|
كتاب : كارل ماركس - قصّة حياة- - تأليف: فرانسيس وين/ ترجمة سعدي عبد اللطيف/ الفصل الرابع والاخير
سعدي عبد اللطيف
الحوار المتمدن-العدد: 3886 - 2012 / 10 / 20 - 19:25
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
كتاب : كارل ماركس - قصّة حياة- - تأليف: فرانسيس وين/ ترجمة سعدي عبد اللطيف/ الفصل الرابع والاخير
كتاب: "كارل ماركس - قصّة حياة" Karl Marx - A Life تأليف: فرانسيس وين Francis Wheen ترجمة سعدي عبد اللطيف تقديم: د. حسين الهنداوي لندن / ٢٠١٢
المحتويات - المقدمة - الفصل الاول: التحفة المجهولة - الفصل الثاني: الحمل الطويل - الفصل الثالث: الولادة - الفصل الرابع: ما بعد الحياة
الفصل الرابع والاخير
ما بعد الحياة
صرح رئيس الوزراء البريطاني هارولد ويلسون، بعد مرور 100 سنة على نشر رأس المال ، متباهيا أنه لم يقرأه أبدا وقال:’لم أقرأ سوى صفحتين من الكتاب – توقفت عن القراءة بعد الهامش الذي يبلغ طوله صفحة تقريبا.وشعرت ان جملتين من المتن الرئيسي كانت أكثر مما يطاق تحمله تماما.‘ لكن نظرة سريعة على المجلد الأول من رأس المال تكشف ان ماقاله ويلسون لم يكن الا مبالغة مفرطة: هناك، حقا، هوامش عديدة في الصفحات الأفتتاحية، لكن لم يكن يبلغ طول أي هامش غير جمل قليلة. برغم ذلك، من المحتمل ان ويلسون تحدث بالنيابة عن قراء كثر آخرين تجنبوا قراءة الكتاب بسبب ’صعوبته‘ المتخيلة أو الحقيقية.
وكان ماركس يتوقع، عند كتابته مقدمة الكتاب مثل ردود الفعل هذه. وكتب قائلا:’ان فهم الفصل الأول، خاصة القسم المتعلق بتحليل البضائع، س... يكشف عن صعوبة كبرى. لقد حاولت، قدر الأمكان، تبسيط المقاطع التي تدور حول جوهر القيمة والأهمية البالغة للقيمة.‘ وادعى ماركس ان شكل القيمة هو البساطة بعينها.’برغم ان العقل البشري جاهد لأكثر من 2000 سنة لغور قاع مشكلة القيمة.... وما عدا القسم المتعلق بشكل القيمة، اذن، فانه لا يمكن اتهام هذا المجلد، بهذا الصدد، بأنه صعب القراءة. وانا أفترض، بالطبع، قارئا راغبا لتعلم شيئ ما جديد، وبالتالي يود ان يفكر من أجل نفسه.‘
ولكن حتى أنجلز لم يكن مقتنعا بذلك. اذ عندما كان يجري تنضيد الكتاب، حذر أنجلز ماركس ان خطأ جديا سيرتكب اذا لم يقم ماركس بتوضيح حججه النظرية بشطرها الى أقسام أصغر وبعناوين منفصلة. وكتب أنجلز الى ماركس قائلا:’سيبدو الكتاب شيئا ما مثل كتاب مدرسي، لكن صفوفا أكبر بكثير من القراء سيجدونه أكثر يسرا بكثير للفهم. أن الجماهير الغفيرة، وحتى الباحثين ليسوا مستعدين، بعد، تماما لهذا النوع من الأفكار، ويجب جعل هذه الأفكار مبسطة أكثر قدر الأمكان ليسهل عليهم فهمها.‘ لقد قام ماركس، حقا، بأجراء بعض التغييرات على المسودات، لكنها لم تكن أكثر من تصليحات هامشية طفيفة. وتساءل أنجلز بيأس بعد رؤيته النسخ النهائية للصفحات’كيف بأمكانك ترك البناء الخارجي للكتاب على شكله الحالي. فالفصل الرابع لوحده يتكون من 200 صفحة ومقسم الى أربعة اجزاء فرعية فقط ... علاوة على ذلك تقطع التوضيحات، باستمرار، قطار الأفكار، ولا يجري أبدا تلخيص الفكرة المراد توضيحها بعد ايراد التوضيح، فيغوص القارئ، لذلك، على الدوام، في توضيح فكرة واحدة لينغمر مباشرة، بعد ذلك، في شرح فكرة أخرى. أن هذا الأمر مرهق بشكل مفزع ومشوش، أيضا.‘
ووجد المعجبون الآخرون، ايضا، عيونهم تصاب بالغشاوة وهم يحاولون فك ألغاز الفصول الأولى الغامضة. وكتب ماركس الى صديقه الأشتراكي لودفيغ كوغلمان الذي يعيش في مقاطعة هانوفر ’تفضل علي، رجاء ، واخبر زوجتك ان الفصول المتعلقة ب"يوم العمل"، "التعاونيات، تقسيم العمل والمكائن" وأخيرا "التراكم البدائي" هي أكثر الفصول سهولة، مباشرة، في القراءة. ويجب عليك ان تشرح لها معنى أية مصطلح غير مفهوم تصادفه. واذا وجدت أية نقاط غامضة فأنا سأكون سعيدا بتوضيحها.‘ وعندما قرأ الأشتراكي الأنجليزي العظيم ويليم موريس رأس المال فقد’استمتع، بكل ما في الكلمة من معنى، بالجزء التاريخي منه، لكنه أعترف بمعاناته من’آلام تشوش دماغه عند قراءته الأجزاء الأقتصادية المحضة لذلك العمل العظيم. على أية حال، قرأت مااستطعت قراءته، وآمل ان تلصق بعض المعلومات معي مما قرأته.‘ (وتبين، بعد ذلك، انه كان استثمارا جيدا بأي معنى كان:اذ بيعت، في المزاد، نسخة موريس من المجلد الأول لرأس المال، وكانت ذات تجليد مزخرف رائع بسعر بلغ 50000 دولار عام 1989.)
وما يفسر رد الفعل الصامت تماما عند صدور الطبعة الأولى ل رأس المال لم يكن العداء السياسي تجاهه، بل الأحرى عدم فهمه كلية. واعلن ماركس مغتاظا’يجعلني الصمت المطبق حيال كتابي قلقا‘. وحاول أنجلز اثارة الدعاية بأن نشر عروضا في الصحف الألمانية معادية للكتاب غفلا عن الأسم وألح على أصدقاء ماركس الآخرين أن يفعلوا الشيئ نفسه. وقال أنجلز لكوغلمان’يتمثل الأمر الأساسي في وجوب مناقشة الكتاب المرة تلو الأخرى باية طريقة مهما كانت. ووفقا لكلمات صديقنا القديم يسوع المسيح بأننا يجب أن نمتلك براءة الحمام وحكمة الأفاعي‘. وبذل كوغلمان جهوده على أحسن ما يكون، ناشرا مقالات في عدة جرائد في مقاطعة هانوفر، ولأنه بالكاد فهم أجزاء قليلة من الكتاب فأن مقالاته لم تلق الضوء الا على النزر اليسير مما حدا بأنجلز ألى أن يستشيط غضبا’لقد غدا عقل كوغلمان أكثر سذاجة يوما بعد يوم‘.
واستغرق الوقت أربع سنوات لكي تباع 1000 نسخة من الطبعة الأولى من رأس المال. وبرغم أن ماركس أدعى في ملحق الطبعة الثانية (1872) أن’التقدير الذي أكتسبه الكتاب بسرعة بين الأوساط الواسعة من الطبقة العاملة الألمانية يمثل افضل مكافأة لجهودي‘يبدو من غير المحتمل ان المجلد الأول قد وصل الى العديد من العمال – رغم ان جوزيف ديتزغن نشر سلسلة من المقالات في صحيفة ديموكراتيش وجنبلات لتبسيط الثيمات الرئيسية المتناثرة في الكتاب للعمال. وكتبت جيني ماركس ’نادرة هي الكتب التي بالأمكان كتابتها في ظروف أكثر صعوبة. ولو دار في خلد العمال التضحيات الضرورية التي قدمت لأنجاز هذا العمل، الذي كتب لهم ومن أجلهم، لكانوا أظهروا أهتماما قليلا أكثر به‘. لكن كيف يمكن للعمال ذلك اذا أخذنا بعين الأعتبار طول الموضوع، كثافته ولا مألوفيته؟ وكما أوضح ماركس’يبقى الأقتصاد السياسي علما أجنبيا في ألمانيا‘.
وكانت هناك في أماكن أخرى، على أية حال، نشاطات مفعمة بالحيوية واهتمام أكبر بالكتاب. فقد قامت صحيفة ساترداي ريفيو اللندنية في اوائل عام 1868، أي بعد مرور شهرين على نشر المجلد الأول بنشر مراجعة للكتب التي صدرت حديثا باللغة الأ لمانية. وتوصلت الصحيفة الى استنتاج مفاده’قد تكون آراء المؤلف خبيثة كما نتصورها، الا انه ليس هناك شك، بتاتا، بمعقولية منطقه، قوة خطابه، والسحر الذي استثمره في معالجة أشد المشاكل جفافا في الأقتصاد السياسي.‘ ونشرت كونتمبرري ريفيو، بعد خمسة أشهر، مقالا تمدح فيه ماركس رغم نبرة الأحتقار المشحونة بالمشاعر الوطنية المعادية للأقتصاد الألماني وقالت فيه(’لاشك فيه ابدا ان كارل ماركس يملك الكثير ليعلمنا اياه‘) وأطرت المؤلف على أنه لم ينس’المصلحة الأنسانية – "الأهتمام بالجوع والعطش" الذي يؤكد عليه هذا العلم‘.
