أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الثورات والانتفاضات الجماهيرية - كريم اسكلا - أسس الشرعية في مجتمعات ما بعد الثورة التونسية















المزيد.....


أسس الشرعية في مجتمعات ما بعد الثورة التونسية


كريم اسكلا

الحوار المتمدن-العدد: 3903 - 2012 / 11 / 6 - 05:52
المحور: الثورات والانتفاضات الجماهيرية
    


أسس الشرعية في مجتمعات ما بعد الثورة التونسية


إن الحراك الاحتجاجي الثوري الذي تعيشه العديد من المجتمعات المغاربية و المشرقية ، و الذي أججته الثورة التونسية، ما هو إلا تعبير عن إرادة إعادة صوغ العلاقات المجتمعية على أسس و مبادئ جديدة، فهو بالتالي إسقاط عملي للشرعية عن البنيات و العلاقات القائمة.

في هذا المقال نحاول فهم و تفهم طبيعة و مسببات هذه الثورات،إذ نذهب إلى درجة تبني التأريخ للمجتمعات إلى مجتمعات ما قبل وما بعد الثورة في تونس، ليس فقط نظرا للثأثيرات التي أحدثتها و يمكن أن تحدثها في المجتمعات العربية والاسلامية، و إنما أيضا في مختلف دول العالم، و كذا على مستوى النظريات السياسية و الفلسفية حول السلطة والدمقراطية والمشاركة السياسية والشرعية ...

فبعد سلسلة التهاوي المتسارع لمجموعة من الأنظمة السياسية العربية، و في ظل تصاعد موجات الحراك الثوري الاحتجاجي ضد حكام آخرين، للمرء أن يتساءل عن السبل والوسائل التي انتهجها هؤلاء الحكام للوصول إلى الهيمنـة على شعوبهم كل هذا الزمن ؟ و كيف و لماذا سقطت أنظمتهم فجأة بهذه السرعة و بهذه الطريقة ؟ كيف يتم بناء وتهديم شرعية نظام حكم سياسي ؟ و بتعبير آخر، بما أنه لا يمكن لشخص أو لفئة أن تبسط هيمنتها إلا بتواطؤ من الفئة المهيمن عليها، فكيف انتزعت الأنظمة الحاكمة في الدول المغاربية و المشرقية شرعيتها؟ و ما هي العوامل التي أدت بالشعوب إلى الثورة عليهم و إسقاط الشرعية عنهم؟ أشخاص و عائلات هتفت بأسمائهم حشود من الناس لعقود، كيف تنهار أنظمتهم في ظرف شهر أو شهرين؟ ... لا يمكننا بالمطلق التوصل إلى أجوبة مقنعة لكل تلك التساؤلات، و هذا المبتغى لا نرجوه أصلا، إذ يكفينا أن نستفز في الفكر بعض التساؤل و القلق.

لعبة الهيمنة و بناء الشرعية :

يقول بيير بورديو في حوار أجرته معه مجلة الفكر العربي المعاصر، عدد 37، دجنبر 1985: ( إن السلطة ليست شيئا متموضعا في مكان ما، و إنما هي عبارة عن نظام من العلاقات المتشابكة، ونجد أن كل بنية العالم الاجتماعي، ينبغي أن تؤخذ بعين الاعتبار، من أجل فهم آليات الهيمنة والسيطرة ) .إن السلطة إذن، حسب بورديو، بمثابة نظام معقد، يخترق كل العلاقات والترابطات، التي تشتغل داخليا، بواسطة آليات دقيقة وجد فعالة، تتحكم في البنية العامة لذلك النظام . و السلطة كما يحددها بيير بورديو تعتمد أسلوب الإخفاء، وهي لا يمكن أن تحقق تأثيرها المفترض، وتنفيذها بشكل فعال وإيجابي، إلا من خلال الاعتراف من طرف أغلبية الناس المعنيين بها، والذين تبدو لهم هذه الحقيقة وهمية، ولا يعترفون بها . يقول بورديو في كتابه الرمز والسلطة ( إن السلطة الرمزية هي سلطة لامرئية، ولا يمكن أن تمارَس، إلا بتواطؤ أولئك الذين يأبون الاعتراف بأنهم يخضعون لها، بل ويمارسونها ). بالتالي فلا سلطة و لا هيمنة إلا باعتراف و شرعنة من طرف المهيمن عليه.

