كانت للحروب التي قام بها أبو بكر دور حاسم في تطور مفهوم الكافر والمرتد ، إذ أصبح المرتد ليس الذي يجحد الدين بل الذي يرفض حكم الخلافة ، أي بعبارة أخرى أصبح المرتد هو الذي يمتلك توجهات مناوئة للنظام ، وبالفعل ، لقد نظر عثمان ابن عفان إلى المناوئين باعتبارهم خصوما للدين وهاهو الدليل : ...فلما رأى عثمان ما قد نزل به ، وما قد انبعث عليه من الناس ، كتب إلى

معاوية ابن أبي سفيان وهو بالشام : بسم الله الرحمن الرحيم ، أما بعد ، فإن أهل المدينة قد كفروا وأخلفوا الطاعة ، ونكثوا البيعة فابعث إلي من قبلك من مقاتلة أهل الشام على كل صعب ودلول " لقد كان معظم المناوئين لولاية عثمان في المدينة المنورة من الأنصار الشيء الذي يؤكد طرحنا من أن عثمان لم يكن له هدف ديني ، بل كان له هدف سياسي ، لتحقيقه ، ألبس خطابه السياسي عباءة دينية ، حتى يضفي المشروعية على عمله ، وحتى يكسب تعاطف الجماهير . وبالفعل لقد تمت الأمور بحسب ما توقعنا ، فقد قام خطباء البصرة يحضون الناس على نصرة عثمان ، هكذا تحقق لابن عفان ما أراد . لكن الرياح تسير ما لا تشتهي السفن ، إذ أن المسلمين حاصروا عثمان ، الشيء الذي جعله يعطي الناس وعدا بتحسين حالتهم ، لكنه كان يحمل نية عدم الوفاء بهذا العهد ، ففي اللحظة التي كان الناس ينتظرون أن يحقق عثمان وعده ، كان هذا الأخير يعد الجيش لسحقهم . الشيء الذي جلب عليه استنكار الناس ، فكانت النتيجة أن تم قتل ابن عفان .
إذن لو كان لعثمان هدف ديني ، لما ثار ضده القوم ، إذ هل من المعقول أن يثور الناس ضد شخص يحمي أعز ما لهم ، أعز حتى من أولادهم وأموالهم ، ثم هل من المعقول لشخص حريص على أمور الدين ، أن ينكث وعدا ، علما بأن الوفاء بالوعد واجب في الشريعة الإسلامية .
إن ما قام به عثمان له مبرر واحد وأوحد ، وهو أن هدف عثمان كان هو الملك والسلطة ، ولم يكن لولايتة هدف ديني ، لأن الذين رفضوا حكمه ، إنما هم مسلمون وصحابة كبار ، يلزم عن ذلك أن إمارة عثمان ، كانت بهدف الملك ، لا في سبيل الدين . بل إن عثمان ألبس خطابه السياسي لباسا دينيا ، حتى يضمن هيبته وسلطانه ، هذا الأمر هو ما جعله يقع في تناقض خطير ، تناقض جعله ينكث العهد الذي كان قد أعطاه للناس .
إن هذا الأمر يعزز طرحنا القائل بأن ولاية الخلفاء لم تكن لأهداف دينية ، إذ لو كانت كذلك لما تفرق الناس شيعا متناحرة ، هذا الأمر يقودنا إلى نتيجة أخرى ، وهي أن الخلافة غير مأمور بها من قبل الشرع ، بل هي نظام مصطنع مثله مثل باقي الأنظمة ، وهي علاوة على ذلك لم تكن بالإجماع ، كيف تكون بالإجماع وقد ووجهت بالرفض من قبل سعد بن عبادة ، والخوارج .
وقبل أن نختم مقالنا هذا نود التذكر بأن مقالنا هذا لا علاقة له بالكفر أو الزندقة ، بل هو بحث علمي وتاريخي ، وأكرر القول إن كان في كلامي هذا ما يناقض شرع الله أو يمس جوهر الدين ، فإنني مستعد لكي أتنازل عن كل ما قلت ، ولكنني على يقين أن مقالي هذا لا يتعارض مع تعاليم الكتاب الكريم والسنة النبوية ، فأنا لست سوى إنسان يحاول إعمال عقله ، وإنني لعلى يقين بأنني لست ملاكا ، وأقوالي ليست مصدر تقديس وتبجيل ، بل هي نسبية مثلها مثل أي كتابة بشرية أخرى .