وأقرت رقابة قيصر روسيا نشر ترجمة روسية ل رأس المال ربيع عام 1872 على أساس ان مواد الكتاب لاتنطبق على اوضاع البلد ولذلك فانها لن تستطيع ان تكون لها آثار هدامة (رغم ان الرقابة حذفت صورة المؤلف خوفا أن تؤدي الى نشوء عبادة الشخصية). وأصدرت الرقابة حكمها بأن نصوص رأس المال لاسبيل الى فهمها أبدا وأن’القليل سيقرأونه واقل من ذلك ايضا من سيفهمه‘، لكن النسخ ال 3000 سرعان ما نفذت في غضون عام واحد فقط. وبرغم صعوبة الحصول على الكتاب في معظم الدول الرأسمالية وعدم معرفة الكثيرين به، الا أن الصحف والدوريات في روسيا ما قبل الرأسمالية كانت تنشر على الدوام مطالعات تمتلئ اعجابا ب رأس المال. وكتب ماركس الى أنجلز قائلا:’أليست مفارقة ساخرة للقدر ان الروس الذين حاربتهم خمسا وعشرين سنة يريدون، دائما، تقديم الرعاية لي؟ ويتلهفون، بدافع الشراهة، وراء أكثر الآراء تطرفا التي يوفرها الغرب لهم.‘ وسر ماركس كثيرا خاصة عندما نشرت سانت بترسبورغ جورنال مقالا يمتدح’الحيوية الأستثنائية‘لأسلوب الكثاب النثري. وأضافت الصحيفة’ولايشبه المؤلف، من هذه الناحية، لامن بعيد أو قريب، ... معظم الباحثين الألمان الذين... يؤلفون كتبهم بلغة جافة وغامضة، تتصدع من جراءها رؤوس الناس العاديين.‘
أما في فرنسا فقد صحب اصدار الترجمة الفرنسية مشاكل كثيرة. ورغم ان العمل على الترجمة بدأ عام 1867، مباشرة بعد الطبعة الألمانية، فقد جرب، خلال السنين الأربع التالية، ليس أقل من خمسة مترجمين ترجمة الكتاب ورفضوا جميعا. لكن ماركس منح، في آخر الأمر، بركته الى جوزيف روي وهم استاذ احد المدارس في مقاطعة بوردو. وبعد ان تفحص ماركس ترجمة الفصول الأولى، قرر أنه بالرغم من انها’مترجمة بصورة جيدة على العموم‘الا أن روي عمل على ترجمة الفصول بشكل حرفي، على الأغلب.’ووجدت نفسي، لذلك، مجبرا على اعادة كتابة مقاطع بأكملها بالفرنسية لجعلها مستساغة. وقرر الناشر، بموافقة ماركس، على اصدار الكتاب على شكل دفعات(’تكون سهلة المنال أكثر للطبقة العاملة‘)، وظهرت أول دفعة في شهر آيار(مايو) عام 1875.
أما في بريطانيا، البلد الذي تبناه، فقد أعقب المراجعات المبكرة تلك التي نشرت والتي بشرت بمستقبل مرموق لكتابه، صمت مطبق طويل الأمد. وكتب المحامي السير جون ماكدونل في فورتنايتلي ريفيو في شهر آذار(مارس) عام 1875 قائلا:’رغم ان ماركس عاش معظم حياته في انجلترا، فهو هنا كأنه شبح أسم تقريبا. وقد يشرفه الناس عن طريق قذفه بالسباب، لكنهم لا يقرأونه.‘ كان ماركس يعتقد أن’الموهبة الفريدة في البلاهة المحضة‘ التي يتمتع بها الأنجليز هي حق المولد لكل بريطاني، وحقيقة انه لم تتوفر أي طبعة انجليزية لرأس المال أثناء زمن حياته أكد اعتقاد ماركس في انحيازه العدائي للأنجليز. وكتب السادة في دار نشر ماكميلان وشركاؤهم رسالة الى كارل سشورلمر، صديق أنجلز، والبروفسور في الكيمياء العضوية في جامعة مانشستر’نحن ممتنون كثيرا لرسالتك، لكننا لسنا راغبين في اصدار طبعة مترجمة ل رأس المال.‘ أما اؤلئك القلة من البريطانيين الذين أرادوا دراسة رأس المال فكان عليهم الكفاح بأفضل مايكون مع النسخ المطبوعة باللغات الألمانية، الروسية أو الفرنسية. وقال بيتر فوكس الصحافي الأنجليزي الراديكالي ورئيس تحرير الناشنال ريفورمر بعد أن قدمت له النسخة الألمانية بأنه شعرمثل رجل يمتلك فيلا ولكن لا يعرف ماذا سيفعل معه. وأرسل روبرت بانر، وهو رجل اسكتلندي من الطبقة العاملة استغاثة تنضح ألما من اجل تقديم المساعدة:
أليس ثمة أمل من ترجمته؟ ليس هناك كتابا في اللغة الأنجليزية يدافع عن قضية الجماهير الكادحة، وأي كتاب نضع يدنا عليه، نحن الأشتراكيون الشباب، هو مؤلف يدافع عن مصلحة رأس المال، وهذا هو سبب تخلف قضيتنا في هذه البلاد. وحينما يتوفر كتاب يعالج مسائل الأقتصاد من وجهة نظر أشتراكية، سترى سريعا ظهور حركة في هذه البلاد ستضع النهاية لأبن الزنا الرأسمال.
أؤلئك الذين هم في أمس الحاجة للمجلد الأول من رأس المال غير قادرين، على الأقل، على فهمه، بينما النخبة المتعلمة التي بأمكانها قراءته ليست لديها الرغبة القيام بذلك. وكما كتب الأشتراكي الأنجليزي هنري هندمان’ولأننا معتادون، كما هي حالنا اليوم، خاصة في انجلترا، التملص من الأجابة على الأسئلة المحرجة، فأن هجوم ماركس الضاري المرعب المملوء بالعزم والتصميم العاريين على خصومه، بدا غير مناسب تماما، بحيث كان من المستحيل على مقاتلينا الدجالين الجنتلمان ورجالنا ذوي عقليات المدارس الثانوية، أن يصدقوا بأن هذا البارع في الجدل عديم الرحمة والذي شن هجوما شرسا على رأس المال والرأسمالية هو في الحقيقة أكثر المفكرين عمقا في هذا الزمان.‘
كان هندمان، ذاته، استثناء للقاعدة. فبعدما قرأ في اوائل 1880 الترجمة الفرنسية ل رأس المال، أمطر هندمان مؤلفه بكيل من المدائح المفرطة مما جعل ماركس يشعر بالألتزام لعقد لقاء معه. لكن برغم ان هندمان أعلن، بنفسه، ’توقه للتعلم‘، من ماركس الا أنه أخذ على عاتقه التحدث طول الوقت تقريبا: وبدأ ماركس يفزع من زيارات هذا ’الثرثار الراضي عن ذاته‘. وحدثت القطيعة المحتومة بينهما، عندما تضمن المانيفستو الأشتراكي لهندمان والذي عنونه أنجلترا للجميع، فصلين سطا عليهما هندمان بشكل كبير من كتاب رأس المال دون أخذ موافقة ماركس أو حتى الأعتراف بالمؤلف – فيما عدا ملاحظة في المقدمة معترفا فيها بأنه’مدين بالأفكار وبكثير من المادة في الفصلين 2و3 الى أعمال المفكر العظيم والكاتب الأصيل، وأنا واثق، ان الكتاب سيكون قريبا في متناول غالبية أبناء بلادي‘. وأعتقد ماركس ان هذا العمل غير ملائم بشكل مخجل:’لماذا لم يذكر رأس المال والمؤلف بالأسم؟ وكان تبرير هندمان ضعيفا مفاده ان الأنجليز يتملكهم’الرعب من الأشتراكية‘ و’الفزع من أن يجري تعليمهم على يد أجنبي‘. وأوضح ماركس، على أية حال، انه من غير المحتمل أن يهدئ كتاب رأس المال، ذلك الرعب بأن يستحضر الحياة في’ حلم الأشتراكية‘ كما هو وارد في صفحة 86، وأن أي قارئ نصف ذكي سيخمن، بالتأكيد، ان ذلك’المفكر العظيم‘ المجهول يجب أن يكون أجنبيا. انها عملية لصوصية، محضة وبسيطة – ضوعف من لصوصيتها اقحام أخطاء بلهاء في الفقرات القليلة التي لم يجر رفعها حرفيا من رأس المال.
وحالما تصدعت علاقة ماركس بواحد من الحواريين الأنجليز حتى عثرعلى حواري انجليزي آخر – رغم أنه اتخذ احتياطات بعدم مقابلته أبدا. كان أسمه ارنست بلفورت باكس، ولد عام 1854 وغدا راديكاليا أثناء كومونة باريس عنما كان طالبا في المدرسة، وبدأ عام 1879 بنشر سلسلة من المقالات في المجلة الشهرية الرفيعة الثقافة مودرن ثوت تدور حول جبابرة الفكر عبر العصور، من ضمنهم شوبنهاور وفاغنر وفي عام(1881 ) كارل ماركس. وكان باكس درس الفلسفة الهيغلية في ألمانيا، وربما كان الأشتراكي الأنجليزي الوحيد في زمانه الذي آمن بأن الدياكتيك يمثل الديناميكية الداخلية للحياة. ووصف رأس المال ككتاب’يجسد استنباط عقيدة في الأقتصاد تشابه في صفتها الثورية وأهميتها العظيمة البعيدة المدى النظام الذي اكتشفه العالم العظيم كوبرنيكوس (1473 – 1543)، عالم فلك بولوني كان أول من اكتشف ان الأرض والكواكب الأخرى تدور حول الشمس وان الأرض ليست مركز الكون، وأدى اكتشافه الى تدمير واحد من أهم دعائم الكنيسة) في علم الفلك، أو قانون الجاذبية في علم الميكانيك‘. وابتهج ماركس كثيرا، وهذا أمر يمكن فهمه، محييا مقالة باكس بأنها’الأول من نوعها التي تخللتها حماسة حقيقية للأفكار الجديدة ذاتها وتجرأت للوقوف بجرأة ضد النزعة المحافظة لدى البريطانيين‘.
أما هندمان المكروه، فقد بذل، رغم كل أخطاءه، على أية حال، جهودا أكبر من جهود باكس أو أي شخص آخر في نشر أفكار ماركس في امته المحافظة. فقد بقي حواريا متقدا حماسة واقتطف في كتابه المعنون الأساس التاريخي للأشتراكية في انجلترا الذي صدر في عام 1883 مقاطع مطولة من ماركس – ذاكرا بالأسم هذه المرة مؤلف رأس المال. وهندمان قام، حتى، بتأسيس حزب سياسي ماركسي بشكل علني وواضح أطلق عليه اسم الفيدرالية الديمقراطية(اطلق عليه لاحقا الفيدرالية الديمقراطية الأشتراكية) أما أعضاؤه البارزون فكانوا باكس، وليم موريس، ولتر كرين، الينور ابنة ماركس وحبيبها ادورد ايفلنج. ودفع ترويج هندمان الحماسي لكتاب رأس المال أثناء اجتماعات الفدرالية بالكاتب الآيرلندي الشاب جورج برنارد شو الى قضاء خريف عام 1883 بدراسة النسخة الفرنسية لرأس المال في غرفة القراءة في مكتبة المتحف البريطاني، حيث كان ماركس، نفسه، يقرأ بنهم المواد الخام لكتابة مجلداته.وكتب برناردشو متذكرا’ رأس المال كان البداية التي غيرت حياتي. أما ماركس فقد كان، بالنسبة لي، مفاجأة مذهلة..... لقد فتح عيني على اتساعهما على حقائق التاريخ والحضارة، وأعطاني تصورا جديدا كليا عن الكون، وزودني بهدف ورسالة في الحياة. لقد حقق رأس المال أعظم عمل بطولي يستطيعه كتاب – ألا وهو تغيير عقول من يقرأونه‘.