هنا يبرز مفهوم الشرعية، و ما هي إلا القبول غير القسري (الطوعي) لفئة ما بهيمنة و سلطة فئة أخرى، و نجد أن ماكس فيبر (Max Weber) يعد من الرواد في الأخذ بمفهوم الشرعية ، حيث حددها بوصفها صفة تنسب لنظام ما من قبل أولئك الخاضعين له، من خلال عدة طرق تتمثل في التقاليد أو بعض المواقف العاطفية أو عن طريق الاعتقاد العقلاني بقيمة مطلقة، أو بأساليب تعد قانونية أو شرعية مقبولة. هذا يعني أنه يعرّف ثلاثة أنواع من الشرعية: التقليدية، والكاريزمية، والشرعية العقلانية. ويكون الولاء والالتزام في النوعين الأول والثاني إلى شخص (رئيس تقليدي، أو زعيم بطل أو زعيم روحي)، أما في النوع الثالث، فتكون الطاعة والقبول لشبكة المؤسسات المبنية بصورة شرعية التي تحمل الطابع الفردي، والشرعية في الأنواع الثلاثة كلها معرّفة في سياق قبول المجتمع به. و لتتمكن فئة من الهيمنة على مختلف الحقول الاجتماعية لابد لها من مراكمة جميع الرساميل ( الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية والرمزية ). كما أن مايكل هدسون مثلا وضع ثلاث قواعد ممكنة لبناء الشرعية، وهي تشكل في الوقت نفسه ثلاثة مصادر للشرعية هي:

- القاعد الشخصية، باعتبار أن المكون الشخصي مكوّن أساسي في السلطات القبلية التقليدية، وفي السياسة المعاصرة أيضا.
- القاعدة الايديولوجية، و تتلخص في مجموعة من المثل والأهداف التي تساعد النظام على فهم الماضي وتفسير الحاضر، واستشراف المستقبل.
- القاعدة البنيوية، أي تلك التي تنبع من المؤسسات، وبقدر ما يكون الحكم متأسساً، يزداد الاعتقاد بشرعية القوانين والنظم.
بشكل مختصر يمكن القول أن الشرعية صفة يجب أن تلازم أي نظام سياسي، من أجل ممارسة الحكم، وهي تقوم على جانبين: الأول شكلي يتمثل في دستورية السلطة، أي بإنشاء جمل من الأنساق القانونية و السياسية و الثقافية و العسكرية و الأمنية التي ترسخ هيمنة الطبقة المهيمنة و سيادة ثقافتها. والثاني موضوعي، يتمثل في قناعة ورضا أفراد المجتمع بهذه السلطة، و هذه القناعة يتم ترسيخا و العمل على استمرارها عبر الأجهزة الايديولوجية للدولة: الاعلام و المدرسة والمؤسسة الدينية ... نتساءل على هذا المستوى: ما هي الأسس التي تبني عليها الأنظمة العربية و الاسلامية (أو المغاربية والشرق أوسطية ) شرعيتها السياسية ؟

الشرعية في مجتمعات ما قبل الثورة التونسية :

