أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مزمل الباقر - تضاريس النزوح الأخير















المزيد.....

تضاريس النزوح الأخير


مزمل الباقر

الحوار المتمدن-العدد: 3988 - 2013 / 1 / 30 - 18:15
المحور: الادب والفن
    


تضاريس النزوح الأخير





كانا طفلين صغيرين بائسين يحمل كل واحد منهما خرقة صغيرة في أحدي يديه. والخرقة ارتوت سلسيوناً تارة ومن البنزين تارة أخري أو بكلا السائلين .


طفلان عاريان إلا من بعض الأسمال التي تستر الظهر إلا قليلاً. وتكشف عن صدرٍ عارٍ متسخ . أحدها يرتدي بنطالاً يصعب تحديد لونه علي وجه الدقة. والطفل الآخر ذلك الذي يكثر من وضع الخرقة بفمه الصغير يرتدي شيئاً شديد الشبه بالبنطال تكثر فيه الرقع التي تدفع عن صاحبه فضول العيون.


امتص أحد الطفلين الخرقة بشغف، وقد أسبل جفنيه تماماً، شيئاً فشيئاً ثم أعادهما إلي وضعها الأول ببطءٍ شديد. محادثاً رفيقه وبراءة الطفل أو ما تبقي منهما تلوح من خلال نبرات صوته الحاد:

- (عارف يا فرّده ... الفيلم الليلة حاجة شتات .. عارف البطـ...)
- (ودا في ياتو سينما ؟!)

تضايق الطفل الأصغر سناً من سؤال رفيقه ، فرد في ضجرٍ ملحوظ:
- (ما في الوطنية .. حيكون وين يعني ؟!)


تنبه الطفل الأكبر سناً إلي أنهما لا يشاهدان الأفلام إلا في سينما الوطنية. حيث يمكنهما التسلل خفية ومشاهدة العرض، دون أن يقعا في قبضة ذلك الذي يجلس خلف شباك التذاكر، بشاربه المتدلي كما الحبال متجاوزاً تلك الندبة التي تستقر بطول عظمه فكه السفلي. غير أن الطفل الأكبر رفض أن يعترف بذلك مفضلاً امتصاص مزيداً من سلسيون خرقته التعسة.

- (حماد .. يا حماد ... هُويّ ! سارح وين ؟! ... ما قلـ... ) تنبه حماد فالتفت في حدهٍ، جذع لها عمر فابتلع الأخير ما تبقي من حروف جملته المتسائلة في حلقه . وزمّ شفتيه:
- (في شنو ؟! ... بتكورك مالك ؟! ...)
أخذ عمر يسعل بشدة ، وهو يجاوب حماداً في صوت المعتذر:
- (لا .. أنا كنت شايفك سرحان .. قلـ.. قلت يعني .. ألفتك .. !!)


نظر حماد إلي عمر بغيظ ولم يعقب، كثيراً ما يتضايق حماد من طريقه عمر في الحديث، فهو لم يعتاد تماماً علي هذا المجتمع الضائع في مجتمع المدينة. وحادثته نفسه بأن: (يعني شنو أبوه طلق أمو وعرس مرا تانية؟.. حنكشة أولاد عاصمة ساكت !!) .


أشاح حمّاد بوجهه وأرخي لشجونه العنان من جديد. رجعت به الذاكرة إلي أيام قديمة، هنالك في بلدته الصغيرة حيث أبقار أبيه التي تسد الأفق، كلتوم أمه تتفاني في خدمة الأسرة الصغيرة لعامل الحداثة.


تذكر حمّاد شقيقه الأكبر يوم وقوفه في وجه جماعات النهب المسلح التي تهجمت علي أبقار أبيه. أنقشع غبار الحملة والسهل خالٍ من الأبقار، ومن المدججين بالسلاح إلا من بعض الأبقار النافقة، التي استحمت في دمائها الساخنة. وشقيقه المسجي علي أرض أجدادهـ وأربع أعيرة نارية عرفت طريقها إلي منتصف ظهره تماماً.


أبكر والده يزحف دودة فوق أرضه، وقد استقرت طلقه نارية في ركبته وأخري اخترقت لحم فخذه ولامست العظم. الطفل حمّاد يري ذلك جيداً فلا يملك غير دفن وجهه الصغير في صدر شقيقته، تذكرها في تلك اللحظة فعض شفته السفلي في آلية محضة حتى آلمته. منذ أن قدموا للعاصمة بعد أن فقدوا الماشية والمكانة، واستقر بهم المقام في أطراف أطرافها، داخل خيمة حقيرة من الخيش. والمصائب ما انفكت تهطل علي رؤوسهم كمطر الخريف.


كان علي أبكر أن يلازم السوق الشعبي بامدرمان كل صباح. بساقه المبتورة وعصاه المتسخة اتساخ أسماله التي يلتحف بهان باحثاً عن عملٍ يغنيه عن ذل السؤال. ولما طال بحثه دون جدوى، صار حماد صبي دون الثالثة عشر، يلازمه بنظراتٍ زائغةٍ ووجهٍ متعب. مستجدياً مثله خلق الله ، الذي يعطي قليلاً من المال وكثيراً ما يعود خالي الوفاض، إلا من نظرات مشفقة تخترقهما اختراقاً من أعين السابلة وأصحاب العربات.

