أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عائشة مشيش - شهرزاد والحكاية ..














المزيد.....

شهرزاد والحكاية ..


عائشة مشيش

الحوار المتمدن-العدد: 3963 - 2013 / 1 / 5 - 01:00
المحور: الادب والفن
    


أرخت شهرزاد بظلالها على تراجيديا شكلت رؤوس النساء فيها قربانا للذكورية الحاكمة، تلك الذكورية التي أهينت كرامتها. والحال هو أنها ليست ذكورية عادية، بل إنها رمزيتها. فالعرش بأركانه وطقوسه وتاجه إنما ينطق رمزية السلطان ذي الفحولة المسورة بالسيوف والقوة، وكل الصفات التي يحاكيها الإنسان المهووس بالسلطة كما كان الحال لدى الإغريق في أسطورة هوميروس، حيث الإنسان كان يحاكي الآلهة الإغريق.
في حالة معكوسة كانت هيلين نذير شؤم على شعب طروادة، حينما أهانت مينيلاس، فكان أن دمر الآثينيون حضارة طروادة، ليس عن طريق القوة، وإنما عن طريق الفتنة والإغواء: هدية الحصان الذي فتن حكام طروادة، فأقبلوا عليه لكي يجدوا فيه حتفهم، كان بطل هذه الفتنة أوليس الماكر الذي استطاع بمكره وإغوائه أن يحقق ما لم تحققه كل جيوش أثينا. كان أوليس يعرف معنى الإغواء، وذلك هو ما أنقذه من خطر جزيرتي كاريبد وسيلا حيث كانت عرائس البحر تفتن، بأصواتهن الساحرة، ربان السفن بالتقرب إلى الجزيرتين حيث الهلاك والموت؛ ولم ينجح في ذلك إلا بعد أن طلب من جنوده إغلاق آذانهم بالشمع. أليست صوت الموسيقى فتنة وإغواء وإبطالا للعقل وتشغيلا للعاطفة ؟
على العكس من هيلين، كانت شهرزاد فائقة الذكاء والفطنة والمكر الجميل، حينما واجهت شهريار بشجاعة كي تهدئ من روع السلطان المجروح، فبدل الحرب والقتل والسيوف، كان الذكاء والإغواء قمينان وجديران بأن يحولا مجرى الأحداث المأساوية: كل ليلة يتزوج شهريار ويستمع إلى حكاية، فلا يكاد يتبين نور الفجر، ويستيبن بياضه، حتى تكون المرأة الحاكية قد لبت شهوة السلطان في الانتقام. تبدأ كل ليلة بزواج وحكاية وتنتهي بموت الحاكية المرأة كقربان.
من يوقف هذا الرهان الدموي ؟ ليس في الرجال من يفعل ذلك، ولا في النساء من يستطيع ذلك. فقط الجمال الروحي لشهرزاد ومكرها الفطري يستطيع أن يوقف هذه اللعبة المأساوية، لعبة الموت، حيث الروح لا تبلغ أن تساوي قدر الحكاية. على الحكاية أن تكون أقوى من السلطان نفسه بكل أركان عرشه ودروعه وحاشيته وغلمانه وجواريه.
كيف للحكاية أن تكون أقوى من السلطان ومن السيف ؟ كيف للحكاية أن تجعل العرش خاليا من الملك ؟ على الحكاية أن تكون أكبر من نفسها ومن كل هذا المشهد الرهيب. هذا ما فكرت فيه شهرزاد التي امتزجت عندها الحكاية بالإغواء والفتنة، اللسان الفصيح والمبدع والمخترق للسلطة وفحولتها. الحكاية الفاتنة واللسان الفاتن. أليست الفتنة أشد من القتل ؟
هي كذلك بالفعل ! فالفتنة بلبلة وشغب صامتان، لكن قادران على زعزعة ثبات العقل وهيبة العرش وقوته. تقلب الفتنة الوضع، فيصبح العقل جنونا والقوة ضعفا والسيف حريرا والبأس حبا والغضب حلما والعنف عاطفة والقسوة ليونة والكآبة فرحا والقلق انشراحا والسياسة شعرا والظلم عدلا والتوتر سكينة ... هكذا تصبح الحكاية الفاتنة رحمة مزدوجة: تنقذ السلطان من الكراهية والنساء من الموت. تلك هي عبقرية شهرزاد: المرأة التي جمع فيها الحسن والجمال وفن اللسان ونور العقل وعمق الحكمة والمكر المليح ...
قال الشاعر مظفر النواب:
كيف تجرأتَ تدّقُ علينا في الليل
فإن اللذات تنام وراء الباب بدون ملابسها
ويسيل لعابك...
كيف اللذات تكون بدون ملابسها؟