تشهد المجتمعات المغاربية و المشرقية إحدى أكثر التغييرات السياسية والسسوسيوثقافية أهمية منذ حوالي 200 سنة – أي منذ بداية فترة فرض مطالب الاصلاح من الخارج - ، فمنذ الفترة الاستعمارية و ما بعد الاستعمار لم تشهد هذه المجتمعات هزات اجتماعية وبنيوية عميقة كالتي تشهدها هذه الأيام، ففي تلك الفترة جاءت مطالب الاصلاح من الدول الاوربية أساسا كذرائع للتغلغل أكثر و المحافظة على الامتيازات و المصالح، باستعمال كل الطرق العسكرية والدبلوماسية المتوفرة لديها، و أمام استمرار الرفض و المقاومة من طرف الشعوب و بعدما أدركت الدول الاستعمارية اسحالة استمرارها في الاستغلال المباشر لتلك الدول، استخدمت سياسة المراوغة ، إذ منحت تلك المجتمعات استقلالا صوريا وشكليا بالتواطؤ مع مجموعة من القوى المحلية. تلك القوى المحلية التي تسلمت مشعل بناء ما سمي دول ما بعد الاستقلال استمدت جزاءا من شرعيتها من هيمنتها على كتابة تاريخ مقاومة المستعمر و محاربة العدو و تحقيق انتصارات وهمية (كحرب أكتوبر و تحرير سينا في مصر مع السادات و عبد الناصر و مبارك، أو توحيد البلاد و مواجهة الانفصاليين في اليمن مع عبد الله صالح، أو حماية البلاد من الارهاب و تحقيق السلم في الجزائر مع بوتفليقة، أو معاداة أمريكا و إسرائيل و النهر العظيم ... في ليبيا مع القدافي ...)، كلها تبث تاريخيا و موضوعيا أنها مجرد أوهام صورت على أنها أحداث وانتصارات و مشاريع ناجحة، فالتاريخ الرسمي لكل تلك الدول أبرز أشياء و أخفى العديد من الأشياء خاصة عن المبررات الحقيقية للاستعمار و الأسباب الحقيقية للإستقلال، و عن جرائم الحرب التي أرتكبت في حق المناضلين الحقيقين ( تصفية العديد من المناضلين من طرف السلطة الفلسطينية ذاتها و من طرف النظام الأردني بالتعاون مع اسرائيل، أو ما وقع في حرب الريف و قمع انتفاضات الأطلس ... في المغرب)، وعن الثورات الشعبية بين تخوم الجبال و بين الأزقة و الشوارع و المقابر، عن أولئك الذين كانوا يدرسون ويكونون أنفسهم استعدادا لما بعد الاستعمار في حين كان الأخرون يقاومون بسواعدهم وصدورهم الصواريخ والغازات السامة... إذن فالفئات الحاكمة في مجمل هذه الدول استمدت جزءا من مشروعيتها من تاريخ مزور.

أما جزءا آخر من الشرعية فاعتمدت فيه أنظمة ما بعد الاستعمار على بناء "مؤسسات الدولة "، حيث تشابك العائلي والطائفي والديني والاقتصادي و العسكري ليصنع تكتلات متشعبة المصالح ومتقاطعة المصير، هذه التكتلات العلائقية هي المحرك الفعلي لدواليب الدولة، بطبيعة الحال بمساعدة و تأطير من الدول المستعمرة، لكن لابد لتلك القوى المتنفذة ( الفئات المحظوظة ) من واجهة مؤسسية مقبولة اجتماعيا و قانونيا بالتالي لابد من:

أولا- صنع نخب تابعة ( مثقفون، إعلاميون...) برمجت عبر مؤسسات التنشئة الأجتماعية على إعادة إنتاج الثقافة السائدة و مقاومة كل بوادر و ارهاصات التغيير الجدري. على سبل المثال في المجتمع المغربي سجلنا غيرما مرة كيف أتهم العديد من دعاة التغيير بالخيانة والجنون والخروج عن الطاعة. و كيف عمل العديد من المفكرون و المثقفون على تزيين و تجميل ما أفسدته سياسوية المفسدين. و آخرها حين أشار العديد من الاعلاميين و الكتاب إلى شباب 20 فبراير باصابع الاتهام إما بالعمالة لاسبانيا و البوليساريو أو بالانحلال الأخلاقي و ايقاض الفتنة. فصناعة النخب المثقفة المدجنة ركن أساس في تثبيت أركان الأنظمة السياسية و في المقابل محاولة تقييد القوى الصاعدة و المقاومة إما بالقتل أو السجن أو النفي أو الإغراء، لكن أيضا صناعة معارضات صورية لتلميع الصورة لدى المنظمات الحقوقية و الدبلوماسية الدولية.
ثانيا - ساسة و دبلوماسيون (دساتير، انتخابات، برلمانات، مجالس للشعب...) لإلهاء الشعوب بالصراع حول القضايا الجزئية و استنفاذ قواها في الخلافات الجانبية. في ليبيا مثلا نشهد كيف أن من وضع كتابا اخضرا يقول فيه أنه بموجبه يضع السلطة في يد كل الشعب، و أن الشعب يسير نفسه بنفسه، كيف أنه يقصف هذا الشعب بالطائرات بعدما ثار ضده. كما أننا شهدنا كيف أجمع المتتبعون على تزويير الانتخابات في جل الدول التي تتدعي الديموقراطية، وكيف تستفتى الشعوب على توريث الابناء في الجمهوريات، كما أنه في دول أخرى وضعت دساتير مثالية لكن الفاعلين الحقيقين يعملون في الظل فوق الدساتير ( حكومات الظل أو الدواوين الرئاسية و الملكية ).

