أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - مَراكش؛ أذواقٌ، أصواتٌ، بَصَرُ















المزيد.....

مَراكش؛ أذواقٌ، أصواتٌ، بَصَرُ


دلور ميقري

الحوار المتمدن-العدد: 3959 - 2013 / 1 / 1 - 23:33
المحور: الادب والفن
    


1 ـ بين مَقاهٍ ومَلاه:
مَراكش، ذات النعوتِ العَديدة، العَتيقة، المُعبّرة عن بيئتها وأهوائها؛ كمَدينة الحمراء، مَدينة النخيل، مَدينة البهجة.. وغير ذلك من أسماءٍ مُستجدّة، مُبتكرة، أضيفت إليها في زمننا المُعاصر. من نافل القول، أن مَراكش تختلفُ عن مَثيلاتها من الحواضر، في داخل المَغرب وخارجه، سواءً بالنسبة لطبيعتها أو طبائع ساكنيها. ها هنا مدينة كبرى، تشبِهُ واحَة نخيلٍ في الصحراء، تطلّ عليها جبالٌ مُعمَّمَة بالثلوج ومُلتحِفة بالغابات؛ هيَ المُمتدّ اقليمها حتى البَحر، المُحيط. ها هنا، فوق ذلك، أناسٌ جُبلوا على الطبع المَرح، المُبهج، المُعبَّر عنه بالموسيقى والطرَب والرّقص، فضلاً عن الحكي والمِلَح والنوادر. بيْدَ أن مراكشَ، أيضأ، مَدينة مَنذورة للمُتناقضات والمُفارقات. حتى ساحتها الأشهر، المُوحي اسمها بمَعنى الفناء، فإنها أكثر أماكن المَعمورة احتفالاً بالحياة. في هذه الساحة، أين مَركز المدينة القديمة، لا بدّ أن تتيقظ حَواسكَ، جَميعاً، سواءً في الليل أو النهار: أصواتُ المنشدين وآلاتهم؛ عَبقُ المطاعم الشعبية؛ طعمُ المأكولات والمرطبات والمشروبات؛ مَناظرُ الأسواق المحيطة؛ مَلامِسُ الأشجار والعرائش وكذلك الأقمشة والنفائس: إنها " ساحة جامع الفنا "، التي لا يجوز لها أن تصمتَ إلّا لدقيقةٍ أو نحوها، وفقط عند ارتفاع أصوات المؤذنين، الداعية إلى الصلاة. عندئذٍ، تتوقف الموسيقى والغناء على حين فجأة، مما يَجلب دهشة السيّاح المتواجدين؛ في الوهلة الأولى، على الأقل. ولكن، في اللحظة التالية، يَرفع المنشدُ أصبعَ الشهادة باتجاه السماء مُردداً مع المؤذن: " الله أكبر ". على أنّ صلاة الفجر، المُفترض أن تفتَتِحَ يومَ المؤمن، فإنها تكون مُختتم ليل الساحة، الحافل، مع موسيقاه ومطربيه وروّاده. إذاك، يَنفضّ الجمهورُ فيذهب كلّ منهم في سبيله، بينما المنشدون يَنهمكون بجمع أدواتهم. هؤلاء وأولئك، ربما يلتقي الكثيرُ منهم لاحقاً في " الكتبيّة "، وغيرها من المَساجد القريبة.