ولم تتضاءل حماسة برناردشو ل رأس المال حتى بعد مرور 60 سنة حين أثبت ذلك بكتابته في الصفحة الأولى من كتابه الصالح والطالح في السياسة لكل انسان مديح مفرط للغاية عن الكتاب:
انحدرت، وهذا مؤكد، في القرن التاسع عشر موجة التشاؤم، والمزاج الشكاك لتصل الى الأعماق الأكثر ظلمة، حتى جاء ماركس ليخلع من الكتب الزرقاء تقارير مفتشي المصانع وليكشف عن كل فظاعات الرأسمالية. وأثبت، تماما، ان رأس المال في سعيه لما سماه ماركس ب مهرويرث والذي نترجمه ب فائض القيمة (والذي يتضمن الأيجار، الفائدة والربح التجاري)، هو في طبيعته متحجر القلب، ولن يتورع عن فعل اي شيئ، ولا حتى التمثيل بالبشر وذبحهم، عبودية بيضاء أم سوداء، المخدرات والكحول، اذا وعد فائض القيمة هذا حتى ولو بقرش واحد في المائة أكثر من أرباح المحسنين. كان هناك، قبل ماركس، الكثير من التشاؤم. وكتاب الأنجيل الكنسي مليئ بالتشاؤم. أما شكسبير في مسرحيات الملك لير، تيمون الأثيني وكورلينوس، فقد أجاد في تفصيله وبقي هناك. وكذلك فعل الروائيان سويفت وغولدسميث. لكن لم يستطع أحد أن يوثق القضية من مصادرها الرسمية كما فعل ماركس. وخلق، بذلك، تلك المطالبة ب’عالم جديد‘ لا يمنح الألهام للشيوعية والأشترلااكية الحديثة فحسب بل أصبحت تلك المطالبة عام 1941 شعارا للبرنامج السياسي للمحافظين المتحمسين ورجال الكنيسة.
ولم ينجح برناردشو الا قليلا في نشر انجيل ماركس بين زملاءه أعضاء الجمعية الفابية(جمعية انجليزية أنشئت عام 1884 تسعى الى نشر المبادئ الأشتراكية بالوسائل السلمية) حيث كان برناردشو أحد مؤسسيها مع(سيدني ويب، بياتريس ويب وأج.جي.ويلز رائد روايات الخيال العلمي) فقد رفض صديقه أج.جي.ويلز تعاليم ماركس واصفا أياه ب’منظر ضيق افق التفكير، أنوي(معتبر"الأنا" نقطة الأنطلاق في الفلسفة) وخبيث‘الذي’طرح على أكثر الحوافز الأنسانية رخصا ووضاعة قضايا فلسفية طنانة‘. وقاد الفابيون الأشتراكية البريطانية، بتأثير من منظرهم الرئيسي سيدني ويب(1859 – 1947 مؤرخ أجتماعي انجليزي) بعيدا عن مفاهيم الصراع الطبقي والثورة الى الأعتقاد بأن الدولة البريطانية الحالية تستطيع، مع حق الأقتراع العام، سن تشريعات اجتماعية تؤدي الى تحسن رفاهية الطبقة العاملة وفعالية النظام الاقتصادي. وغدت مفاهيم الفابية هذه، أيضا، العقيدة التي هيمنت على سياسة حزب العمال البريطاني الذي تشكل عام 1900. أما النكتة القديمة التي تفيد ان حزب العمال مدين الى تعاليم الميثودية(حركة دينية أصلاحية قادها في اكسفورد(عام1729) تشارلز وجون ويزلي) أكثر مما هو مدين الى افكار ماركس فهي نكتة مبالغ فيها: فبين أنصار الحزب واعضاؤه في البرلمان العديد من الأشتراكيين الذين قد يسمون أنفسهم بأنهم ماركسيانز(ينتسبون الى كارل ماركس) وليسوا ماركسست(ماركسيون)، فان حزب العمال البريطاني قام عام 1947 حتى باعادة اصدار طبعة أخرى ل البيان الشيوعي لكي يعلن الحزب’اعترافه بكم هو مدين الى كارل ماركس و فردريك أنجلز كمنظرين ألهما بافكارهما كامل حركة الطبقة العاملة‘. لكن قادة حزب العمال، وبأصرار، تمسكوا بوجهة نظرهارولد ويلسن التي تعلن ان ارث ماركس الفكري لافائدة منه، ولربما معاديا، في الواقع، لحزب دستوري من يسار الوسط.
وفي ألمانيا، وطن ماركس الأم غدت أفكاره الآيدلوجيا الحاكمة للحزب الأشتراكي الألماني أثناء انعقاد مؤتمره عام 1891 في مدينة ارفورت. لكن برنامج ارفورت له قسمان متميزان أحدثا صراعا طويلا بين الثوريين والتحريفيين. فالقسم الأول الذي وضع مسودته كارل كاوتسكي، حواري ماركس، اعادت التأكيد على النظريات المألوفة التي تعتمد على رأس المال مثل قضايا الأحتكار وأفقار البروليتاريا، أما القسم الثاني الذي كتبه ادورد برنشتاين فقد عالج الأهداف السياسية الأكثر مباشرة – مثل الأقتراع العام، مجانية التعليم وضريبة الدخل التصاعدية. لقد عاش برنشتاين في لندن أثناء ثمانينات القرن التاسع عشر ووقع تحت تأثير الفابيين الأوائل: وأشتكت روزا لوغسمبورغ من أن برنشتاين’يرى العالم من خلال عوينات انجليزية‘.
ورفض برنشتاين علنا الكثير من ارث ماركس في العشر سنين التي اعقبت مؤتمر ارفورت، نابذا نظرية ماركس عن القيمة على اعتبارها’مفهوم مجرد محض‘ عجز عن توضيح العلاقة بين العرض والطلب. وكان كاوتسكي، في البداية، مترددا في توجيه النقد الى رفيقه القديم، وكان حتى يشجعه على ذلك كما بدا أحيانا:’لقد طوحت بتكتيكاتنا، بنظريتنا عن القيمة، بفلسفتنا، والآن كل شيئ يعتمد على الجديد الذي تفكر بوضعه محل القديم.‘ وأتضحت نوايا برنشتاين تماما في نهاية القرن التاسع عشر. فبرأيه ان الرأسمالية، بعيدا عن الأطاحة بها جراء أزمة محتومة ووشيكة، يحتمل أن تصمد وستجلب رفاهية متزايدة للجماهير. واذا تم تنظيمها بشكل صحيح، لربما ستبرهن ، في الواقع، انها ماكنة للتقدم الأجتماعي:
هكذا من الخطأ تماما افتراض ان التطور الحالي للمجتمع انه يظهر تناقصا نسبيا أو مطلقا حقا في عدد أعضاء الطبقات المالكة. ان أعدادهم تتزايد على المستويين النسبي والمطلق.... ان آمال الأشتراكية تعتمد لا على نقصان الثروة الأجتماعية بل على زيادتها.
وبرغم ان الحزب الأشتراكي الألماني استمر في تعريف نفسه على انه منظمة بروليتارية ثورية لكنه غدا، عمليا، حزبا برلمانيا ذا نجاحات متزايدة يقوده التكنوقراط ومن يؤمن بالتطور التدريجي.
ولربما كان على ماركس، كونه خبيرا بالمفارقات الساخرة، أن يبتسم(أو يكشر على الأقل) أمام قدره هذا:نبي لا يحظى بمنزلة كبيرة في بلاده ذاتها، والأسوأ من ذلك، بمنزلة أقل في بريطانيا، الوطن الذي تبناه، وغدا ملهما لثوران مزلزل في مكان لم يتوقعه الا قليلا – روسيا، امة نادرا ما ذكرها ماركس في رأس المال. لكن ماركس، بدأ في نهاية حياته، يشعر بالندم على أغفال روسيا: فنجاح الطبعة الروسية من رأس المال دفعه للتساؤل فيما اذا كان هناك، ربما، امكانية ثورية ما في روسيا بعد كل ما جرى.
كان نيكولاي دانيلسون، مترجمه في سانت بطرسبورغ، زعيما، أيضا، لحركة النارودنك والتي كانت تؤمن بمقدرة روسيا العبور مباشرة من الأقطاع الى الأشتراكية. وأقنع الحركة تصوير ماركس للرأسمالية بأن نتائجها ستدمر روحها بانه يجب تجنب مرحلة التطور الأقتصادي هذه بكل السبل، ولأن روسيا تمتلك، حاليا، شكلا جنينيا من ملكية الأرض العامة في ريف البلاد، فمن الضلال تحطيم الكومونات الفلاحية وتسليمها الى مالكي الأراضي الخاصة فقط من أجل اطاعة قانون تاريخي ما لا يمكن مقاومته كما تقول المزاعم. وأعتبر النارودنك ان ما يعتقد به ماركسيون أكثر ارثوذوكسية من أمثال جيورجي بليخانوف الذين كانوا يؤكدون على ان الظروف نحو الأشتراكية لن تنضج حتى يتم تصنيع روسيا، ماهو الا اعتقاد أحمق وخداع للذات - ويبدو ان ماركس بعد عشر سنين أو اكثر من ظهور رأس المال كان يعتقد الشيئ نفسه، أيضا. فجوابا على النارودنك الذين احتجوا عام 1877 على وجهة نظر ماركس حول الحتمية التاريخية، كتب انه اذا كان على روسيا أن تصبح امة رأسمالية احتذاء بمثال دول اوربا الغربية’ فانها لن تنجح دون أولا تحويل جزءا هاما من الفلاحين الى بروليتاريا، وبعد ذلك، وحالما تقوم الراسمالية باحتضانهم، ستجرب روسيا قوانين لا رحمة فيها تشابه تلك التي تنتهك حرمة مقدسات الشعوب الأخرى‘.