ثالثا- قوى دينية شيوخ و أئمة و زوايا و طقوس و عادات وتقاليد و أعراف ...) لإكساب (الفئات المحظوظة ) الشرعية الدينية و الأخروية إلى درجة تقديسهم و تجريم انتقادهم أو التعليق على أفعالهم و أقوالهم، إما باعتبار أنسابهم أو قيمهم الأخلاقية... أو لأنهم يرعون الشعائر الدينية و يؤسسون المساجد والأديرة و الكنائس، و يحمون الكعبة و الحرمين، أو يعطفون على الفقراء و الضعفاء ببعض الهبات و الصدقات. إذ يتماها الحاكم هنا مع الاله الجبار والرحيم، الغني و العادل في الآن ذاته، أليس الإله هو من تتحد بين يده كل السلطات الدينية و التنفيذية و التشريعية و القضائية ... و في الآن نفس يتعالى على أي انتقاد؟ في دول الخليج مثلا نلحظ كيف اتحدت سلطة المال ( آل سعود بالسعودية ، آل بو سعيد بسلطنة عمان...) مع سلط الدين ( ال وهاب ، الاباضية... ) لشرعنة استمرار و تقديس أسر و أشخاص بعينهم و تنزيههم مدى الحياة. في سوريا خرجت هيئة العلماء تستنكر الخروج على الحكم، و في المغرب عزف بعض العلماء خارج السرب وعابوا على النظام حتى الإصلاح المعلن عنه.

رابعا- أجهزة أمنية ( الحرس و المخابرات... ) ليس لمواجهة الأعداء الخارجيين بل لحماية المنعم عليهم من أي غضب شعبي ممكن. اذ أن الأجهزة ( الجيش ... ) التي من وظائفها الدفاع عن الوطن ضد الأعداء غالبا ما تكون مهمشة ومقصية اجتماعيا و اقتصاديا. نتابع مثلا في الجزائر و موريطانيا وسوريا كيف تتحكم باطرونات العسكر و المخابرات في دواليب الدولة. و في تونس و مصر خلال الثورة لمسنا كيف كان الجيس مغلوبا على أمره هو أيضا مما جعله ينحاز إلى مطالب الشعب من البداية. و في الجهة المقابلة جاءت البلطجة و الفوضى من الحرس و الأمن الرئاسي و المخابرات.

هذا إذن بالنسبة للمشروعية بناءا على بناء " المؤسسات " التي هي في الحقيقة ليست مؤسسات بمعناها السسيولوجي و السياسي باعتبارها بنيات دينامية للتدبير و التسيير الديمقراطي لشؤون الدولة، وانما بنيات بيروقراطية مغلقة لشرعنة استغلال ثروات المجتمعات من طرف الأقلية القليلة. و على الرغم من انسياقنا الى محاولة التعميم و النمذجة، إلا أننا نؤكد أيضا على وجود العديد من الفوارق بين كل نظام و آخر من حيث هوامش الحريات ومن حيث قوة تسلط الأجهزة القمعية.

