حاتم راشد علي
الحوار المتمدن-العدد: 3919 - 2012 / 11 / 22 - 00:34
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
ربما المعادلة التي نستخدمها هنا تختلف كثيرا عما اعتادت عليه جملة من الكتابات المعاصرة .فالمفارقة هنا تكمن في قلب طرفي المعادلة ، فبدلا من ان يكون النص جامدا ،جعلناه متحركا ونرحل الجمود ، وسوء الفعالية للجماعات الدينية،التي فشلت في تأصيل التسامح ، وهذا ما سنحاول ايضاحه في المقال .
ان السؤال الذي نجعله محورا لحديثنا ينطلق من انفتاحية النص ،مقابل تشددية التعامل معه من قبل الجماعات الدينية . فلماذا لايتم تأصيل المعاني والدلالات النظرية مثلا في بنية المجتمعات الاسلامية ؟ لاشك ان ليس هنالك تفسيرا يجمع حوله المسلمون ،والمشكلة هنا ليست كامنة في النص ذاته، بقدر ما هي مرتبطة بمصالح تأريخية واجتماعية ، حولت الجدل حول النص الى جدل طوائفي وقبائلي ،كانت ولازالت تبعاته ماثلة امامنا ،بل هي سبب انقسامية بنية المجتمعات الاسلامية .
ولاعجب ان نرى تفسيرات المفكرين انفسهم يناقض بعضها بعضا ، لكنهم مع ذلك يمثلون فاعلين اجتماعيين ، يؤثرون في حركية الفعل الاجتماعي ،الذي بدوره يكون منقسما الى فعل منفتح ،يقبل بتعددية الادوار وممارسة السلوك الديني ، وفعل متشدد لايقبل بما قلناه ، ومن هؤلاء المفكرين ، ابن كثير ، وابن تيمية ، في صف الفاعلين التشأومين ، وفي الجانب الثاني نرى العراقي الالوسي مثالا على الانفتاح الديني .
ان اعادة قراءة النص ضرورة فرضتها عملية التثاقف (Acclturation ) ، التي لا بد من موقف تجاءها ، وان يعيد صانعي الاشكال الرمزية بناء مواقفهم طبقا لذلك . فقد اتضح لدى بعضهم ، ان الاعتراف بالغيرية الدينية في الاديان موجودة ، ففي قرأن المسلمين نصوص صريحة ترحل الواحدنية للخالق وتحيل التعددية للمخلوق ، من قبيل " الهنا والهكم واحد" ، وفي انجيل مرقص ،قول عيسى القديس " الرب الهنا اله واحد . وليس اخر سواه " ، وكذا القول متوافر ايضا في سفر التثنية ، عند اليهود قول موسى النبي : " اسمعوا يابني اسرائيل : الرب الهنا رب واحد " (جرفروا ، خريف 2009، ص36- 38). فتلك المساحات التي تركتها النصوص ينبغي ان تجد طريقها في ممارسة الادوار بحرية وشغل المراكز الاجتماعية دون تحفظ ، ومن ثم تعايش سلمي .
ولكن يبدو ان المتغيرات التاريخية والاجتماعية ، التي ادخلت بعد النص حالت دون ان تُفٌعل بشكل ايجابي في بنية المجتمعات الاسلامية ، ومن ثم فأن التنافس بل والصراع ،كان هدف المتبارين للسلطة ، والاستحواذ على المجال السياسي برمته ، فعد ذلك رهانا من رهانات العصبية العربية التي اخذت من الدين مبررا لنشاطها السياسي والاجتماعي . وبهذا يمكن القول: ان ظهور الدول والعصور التاريخية التي اشار اليها المؤرخون ، انما هي تعبير عن طبيعة الصراع ، وما يؤول اليه من نتأئج ، مازالت قائمة .
ان عقلانية التعامل مع المواقف الاجتماعية ضرورة من ضرويات فرض التسامح، وهنا اشار جون ديوي للافكار باعتبارها ادوات (Instuments ) ، يمكنها ان تساعدنا في حل مشكل او تنازع ، او اضطراب ، مثًل تركة غير محمودة ، وهذا افضل من ان نعتمد على الغريزة او الاندفاع ، فالافكار كما قال ديوي : " لا تكون افكارا حقيقية الا اذا كانت ادوات نستعينها في حل المشاكل " (بدوي ،1974،ص148). وبناءً على ذلك فالعقل الديني ، او بالاحرى العقول الدينية ، ليست متساوية في ادراكها ، وليست جميعها مصداقا لما قاله ديوي . فالكتاب الاقصائيون لايوظفون الافكار بصفتها ادوات لحل المشكل التاريخي ، وانما يتحركون ضمن الذاكرة المخزونة التي شُبًعت بقساوة الصحراء وعصبية الانتماء للقبيلة . فالعقل الاداتي يحسم الموقف التاريخي لصالح التعددية المجتمعية ، ويؤصل فائدية ذلك بتعايش وتوازن اجتماعيين .