واستمر ماركس، مع ذلك، يطيل التفكير في التطورات في روسيا، والتي تهدد بأثبات بطلان نظرياته. وربما كانت حركة العصيان المسلح صغيرة الا انها كانت ذا تصميم مروع وفعالية عالية: فقد حاولت بين عامي 1897 و 1881 ارادة الشعب، وهي منظمة انشقت عن النارودنك تنفيذ سبع محاولات اغتيال على حياة القيصر الأسكندر الثاني، نجحت المحاولة الأخيرة منها.( وبعد ست سنوات حاولت ارادة الشعب، أيضا، أغتيال القيصر الأسكندر الثالث، وأحد الذين شنقوا لأشتراكهم في المحاولة كان الأسكندر اوليانوف، أخ فلاديمير ايليتش اوليانوف والذي سيعرف لاحقا بأسم في.أي. لينين.) ودفعت حملة الأعتقالات والأعدامات التي أعقبت المحاولة بالعديد من الثوريين الروس الى اللجوء الى المنفى. فقد انتقل بليخانوف الى سويسرا مع عدة رفاق من بينهم فيرا زاسولتش التي قامت عام 1876 باطلاق النار على الحاكم العام، والتي أدت دورا رائعا اثناء محاكمتها بحيث دفعت هيئة المحلفين الى تبرئتها واطلاق سراحها من تهمة الأغتيال. ورغم سجلها، الا ان فيرا رفضت استحسان الاتجاه العنفي المتزايد والتخطيط للأغتيالات في الأشتراكية الروسية، والتي بدا انها فقدت بصيرتها ولم تعد ترى الحقائق الأقتصادية التي تطرق لها رأس المال. لكن مسألة الفلاحين والبروليتاريا استمرت في اقلاق فيرا وزملاءها المنفيين على شواطئ بحيرة جنيف. وناشدت فيرا في شباط عام 1881 ماركس ان يقدم لها رؤية مرجعية. وكتبت له قائلة’أنت لا تدرك ان رأس مالك يتمتع بشعبية هائلة في روسيا. لكن من المحتمل ان الشيئ الذي لاتعرفه هوالدور الذي يلعبه رأس مالك في نقاشاتنا حول المسألة الزراعية.‘ هل بأستطاعته، رجاء، حسم الجدال بأن’تنقل لنا آراءك حول المستقبل الممكن لكوموناتنا الريفية ونظرية الحتمية التاريخية التي تفرض على كل بلدان العالم ان تمرعبر جميع مراحل الأنتاج الرأسمالي‘؟
وتعذب ماركس عذابا شديدا حيال هذه المشكلة لعدة أسابيع وكتب ليس أقل من خمس مسودات كجواب. وأرسل لها، في نهاية الأمر رسالة قصيرة قال فيها انه قد أسيئ فهم بما’يسمى نظريته‘: ان الحتمية التاريخية للمرحلة البرجوازية’محددة خصيصا ب بلدان أوربا الغربية‘. ان الأنتقال الغربي من الأقطاع الى الرأسمالية يمثل تحولا من نوع واحد من الملكية الخاصة الى أخرى، في حين فيما يتعلق بمسألة الفلاحين الروس فأن’ملكيتهم الكوميونية، على العكس، عليها أن تحول الى يد الملكية الخاصة. لهذا السبب فأن التحليل المتوفر في رأس المال لايقدم اسبابا أما مع أو ضد قابلية الكومون الريفي على الحياة.‘ وهذا كان مشجعا أكثر من ملاحظاته التي لم يمض عليها غير أربع سنين فقط – لكنه كان أكثر حذرا من المسودة الأولى من رسالته الى فيرا، والتي أوضحت لماذا وكيف يستطيع الفلاحون الروس الأفلات من مصير نظرائهم في أوربا الغربية:
في روسيا، بفضل مزيج فريد من الظروف، فأن الكومون الريفي، الذي ما يزال مؤسسا على النطاق الوطني قد يفصل نفسه، تدريجيان عن مظاهره البدائية ويتطور مباشرة كعنصر من الأنتاج الجماعي على النطاق الوطني... وللحفاظ على الكومونة الروسية، هناك ضرورة لقيام ثورة روسية. وتقوم، من اجل هذا، الحكومة و’الأعمدة الجديدة للمجتمع‘ بكل ما في وسعهم لتهيئة الجماهير، فقط، لمثل هذه الكارثة. واذا حلت الثورة في اللحظة المناسبة، اذا ركزت جميع قواها من أجل افساح المجال الكامل للكومونة الريفية، فأن الكومونة ستنمو كعنصر ينفخ حياة وروحا جديدتين في المجتمع الروسي وعنصر تفوق ازاء البلدان التي استعبدها النظام الرأسمالي.
بعد خمسة أيام من ارسال ماركس النسخة النهائية لرسالته، نجحت مجموعة صغيرة من تنظيم ارادة الشعب من أغتيال القيصر الأسكندر الثاني في مدينة بطرسبورغ عن طريق رمي قنبلة في عربته.
كان ماركس مقتنعا منذ فترة طويلة انه بالمستطاع تحقيق الثورة فقط عبر العمل الجماعي للطبقة العاملة، لا من خلال الأعمال الفردية المثيرة او الخطط الأرهابية، لذلك، لربما كان يتوقع منه الأنحياز الى جانب فيرا وبليخانوف لا الى جانب من يلقي القنابل وهو يصرخ ألموت او المجد. وكتب ماركس، على أية حال، رسالة الى ابنته جيني أسرها فيها ان اللاجئين الروس في سويسرا ماهم الا ’مجرد اشتراكيين فوضويين غيرعمليين ومشوشي الأذهان وأن تأثيرهم على"مسرح الحرب" في روسيا يساوي صفرا‘. بينما مخططوا الأغتيال في سانت بطرسبورغ ومنفذوه، فهم على العكس من ذلك، ’رجال أصلاء، بكل ما في الكلمة من معنى، من دون اداعاءت ميلودرامية، بسيطون، عمليون، بطوليون... لا يألون جهدا لتعليم أوربا بأن طريقة عملهم روسية تحديدا ونمط عمل محتوم تاريخيا لا يسعى، بنفسه، الى القاء مواعظ أخلاقية – مع أو ضد – اكثر مما تفعله الهزة الأرضية في جزيرة كيوس اليونانية.‘
ولا يمكن أن نتصور كارل ماركس، حتى في عنفوان شبابه، سيتخذ مثل هذا الموقف: فقد قضى سنينا عديدة يشجب الأشتراكيين الذي يضعون ثقتهم ب الأنقلابات، والمؤامرات السرية. وفي عام 1881، كان ماركس، على أية حال، مريضا ومرهقا. لقد مضى على انتظاره ثورة بروليتارية صحيحة وقت طويل جدا بحيث بدا، الآن، شديد التوق حد السأم لأي انتفاضة مهما كان نوعها. وبعد ولادة حفيد له ذاك الربيع قال متأملا ان الأطفال الذين’يولدون في نقطة الأنعطاف هذه في التاريخ... سيجدون أمامهم أكثر الفترات ثورية على الرجال، من أيما وقت مضى، ان يمروا بها. لكن المحزن، الآن، ان تكون"كبيرا في السن" فلا تستطيع الا التنبؤ بها بدلا من رؤيتها.‘
لقد استشهد جميع مهندسي ثورة 1917 بماركس و رأس المال على الخصوص، كمراجع مقدسة على صحة وجهات نظرهم. لقد قام تروتسكي بدراسة الكتاب عام 1900 عندما كان منفيا في قرية تعج بالحشرات بشكل مروع في سيبيريا ويقول متذكرا انه كان عليه’التخلص من الصراصير الزاحفة على الكتاب‘، وأدعى لينين انه قرأ راس المال عام 1888 عندما كان عمره 18 عام حين بلغ فترة النضوج وكان يجلس على موقد قديم في مطبخ شقة جده. واستخدم لينين، بعد ذلك، رأس المال سلاحا ينتقد من خلاله ساخرا بخصومه(وقال مكسيم غوركي، ذات مرة، ان خطابات لينين تمتلك’اللمعان البارد لشفرات الحلاقة الفولاذية‘) وبرغم ان أول عمل رئيسي للينين تطور الرأسمالية في روسيا كتب كملحق من نوع ما لما كتبه ماركس، الا انه يخلو من مفارقات رأس المال الساخرة ونبرة الغضب الصارخة. وكما كتب الناقد ادموند ويلسون معلقا ان ’كل كتابات لينين لها وظيفة، تهدف جميعها الى تحقيق هدف مباشر... ان لينين، وببساطة، رجل يرغب بالأقناع.‘ والهدف المباشر ل تطور الرأسمالية في روسيا يكمن في محاولته أقناع رفاقه ان بلادهم قد خرجت الآن من مرحلة الأقطاع بفضل الأنتشار السريع للسكك الحديدية، مناجم الفحم، مصانع الفولاذ ومعامل المنسوجات في فترتي الثمانينات والتسعينات من القرن التاسع عشر. صحيح ان البروليتاريا الصناعية لا توجد الا في موسكو و سانت بطرسبورغ الا ان هذا يعزز من واجبها ان تعمل كطليعة طبقية تعبر عن مظالم الفلاحين والحرفيين في أي مكان آخر. وكتب لينين قائلا انه في المصانع الجديدة ’تطور الأستغلال تماما وظهر بشكله الأنقى، دون أي تفاصيل مشوشة. ولن يعجز العامل من رؤية ان رأس المال يضطهده... ولهذا السبب فان عامل المصنع ليس غير الممثل الرئيسي لجميع السكان المستغلين‘. لكنه أضاف في كتابه ماالعمل؟ان العمال كانوا مشغولين البال ، تماما، بنضالهم الأقتصادي فحسب مما يمنعهم ذلك من تطوير وعي ثوري:
هناك حديث كثير عن العفوية. لكن التطور العفوي لحركة الطبقة العاملة يؤدي الى خضوعها للآيدلوجيا البرجوازية، لأن حركة الطبقةالعاملة العفوي هي النقابية العمالية، والنقابية العمالية تعني الأستعباد الآيدلوجي للعمال من قبل البرجوازية. لهذا السبب، فأن مهمتنا، مهمة الديقراطية الأشتراكية تتمثل في محاربة العفوية، عن طريق تحويل حركة الطبقة العاملة من الكفاح النقابي العمالي العفوي الذي يؤدي الى الوقوع تحت جناح البرجوازية وجرها لكي تكون تحت جناح الديقراطية الأشتراكية الثورية.
وصرف لينين النظر، معتبرا أياها مضيعة للوقت، عن الحملات الجماهيرية من اجل ظروف أفضل وأسابيع عمل أقصر التي دافع عنها ماركس في رأس المال ويجب على العمال، بدلا من ذلك، وضع أنفسهم تحت تصرف الثوريين المحترفين أمثاله:’وتستطيع الحركة الأشتراكيةالمعاصرة ان تظهر الى الوجود، فقط، على أساس المعرفة العلمية العميقة.... وحاملوا لواء هذا العلم ليست البروليتاريا بل الأنتلجنسيا البرجوازية.‘ ومن هذه الجمل يستطيع المرء ان يرى الشكل الجنيني لما أصبح، في نهاية الأمر، استبداد رهيب.
ولينين الذي عين نفسه بنفسه كحامل للوصايا العشرة يحب أن يذكر رفاقه بمستواهم الفكري الأدنى منه. وكتب في دفتر ملحوظاته الفلسفية’يستحيل فهم رأس مال ماركس، خاصة الفصول الاولى دون الدراسة الشاملة وفهم كامل منطق هيغل.‘ ’بناء على ذلك، وبعد نصف قرن، لم يفهم أي ماركسي ماركس.‘ ماعداه بالطبع. مع ذلك، فمع كل قراءاته وكتاباته، لم تكن ’معرفة‘ لينين ذاته’العلمية‘ أكثر عمقا مما كانت الحاجة اليها. هنا تقييم ذكي لتروتسكي، الذي كان يلاحظه عن قرب أكثر من أي شخص آخر:
يبدو ان كل ماركس يظهر في البيان الشيوعي ، في نقد الأقتصاد السياسي وفي رأس المال. حتى لو لم يكن له مقدرا، أبدا، أن يكون مؤسسا للأممية الأولى، سيبقى، مع ذلك، ولجميع الأزمنة الشخصية التي مانزال نعرفها اليوم. أما لينين، من جانب آخر، يبدو لنا رجل العمل الثوري. وأعماله العلمية هي مجرد خطوة تمهيدية للنشاط.