أسباب ثورات الأمم على الأنظمة :

إن مجمل الدول المغاربية و المشرقية أنظمة أمنية استخباراتية عسكرية لم تصل إلى السلطة نتيجة شرعية تؤهلها للحكم، و إنما أنتزعت شرعيتها بعد سيطرتها على مقاليد الحكم. موظفة كل السبل الشرعية و غير الشرعية لاقناع المهيمن عليهم بشرعيتهم، والأكيد أن العديد من الشعوب قبلت بهذه الأنظمة لمدد زمنية طويلة، لعدة أسباب منها: إقتناع و فرحا بتحقق انتصارات ما على الأعداء، الخوف، غياب الرؤية و البديل، الأمل في تحسن الأوضاع المعيشية، إنسحابا للأهتمام بالمعيشي و اليومي،...فالعديد من الشعوب كانت على يقين من عدم شرعية أنظمة حكمها و من تجدر كل أنواع الفساد في أركانها، إلا أن قوة تحملها و فساحة حلمها و أملهم في تحسن الأوضاع هو الذي كان يؤجل ثورتها. لكن تزايد القمع والقهر وعجز القوى المهيمنة عن إثبات فعاليتها في إدارة الشؤون العامة للبلاد، وبصورة خاصة عجزها عن تحقيق أي إنجازات كبرى في التنمية والتطوير. سواء ما يتعلق منها بالمشاكل الاجتماعية والسياسية، أو باتساع الفوارق الاجتماعية و استفحال مظاهر الثراء الفاحش و الفقر المدقع... كلها عوامل عجلت بانهيار الشرعية بالتالي زوال كل ما تبقى من الدوافع الداخلية للرضا و القبول و الموافقة.

إن زوال كل دوافع الرضا و القبول و البيعة للقوى المهيمنة أدى إلى ظهور حراك اجتماعي تلقائي رافض لكل البنيات و الأنساق القائمة بما فيها الأحزاب و النقابات و النخب ... وبما فيها الأساليب التقليدية للثورات، فاستعملت الوسائل الحديثة للتواصل و أساليب فنية جديدة، و الاعتصام السلمي، و العصيان المدني، إحراق الذات... و ابتكرت أشكال احتجاجية غير مسبوقة في التاريخ... مما ينبئ بتغيير أيضا على مستوى المفاهيم و نظريات السلطة و المشاركة السياسية.

الشرعية في مجتمعات ما بعد الثورة التونسية :

في مجتمعات ما قبل الثورة التونسية بنيت المشروعية على أسس تاريخية مشكوك فيها، كما بنيت أيضا على أسس خرافية عاطفية و دينية، والذي يؤسس شرعيته على ما هو ديني و عاطفي لا يفترض فيه أن يكون منحلا خلقيا و لا يتصور أن يشاهد في سلوك يتناقض مع القيم التي يؤسس عليها مشروعيته، كأن يستمد شخص شرعيته من قيمة الصدق والأمانة و العدالة أو من قيم تحرم التدخين و الخمر و الزنا و الربا... و يكتشف فيما بعد أنه يسرق أموال الشعب، أو يرتشي من أعداء الدولة أو يتاجر في التدخين و الخمر أو يتناوله ... لا يمكن أن يتقبل العقل بدعوى الحرية الشخصية عدم التوقف عند مشهد أن شخصية عامة ممن يؤسسون شرعيتهم على تصور ديني كاثوليكي، في حالة عري سافر في الفضاء العام أو في حالة سكر أو في مشهد جنسي غير قانوني ... يحرمه هو ذاته. كما أنه لا يتصور أن يؤسس شخص شرعيته على قيم الحداثة و التنوير و يكتشف فيما بعد أنه يصادر حق الأخر في الاختلاف. أو أنه يستغل السلوك الأخلاقي لغاية ما كالحصول على منصب ما، فالمفترض منه أن يتمسك بالقيم الأخلاقية بمعناها الكانطي، أي دون أن تكون لسلوكاته الأخلاقية غائية سوى الأخلاق ذاتها.

بتعبير آخر، أن يشاهد شخص يستمد شرعيته من إرثه التراثي الديني المحافظ في مكان أوسلوك مناف لقواعد المرجعية التي يقول أنها تحكمه، لا يجب أن يمرر على أنه حياة خاصة. (كأن نكتشف أن الخليجيين المفترض فيهم أنهم من نسب نبوي شريف و محافظين إلى درجة فرض النقاب على النساء و منعهن من سياقة السيارات و تنفيد أحكام الحدود ضد السارق و الزاني، أن نكتشف أنهم يمارسون كل أنواع الجنس والدعارة و السكر و العربدة و الربا و القمار ...). كما أن مشاهدة تقدمي علماني يطالب عادة بحياد المؤسسة الدينية وضرورة انصرافها عن التدخل في السياسي، أن يشاهد و هو يقوم بحملة انتخابية داخل أو أمام مسجد أو مؤسسة تعبدية لا يجب أن يمرر على أنه سلوك مدني عاد.