طرقت شهرزاد قلب شهريار حيث ترقص اللذات وترقد العواطف وتنتفض الشهوة وتتمرد الرغبة وكل الأشياء الجميلة التي لا تخلو منها أعتى القلوب. أيها الأمير، أنا سأحكي لك حكاية ! تقول شهرزاد وحال لسانها يقول: أيها الأمير، أنا سأفتنك فتكف عن القتل ويهدأ روعك ! ذلك أن الفتنة هي أيضا إغواء وإغراء. أن أغري يعني أجعل المعنى أقوى وأضخم من حجمه، فأجعل الطرف الآخر يضعف أمامي. في كل إغواء مغامرة ومقامرة ! ألا يغري المال بالسرقة ؟ ألا تغري الحسناء بالعصيان ؟
أن تغري شهرزاد الأمير معناه أن تجعله يتوقف عن القتل رغبة في المزيد من الإغراء، فينتصر الفن على بأس السيف، وتنجو باقي النساء من لعبة الأمير القاتلة. تبدأ الحكاية بالفتنة والإغواء، وينسكب الحكي كقوس قزح لمعانا فاتنا يعطل مركزية العقل ويؤجج المشاعر ويخصب العواطف، فيدخل الجسد في حكاية لا نهاية لها. تلد الحكاية حكايا أخرى فاتنة تلد هي الأخرى حكايا تطيل أمد الإغراء والفتنة، فيصبح الأمير "مهزوما". وإذا كان عقل الشيء هو مسكه وربطه، فإن فتنة العقل تعني جعله يفلت عن عقاله، وتقولها العرب أيضا عن المجنون ! رجل مفتون أي مجنون، فمنزلة الفتنة هي منزلة جنون. وفي السياسة تمرد وعصيان يستدعي القتل، قال الحجاج:

يا أهل الكوفة إني والله لأحمل الشر بحمله، وأجزيه بمثله، وإني أرى أبصارا طامحة وأعناقا متطاولة ورؤوسا أينعت وحان وقت قطافها، وإني لصاحبها ... إن للشيطان طيفا وإن للسلطان سيفا !
حولت حكاية شهرزاد نهار الملك ليلا أبديا، فلم يعد يستفق إلا من أجل سماع باقي الحكاية الفاتنة التي ما أن تنطلق حتى يجد السلطان نفسه في بحر تتقاذفه الحكايات الفاتنة، فالحكاية ترميه من حكي إلى حكي، وفي حكي تفاصيله مغرية تفتن القلب وتذيب الروح فتملأها حنانا وعاطفة وشوقا وتطلعا للمزيد ... فالحكاية حكايات ينسكب منها الخيال كالماء الزلال وكإكسير الحياة.
أتبثت شهرزاد أن الحب والفن والحكي والسر الفاتن دواء شاف لكل روح مجروحة أو مهانة مكتئبة. ولم يستفق السلطان وتنتهي الحكاية اللامتناهية إلا بعد أن كانت شهرزاد قد أنجبت منه أطفالا، فاستحال عليه قتلها وانتهت اللعبة المأساوية وتوقف الرهان وانتهى الألم وانتصر الحب.

عائشة مشيش



#عائشة_مشيش (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295


المزيد.....




- صراع الحب والمال يحسمه الصمت في فيلم -الماديون-
- كيف يبدو واقع السينما ومنصات البث في روسيا تحت سيف العقوبات؟ ...
- الممثل عادل درويش ضيف حكايتي مع السويد
- صاحب موسيقى فيلم -مهمة مستحيلة- لالو شيفرين : جسد يغيب وإبدا ...
- دينيس فيلنوف يُخرج فيلم -جيمس بوند- القادم
- افتتاح معرض -قفطان الأمس، نظرة اليوم- في -ليلة المتاحف- بالر ...
- -نملة تحفر في الصخر-ـ مسرحية تعيد ملف المفقودين اللبنانيين إ ...
- ذاكرة الألم والإبداع في أدب -أفريقيا المدهشة- بعين كتّابها
- “361” فيلم وثائقي من طلاب إعلام المنوفية يغير نظرتنا للحياة ...
- -أثر الصورة-.. تاريخ فلسطين المخفي عبر أرشيف واصف جوهرية الف ...


المزيد.....

- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي
- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي
- خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية ( ... / عبير خالد يحيي
- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي
- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي
- دفاتر خضراء / بشير الحامدي
- طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11 ... / ريم يحيى عبد العظيم حسانين
- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري
- إعدام عبد الله عاشور / عقيل الخضري


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عائشة مشيش - شهرزاد والحكاية ..