ان صيرورة العقل عند الجماعات الدينية ، مر بمراحل تجهيز واعداد طويلين ، وربما تلك مفارقة ، او تناقض اوردناه هنا ، مخالفا لما وضعناه في العنوان ، لكن المغزى التحليلي والتفسيري ، الذي سنورده لا يعد ذلك تناقضا ، اذا ما قلنا ان الجماعات الدينية لاتقبل التفاوض الاجتماعي في حل مشاكلها ، وهذه هي السكونية التي قصدناها . اما عن تغير العقل ، فهو مر بمرحلة صيرورة بناء سُميت بـ " العقل المتكًون " من قبل الدكتور بدوي( بدوي ، ص155 ) ، الذي يضع نفسه أي – العقل المتكَون – في خدمة الغايات الفردية ، وربما هو يشابه مبدأ " تقسيم العمل الاجتماعي " ، عند دوركايم ، الا انه يعبر في الوقت نفسه عن وظائفية الاجزاء الداخلية للجماعة ، وانعزاليتها عن بقية الجماعات ، مثال نظام الطبقة المقفلة ، او النظام الطبقي الطائفي (The Caste System ) . فهو لا يسمح بحرية الانتقال من طبقة الى اخرى .
ولكن هذا العقل يُشك في معقوليته ؛ لانه يعبر عن حقائق مكتسبة ومقولات وتصورات تم صياغتها بعيدا عن العقلانية رغبة في تجذير البعد الاجتماعي بين الجماعات . في المقابل يأتي دور العقل المكًون ، الذي يكون حائلا دون تحقيق المصالح الانانية ، ومن هنا فأن الجماعات الدينية تلعب دورا مزدوجا ، فهي من جانب تعمم اشكالها الرمزية على افرادها ، من تطرف واقصاء ، وهنا ايضا يأتي دور الفاعل الديني في انتاج المنظومات الرمزية التي يحتم عليه ان يعيد انتاجها دائما ، بحكم مصالحه النوعية ، واستعانته بالاستراتيجيات التي يستخدمها في نضاله (كالتحريم ) Tabo ، هذا هو ما اشار اليه ماكس فيبر Max Waber في بث روح الراسمالية بعطاء تعاليم كالفن التي تغلغت الى حد الـ (Praxis ) .
وتلك الممارسة لم تكن توجد لولا (Critique ) ، الذي مُارس اولا حول جمود الافكار وحدودها الضيقة ، فأنبرى كارل ماركس Kral Marx معبرا عن قناعته بأن جميع العقائد (الدوغمات ) ، تجب مساءلتها ، سواء أكانت دينية ام سياسية (غيدنز ، 2009، ص39). ونقد تلك (الدوغمات) انما هو محاولة أريد لها ايقاف استخدامها ، كأيدولوجيا حيًة في نزاعات معاصرة ، فليس الطعن بسمعة الاخر او نحره قربانا للمقدس الوهمي ، قد اثمر عن نتيجة محمودة ، ولن يكون ممكنا تجميد ذلك ، الا استنادا الى رؤية نقدية ، تكشف النقاب عن خطايا تلك العقائد (مجموعة باحثين ،2005،ص32).
ان الادوات المعرفية في المنطق الجدلي للجماعات الدينية ، انما هي ظاهرة مخالفة تماما لمنطق وروح العصر الذي يرغب في الحوار وليس السجال ، وربما اكثر هذه الادوات هدما لسجية الانسان ، هو التكفير ، الذي يمارس ضد هذه الجماعة او تلك ، فتنفجر مجازر ومذابح ...، فالدين بعموميته ارحب بكثير من ان يضيق على كثير من المسلمين لاي فئة انتموا ، وليس بالضيق الذي يفترضه البعض من الجماعات الدينية ( العاملي ، 2007 ، ص 12 ) .
لقد كتب ماركس قائلا : ( ان الدين افيون الشعوب ) ، ولكن لا يبدو ان فيديل كاسترو ،اقل ماركسية ، او اقل ثورية من ماركس ولينين . فهو مثالا وتعبيرا للممارسة والحياة ، والنظرة الماركسية – اللينينة في امريكا اللاتينية ، ومع ذلك فأنه يختلف مع ماركس ، اذ يعد الدين مثله مثل السياسه او الفن ، يمكن ان يكونا افيونا للشعوب ، لكنه يمكن ان يعطي ايضا دفعة حاسمة للتحرر ، على غرار السياسة او الفن ( الصعيب ، 2009 ، ص17 ) .