ولربما لم يكن حتى خطوة تمهيدية. كتب لينين عام 1917 أن’الأستيلاء على السلطة تمثل غاية الأنتفاضة. ومهمتها السياسية ستتضح بعد الأستيلاء على السلطة.‘ وكما أوضح المؤرخ بيرترام وولف ان هذا قلب ماركس على رأسه: فالأعتقاد الماركسي بأن الأقتصاد يحدد، في النهاية، السياسة ’تحول الى وجهة نظر لينينية حيث انه اذا وجدت عزيمة بما يكفي، فالسلطة ذاتها، سلطة سياسية مجردة لربما تنجح تماما في تحديد الأقتصاد‘. فلا عجب ان العقيدة السائدة للأتحاد السوفيتي اكتسبت صفة الماركسية اللينينية وليست الماركسية وبكل بساطة. ولم يستطع أي أحد حاول وضع شعار ماركس المفضل هذا (’يجب وضع كل شيئ على محك التساؤل‘) موضع التطبيق البقاء طويلا على قيد الحياة في روسيا الشيوعية. والماركسية كما مارسها ماركس نفسه لم تكن آيدلوجيا بل صيرورة نقدية ومناظرة ديالكتيكية متواصلة، لكن لينين وبعده ستالين عملا على تجميدها وتحويلها الى دوغما.(كما فعل، بالطبع، الأشتراكيون الآخرون قبلهما. فقد أشتكى أنجلز، في شهر آيار من عام 1894 الى فردريتش أدولف سورج، وهو مهاجر ألماني يعيش في نيويورك بأن ’الفيدرالية الديمقراطية الأشتراكية، هنا، تتشارك مع الأشتراكيين الأمريكان – الألمان في أمتياز كونهم الأحزاب الوحيدة الذين وجدوا وسائل في تحويل النظرية الماركسية في التطور الى عقيدة أرثوذكسية متصلبة. وتجري عملية أكراه العمال بتجرعها بالقوة حالا من دون تطويرها على اعتبارها أعمدة للأيمان، بدلا من دفع العمال الى الأرتفاع بأنفسهم الى مستوى النظرية بفضل غريزتهم الطبقية ذاتها. لذلك يبقون مجرد فرق ليس الا تأتي، كما قال هيغل، من لاشيئ عبر لاشيئ الى لاشيئ.) وبمستطاع المرء حتى ان يحاجج أن أفضل انجاز ماركسي حقيقي في الأتحاد السوفيتي يتجسد في انهياره، اذ برهن على ان اقتصاد الأوامر المركزي، السري والبيروقراطي يتعارض مع قوى الأنتاج الجديدة، ويسرع، بالتالي، في احداث تغير في علاقات الأنتاج. وقد أعترف غورباتشوف بهذا الأمر عام 1987 في كتابه البيرسترويكا قائلا:
بدأ نظام الأدارة الذي أخذ يتشكل في في الثلاثينات والأربعينات يتناقض، تدريجيا مع مطالب التقدم الأقتصادي وشروطه. لقد جرى استنفاذ قدرته الأيجابية وغدا عائقا أكثر فأكثر وادى الى ظهور ميكانيزم كابح قدم لنا أضرارا كبيرة بعدئذ... وتطور، في هذه الظروف بالتحديد، موقف منحاز الى دور علاقات البضاعة - النقد وقانون القيمة في ظل الأشتراكية، وكان غالبا مايطرح أدعاء بانها متناقضة وغريبة على الأشتراكية. كل هذا ترابط مع الأستخفاف بحساب الربح والخسارة وانتج فوضى في التسعير وعدم الأكتراث بدورة النقود... وظهرت دلائل متزايدة أبدا عن أغتراب الأنسان من ملكية الشعب برمته، ونقص التنسيق بين المصلحة العامة والمصالح الشخصية للأنسان العامل.
بعد روسيا فان الدولة الرئيسية التالية التي أعلنت الشيوعية على نفسها هي الصين والتي أصبحت عام 1949 تعرف ب’جمهورية الصين الشعبية‘. وبينما ركز ماركس ولينين على بروليتاريا المدينة، حاجج ماوتسي تونغ بأن فلاحي الريف بأستطاعتهم أن يكونوا قوة ثورية اذا تمت قيادتهم بالزعماء’الصحيحين‘مثل نفسه. وجعل ماو تطوير الريف في أعلى أولوياته بعد رفضه الموديل السوفيتي في التصنيع السريع، وهكذا ألهم ماو العديد من الماركسين في دول العالم الثالث والتي لاتملك صناعة تستحق هذا الأسم. لكن البرنامج الماوي كان كارثة للفلاحين في الصين: فالقفزة الكبرى الى الأمام، وهي خطة للتحول الى الزراعة الجماعية وتنمية الصناعات الريفية الصغيرة، مما أدى، بعد ذلك، الى حدوث مجاعة على نطاق واسع وجرى التخلي عن هذه الخطة عام 1960 وبعد سنتين، فقط، من ابتداءها. وتوافق هذا انفجار الصراع بين الصين والأتحاد السوفيتي حينما سخر نيكيتا خروتشوف من القفزة الكبرى ورد ماو شاجبا خروتشوف بأنه ’رفيق طريق رأسمالي‘. ومنذ موت ماو، قبطان السفينة العظيم عام 1976، بدأت الصين، نفسها، رحلتها على الطريق الرأسمالي لتصبح أسرع اقتصاد صناعي في العالم في نموه الحثيث بينما ما يزال حكام الصين يدعون ان الصين قد وصلت، الآن، في الواقع الى’ المرحلة الأولية للأشتراكية‘. وتستمر الحكومة في بكين، رغم تخليها عن جميع مبادئ ماو، بتعريف نفسها على انها ماركسية لينينية، ولو ان من الملائم أكثر أن تصف نفسها بأنها’لينينية السوق‘. وظهرت الماركسية، مثل المسيحية بهيئات مختلفة عديدة ملفتة للنظر ومتنافرة بشكل واضح – البلشفيك، المنشفيك، السبارتكيون والتحريفيون، الستالينيون والتروتسكيون، الماويون والكاسترويون، الأوروشيوعيون والوجوديون. لقد تنبأ ماركس نفسه، وباستسلام مرير ان اسمه سيؤخذ بلا جدوى من قبل’ماركسيين‘ بعد فترة طويلة من موته وهو في وضع لايستطيع الأحتجاج فيه. وافضل تعبير شهير، عن يأسه من الحواريين المضللين، توبيخه العنيف للأشتراكيين الفرنسيين فترة السبعينات من القرن التاسع عشر عندما قال متحسرا: اذا كانوا ماركسيين، ’كل ماأعرفه هو انني لست بماركسي‘ وربما هو لم يكن ماركسيا. فقد كشف تاريخ القرن العشرين ان الثورة الماركسية يحتمل ان تحدث، على الأغلب، في بلدان لاتمتلك اقتصادا صناعيا متقدما، أو طبقة رأسمالية أو جيشا كبيرا من البروليتاريا التي تكسب أجورها. هنا، يكمن التناقض الظاهري الذي لاحظه الباحث الماركسي ديفيد مكليلان عام 1983 عندما كان نصف العالم تقريبا، مايزال يحكم من قبل أنظمة تدعي أنها ورثة ماركس:
الحقيقة ذاتها التي تشير ان الماركسية لم تنتصر في الغرب تعني انها لم يجر تحويلها الى آيديولوجيا رسمية وهي لذلك موضوعا لدراسة جدية من قبل المسيطرين في حكومات الغرب. لقد جرت دراسة ماركس بدقة كبيرة في أوربا الغربية وامريكا، تحديدا – أي الدول الراسمالية.من المنصف، حقا، القول انه يوجد، في الغرب، ماركسيون حقيقيون أكثر من العديد من الدول التي تطلق على نفسها’ماركسية‘.
ففي دول شيوعية من ألبانيا الى زيمبابوي، وضعت الحكومات فيها تعريفا للماركسية ولم يجر أي نقاش أكثر حوله (أو يسمح به في الحقيقة). أما في الغرب، على أية حال، أصبح معنى الماركسية موضوعا لكل من المحاججة الصارمة أو أعادة التقييم البارعة. لقد أدت أعمال ما توصف ب مدرسة فرانكفورت في الثلاثينات من القرن العشرين – من بين فلاسفتها ماكس هوركهايمر، ثيودور أدورنو وهربرت ماركوزة، الى بروز نوع جديد من الفلسفة الماركسية عرفت ب’النظرية النقدية‘ والتي رفضت الحتمية الأقتصادية ل لينين والبلاشفة. ان مدرسة فرانكفورت والمفكرين الآخرين في تلك الفترة مثل انطونيو غرامشي استجوبوا، ايضا، المواقف الماركسية التقليدية حيال وعي الطبقة البروليتارية. فالرأسمالية، وفقا لغرامشي، تحافظ على هيمنتها بتضليل الطبقة العاملة أو التنمر عليها من اجل ارضاخها للقبول بالثقافة البرجوازية على انها المعيار الوحيد الذي يمنح قيما وممارسات معينة وبالتالي تعمل على اقصاء الآخرين. ويجب على العمال، من أجل تحدي هذا الأجماع وتسفيه ادعاءاته، تطوير ثقافة’مضادة للهيمنة‘ يبتدعونها بأنفسهم عبر أنظمة جديدة للتربية الشعبية.