ها هيَ خطى الجوّال، المُتمهّلة، تجوب هذه الساحة مُذ مُبتدأ صباحها. العيون بدَورها، المُتأملة، تستطلع المكانَ رويداً علّها تجدُ فيه جديداً ما. من النادر أن يَطرأ تغيّرٌ هنا، حتى لو غبتَ عن المَدينة خمسة أعوام كاملة. ولكن، من ناحية أخرى، فإنّ مجرّدَ حفرياتٍ هيّنة في المَجاري، على طرف الساحة مثلاً، فمن الممكن ألا تنتهي خلال ستة أشهر أو ربما سنة. لقد أتيتُ إلى مَراكش خلال رحلاتٍ ثلاث، وكانت آلات النبش، علاوة على أكوام التراب، ما تفتأ قائمة قدّام أعين روّاد أشهر كافيه في الساحة. هذا المَقهى، المنعوت باسم دولة اوروبية متوسطيّة، كان قد أصابني بالخيبة خلال زيارتي الأولى لمَراكش، التي جدَّت في عز حرّ يوليو. إذ ما أن أصبحَ فوق رأسي، النادلُ الشديدُ السّمرة ذو القامة الجبّارة، حتى طلبتُ منه بالعربيّة كأساً من البيرة، المُثلّجة. " نحن لا نقدّم الخمرة هنا.. "، قال لي الرّجلُ المُهيب الطلعة بنبرَة جافة. سويعة أخرى، على الأثر، حينما التقيت مع من كانت خطيبتي بعدُ، فإنها علّقت على الحكاية مُتضاحكة: " وكنتَ تريدها مُثلّجة، أيضاً..؟؟ ". غيرَ أنّ موقفاً آخر، مُختلفاً ولا مَراء، جاز له أن يُسعدني. إنّ نادلَ المَقهى نفسه، كان قد لاحظ ذات يوم انشغالي بالكتابة في دفتر صغير، فسألني باسماً ما إذا كنتُ صحفياً. " تقريباً.. "، أجبته ثمّ أضفت " ولقد كتبت عن مقهاكم بالذات، في إحدى مقالاتي ". ذهبَ الرّجلُ إلى شأنه، غيرَ أنه ما لبث أن فاجئني بعودته ثانية ً ليطلبَ مني أن أكتبَ له اسمَ الموقع، الذي نشرت فيه المقال. حينما غادرني هذه المرّة، فإنني شيّعته بنظري: لقد اتجه نحوَ شخص أنيق الملبس، مسنّ نوعاً، كان يجلس خلفَ ماكنة الفواتير، لكي يُسلّمه العنوان المَطلوب. حينما التقت أعيننا، المُعلّم وأنا، فإن رأسَهُ المُكلّل بالشيب اهتز في ايماءةٍ خفيفةٍ، مُحيّية.
بدءاً من رحلتي السادسة، المَراكشيّة، المُوافقة لربيع العام 2010، أضحيتُ ضيفاً مُثابراً على مَقهىً في حيّ " غيليز "، كان قد تمّ افتتاحه حديثاً. هذا المَقهى، الذي يَحملُ اسمَ مُمثلٍ هوليووديّ شهير، قائمٌ على ناصيَة الشارع الرئيس، الذي يَحفلُ بحرَكة السيّاح المُتجوّلين والسيارات والدراجات الناريّة سواءً بسواء. عائلة من أشجار النخيل، تنبثق من مَدخل البار ـ الديسكو، المُقابل للمَقهى، تتناهى سعفاتها إلى أسوار الفندق الفخم، ذي الاسم التركيّ؛ ثمّة، أين تلتقي بخمائل البوكسيا وتاج النار، المُزهرة، وأغصان أشجار الأكيدنيا، المُثمرة، وأطراف شوكيّة الشمعدان، الباسقة. نادراً ما كنتُ أجلسُ في جهة الشارع ذاك، الرئيس، الذي يُمكن منها رؤيَة الكافتيريا الأنيقة، الايطاليّة باسمها ومرطباتها، وأيضاً المطعم الأمريكيّ لوجبات البيتزا، الحارّة. في هذه الجهة، المَغروسة جوانبها بأشجار البرتقال، فإنّ عيون الجوّال تجدُ مَناظرها الأثيرة في شلالات البوغنفيليا، المَسحورَة، المُنهمرَة خِللَ أسوار الفيلات والمحلات والأبراج. من الساحة القريبة، التي ينتهي فيها " شارع محمد الخامس "، كنتُ مُعتاداً على جلب زهرات ثلاث من عرائش الياسمين، التي تسوّر الحديقة المُجاورة. في أحد أصباح الربيع، الرخيّة، أطلّت عليّ فتاة في مُقتبل العُمر، مُكتسية بمَلبس نادلي المَقهى، المُميّز. هذه النادل، الجديدة، كانت بشرتها خمريّة، ناصعة، جعلتني أحزرُ بأنها من نواحي الشمال، المَغربيّ. سألتني مُتبسّمة: " كيفَ عرفتَ أنني من فاس؟ "، فأجبتها بنبرَة مازحة أنّ جمالها ينتمي إلى أصلٍ أندلسيّ. حينما تهيأتُ لمغادرة المَقهى، تركتُ للفتاة بخشيشاً على الطاولة مع الزهرات تلك، الثلاث. في قادم الأيام، وعلى الرغم من ندرة أحاديثي مع هذه المُستخدمة الفتيّة، الحسناء، إلا أنني كنتُ أواظبُ على نفحها الإكراميّة، المُعبّقة بنفح أزهار الياسَمين. إلى أن كانت رحلتي هذه، الأخيرة، التي فوجئت فيها باختفاء أثر فتاة المَقهى، نهائياً. في عام مَضى، كانت هيَ قد أعربَت لي ذات مرّةٍ عن تأثرها لما يَحصل في سوريّة؛ في بلد الجَمال والياسَمين.
أمكنة اللهو، مثل البار والديسكو، يَقع أكثرها في حيّ " غيليز "، الراقي. هنا، يُمكن أن تقدّم للرواد المشروبات الكحوليّة، بشرط أن يكونوا غرباءَ لا مَغاربة. ربما مرتين ، لا أكثر، تسنى لي فيهما ارتياد هكذا أمكنة في مُجمل رحلاتي التسع إلى مَراكش؛ مدينة البهجة. كلاهما، كما أذكر، أعقبَ دعوتي إلى العشاء لشقيقة زوجتي ورجلها، الفرنسيّ الأصل. كنا نحن الأربعة، ذات مساءٍ ربيعيّ، قد توجهنا بالسيارة إلى بار ـ ديسكو، ليس بعيداً عن أحد المطاعم الراقية؛ ثمّة، أين تعشينا للتوّ. هناك إذن في حيّ " غيليز "، الحديث، الذي تقطنه جالية فرنسيّة كبيرة، غشينا هذه الحانة لنرى أن معظمَ ضيوفها كانوا من أبناء تلك الجالية. لقد شربنا ورقصنا وتسامرنا، حتى بعد انتصاف الليل بساعتين. وكنت، من جانبي، من المَسرّة حتى أنني سلوتُ أمرَ المنغص الطاريء، المُستهلّ به بداية المساء: مُسبقاً، وكالعادة، كان قد خامَرني شعورٌ بعدم الرضا عن وجبة العشاء، المُقترحة. وإذ تفرّدت زوجتي وقتئذٍ باختيار طبق " لازانيا "، فإنني آثرت مُشاركة عديلي وامرأته في تفضيل طبق شواء السمك، " السلمون ". جاءت المقبلات، أولاً. وكيلا يشتط خيال القاريء في رسم هذه المقبلات، فإنه يتوجّب القول بكونها صحناً صغيراً يحتوي نصف دزينة، كاملة، من حبات الزيتون. وقد شكّت في بعض الحبّات، المَحظوظة، أربعة أعوادٍ من العيدان الرفيعة، الخاصّة بنكش الأسنان. هذه الأخيرة، في المُقابل، لم تحتج إليها قوارضنا بعيدَ الانتهاء من تناول الوجبة الرئيسة؛ طالما أنها لم تقلّ هزالاً عن المقبلات تلك. ينبغي ألا أغفل ذكرَ مَعلومةٍ أخرى، ترتبط بالمناسبة السعيدة، وهيَ أنّ مَراكش تعتبر أيضاً مدينة الزيتون، حيث يُمكن دفع دراهم قليلة حَسْب لشراء كيلو، كامل، من أنواعه الجيّدة. وعلى أيّ حال، فقد توجّبَ عليّ تسديد فاتورة ذلك العشاء، البالغة ضعف مثيلتها في السويد؛ أيْ في البلد الأوروبيّ الشماليّ، الذي أقيم فيه، والمُعدّ بين أوائل الدول من ذوي مستوى المعيشة، الغالي.