لكن هذه الفاعلية للدين لابد ان نكون تجاءها حذرين ، بمعنى ان الدين ( كممارسة ) ، اذا اراد ان يكون فاعلا وليس منفعلا ، شأنه في ذلك شأن السياسة والفن عليه ان يتخذ مسارا مختلفا عما اعتاده من انفعالية تم الاسقاط من خلالها الاحقاد الماضوية ، التي تريد ان تؤسر المجتمع ، وتجعله رهين الصراعات والانقسامات التاريخية . ومن هنا لا بد ان تكون المعادلة مقلوبة منطقيا ، فليس المجتمع للتاريخ ، وانما التاريخ للمجتمع ، وقسطرة فك الانسداد الشرياني بين التاريخ والمجتمع ، هي بحاجة الى قناعة تامة بضرورة العمل على الاهتمام بالحاضر الاجتماعي ، والتعامل مع حاملات لعلاقات جديدة ، تأخذ في الاعتبار الاول طموحات الانسان نحو افق حضاري جديد ، ولا يعني هذا ان الدين ليس احد هذه الحاملات ، على ان يتناغم مع الحاملات الاخرى ( مناف ،مجلة مدارك ، العدد الثامن ) .
والا فان مزيدا من تجريد الانسان من انسانيته ، وخنقه ضمن دائرة المنطق الارسطو طاليسي . فالجماعات الدينية ، يبدو لنا امام مفترق طرق ، اما القبول بالتعددية المطلقة ، التي يطغى عليها التسامح غير المقيد ، او التصوف بعيدا عن الحياة والتأثير على متغيراتها العصرية، وان كان هذا الخيار مجالا للانتقاص من الدين من قبل فاعلية الانظمة الاجتماعية الاخرى ، الا ان لامجال للجماعات الدينية سوى تحديد موقفها من الحاضر والمستقبل الذي ينبىء بمزيد من عمليات التثاقف الحضارية .
فهل بامكان الجماعات الدينية ان تنبذ مواقفها التاريخية المتعصبة ، وتتعامل في حدود المساحة التي اعطيت في الذاكرات المقدسة ( قرأن – انجيل ...) ؟ هذا يعتمد على جملة الادوات المعرفية التي ذُكرت سلفا ، لايقاف عمل ( الدوغمات ) سلبيا في تشرذم وحدات المجتمع ، وخلاف ذلك فان مزيدا من التناقضات الاجتماعية تظهر ، هذه التناقضات تؤطر بنية المجتمعات الاسلامية ، بل العالم الثالث ، الذي يُقحم فيه الدين ، وكأنه الليفاثانان الهوبزي (Leviathan)* ، الذي يتحكم بالاخر ويريد التهامه ، فالدين المجتمعي اذا تحول الى المنطق الهوبزي فأنه يكون متحجرا ، ولايقاف وحشية ذلك لابد من تفعيل العقل الذي يجعل الجميع يعيش بتسامح ووئام . فالعقل في الدين اساسه التسامح ، فلماذا لايعقل المتعصبين ذلك ؟!
الاقتباسات المرجعية
- جوفروا ، اريك ، التعدد في الاسلام او الوعي بالاخرية ، مجلة اديان ، عبر الموقع الالكتروني : http://www.dicid.org/english/index.php
- بدوي ، د. عبد الرحمن ، مدخل جديد الى الفلسفة ، ط 1 ( منشورات مدين ) .
- المصدر نفسه .
- غدنز ، انتوني ، الراسمالية والنظرية الاجتماعية الحديثة ( تحليل لكتابات ماركس ودوركهايم وماكس فيبر ) ط1 ، ترجمة فاضل جتكر ،( دار الكتاب العربي ، بيروت).
- مجموعة باحثين ، التسامح وجذور اللاتسامح ،(بغداد ، مركز دراسات فلسفة الدين ).
- العاملي ، الشيخ مالك مصطفى وهبي ، ظاهرة التكفير في الفكر الاسلامي ، دراسة في تأريخ التكفير في الفكر الاسلامي ، ومجتمعه ، ومبرراته ( دار الهادي ، بيروت ) .
- الصعيب ، حسن ، الماركسية والدين من لاهوت التحرير المسيحي الى لاهوت التحرير الاسلامي ، ( التنوير ، بيروت ) .
- مناف ،د. متعب ، لم التاريخ ؟ بانوراما لثلاثية : زمن ، ثقافة ، اجتماع ، (مجلة مدارك ، العدد الثامن)عبر الموقع الالكتروني : http:// http://www. Madarik. Org8/ 0.htm
- (*) Leviathan ، هو عنوان كتاب هوبز، التنين الهائل المذكور في سفر ايوب ، ويقصد هوبز منه انه الحكم المطلق ، ويصفه ذو قلب صلب كالحجر وقاس كالدهر ليس له في الارض نظير، ويوظف هذا المعنى في حالة الاجتماع الاولى للبشرية التي سادها العنف تحت شعار الكل في حرب ضد الكل .
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