أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد المديوني - الحمار(الأخيرة)















المزيد.....

الحمار(الأخيرة)


محمد المديوني

الحوار المتمدن-العدد: 3927 - 2012 / 11 / 30 - 22:06
المحور: الادب والفن
    


شريدا كنت، جائعا ومطاردا، دخلت الغابة القريبة. هناك استطعت أن اختفي حتى يحل الليل فلا شك أن أصحاب السيرك، لن يتوقفوا عن مطاردتي، ولن يتركوني أنعم بالراحة. أما محاولة الوصول إلى المنزل فستكون مغامرة غير محسوبة العواقب ناهيك عن سماسرة الجفاف الذين لن يتورعوا عن بيعي مرة أخرى، وحينها لن يكون أفلاتي من قبضة المروض يسيرا، وإذا أسرت .. إذا قدر الرب أن أأسر، نعم ، سأمتنع عن العرض حتى لو.. ياه، لكنهم سيقدمونني طعاما لأسودهم .. شد ما أكره أن تفترسني أسود أجنبية.. إلهي، لم لم تحولني أسدا أو ذئبا حتى؟ لم يطل استمتاعي بحريتي، فقد تكفل حارس الغابة باكتشافي، كنت حشرت نفسي وسط حرش من أشجار الكالبتوس العالية وبدأت أجتر بعض الأعشاب لأسكت معدتي التي يبدو أنها لا تعترف بالظروف الطارئة، ولم أنتبه للحارس الذي اقترب مني بخفة ورمى بحبله على عنقي. وقبل أن أتمكن من النهوض كان قد أحكم ربطه. قاومت لبعض الوقت وسمعته ينادي اسمين، فظهر على التو رجلان حزرت أنهما من مستغلي الغابة.
"اقتربا.. ساعداني على جر هذا الحمار سنأخذه إلى السرك"
وقع ما كنت أخشاه إذن، تمنيت لو قرر أن يحتفظ بي، لكن يظهر أنه يفضل ثمني على الانشغال بتأمين مأكلي.. "يا إلهي، امنحني القدرة على النطق لدقيقة.. دقيقة فقط أتوسل فيها الحارس أن يحتفظ بي ولا يسلمني لأولئك الكلاب". لم أر جدوى للمقاومة، سلمت أمري لهم، وتركت لدماغي أن يجد الحل في الطريق. حين اقتربنا من الخيمة هرول بعض عمال السيرك. تفحصوا جثتي وصاحوا بصوت واحد:
" هوذا الحمار الهارب.. أين قبضتم عليه ياعم؟"
رد الحارس: "حمار هارب؟ لا شأن لي بحماركم الهارب، هذا حماري أرغب في بيعه، ولن أسلمه قبل أن أتسلم ثمنه"
استدار أحد العمال وحدث مسؤولا أجنبيا فحشر المسؤول يده في جيبه، كان واضحا أن أصحاب السيرك خشوا أن يعرف حقيقتي فيطالب بثمن مناسب، لذلك حسموا الأمر بسرعة وقدموا مبلغا كانوا على يقين من أنه لن يرفضه.
شرع دماغي يعمل بسرعة كما عودني في لحظات الشدة، وبدا لي أن الفرار غدا مستحيلا، وحين أصبحت داخل الخيمة الكبيرة دهمتني فكرة ابتسمت لها حتى افترت شفتاي الغليظتان عن أسناني المصطفة كقطع السيراميك.. قلت:" علي وعلى أعدائي يارب"، وفاجأت مروضي بركلة قوية، ثم ضربت العمود الأوسط، فابتعد المتحلقون خوفا على أنفسهم، واتجهت إلى العمود الثاني، ورغم السائل اللزج الذي انهال على عيني ارتميت بجسمي عليه فتهاوى وانهارت الخيمة على من فيها، وتقطعت أسلاك الكهرباء، فاشتد الهياج وكثر اللغط والصراخ.. ثم ساد سكون غريب.
*******
انزاح جفناي ببطء. كان السكون مايزال سيدا. تحسست مكان الجرح في رأسي وأدهشني ألا يكون له أثر، واستغربت أكثر وجودي في ذلك المكان النظيف: غرفة متوسطة بجدران بيضاء، ونافذة تطل على حديقة انتصبت فيها شجيرات صغيرة. وقفت مرعوبا، ثم تحول رعبي إلى فرحة عارمة، وانطلق صوتي مجلجلا لا يخون: هذا أنفي صغير، وشفتاي كذلك، أوه، ها أنا أقف على رجلي مثل كل ابن آدم .. لم أبق حمارا. أيها السامعون، يا أبي وأمي، ابنكما عاد كما كان.
*******
هرول الطبيب، ومن خلفه ممرضتان نحو غرفة محمود الذي ازداد صراخه يخدش سكون المستشفى: أنا الآن إنسان .. آدمي، حيوان ناطق، لن أخدم كلاب السيرك بعد اليوم.
اقترب الطبيب من محمود. وضع يده على كتفه:
- اهدأ.. لا تتعب نفسك. أرح جسدك على السرير.
- أريح جسدي على السرير؟ ومن قال لك إني مريض؟ دعني أمضي، فقد اشتقت إلى والدي وإلى سامية..
- اهدأ، قلت لك. ستذهب إلى بيتك حين أقرر ذلك. وأشار إلى الممرضتين فاقتربتا من محمود بلطف، تراجع حين رأى الحقنة في يد إحداهما، وأمام مقاومته استعان الطبيب بمعاونين، وحقنت الممرضة ساعده بالمحلول الأبيض اللامع، ثم خرج الجميع إلا الطبيب الذي ألقى بجسده على كرسي بالقرب من السرير حيث أرغم محمود على الاسترخاء وقد بدأ مفعول الدواء يسري في جسده المنتفض. استدار ناحية الطبيب وقال بانكسار:
- دكتور، أرجوك.. أريد أن اعرف لماذا أنا هنا.. لست..
- نعم، أعرف انك لست مريضا، مجرد أزمة ستمر.. وسوف ترجع إلى بيتك.. فلا تجهد نفسك.
- أنصت إلى جيدا يادكتور، لست مريضا كما تتصورون، ولا أعرف سببا لإقامتي في مستشفاكم، كما أنني لا أرغب قط في معرفته. أرغب الآن في شيء واحد: الخروج من هذا السجن النظيف، أريد أن أعمل.. أريد أن أعمل.. صحيح أنني كنت قبل لحظات حمارا.. حمارا حقيقيا، ولم يسرني ذلك كثيرا مادمت قد وجدت شغلا إلى جانب والدي المهدود، لكن والدي تخلص مني حين أرغمه الجفاف، وفي الإسطبل قلت رأيي بصراحة في رئيس مجلس بلديتنا، فباعني لأسود السيرك.. ولم يكن الموت ليخيفني، لكنني قاومت، وكان عقلي خير سند في المحنة.. عملت مع الفرق المتنوعة، وعرضت مهارتي على الجمهور فصفق وهلل.. وكان يفعل ذلك لأنه يجهل حقيقتي، ولو علم لبكى دموعا من دم، ثم لا تظن أنني كنت راضيا عن عملي مع أولئك الكلاب، فلست في الأخير غير حمار بئيس يستغلونه لكسب المزيد، ولا شك أنهم فكروا في اصطحابي معهم في رحيلهم المستمر، فهل تظن أنني كنت أقبل أن أتغرب عن وطني، وأخدم كلابا أجانب؟ لقد حاولت الفرار، ونجحت، لكن سماسرة الجفاف أعادوا بيعي، فهدمت الخيمة على الجميع، وشوت أجسامهم أسلاك الكهرباء، ثم وجدت نفسي الآن على هذا السرير أليس ذلك نوعا من المباركة؟
- "إني أصدقك" قال الدكتور، وتابع محمود:
- " لست مريضا. أريد أن أرى أبي وأمي وسامية، لست مجنونا. اسأل أبي.. هو يعرف أني اختفيت، لكنه لا يعرف أن الحمار الذي كان يحمل عليه سلعته هو أنا.. محمود ابنه.
- قال الطبيب وقد بدا وجهه مشفقا: " اهدأ يا محمود، سيأتي أبوك بعد قليل لعيادتك.. حاول أن تنام الآن، سأرى أحد المرضى وأرجع إليك"
*********
ارتخى محمود على سريره.. اخترق بصره زجاج النافذة. كانت طيور السنونو تلاعب بعضها، وفي رقعة السماء الظاهرة تحركت غيمة يتيمة، وكر شريط من صور مضطربة في مخيلة محمود المتعبة.. "إلهي، من يصدق أن كل ذلك قد وقع؟ علي أن أتماسك وإلا دفعوني إلى حافة الجنون. سأحكي لأبي، وأبعث لاستحضار مروضي في السيرك سأذكره بما كان بيننا.. حينها سيصدقونه إذا رفضوا تصديقي..."
أفاق على يد الدكتور تربت على خده ونهض باسترخاء. كان أبوه خلف الحاجز المتشابك. حين رآه انتصب واقفا واقترب منه:
"أبي.. قل لهم أني سليم ومعافى.. هل تذكر الحمار الذي وجدته في فناء البيت ذلك الصباح؟ لقد كان عونا لك في أعمالك، لكنك تركته يوما في السوق لأنك لم تكن تملك ما تملأ به معدته الكبيرة، هل تذكره؟ أنا كنت ذلك الحمار يا أبي. وها قد أعادتني السماء إلى آدميتي.. دع الطبيب يحرر لي ورقة الخروج لأصحبك...
كان الطبيب قد ألقى جسمه على الكرسي وقد جلل الحزن وجهه واجتاحته ظلال من أسى، وعلى الخدين المتغضنين لوالد محمود انسابت دموع سخينة..






ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- المدرسة الموجهة.. وتوجيه المدرسة
- بيداغوجيا المقهورين لباولو فريري- ترجمة تلخيص آن مينو


المزيد.....




- الفنان الرائد سعد الطائي يدعو وزارة الثقافة لإستلام إحدى لوح ...
- شوي تشينغ قوه بسام: الأدب العربي في الصين كسر الصور النمطية ...
- تكريم الأديبة سناء الشّعلان في عجلون، وافتتاحها لمعرض تشكيلي ...
- ميريل ستريب تعود بجزءٍ ثانٍ من فيلم -Devil Wears Prada-
- ستيفن سبيلبرغ الطفل الذي رفض أن ينكسر وصنع أحلام العالم بالس ...
- أشباح الرقابة في سوريا.. شهادات عن مقص أدمى الثقافة وهجّر ال ...
- “ثبت الآن بأعلى جودة” تردد قناة الفجر الجزائرية الناقلة لمسل ...
- الإعلان عن قائمة الـ18 -القائمة الطويلة- لجائزة كتارا للرواي ...
- حارس ذاكرة عمّان منذ عقود..من هو الثمانيني الذي فتح بيوته لل ...
- الرسم في اليوميات.. شوق إلى إنسان ما قبل الكتابة


المزيد.....

- رواية الخروبة في ندوة اليوم السابع / رشيد عبد الرحمن النجاب
- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي
- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي
- خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية ( ... / عبير خالد يحيي
- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي
- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي
- دفاتر خضراء / بشير الحامدي
- طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11 ... / ريم يحيى عبد العظيم حسانين
- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد المديوني - الحمار(الأخيرة)