حرية شخصية أن يتناول مواطن الخمر أو الدخان...، حرية شخصية أن يختار المرء شريكه من الجنسين، حرية شخصية أن ينفق المرء ماله الذي كسبه بطريقة شرعية على اقتناء ما شاء من فيلات وسيارات... كلها تدخل في الحياة الخاصة و الحميمية للأفراد و التي لا يجادل أحد في ضرورة احترامها و تقديسها، لكن عندما يتعلق الأمر بشخصيات عامة ، المفروض أن تكون الشعوب فوضتها مسؤولية تسيير شؤون الدولة و الحفاظ عليها، على هذا المستوى لا حدود بين المجال الخاص و المجال العام، بالتالي و من باب تفعيل مبدأ الرقابة و المحاسبة، يصبح من الواجب أخلاقيا الكشف عن الحقائق التي تتعلق بمشروعية فرد ما داخل حقل من الحقول الاجتماعية حتى و إن كانت تلك الحقائق تدخل ضمن خانة الحياة الحميمية.

في مجتمعات ما بعد الثورة التونسية يجب أن تؤسس الشرعية على القبول بالرقابة والمحاسبة. فكل من يتحمل مسؤولية ما، يجب أن يسلم مسبقا بضرورة محاسبته خلال و بعد تحمله للمسؤولية، فلا شرعية لمن لا يتقبل الرقابة والمحاسبة. إذ أن كل صاحب سلطة سياسية أو قضائية أو تشريعية أو تنفيدية أو دينية ... لا يتمتع بأية شرعية متى لا ينصاع دوريا لمحاسبة المواطنين. إننا بهذا المعنى نتجاوز النظريات التقليدية التي ترى أن شرعية الحاكم لا تعني بالضرورة أنه صالح و عادل بل فقط تعني أن المحكومين يعدونه ذو سلطات شرعية دستورية. فلا يكفي أن يجمع الناس على شرعية حكم شخص لكي يكون كذلك، ففي مجتمعات ما بعد الثورة التونسية أصبحنا نتحدث عن الشرعية من جانبها التقييمي ( كما يحددها تالكوت بارسونز- Talcott Parsons ) و من جانبها التقويمي ( كما يحددها ليبست - Lipset) أي الشرعية باعتبارها تقييم للفعل وفق القيم العامة والمشتركة، ضمن سياق المشاركة الفعلية في النظام الاجتماعي، لتتخذ نماذج التدبير و التسيير شكل بناء تركيبي قيمي تتجسد فيه القيم والمعتقدات والأفكار المشتركة لتحدد وتنظم وتؤثر في الوقت نفسه في ممارسة القوة و السلطة. إذ ذاك تكمن الشرعية في قدرة النظام على توليد وتدعيم الاعتقاد بأن المؤسسات هي الأكثر ملاءمة لذلك المجتمع، ويقدّر الأفراد والجماعات شرعية نظامهم السياسي أو عدم شرعيته، طبقاً للطرق التي تلتقي فيها قيم هذا النظام مع قيمهم. فالشرعية هنا ليست مسألة تقييمية فحسب، بل هي تتحقق بقدر ما يكون هناك تطابق في القيم. فالنظام السياسي الشرعي هو الذي يمتلك القدرة على الحكم من دون استعمال وسائل القمع والقسر والإكراه المادي و المعنوي. و الوصول إلى ذلك يستوجب أمرين أساسيين هما:

1 - الوحدة الفعلية بين أهداف السلطة وأهداف المجتمع بغالبيته الكبرى:
لا يتصور بعد الآن أن يستمر نظام حكم سياسي يقوم على أهداف و مصالح أقلية فئوية أو نخبوية ضيقة. فقد أثبتت الثورات الشعبية في تونس و مصر و ليبيا واليمن و سوريا ... أنه لم يعد ممكنا للمثقفين أو لأقلية أو نخبة أن تدعي الوصاية على الشعب باعتباره أميا أو غير مؤطر أو غير مشارك أو غير مبال أو جاهل... لم تعد الشعوب تقبل بحكم عشيرة أو أسرة أو أقلية ما، فالشعوب هي التي قررت ماذا و كيف و متى تريد. ففي تونس و مصر مثلا بعد سقوط كل من بن علي و مبارك، تابعنا كيف كان التفاعل بين الشارع و الساسة إلى أن ثم التوافق حول مبادئ و أهداف و ممارسات معينة.
و في المغرب مثلا حاول النظام من خلال خطاب 9 مارس إعادة بناء تعاقد اجتماعي جديد من خلال تسطير الثوابت المقدسة للدولة (الإسلام كدين للدولة الضامنة لحرية ممارسة الشعائر الدينية، وإمارة المؤمنين، والنظام الملكي، والوحدة الوطنية والترابية، والخيار الديمقراطي ) و سبع مرتكزات للإصلاح الدستوري ( قد نعتبرها هنا أهداف السلطة ) و التي من المفترض أن تكون هي أيضا أهداف المجتمع أو على الأقل الغالبية الكبرى منه. لكن المتتبع لشأن المغربي يدرك أن هذه الأهداف ليست بالضرورة محط إجماع مطلق. ففي المغرب هناك من لا يؤمن بالخيار الديمقراطي و في أحسن الأحوال يعتبره مرحلة نحو تصوره لنظام الحكم (كجماعات الإسلام السياسي مثلا )، كما أن في المجتمع المغربي أيضا علمانيون و تقدميون ( يهود و مسيحيون و مسلمون) و لادينيون ... ينادون بالدولة المدنية، و بشكل أو بآخر ينادون بإمارة المواطنين بدل إمارة المؤمنين... كما أن في المغرب أيضا من ينادون بالنظام الجمهوري و إن كانوا قلة و صوتهم خافت. كما أن من المغاربة أيضا من ينادون بالنظام الفيدرالي و الحكم الذاتي لبعض المناطق كالريف و الصحراء... مما يتطلب حوارا جريئا و ديمقراطيا للوصول إلى توافقات و توليفات تحقق رضا و قبول الأغلبية، و تحقق بالتالي ثورة هادئة فعلية.
- الممارسة الفعلية المعبرة عن هذه الوحدة في الأهداف:
لا وجود لشرعية مبنية فقط على الوعود و الشعارات أو الخطب الحماسية و الأوراق، إذ أن الشرعية قاعدتها الممارسة. لذا أكد شباب الثورات على عدم الوثوق بالعديد من الشعارات والخطب و الوعود التي أطلقتها الأنظمة قبيل سقوطها. لأن جوهر ممارساتهم قبل الثورة و خلالها تتناقض مع ما وعدوا به من إصلاحات. رأينا كيف غير الشعب التونسي أكثر من حكومة في ظرف أسبوع لمجرد أنه لاحظ تناقضات بين ممارسات تلك الحكومات و ما وعدت به. و كيف أن الشعب المصري يصر على إسقاط كل رموز النظام السابق و القطع مع ممارساته و ليس فقط إسقاط الحاكم، و في المجتمع المغربي أيضا نلاحظ كيف يتوجس العديد من المتتبعين – و حركة 20 فبراير بالخصوص – من فحوى وعود الإصلاح و الثورة الهادئة التي جاء بها خطاب العاهل المغربي في خطاب 9 مارس، خاصة بعد تجدد قمع الاحتجاجات بعد الإعلان عن القيام بإصلاحات دستورية، مؤكدين على أن أي إصلاح دستوري مرتقب يجب أن يصاحبه تغيير عميق في الممارسات. بدءا من معاقبة و محاسبة البطانة و الحاشية الفاسدة التي جمعت بين السلطة و الثروة اعتمادا على القرب من مصادر القرار، و تفكيك المخزنقراطية – أجهزة القمع البوليسي و المخابرات السرية و طقوس العبودية السلطانية – لضمان حق الكرامة و الحرية للمواطنين، وتحويل الأجهزة الأمنية من خدمة الطبقة الحاكمة إلى خدمة الوطن و المواطنين ، و التوزيع العادل للثروات، إذ أن معالجة الأزمات الاجتماعية كالبطالة و ضعف القدرة الشرائية و الفقر و مشاكل العمال... لا يجب أن يتم بإثقال الدولة بالمزيد من الديون، بل باعتماد العدالة الاجتماعية.
إننا نستطيع أن نقول بأن الحضارة الإنسانية بمجملها في لحظة تاريخية مركزية و مفصلية، خاصة بعد ما سمي ربيع الثورات، فلا شك أن العديد من المفاهيم ستتم مراجعتها و إعادة التفكير فيها، و العديد من التوازنات في العلاقات الدولية ستصاغ من جديد. بحيث تأخذ بعين الاعتبار أهمية القيم الأخلاقية ( الحرية و الكرامة و العدالة الاجتماعية ) في سياسة شؤون المواطنين و تدبير الصراعات الاجتماعية و السياسية و الثقافية. انطلاقا من مبدأ أن القيم ثروات لا يسمح المساس بها.