2 ـ بين الدروبِ والعَرَصات:
مقالي الأول عن مَراكش ( الذي تكلّمتُ في شأنه مع نادل مقهى ساحة جامع الفنا )، تطرّق إلى مَوضوع المطاعم. إذاك، نصحتُ من يُحالفه حظ زيارة المدينة، أن يتناول وجباته في الأماكن الشعبيّة؛ لأنها ذات جودة أفضل، وأيضاً بسعر أرخص. مُعظم المطاعم، المَنعوتة بالراقية، التي سبق وزرتها في مراكش وغيرها من المدن المغربيّة، لا تلتزم بالتسعيرة أبداً. النادلُ ثمّة، كأنما هوَ الشخص نفسه في جميع تلك الأماكن: إنه يأتي إليكَ مُتأنقاً كالغندور، مُتبسّماً كالثعلب المُراوغ، فيضعُ لائحة الطعام بين يديك ثمّ ينسحبُ بأدبٍ جمّ. ولنقل أن الوجبة بثمانين درهماً، زائد ما يسمونه هنا بعشرة في المائة خدمة؛ فالمجموع لشخصين، والحالة هذه، هوَ مائتي درهم مُتضمنٌ بخشيشاً مُجزٍ. فما أن تنهي ورفيقتك الغداءَ، بشعور خالٍ من الشبع أو اللذة، حتى يعود ذاك النادل الظريف لكي يضع فوق المائدة صحناً فضيّاً بغطاءٍ مُزركش. وكما لو أنكَ تفتح قمقماً عن عفريتٍ مُرعب، فإنّ الغطاءَ يُرفع عن فاتورةٍ تعادل ضعفَ المبلغ المُفترض، المَحسوب من لدنك مع بخشيشه الكبير. إلا أنّ الفقرَ، من ناحية أخرى، يُعلّم بعض نادلي المطاعم الشعبيّة فنونَ الاحتيال. ففي زيارتي تلك، الأولى، كنتُ مُعتاداً على تناول غدائي في مطعم صغير يقوم على الجّادة نفسها، أين يوجد الرّياضُ الذي أنزلُ فيه. الشيف، كان شخصاً لطيفاً وطيّباً. لقد اقترحَ عليّ، أكثر من مرّة، تجربة تناول وجبات مُعيّنة، مَحليّة، كانت فعلاً بغاية الجودة ومقابل مبلغ يقلّ دوماً عن العشرين درهماً. والوجبة هناك، فوق ذلك، كان يَسبقها صحنٌ من المقبلات، حافلٌ؛ تتراصف فيه السلطة ( يُسمّونها " شلاضة " باللهجة المغربيّة ) مع الجزر المَسلوق والأرز المطبوخ بالبازلاء والباذنجان المُتبّل. لكنّ مُحاسب المَطعم، وكان أكثر شباباً من مُعلّمه ذاك، جاز له أن يفاجئني ذات مرّةٍ: فحينما أعادَ إليّ باقي المبلغ، فإنه كان قد عرضَ أمام عينيّ ورقة نقديّة بخمسين درهماً. ما أن تفقدّتُ المبلغ خارجاً، حتى تيقنتُ أنّ المُحاسبَ قد احتال عليّ؛ بأن استبدلَ بلمحَةٍ الورقة تلك بأخرى، من عشرين درهماً.