لقد وضع الماركسيون الغربيون، لذلك، تأكيدا أعظم بكثير على أهمية ما أطلق عليه ماركس البناء الفوقي – الثقافة، المؤسسات، اللغة – في العملية السياسية، الى حد تختفي فيه، أحيانا، دراسة القاعدة الأقتصادية تماما. ولعدم قدرتهم على تغيير العالم، ركز هؤلاء على تفسيره من خلال ما غدا معروفا ب ’الدراسات الثقافية‘ – والتي بسطت هيمنتها على مراكز جامعية عديدة في العقود الأخيرة من القرن العشرين، مغيرين في دعائم المناهج التقليدية في دراسة التاريخ، الجغرافيا، علم الأجتماع، الأنثروبولوجي والأدب. وأخضع حتى اللبيدو(طاقة انفعالية أو نفسية مستمدة من الدوافع البيولوجية الأولية وذات هدف) الى مبضع الماركسة. وحاول عالم النفس الشهير ويلهلم رايش التوفيق بين ماركس وفرويد بأن أقترح بأن العمال لن يكونوا أحرارا حقا حتى يتم تحريرهم من الكبت الجنسي واستبداد بنى العائلة التقليدية (رغم أن ماركس شجب فكرة الحب الحر على أعتبارها ذات طبيعة’حيوانية‘ تساوي في طبيعتها ’الدعارة الشائعة‘) وكتب هربرت ماركوزة ، المعلم الروحي لليسار الجديد في كتابه الأنسان ذو البعد الواحد الذي صدر عام 1964 ’لقد جرت عملية ادماج للجنس في علاقات العمل والعلاقات العامة وهكذا جعل أكثر عرضة للأشباع (المتحكم فيه). ويسمح التقدم التقني وحياة أكثر راحة في التضمين الممنهج لعناصر اللبيدو في عالم انتاج البضائع والتبادل.‘
لقد تم تحديد هذا العالم بمفاهيم عريضة لم يكن يحلم بها ماركس أبدا. فقد شمل هذا العالم أي وكل نوع من البضاعة الثقافية – زوج أحذية معينة، صورة فوتوغرافية في جريدة، تسجيل لموسيقى البوب ورزمة صغير من الحبوب النباتية، أي شيئ، مما جرى ذكره، هو ’نص‘ يمكن ’قراءته‘. وأعقب تدريجيا الدراسات النقدية للثقافة الجماهيرية، والتي تمت على يد المنظرين الأوائل والذين تاثروا بمدرسة فرانكفورت، دراسات للوسائل العديدة التي تمكن الناس، من خلالها، استلام نصوص الحياة اليومية هذه وتفسيرها. وعندما اتخذت الدرسات الثقافية’منعطفا لغويا‘- تدور حول البنوية، مابعد البنيوية، التفكيكية وبعدئذ ما بعد الحداثة، بدت، غالبا، انها طريقة لتجنب السياسة كليا، رغم ان العديد من ممارسيها استمروا في اعتبار أنفسهم ماركسيين. وأدى منطق اصرارهم اللعوب على انه ليست هناك يقينيات أو حقائق، في النهاية، الى ايجاد نسبية في الترويج الحر للأفكار خالية من القيمة تقدر على الأحتفاء بكل من ثقافة البوب الأمريكية وخرافات العصور الوسطى دون أي وخز للضمير. ورغم احتقارهم للسرديات التاريخية الكبرى والقوانين العامة للطبيعة، بدا العديد منهم انهم يتقبلون نجاح الرأسمالية المتواصل على اعتباره حقيقة للحياة غير قابلة للتغير. وسعت دوافعهم الهدامة الى اللجوء الى الفضاءات الهامشية حيث تبدو هيمنة المنتصر في وضع أقل أمانا: من هنا حماسهم للغريب جدا وأي شيئ غير قابل للأندماج، من النظريات التآمرية للأطباق الطائرة الى المواضيع الفتشية السادو- مازوخية. وأزاح الأفتنان بالمتع الأستهلاكية (المسلسلات التلفزيونية، مراكز التسوق الكبرى وجميع أنواع سقط المتاع في اسواق الجملة) التركيز الماركسي التقليدي على ظروف الأنتاج المادي. ونتج عن ذلك، بكلمات الناقد الماركسي البريطاني المعروف تيري ايغلتون’تضخما لغويا هائلا كما لو ان كل ما يبدو لم يعد بالأمكان تصوره في الواقع السياسي لكنه مايزال ممكنا، فقط، في مجالات الخطاب او الأشارات أو النصوص. وتجيئ حرية النص أو اللغة لتعوض عن لاحرية المنظومة ككل.‘ ويضيف ايغلتون ان العدو الجديد كان’منظومات الأعتقاد المترابطة منطقيا من أي نوع كانت – خاصة جميع أشكال النظرية والتنظيم السياسيين اللذين سعيا الى تحليل البنى الأجتماعية ككل والعمل عليها. لأنه بدا أن سياسات كهذه، بالتحديد، هي التي فشلت.‘ و لايمكن التوصل الى نقد منظم للرأسمالية الأحتكارية لأن الراسمالية كانت، ذاتها، رواية خيالية ، مثل الحقيقة، العدالة القانون وجيميع ’البناءات اللغوية‘ الأخرى.
وقد يتساءل المرء:اين سيترك هذا كارل ماركس الذي سعى الى انتاج هكذا نقد منظم بالضبط؟ ويبدو المنظرون وهم يفككون الأعلانات التجارية التلفزيونية أو أغلفة الحلويات يمانعون، وبشكل لافت للنظر، أخذ مباضعهم الى نص رأس المال ، ربما خوفا من اقتراف جريمة أدبية تتمثل في قتل الأب. ويقول المؤرخ ما بعد الحداثي دومينيك لاكابرا انه’من المحتمل، ان أشد القضايا الحاحا في النص المعترف به، الذي هو في حاجة الى اعادة قراءة، أكثر من قراءته قراءة مباشرة وحرفية، هو في سرعة تكيفه ليتحول الى صوت سلطوي وحدوي محض‘.
واعادة التقييم الأشد جدارة بالملاحظة في هذا الأطار هي كتاب قراءة ’رأس المال‘ عام 1965، وهو عبارة عن مجموعة مقالات للفيلسوف الماركسي الفرنسي لويس التوسير ولبعض طلابه ويبدأ الكتاب بهذه العبارة ذات الهدف:
نحن، بالطبع، قرأنا، وجميعنا بالتأكيد قرأ ’رأس المال‘. وكنا، لقرن تقريبا، قادرين على قراءته كل يوم، بشفافية، في دراما وأحلام تأريخنا، في النزاعات والصراعات، في هزائم الطبقة العاملة وانتصاراتها التي هي أملنا الوحيد وقدرنا الوحيد. ومنذ ’جئنا الى العالم‘ ونحن نقرأ ’رأس المال‘باستمرار في كتابات وخطب الذين قرأوا رأس المال من أجلنا، من أجل نيات حسنة أو سيئة، أمواتا واحياء، أنجلز، كاوتسكي، بليخانوف، لينين، روزا لوكسمبورغ، تروتسكي، ستالين، غرامشي وزعماء المنظمات العمالية، أنصارهم وأعداءهم:فلاسفة، اقتصاديون، سياسيون. لقد قرأنا أجزاء صغيرة من راس المال، ’الكسر الصغيرة‘ التي ’أختارتها‘ لنا الأزمة. نحن حتى قرأنا، قليلا أو كثيرا، المجلد الأول، من فصل ’البضائع‘ الى فصل’مصادرة المصادر‘. لكن يوما ما يصبح أمرا أساسيا ان نقرأ رأس المال الى أبعد مدى. أن نقرأ النص نفسه...
وألتوسير، مثل اي قارئ آخر، جاء الى حصة الدرس هذه يضع نظارتين تتطابق مع وصفته نفسها. وهو أول من أصر على انه توجد فجوة لايمكن تجسيرها – ’انقطاع ابستمولوجي‘ (معرفي) – بين ماركس أربعينات القرن التاسع عشر والرجل الذي كتب رأس المال بعد عشرين سنة. وعلى النقيض من الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر الذي وجد ألهاما ثريا في الكتابات الفلسفية الاولى لماركس من اجل صياغته للماركسية كتاريخ للأنعتاق الذاتي، فان ألتوسير استهجن على ماركس الشاب اهتمامه بعلم الأخلاق، الأغتراب و ’العامل الأنساني‘. فالتاريخ، بالنسبة لألتوسير’صيرورة بدون فاعل‘ولذلك لا يستحق الدراسة أو التحليل:فالأفراد لن يستطيعوا ابدأ، حتى جماعيا، الأفلات أو تحدي القوى اللاشخصية لأجهزة الدولة الآيديولوجية – التربية، الدين، العائلة – التي تنتج منظومة الأعتقاد السائدة وتحافظ عليها.
لقد أنقذ التوسير ماركس من الحتمية الأقتصادية الضيقة التي فرضها لينين وورثته، لكي يعود الى تقييد ماركس من جديد، بقفص حديدي، وبشكل مساو. فقد أختزل ألتوسير في كتابه قراءة في رأس المال تحف ماركس الى عمل علمي بحت، لم تتلوث بتأثيرات هيغل – رغم اعتراف ماركس المرح نفسه بهذا الدين لهيغل، خاصة في الفصل الأفتتاحي الذي يدور حول البضائع. ولم تعد الماركسية أي شيئ أكثر من نظرية للمارسات البنيوية، لا علاقة لها ابدا بالسياسة، التاريخ والتجربة.
وأفاد منطق التوسير المضاد للأنسانية بأنه ليس بالأمكان تحميل الناس مسؤلية أفعالهم – واستغل التوسير، ذاته، بعد عدة سنين، هذا الرأي لتبرئة نفسه من أي ذنب بعد قتله لزوجته. ويخدم هذا الرأي، على نطاق أوسع، تبرئة الحزب الشيوعي (الذي كان عضوا فيه لفترة طويلة):القتل الجماعي في الأتحاد السوفيتي لم يكن جريمة، بل مجرد خطأ نظري، - أو بكلمات ألتوسير اللطيفة التعبير لكن الشائنة حول الستالينية على اعتبارها، ’شكل جديد"لوجود للعقل غير عقلاني"‘. وكتب المؤرخ الماركسي أي. بي. ثومبسون كتابه الحيوي المثير للجدل بؤس النظرية (1979):’نستطيع أن نرى أن نشوء الألتوسرية يمثل تمظهرا لعمل الشرطة العام في داخل الآيديولوجيا، كمحاولة لأعادة بناء الستالينية على المستوى النظري.‘ وأضاف بأن اصرار التوسير على ماركسية مفاهيمية محضة، لا يلوثها التاريخ أو التجربة، فضحته كرجل’ يمتلك اطلاعا عرضيا ليس الا على التجربة التاريخية‘ – ففي العالم الحقيقي، نكرر مرة ومرات بأن’التجربة تسير، من دون أن تطرق على الباب، وتعلن عن عدد ميتات الجوهر وأزماته‘. وهذا كان أكثر دقة مما أدركه ثومبسون. وجرى الكشف عن المدى الكامل لجهل التوسير في مذكراته التي نشرت بعد وفاته بعنوان المستقبل يدوم الى الأبد (1994) حيث أعترف التوسير بأنه’محتال وخادع‘ الذي يخترع، أحيانا، مقتطفات مفصلة على مقاس أغراضه.’في الواقع، فأن معرفتي الفلسفية للنصوص كانت، بالأحرى، محدودة. أنا... لا أعرف سبينوزا الا قليلا، ولا أعرف أي شيئ عن أرسطو، السفسطائيين و الرواقيين، أعرف الكثير تماما عن افلاطون و باسكال، لكن لا شيئ عن كانط، أعرف القليل عن هيغل وأخيرا مقاطع قليلة عن ماركس.‘
كيف استطاع التوسير الأفلات من كل هذا؟ أما توضيحه للحيلة التي استحضرها فكان صريحا بشكل مروع:
امتلكت قابلية خاصة أخرى.أعتقدت، أبتداء من أنعطافة بسيطة للعبارة، انني استطيع العمل عليها (أي وهم!)، واذ لم يكن العمل على أفكار محددة لمؤلف ما أو كتاب لم أقرأه، فعلى الأقل العمل على المعنى العام أو الأتجاه. امتلكت، كما هو واضح، قوى حدسية معينة اضافة الى قابلية محددة لرؤية الترابطات، أو القدرة على تأسيس تناقضات نظرية، والتي تمكنني من أعادة بناء ما أعتقده كأفكار للمؤلف على أساس المؤلفين الذين هم في تعارض معه. تابعت العمل ، عفويا، بأن استنتج التناقضات والأختلافات، وبالتالي أتوسع في طرح نظرية لدعم هذا.