#كريم_اسكلا (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- رحيل باكو ... النوتة السنتيرية بلسم الروح
- الدكتور عبد الستار رجب : معاناة زمن الحرية لا تقل عن معاناة ...
- معاناة زمن الحرية لا تقل عن معاناة زمن الاستبداد
- عيد الأضحى: عقدة أوديب أم عقدة إسماعيل
- ستسمعون نهيقي عند رؤية كل -شيطان-.
- مدونة المستحمرين
- بنكيران و أردوغان: اليمن كاليابان
- أنثروبولوجيا التضحية : الفينيق التونسي وثمن الثورات
- أجساد الأساتذة تنتصر على زرواطة أجهزة المخزن بالرباط
- تدخل أمني عنيف لفك اعتصام الأساتذة الموجازين بمدينة الرباط
- للتضامن مع المعتقل باسو أيت الفقي - المناضل الذي ثأر لكرامة ...
- عفوا أيها البياض
- أنا المدينةُ
- الطقوس الجديدة للاجساد بالمجتمع المغربي.


المزيد.....




- مداخلة النائب رشيد حموني رئيس فريق التقدم والاشتراكية في الج ...
- أخذ ورد بين مذيعة CNN وبيرني ساندرز بشأن ما إذا كانت إسرائيل ...
- مواجهات بين الشرطة ومتظاهرين مؤيدين للفلسطينيين بجامعة أمستر ...
- على وقع حرب غزة.. مشاهد لاقتحام متظاهرين في اليونان فندقًا ي ...
- هل تقود الولايات المتحدة العالم نحو حرب كونية جديدة؟
- م.م.ن.ص// -جريمة الإبادة الجماعية- على الأرض -الحرية والديمق ...
- تمخض الحوار الاجتماعي فولد ضرب الحقوق المكتسبة
- النسخة الإليكترونية من جريدة النهج الديمقراطي العدد 554
- الفصائل الفلسطينية ترفض احتمال فرض أي جهة خارجية وصايتها على ...
- بيان المكتب السياسي لحزب النهج الديمقراطي العمالي


المزيد.....

- ورقة سياسية حول تطورات الوضع السياسي / الحزب الشيوعي السوداني
- كتاب تجربة ثورة ديسمبر ودروسها / تاج السر عثمان
- غاندي عرّاب الثورة السلمية وملهمها: (اللاعنف) ضد العنف منهجا ... / علي أسعد وطفة
- يناير المصري.. والأفق ما بعد الحداثي / محمد دوير
- احتجاجات تشرين 2019 في العراق من منظور المشاركين فيها / فارس كمال نظمي و مازن حاتم
- أكتوبر 1917: مفارقة انتصار -البلشفية القديمة- / دلير زنكنة
- ماهية الوضع الثورى وسماته السياسية - مقالات نظرية -لينين ، ت ... / سعيد العليمى
- عفرين تقاوم عفرين تنتصر - ملفّ طريق الثورة / حزب الكادحين
- الأنماط الخمسة من الثوريين - دراسة سيكولوجية ا. شتينبرج / سعيد العليمى
- جريدة طريق الثورة، العدد 46، أفريل-ماي 2018 / حزب الكادحين


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الثورات والانتفاضات الجماهيرية - كريم اسكلا - أسس الشرعية في مجتمعات ما بعد الثورة التونسية