مَسيري إلى مَقاهيَ ذاك، المَوْصوف آنفاً، والكائن في حيّ " غيليز "، كان يُسبقه غالباً تسكّعي في الشارع الرئيس، " محمّد الخامس "، المُفضي في نهايته إلى ساحة النوافير الثلاثة، الكبرى. إنه ولا مَراء، المَكان الأكثر اكتظاظاً بالخلق في هذا الحيّ الراقي، خصوصاً لوجود مطعمٍ أمريكيّ للوجبات السريعة علاوةً على أحد أكبر مَخازن بيع الثياب، الأوروبيّة. هناك، كنتُ أرتاحُ بعضَ الوقت على طرَف أحد أحواض الحديقة الصغيرة، التي أعتدت على قطف أزهار الياسمين من عرائشها. في الجهة المُقابلة، كانت تنتصبُ أبنية عاليَة، في غايَة الفخامة، عمارتها الحديثة مُهجّنة بالكلاسيك المَحليّ. محلات الأزياء والعطور، تقع في أسفل الأبنية، في واجهتها وعلى جوانبها أيضاً؛ ثمّة، أين تتشكلُ الدروب المفروشة بالبلاط الزاهي اللون، والمُظللة بأشجار النخيل العاليَة. أكثر المُتواجدين في هذه العَرَصة الفسيحة، الأنيقة، كانوا أيضاً يختارون السورَ الواطيء للحديقة كمَجالس لهم. أما السيّاح عموماً، والبعض من المواطنين المُقتدرين، فإنكَ تراهم في المَقهى الكائن على طرَف الساحة. وإذن، كنتُ ثمّة ذات عصرٍ ربيعيّ، مَشغولاً بالتهام الآيس كريم، الذي اشتريته من مطعم الوجبات السريعة، حينما اقتربَ مني شابٌ أنيق المَظهر نوعاً، يَجلسُ على كرسيّ مُتحرّك. " حضرتكَ عراقيّ..؟ "، سَألني على الفور بعيدَ إيماءةٍ مُحيّية. عندما علِمَ أنني من سوريّة، فإنه راحَ يثرثرُ عما نمّ إلى علمِهِ عن أحداث الثورة هناك، المُشتعلة للتوّ. ثمّ عرّجَ بعدئذٍ على الوضع في المغرب، مُبدياً خشيته من تفجّر الأوضاع بسبب البطالة والفساد والفقر. تململتُ في مَجلسي، فما عتمَ الشابّ المُقعدُ أن لزمَ الصّمت. أخيراً، وفي نهوضي لمُغادرة المكان، فتحَ المُتطفلُ فمَهُ هذه المرّة لكي يَطلبَ مني مَبلغاً من المال. ولكنني، مُحرَجاً ومُتضايقاً في آن واحدٍ، عرَضتُ في المُقابل أن أجلبَ له سندويشاً أو آيس كريم. شكرني بإيماءةٍ من رأسه، لطيفة، ثمّ استدارَ لكي يُغادر المَكان بدَورهِ. بعد ذلك، حينما كنتُ أبصرُ هذا الشاب المُتسوّل، فإنني اعتدّت على إشاحة وجهي إلى الجهة الأخرى. إلى أن التقيتُ معه، مُجدّداً، في سفرتي الحاليّة، ووَجهاً لوَجه. كان ثمّة إذن، في عرينهِ المَعلوم. ما أن وَقعَ بصرُهُ عليّ، حتى هتفَ باحتفاء: " أنتَ عراقيّ، أليسَ كذلك..؟ ".