شكرا لتلك القوى الحدسية، فان قراءة في ’رأس المال‘تضيئه التماعات عرضية في البصيرة حتى لو لم يكن ألتوسير قد درس غير مقاطع قليلة من ماركس ليس الا. فهو يقترح اننا يجب أن ننظر الى رأس المال ك’جواب مهم الى سؤال لم يطرحه أحد في اي مكان ، جواب نجح ماركس، فقط، في صياغته على شرط مضاعفة الصور المطلوبة لأستخلاصه... ولم يوفرالعصر الذي عاش فيه ماركس، ولم يستطع هو اكتسابه في زمن حياته مفهوما مناسبا الذي يمكن من خلاله التفكير بما أنتجه: مفهوم فعالية تأثير بنية على عناصرها.‘
بكلمات أخرى، فأن ماركس صاغ شرك غفلة مؤجل انفجاره، منتظرا أحدا ما أن يسأل السؤال الذي أجاب عليه قبل الآن. هذا ما تضمنته رسالة ارسلها ماركس الى انجلز مباشرة بعد طبع المجلد الأول عام 1867 متنبأ اعتراضات ’الأقتصاديين المبتذلين‘ حيال رأس المال:’اذا رغبت بدحض جميع الأعتراضات كهذه مقدما، فأني سافسد كامل الطريقة الدياكتيكية للعرض. على العكس من ذلك، فأن الشيئ الجيد في هذه الطريقة تكمن انها تنصب الفخاخ على الدوام أمام اؤلئك الأشخاص الذي ستسفزهم هذه الفخاخ الى الكشف عن بلاهتهم الى اقصى الحدود.‘ ولا يمكن للمرء، من جديد، الا استذكار اللسعة الأليمة الساخرة في رواية بلزاك التحفة المجهولة التي تشير الى أن الفشل الوحيد في اللوحة التحفة للفنان يكمن في كثرة البقع فيها، وانعدام الشكل فيها بحيث انها بدت كالكارثة، وأن ريشة الفنان كونتها قبل 100 سنة مما يجب أن ترسم فيها، لأنها، في الحقيقة، لوحة من الفن التجريدي لايصلح الا للقرن العشرين. وكما كتب أدموند ولسن بأن ماركس، بمناصرته للطبقات التي لاتملك شيئا وفرضه حصارا على قلعة الرضا الذاتي للبرجوازية، أدخل في الأقتصاد وجهة نظر’ذات قيمة لزمانه تتناسب، تحديدأ، مع كونها غريبة عنه‘.
وأظهر الأقتصاديون المبتذلون، خلال 50 سنة من نشر رأس المال، أهتماما قليلا بتفنيد ماركس، مفضلين على ذلك تجاهله. فقد رأوا في النظام الرأسمالي ظرورة دائمة، وليس كمرحلة تاريخية عابرة تحتوي في داخلها جراثيم مرضها المميت ذاته. لقد تعامل ماركس مع الفائدة، الربح والأيجار كعمل غير مدفوع الأجر، فيما وصف الأقتصاديون الأكاديميون الفائدة التي يحصل عليها مالكوا رأس المال ك ’مكافأة عن الزهد‘. فالنسبة لألفريد مارشال، الشخصية المهيمنة على علم الأقتصاد في أثناء العصرين الفيكتوري المتأخر والأدواردي، فان اؤلئك الذين يراكمون رأس المال بدلا من صرفه يؤدون ’تضحية الأنتظار‘، ولذلك يستحقون التعويض عن انضباطهم الفضيل.
وأعتقد الأقتصاديون الأرثوذكس ان الأفراط في الأنتاج، والذي أعتبره ماركس مظهرا جوهريا للراسمالية، ليس بمستطاعه الحدوث. ووفقا لقانون سي للأسواق، فأن العرض يخلق طلبه ذاته: فالأرباح من أنتاج بضائع محددة وبيعها توفر القوة الشرائية لشراء بضائع أخرى. ويضمن هذا الميكانزم القويم الفضائل، نفسه، ان البطالة لن يكون بمقدورها، أبدا، الا أن تكون عيبا عرضا وقصير الأمد. فالناس العاطلون ستكون لهم رغبة بالعمل من أجل أجور اقل والأنخفاض التالي للأجور سيخفض من سعر البضائع التي ينتجونها، وهذا سيؤدي، بدوره، الى زيادة الطلب على البضائع وزيادة مبيعاتها، وبالتالي تمكين العمالة الكاملة من البدء من جديد.
وأجبرت الأضطرابات الأقتصادية والبطالة المريعة بين الحربين العالميتين الى اعادة النظر، وأعتراف متأخر بأن الرأسمالية، ربما، تمتلك بعد كل هذا عللا نظامية. وبدأ حتى بعض الأقتصاديين الى طرح تساؤل فيما اذا كانت هذه العلل أبدية غير قابلة للتغير. واثار البروفسور جون هكس عام 1939 الشكوك في دراسته المعنونة القيمة ورأس المال بأنه’لايمكن لأحد أن يعول على البقاء الطويل لأي شيئ مثل النظام الرأسمالي‘ في غياب مخترعات جديدة قوية بما يكفي للحفاظ على الأستثمار. وأضاف هكس’لايستطيع المرء الا ان يكبح الفكرة بانه، ربما، ان كامل الثورة الصناعية في ال 200 سنة الماضية لم تكن أي شيئ عدا ازدهار دنيوي فسيح.‘ وكتب جي.ام. كينز الذي ولد في سنة وفاة ماركس في كتابه النظرية العامة للعمالة، الفائدة والنقود (1936):’أرى جانب صاحب الدخل (من أرض وسندات الخ.) من الرأسمالية كمرحلة انتقالية ستختفي عندما تؤدي مهمتها.‘
وأعلن كينز، أكثر الأقتصاديين نفوذا في القرن العشرين، تحديه لمن يدعي أن الشعار الراسمالي الشهير ( الذي كان آدم سميث أول من رفعه في كتابه كتابه ثروة الأمم) المنادي ب دع الأمور تجري وشأنها قد امتلك ميلا طبيعيا نحو التوازن الذاتي. ان الفكرة القائلة بأن البطالة تجبر الأجور على الأنخفاض، وبذلك تستعاد العمالة كاملة ربما قد تكون صحيحة فيما يخص الشركات والصناعات الفردية. لكن اذا جرى تخفيض جميع الأجور، ستنخفض، بالتالي، جميع المداخيل وسيحل الركود على الطلب، مما لا يقدم لأصحاب العمل اي حافز لتأجير عمال أكثر. وبكلمات الأقتصادية الكينزية جوان روبنسون، ’بمقدور أي شخص في الحشد الحصول على رؤية أفضل لموكب العمال اذا وقف على أحد الكراسي، لكن اذا نهض الجميع ووقفوا على الكراسي لن يستطيع أحد الحصول على رؤية افضل.‘
لقد تعامل معظم الأقتصاديين، قبل كينز، مع أزمات الرأسمالية، التي تحدث بين الحين والحين، على انها انحرافات تستحق الأهمال. لكن كينز، كما فعل ماركس قبله، رأى هذه الأزمات على أنها تمثل التواتر الذي لامفر منه لنظام لا استقرار فيه. ومع ذلك، شجب كينز ماركس ووصفه بانه مهووس نزق مزهو بنفسه جاء الى الدنيا من’العالم السفلي للفكر الأقتصادي‘، وأن نظرياته ’غير منطقية، عفا عليها الزمن، خاطئة علميا ولا أهمية لها ولا يمكن تطبيقها على العالم الحديث‘. وما يدهش في كينز عنف شجبه لماركس، اذا اخذنا بعين الأعتبار التشابه بين نقد ماركس للأقتصاديين الكلاسيكيين ونقد كينز ذاته لورثة اؤلئك من الكلاسيكيين الجدد. وكما كتبت جوان روبنسون عام 1948:
في كلا الحالتين، تلعب البطالة دورا جوهريا. في كلا الحالتين، يمكن رؤية الرأسمالية كحاملة في داخلها بذور اضمحلالها. على الجانب السلبي، بالضد من نظرية التوازن الأرثوذكسية، فأن منظومتي كينز وماركس تقفان، سوية، كتفا الى كتف، وهناك، الآن، ولأول مرة، أرضية مشتركة بين ماركس والأقتصاديين الأكاديميين تكفي لأثارة امكانية النقاش. وبرغم ذلك، مايزال هناك دراسات قليلة جدا تتناول ماركس من قبل الأقتصاديين الأكاديميين الأنجليز.
وردعت البعض، دون شك، لا شفافية اسلوب ماركس. ورغم ان روبنسون، ذاتها، اعتقدت ان نظرية ماركس حول الأزمات المذكورة في المجلد الثاني من رأس المال تمتلك صلة وثيقة مع نظرية كينز، الا انها أعترفت بأنها’لربما غالت في التوكيد على التشابه. فالمجلدان الأخيران من رأس المال ...... غامضان بشكل مفرط وقد أخضعا لشتى التفسيرات. ان المياه مظلمة ولربما أي أحد كان ينعم النظرالى المياة لن يرى الا وجهه.‘
لكن السبب الرئيسي لتجاهل الرابطة بين ماركس وكينز – أو بالأحرى لتجاهل ماركس كليا - يحتمل أن يكون سياسيا. فكينز، نفسه، كان ليبراليا أكثر من كونه أشتراكيا، والذي أعلن بفخر بأن’الحرب الطبقية ستجدني أقف الى جانب البرجوازية المتعلمة‘، وأصبحت الكينزية الأرثوذكسية الجديدة للأقتصاديين والسياسيين الغربيين في أواسط القرن العشرين – وتحديدا في الوقت التي جعلت الحرب الباردة من أسم ماركس مرادفا لصفة العدو. وقلة من غير الماركسيين كانوا يرغبون بان تلطخ سمعتهم بصفة العدو.
أما الأستثناء الوحيد العظيم فقد كان جوزيف سشومبيتر الأقتصادي المولود في استراليا. فلم يكن هناك نصيرا متحمسا للرأسمالية اكثر من سشومبيتر، والذي يبقى بطلا للمقاولين الأمريكان، مع ذلك، فان مؤلفه الشهير الرأسمالية، الأشتراكية والديمقراطية (1942) يبدأ بتقييم من 54 صفحة لأنجازات ماركس ظهر فيها سشومبيتر كريما، دون توقع، ككرم ماركس، ذاته، الذي أضفاه على البرجوازية في البيان الشيوعي .واعترف سشومبيتر بأن ماركس كأي عبقري ملهم عانى من’الرؤيا الغلط والتحليل الخطأ‘، خاصة في تنبؤه في زيادة تعاسة العمال. وبرغم ذلك، ’رأى ماركس [ال] صيرورة للتحول الصناعي بصورة أكثر وضوحا، وادرك أهميتها الحيوية بشكل أكثر كمالا من أي اقتصادي آخر في زمانه‘، وهكذا أصبح’أول أقتصادي من الطراز الأول لأن يرى وأن يعلم بشكل منتظم كيف بالأمكان تحويل النظرية الأقتصادية الى تحليل تاريخي وكيف بالأمكان تحويل السرد الى سبب الوجود التاريخي‘. ويثير، بعد عدة صفحات، السؤال’هل بمقدور الرأسمالية أن تبقى على قيد الحياة؟‘ ويجيب:’كلا.لا أعتقد انها تستطيع ذلك.‘ وقد يبدو هذا تعليقا غريبا في كتاب مصمم كدفاع عنيف عن روح المقاولة، ولم تعتري شسومبيتر، بالتأكيد، البهجة – ليس مثل ماركس – بهذه الأجابة.(’اذا تنبأ طبيب بأن مريضه لن يموت، الآن، لا يعني هذا انه يرغب بذلك.‘) ان وجهة نظر سشومبيتر تفيد بأن التجديد الرأسمالي – منتوجات جديدة، طرق جديدة لأنتاجها – كانت قوة ل’لتدمير الخلاق‘والتي، في المحصلة الأخيرة، تصبح ناجحة جدا، ولذلك مدمرة جدا، من اجل صالحها.