خاتمة
نستخلص مما سبق تحليله ، أن القرآن كان لم يجمع في عهد الرسول ، وذلك لأن الوحي كان لا يزال مستمرا ، يبدو أن جمع القرآن بدأ في عصر أبي بكر الصديق ، جمع قام عدد من الصحابة ، كان زيد بن ثابت واحد منهم ، ذلك أن زيد تخوف على القرآن وخاف عليه من الضياع ، لأن معظم القراء سقطوا في وقعة اليمامة . لكن لغريب في الأمر هو تردد زيد في قبول المهمة التي أسندت له من قبل الخليفة ، الشيء الذي يطرح تساؤلات كبيرة . لكن هاته التساؤلات لا تجعلنا نشك في أمانة زيد ، فأمانته ليست موضع شك أبدا ، فقد اتسم بهذا الشخص بصفاء الروح ، والأمانة العلمية ، غير أنه فقد آية من القرآن وجدها بعد ذلك عند أبي خزيمة الأنصاري ، الشيء الذي له دلالة عميقة ، إذ أن هذا الحدث يفند زعم بعض العلماء ، الذين يعتقدون أن الكتاب حفظ بعناية إلهية ، إذ لو صح هذا الاعتقاد ، لما فقد زيد تلك الآية . لكن المثير للاهتمام هو أن نسخة زيد لم تكن هي النسخة الوحيدة ، بل كانت إلى جانبها نسخ أخرى ، نسخة عبد الله ابن مسعود ، وأبي ابن كعب . وقد أمر الخليفة الثالث عثمان ابن عفان بإتلافها بذريعة أنها تهدد وحدة الأمة وتماسكها ، وهاته الفكرة تعود إلى صاحبها حديفة ابن اليمان ، الذي لاحظ انشقاقا في صفوف الجيش ، إذ أن هناك من اعتنق مصحف زيد وهناك من أخذ بمصحف أبي ابن كعب . لمحاولة تجنب الشقاق أخبر إبن اليمان عثمان بهاته التفرقة ، الشيء الذي جعل الخليفة الثالث يتلف باقي المصاحف ، لو نحن ذهبنا مع عثمان في تصوره من أنه يريد الحفاظ على تماسك الأمة ووحدتها ، فلماذا اختار وصحف زيد بالذات ، الواضح أن اختيارات زيد له مبرراته السياسية ، إذ إن عثمان أراد من وراء حرق المصاحف الأخرى ، القضاء على السلطة السياسية التي كان يتمتع بها ابن مسعود ، والقرآء الآخرون ، وذلك لأن عثمان كان قد أسند المناصب العليا في الدولة لبني أمية على حساب القراء الذين بقوا مخلصين للرسول . ومهما كان السبب ، فإن حرق عثمان للمصاحف الأخرى يبقى غير مبررا ، وذلك لأن كثير من المسلمين كانوا يؤمنون بتلك المصاحف ، ويعتبرونها كلام الله المنزل على رسوله محمد . لذلك حتى لو سلمنا مع عثمان بأنه كان يريد خير الأمة ، فإن ذلك العمل يحز في النفوس حزا . لكن النقطة الأهم هي أن عثمان لم يأخذ بنسخة زيد كما هي ، بل أخضعها للتعديل ، مكلفا مجموعة من الصحابة الذين لهم دراية بالبلاغة والقراءة بتنقيح النسخة لكي تكون بغلة قريش ، كونها اللغة التي نزل بها الوحي على الرسول ، في هاته الأثناء تذكر زيد بن ثابت ، الذي كان من بين الصحابة المشرفين على مراجعة المصحف، تذكر آيتين من سورة الأحزاب ، وقد وجدهما عند ابن خزامة الأنصاري ، نفس الصحابي الذي وجد عنده الآية من سورة التوبة .
كان لقرار عثمان تأثير بالغ في نفوس الناس ، لقد وصل الحد ، إلى نهوض بعض الصحابة ضد عثمان ، من بينهم عبد الله ابن مسعود ، الذي رفض عمل عثمان ، وخصوصا اختياره لنسخة زيد ، إذ أن كل الروايات التي يوردها العلماء تثبت بما لا يدع مجالا للشك أن عبد الله ابن مسعود ، إنما ثار على ذلك الفعل ، نظرا لأنه كان يعتبر نفسه أكثر دراية بالقرآن من زيد . بعد ذلك انتقلنا إلى تناول الإشكال السياسي في الإسلام ، إذ بينا بواسطة التحليل النقدي أن الخلافة غير واجبة في الإسلام ، مفندين بذلك زعم كثير من العلماء ، أمثال السيد البيضاوي ، والسيد قطب ، ذلك لأن هؤلاء كما بينا سابقا ، انطلقوا من قياس فاسد ، مفاده أن الخليفة هو الذي يحرص على أمور الدين ، ولما كان الأمر كذلك ، فإن منزلة الخليفة كمنزلة الرسول بالنسبة للمؤمنين . ويكمن خطأ هذا التصور في أنه يتجاهل شيئا أساسيا ، وهو أن سلطة الرسول ، هي سلطة دينية ، مستمدة من الله ، ومن ثم فهي متعالية ، غير قابلة للجدال أو النقض ، في حين أن سلطة الخليفة إنما مستمدة من جموع المؤمنين ، لذلك كثيرا ما كانت أوامر الخلفية مصدرا للعصيان ، إذن لو كان الشرع يأمر بالخلافة ، لأجمع الناس عليها ، كيف تكون الخلافة واجبة وهناك من رفضها رفضا قاطعا ، ولعل ما قام به سعد ابن عبادة ، لهو خير دليل على صدق قولنا ، لو كان الشرع هو الذي أمر بالخلافة لما شاهدنا عصيان كثيرا من المسلمين لأوامر أبي بكر وعثمان ، إذ كيف يعصي الناس واجب أمر به الشرع الحنيف .
يبدو إذن أن الخلافة غير مأمور بها من قبل الشرع ، فلو كانت واجبة لعين الرسول من يخلفه ، لكن الرسول الكريم ترك للمسلمين أمور دنياهم ، على اعتبار أن غاية الدين إنما هي التقوى والفضلية ، وحمل الناس على حب الخير ، في حين أن غرض السياسة هو الملك والسلطان ، بل إن هذا الأمر يصل بهما إلى درجة التناقض . هذا الأمر يقودنا إلى نتيجة منطقية أخرى ، وهي أنه لما كانت غاية الدين هي التقوى والفضلية ، والإحسان إلى الناس ، ولما كانت السياسة هي الملك والسلطان ، فإن حكومة الصحابة كانت بالضرورة حكومة لا دينية ، أي مثلها في ذلك مثل كل الإمارات الأخرى . والشيء الذي يؤكد هذا الرأي هو عدم خضوع كثير من المسلمين لإمارة أبي بكر ، ورفضهم الاعتراف بها ، إذ لو صح أن أبي بكر كان يهدف إلى حماية الشريعة لما اختلف على ولاية أبي بكر مختلف .
زد على ذلك أن ولاية عثمان تؤكد طرحنا ، حيث إن عثمان ألبس خطابه السياسي لباسا دينيا ، الشيء الذي جعله يقع غير ما مرة في تناقض ، إذ نكث الوعد الذي كان قد أعطاه للمسلمين ، بخصوص تحقيق مطالبهم .
إن ما يهمنا من كل ذلك هو تبيان أن الخلافة ليست واجبة في الشرع ، على عكس ما يزعم بعض الفقهاء ، الذين يؤولون بعض الآيات قسرا ، بغية تملق السلطة ، فالقول بأن الدين أمر بالخلافة ، هو قول يناقض العقل ، والفطرة السليمة ، وذلك لأن الإسلام هو دين الناس جميعا ، الشيء الذي يتعارض مع الخلافة بما هي النظام العربي بامتياز .



#محمد_رمزي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- “العيال الفرحة مش سايعاهم” .. تردد قناة طيور الجنة الجديد بج ...
- الأوقاف الإسلامية في فلسطين: 219 مستوطنا اقتحموا المسجد الأق ...
- أول أيام -الفصح اليهودي-.. القدس ثكنة عسكرية ومستوطنون يقتحم ...
- رغم تملقها اللوبي اليهودي.. رئيسة جامعة كولومبيا مطالبة بالا ...
- مستوطنون يقتحمون باحات الأقصى بأول أيام عيد الفصح اليهودي
- مصادر فلسطينية: مستعمرون يقتحمون المسجد الأقصى في أول أيام ع ...
- ماذا نعرف عن كتيبة نيتسح يهودا العسكرية الإسرائيلية المُهددة ...
- تهريب بالأكياس.. محاولات محمومة لذبح -قربان الفصح- اليهودي ب ...
- ماما جابت بيبي أجمل أغاني قناة طيور الجنة اضبطها الآن على تر ...
- اسلامي: المراكز النووية في البلاد محصنة امنيا مائة بالمائة


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - محمد رمزي - رسالة في اللاهوت الإسلامي