كلّ الدروبِ مَراكبٌ، تؤدي إلى شطآن مَنارة مَراكش، العظمى؛ " الكتبيّة ". شجرة التوت، المُتوحّدة على طرف ساحة المَسجد المنارة، هيَ الشاهدُ الأقدَم على وجود وليّيْن من أولياء الله، المُباركين. أحدهما، ترقد تجاليدُهُ بالقرب من الشجرة السّبيل؛ في مَقام مُربّع من الحجر الأبيض، مُسوّر في الأعلى بنتوءات هرميّة الشكل، تبرز منها قبّة دقيقة، مُدبّبة. لو أن للوليّ تمثالاً، لما تجسّد أفضل من هذا الضريح؛ حيث المقام بدنٌ، والقبّة رأسٌ. أما الوليّ الآخر، فمُسجّى في ضريح مَكشوفٍ، خرب، في الجهة الأخرى من الساحة، يَفصله عن رفيقه الشارعُ الرئيسُ، الحديث. كأني بالضريحين هما علامتان، رمزيتان، عن مَصير المكان المُقدّس: مسجد " الكتبيّة "، الباذخ العمارة، وقد تمدّد إلى يساره المسجدُ القديم بأطلاله وخرائبه وحفره. إنّ إزالة بعض أوابد السلف، وإشادة غيرها بمحلّها، هيَ شيمة بعض السلالات الملكيّة في المغرب وخارجه على حدّ سواء. إلّا تدمير المساجد؛ إذ لم يفعلها حتى بنو العباس حينما أنزلوا انتقامهم الرهيب بآثار خصومهم، الأمويين. ولكنّ الأضداد، شاءت أن تتماهى هنا أيضاً بالعابرين والمُقيمين. الأولون، هم بمعظمهم من السيّاح الغربيين، المُتألقين بملبَسهم ونظافتهم؛ أما أولئك الآخرين، فإنهم مُتسوّلون بائسون، تكوّموا تحت قناطر دروب المنارة بأسمالهم وأطفالهم. فتاة صغيرة، بالكاد يبدو عليها أنها أكملت الدزينة من أعوام عُمرها، كانت تطاردُ السيّاح بلجاجةٍ ووقاحةٍ، حدَّ البصاق على من لا يتصدّق على " أمّها "، المُستلقية ثمّة في ظلّ الأشجار. تشديدي على المفردة فيما سبق، مردّهُ ما يُعرف عن مُحترفي مهنة التسوّل ( الذين يُطلق عليهم " طلّابة " بالدارجة المحليّة )، ممن يَلجئون لمختلف أنواع التنكّر والتمَظهُر والانتحال: إنها المهنة، المَشنوعة، المُعرَّفة بها مَراكش؛ تماماً، كما هوَ حالُ شقيقتيْها، الدار البيضاء وطنجة، مع مُمتهني البغاء والبلطجة واللصوصيّة.
" هل الأردن هوَ أغنى من بلادنا، من ناحية الموارد؛ فلِمَ إذن تختفي فيه ظاهرة التسوّل؟ "/ هكذا كتبَ، ذات مرّةٍ، الطاهر بن جلّون، الأديبُ المغربيّ، العالميّ. في هذه الحالة، فإنّ الفقرَ ليسَ سبباً، رئيساً، في انتشار أعدادٍ كبيرة من أولئك " الطلّابة " في المدن المغربيّة، وخصوصاً مَراكش. في رمز هذه الأخيرة، " ساحة جامع الفنا "، يحاصرُ المتسوّلون مَداخلها دونما أن يجرئون على غشيَتها. ذلك، على الأرجح، لوجود رجال البوليس، اليقظين، المُلتزمين داخل مَركباتهم عند طرَف الساحة. في رحلتي الأخيرة، وبعدَ غيابٍ عن مَراكش لأكثر من سنة ونصف، لاحظتُ بسرور أنّ تلك المداخل، المؤدّية إلى الأسواق، باتت شبه خالية من الشحاذين، المُزعجين. كانوا من النسوة، غالباً. فما أن تتعثرَ بإحداهن ثمّة، حتى تستهلّ المُطاردة على طريقة أفلام جيمس بوند. أحياناً، كان يبلغ الفظاظة بهاته النسوة حدّ أن أحد التجار، أو الباعة، سيتدخل لكي يُبعدهن عن المكان. في بلدٍ مثل المَغرب، حيث العملُ يُعادل في قدسيّته أداءَ الصلاة، لا غروَ أن يُقابلَ " الطلّابة " بمَشاعر النفور من لدن مواطنيهم. بل ويُمكن سماع الكثير من الحكايات، عن الغنى الأسطوريّ لبعض شحاذي المدينة. من جهته، فالكاتب الأمريكي بول بوولز، الذي عاش معظم حياته في المَغرب، ينقل لنا في إحدى قصصه، الرائعة، حكاية متسوّلٍ شاءَ إدعاء الولاية: لقد ذهبَ إلى مدينة أخرى، لا يعرفه فيها أحدٌ، مُرتدياً أسمالاً تليق بهيئة وليّ مَجذوب. هناك، أخذ يقتحمُ المتاجرَ وهوَ يُطلق أصواتٍ عالية، مُبهمة التعابير، مُهدّدة ومُنذرة. ما أن يتجمّع لدى الرّجل وفرة من المال، حتى يؤوب إلى بلدته الأولى لكي يشتري الأملاكَ، زاعماً أمام أصدقائه بأنه آتٍ من دولةٍ أوروبيّة يَعمل فيها تاجراً ناجحاً. كان من المُمكن لصاحبنا، وقد أصبح غنياً، أن يستقرّ في بلدته ليعيش في رخاءٍ. غيرَ أنّ الطمَعَ، والجَشَعَ، كانا يَدفعانه في كلّ مرةٍ للعودة إلى تلك المدينة، الكبيرة. إلى أن تقرّر البلديّة، ذات يوم، تطهيرَ المدينة من المُتسوّلين بما أن أحد الوزراء سيمرّ بها. عندئذٍ، قبض على الوليّ الدّعي، وأودِعَ في مستشفى المجانين. بقيَ هناك أياماً، يَصرخ خلالها مُطالباً لقاءَ المسئولين ليشرح لهم حكاية انتحاله شخصيّة الوليّ. عبثاً كان صراخ وتوسّل صاحبنا، المتسوّل. إلى أن جاء ذلك اليوم، الذي نسيَ فيه الرّجلُ سببَ وجودِهِ في المستشفى.



#دلور_ميقري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مَراكش؛ زوايا، أماكنٌ، بؤرُ
- مَراكش؛ أشجارٌ، عرائشٌ، بشرُ
- شبّيحة علويّة، شبّيحة كرديّة
- حكاية شبّيح
- لأجل من قامت الثورة..؟
- ماردين؛ مِحَن الأسلاف
- مازيداغ؛ مسالك الأسلاف
- حلب؛ حلول الأسلاف
- الحسكة؛ معسكر الأسلاف
- قامشلو؛ ممرّ الأسلاف
- عامودا؛ منفى الأسلاف
- رأس العين؛ فردوس الأسلاف
- أبو بكر وعلي و.. جورج
- حلم الحاكم
- خالد بكداش؛ طاغية بلا سلطة
- ثيمة الانتقام في السينما الكلاسيكية
- مرشح لجائزة شبيّحة بلا حدود
- سليمو وباسطو وأوجلانوس
- مشعل التمّو؛ شاهداً وشهيداً
- حسن ومرقص: فيلم الفتنة الدينية


المزيد.....




- أفلام كرتون على مدار اليوم …. تردد قناة توم وجيري الجديد 202 ...
- الفيديو الإعلاني لجهاز -آي باد برو- اللوحي الجديد يثير سخط ا ...
- متحف -مسرح الدمى- في إسبانيا.. رحلة بطعم خاص عبر ثقافات العا ...
- فرنسا: مهرجان كان السينمائي يعتمد على الذكاء الاصطناعي في تد ...
- رئيس الحكومة المغربية يفتتح المعرض الدولي للنشر والكتاب بالر ...
- تقرير يبرز هيمنة -الورقي-و-العربية-وتراجع -الفرنسية- في المغ ...
- مصر.. الفنانة إسعاد يونس تعيد -الزعيم- عادل إمام للشاشات من ...
- فيلم -بين الرمال- يفوز بالنخلة الذهبية لمهرجان أفلام السعودي ...
- “ثبتها للأولاد” .. تردد قناة سبونج بوب الجديد لمشاهدة أفلام ...
- محامية ترامب تستجوب الممثلة الإباحية وتتهمها بالتربح من قصة ...


المزيد.....

- أبسن: الحداثة .. الجماليات .. الشخصيات النسائية / رضا الظاهر
- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - مَراكش؛ أذواقٌ، أصواتٌ، بَصَرُ