مضت بهم الأيام بطيئةً رتيبةً تتناسخ لحظاتها، إلي أن حل ذلك الليل الشتوي الذي مرض فيه أبكر، واشتدت عليه وطأة الحمي فيما أعقبه من ليالٍ. تذكر حمّاد تلك الليالي الكالحة فاغرورقت عيناه بالدمع الحزين. لقد جربت أمه جميع ما حملته معها من أعشاب للتداوي، لم تترك عشبة دون أن تخضعها للتجربة. عبثاً كان شراب أبكر واحتساءه لمنقوع تلك الأعشاب، واستنشاقه لأبخرتها لم يذهب عنه وطيس الحمي. شيئاً فشيئاً أصبح خبر موته من الأمور التي توضع في الحسبان دائماً. حتى حل ذلك المساء الذي نام فيه أبكر نومته الأخيرة باكراً.

تدحرجت دمعتان صامتتان من مقلتيّ حمّاد، غير أن تدفق الذكريات كان غزيراً ما أمهله مواراة تينك الدمعتين اليتيمتين. موت أبيه حدا بالجميع إلي الانخراط في مهمة البحث عن العمل، الجميع دون استثناء. كان عليهم الخروج باكراً والعودة في أول الليل لاقتسام الغلة، أو لانقسام المكان نوماً داخل الخيمة الحقيرة أو بخارجها .


عملت كلتوم في البداية بائعة للكسرة، فالفول السوداني. واستقر بها الحال بائعة للشاي ببرندات السوق الإفرنجي غير بعيد من فندق أراك. شيئاً فشيئاً أيقنت أن ما تتحصل عليه من مال لا يوازي إرهاق العمل، فاضطرت تحت وطأة العوز والجوع، أن تدفع بفلذة كبدها آمنة إلي برندات السوق العربي وازدحامه بائعة للسمسمية وفول أبنقوي.


رويداً .. رويداً اتسعت مساحة تجوال آمنة في برندات السوق، باتساع مساحة فقر أسرتها. وراحت تنادي علي بضاعتها وسط زحمة باعة السوق ورواده، بصوت شجي الألحان. ولم تدرِ أن من بين زبائنها من يريد بضاعة أخري، غير ما تحمله ريكتها التي تستلقي علي كتفها اليافع.


وعند ذلك المنعطف من تداعي ذكرياته، انحدرت دمعات حمّاد حزينة كوجه أمه في الصباح. انحدرت لتخلق نهر صغير نقي، علي صفحة خده المتسخ، كالمصرف الذي يأوي مياه الخريف وقذارة البالوعات، ويأويه ورفاقه ساعة النوم أو أوقات الأزمات حينما يلاحقهم أصحاب الأحذية الثقيلة.


في ذات اللحظة التي انهمرت فيها دموعه، علت موسيقي التتر معلنة بداية عرض الفيلم الهندي. فالتفت حماد نحو عمر وما وجده بجانبه، والخرقة التعسة بفمه الصغير، تعلن عن وجودها وتروي مأساة شعب بأسره.


تلفت حماد ذات اليمين وذات الشمال لا أثر لرفيقه الصغير بالمرة. أحس بطعم المرارة في حلقه، وشيء يلدغه كالندم. فشرد ببصره هنيهة عله يهرب من ذلك الإحساس المباغت.


ها هي ذي موسيقي التتر قد استسلمت لمطاردة عصابة ما، لبطل ما، في بداية حيثيات السرد السينمائي. وتناهت أصوات الأعيرة النارية، وصرير الإطارات المسرعة إلي مسامع حماد – هذه المرة - عاليةً جداً ومزعجةً جداً. فنهض متثاقلاً يجرجر أقدامه من أزقة فريق جهنم نحو السينما، لكن من دون رفيقه الصغير هذه المرة.



مزمل الباقر
امدرمان في 2001م



#مزمل_الباقر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عن ما جرى الشيوعيين في عهد النميري - قراءة في كتاب حسن الجزو ...


المزيد.....




- فادي جودة شاعر فلسطيني أمريكي يفوز بجائزة جاكسون الشعرية لهذ ...
- انتهى قبل أن يبدأ.. كوينتن تارانتينو يتخلى عن فيلم -الناقد ا ...
- صورة فلسطينية تحتضن جثمان قريبتها في غزة تفوز بجائزة -مؤسسة ...
- الجزيرة للدراسات يخصص تقريره السنوي لرصد وتحليل تداعيات -طوف ...
- حصريا.. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 المبارك وجميع القنوات ال ...
- الجامعة الأمريكية بالقاهرة تطلق مهرجانها الثقافي الأول
- الأسبوع المقبل.. الجامعة العربية تستضيف الجلسة الافتتاحية لم ...
- الأربعاء الأحمر -عودة الروح وبث الحياة
- أرقامًا قياسية.. فيلم شباب البومب يحقق أقوى إفتتاحية لـ فيلم ...
- -جوابي متوقع-.. -المنتدى- يسأل جمال سليمان رأيه في اللهجة ال ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - مزمل الباقر - تضاريس النزوح الأخير