وفي ال 10 سنين الأخيرة من القرن العشرين، بدت تحذيرات العرافين ماركس وسشومبيتر مذهلة. فالشيوعية في نزعها الأخير، وبمقدورالليبرالية الرأسمالية على الطريقة الأمريكية ان تحكم بلا منازع – وربما للأبد. فقد نادى فرانسيس فوكوياما عام 1989 ’اننا نشهد، ليس فقط نهاية الحرب الباردة، أو مرور فترة خاصة من تاريخ ما بعد الحرب، لكن نهاية التاريخ في حد ذاته: أي، نقطة النهاية للتطور الآيديولوجي للنوع البشري.‘ لكن سرعان ما عاد التاريخ بعنف شديد. التحلل الأقتصادي في شهر آب (اغسطس) في روسيا، انهيار العملة في آسيا والذعر الأقتصادي في أرجاء العالم مما حدا بصحيفة الفاننشيال تايمز للتساؤل فيما اذا كنا انتقلنا من’انتصار الرأسمالية العالمية الى أزمتها وبالكاد خلال 10 سنين ‘. وكان عنوان المقالة ’زيارة جديدة ل رأس المال ‘.
حتى اؤلئك الذين استفادوا الى الحد القصى من النظام الراسمالي بدأوا يتساءلون عن امكانية بقاءه على قيد الحياة. جورج سوروس، البليونير ومضارب البورصة الشهير والذي القي عليه اللوم في حدوث كلا من الأنهيارين في آسيا وروسيا، حذر في كتابه أزمة الراسمالية العالمية: المجتمع المفتوح معرض للخطر بان غريزة القطيع لمالكي رأس المال يجب السيطرة عليها قبل أن يسحقوا بالأقدام أي أحد آخر:
لايظهر النظام الرأسمالي بنفسه أي ميل نحو التوازن. ويسعى مالكوا رأس المال الى رفع حصولهم على الأرباح الى الحد الأقصى. واذا تركناهم بوسائلهم، سيواصلون تراكم رأس المال حتى نصل الى وضع غير متوازن. لقد قدم ماركس وأنجلز تحليلا جيدا للنظام الرأسمالي قبل 150 سنة، ويجب أن أقول ان هذا التحليل في بعض النواحي افضل من نظرية التوازن للأقتصاديين الكلاسيك ... والسبب الرئيسي لماذا تنبؤات ماركس وأنجلز المنذرة بالكارثة لم تحدث حقا يرجع الى التدخلات السياسية المعوضة في الدول الديمقراطية. ولسوء الحظ، فأننا مرة أخرى ومن جديد، في خطر التوصل الى استنتاجات خاطئة من دروس التاريخ. والخطر، هذه المرة، لا يأتي من الشيوعية بل من الأصولية التي تتحكم بالأسواق.
وعندما كانت الدول الشيوعية، أثناء الحرب الباردة، تجل أعمال ماركس وتعتبرها كتبا مقدسة - كاملة ومعصومة من الخطأ - كان اؤلئك الذين يقفون على الجانب الآخر من الصراع يلعنون ماركس على اعتباره عميلا للشيطان. وبسقوط جدار برلين، على أية حال، أكتسب ماركس معجبين جدد في أقل الأماكن أحتمالا. فقد كتب الأقتصادي اليميني جود وانيسكي عام 1994’يجب أن لا نستعجل كثيرا في تهنئة أنفسنا بهزيمة ماركس، سوية مع الماركسية، فمجتمعنا العالمي يمر بفترة مائعة أكثر مما كان الأمر في زمانه، لكن صيرورة التجديد، هذه المرة، غير مضمونة. اذ يجب التغلب على قوى الأرتكاس التي حددها ماركس بصورة صحيحة من قبل كل جيل متعاقب، ان ما يواجهنا، الآن، مهمة ضخمة.‘ و وانيسكي الذي صاغ نظرية اقتصادية تقول بأن’خفض الضرائب يشجع على توظيف الأموال ويؤدي بالتالي الى زيادة دخل الخزينة‘ استشهد ب رأس المال على اعتباره الملهم الرئيسي لنظريته التي تعتقد ان الأنتاج وليس الطلب يمثل المفتاح للرخاء. وبالنسبة ل وانيسكي، كمؤيد للتجارة الحرة وقاعدة الذهب (في أنظمة النقد)، عدو البيروقراطية والمعجب بروح كلوندايك، فان ماركس يمثل ’واحدا من جبابرة النظرية والخبرة الكلاسيكيين‘ – و متنبئ عبقري أيضا. ووصل’قريبا تماما من الحقيقة‘ عندما أوحى بأن الرأسمالية بذرت بذور دمارها ذاته: هذا هو الأمر، اذا تطلبت الرأسمالية منافسة ضارية، لكن الرأسماليين يفعلون، مع ذلك، كل ما في وسعهم لتدمير المنافسة – كالحيوانات التي تأكل صغارها.‘ ونشرت مجلة نيويوركر الأمريكية، في شهر تشرين الأول (أكتوبر) عام 1997 ، تقريرا تحت عنوان’ماركس: المفكر العظيم المقبل‘ أعادت نشره صحيفة الأنبندنت اللندنية كتبه جون كاسيدي المراسل الأقتصادي للمجلة عن حديث جرى له مع بريطاني يعمل في نيويورك موظفا في أحد بنوك الأستثمار حيث قال الموظف، ’كلما أقضي وقتا أطول في وول ستريت، أغدو أكثر اقتناعا ان ماركس على حق على الدوام. هناك جائزة نوبل معروضة لأي اقتصادي يعيد احياء كارل ماركس ويضعه ضمن نظرية متماسكة. أنا مقتنع بشكل مطلق بأن طرح ماركس هو الأفضل كطريقة لرؤية الرأسمالية.‘ مما أثار فضول كاسيدي الذي أخذ اجازة ليدرس خلالها كل أعمال ماركس، ولأول مرة، وليقرر، في الأخير، ان صديقه الذي يعمل في وول ستريت كان على حق. ووجد كاسيدي ’مقاطع جذابة على نحو آسر عن العولمة، اللامساواة، الفساد السياسي، الأحتكار، التقدم التقني، اضمحلال ثقافة الطبقةالعليا والطبيعة الواهنة للوجود الحديث – قضايا يواجهها الأقتصاديون، الآن، وكأنها قضايا جديدة تماما، غير مدركين، أحيانا، انهم يسيرون على خطى ماركس‘. واقتطف كاسيدي الشعار الشهير الذي صاغه جيمس كارفيل لحملة بيل كلينتون للترشح للرئاسة عام 1992(’انه الأقتصاد يا غبي‘) موضحا ان’عبارة ماركس، نفسها، لهذه النظرية كانت"المفهوم المادي للتاريخ"، اصبحت، الآن، مقبولة على نطاق واسع بحيث ان محللي جميع وجهات النظر السياسية يستخدمونها مثلما فعل كارفيل دون نسبتها الى ماركس. وعندما يجادل المحافظون بأن دولة الرفاه محكوم عليها بالأخفاق لأنها تخنق المشروع الخاص، او أن الأتحاد السوفيتي انهار لأنه لم يستطع مضاهاة كفاءة الرأسمالية الغربية، فأنهم يتبنون حجج ماركس بأن الأقتصاد هوالقوة الدافعة للتطور الأنساني.‘
ان البرجوازية الغربية، مثل شخصية الجنتلمان البرجوازي في مسرحية الكاتب الفرنسي موليير الذي أكتشف، ولدهشته، انه كان يتحدث نثرا، ولأكثر من 40 سنة، دون ان يعلم بذلك، ظلت تتشرب افكار ماركس دون أن تلاحظ ذلك ابدا. وانها لقراءة متأخرة لماركس في تسعينات القرن العشرين والتي ألهمت جيمس بوخان احد محرري الفاننشيال تايمز في كتابة دراسته الرائعة، رغبة مجمدة: تحقيق في معنى النقود (1997). وكما يشرح بوخان:
ان ماركس مطمور عميقا في سبيكة تفكيرنا الغربي بحيث ان قلة من الناس تعي دينهم عليه. وكل واحد أعرفه يعتقد، الآن، ان مواقفهم ما هي الا ما خلقته ظروفهم المادية، الى حد ما – ’أي، على العكس من ذلك، فان وجودهم الأجتماعي هو ما يحدد وعيهم‘، كما كتب ماركس – وان التغيرات في الوسائل التي تنتج بها الأشياء تؤثر عميقا على شؤون الأنسانية حتى ولو كانت خارج المشغل أوالمصنع. أن تلك الأفكار تسربت الينا، بشكل كبير، من خلال ماركس وليس عبر الأقتصاد السياسي. وبالتساوي مع ذلك، فأن كل أحد أعرفه يمتلك احساسا ان التاريخ ليس مجرد شيئ ملعون يعقبه آخر... بل نوعا ما من صيرورة فيها شيئ ما انساني – حرية؟ سعادة؟ قدرة انسانية؟ شيئ ما لطيف، بأية طريقة كانت، يصبح واقعا بتقدم الزمان. ان ماركس لم ينشئ هذا الأحساس، لكنه جعل منه أمرا شائعا.
وحتى صحفيي مجلة الأيكونومست جون مكلثويت و ادريان وولدرج، الطبالان المتلهفان من أجل رأسمالية التربينة يعترفان بدين ماركس. فقد ذكرا في كتابهما مستقبل تام:تحدي العولمة ووعدها السري (2000) ’ماركس كمنظر للأشتراكية، ربما، قد هزم، لكنه يظل منظرا عبقريا ل’لأتكال العام المتبادل للأمم، كما سمى العولمة، فما يزال بمقدوره أن يبدو وثيق الصلة بالموضوع بشكل مروع... فوصفه للعولمة يبقى دقيقا اليوم كما كان عليه قبل 150 سنة.‘ أما خوفهما الكبير فهو انه’كلما تحقق العولمة نجاحا أكبر كلما تبدو انها تثير حركة ارتجاعية عنيفة مفاجئة‘ – أي، بكلمات أخرى، ان ماركس، ربما، كان على حق عندما أوحى بأن’ تطور الصناعة الحديثة .... تقلع من تحت قدميها ذات الأساس الذي تعتمد عليه البرجوازية في الأنتاج والأستيلاء على المنتوجات. ولذلك، فأن البرجوازية تنتج، قبل كل شيئ، حفاري قبرها ذاتهم.‘ وتراود مكلثويت و وولدرج، برغم كل أهازيج الأنتصار، شكوك مقلقة بأن التدمير الخلاق الذي جلبته على نفسها الرأسمالية المعولمة’لربما تمتلك نقطة انهيار طبيعية، تلك اللحظة التي لن يستطيع البشر تحملها أكثر‘.
ان سقوط البرجوازية وانتصار البروليتاريا لم تأتيان لتمرا مرورا عابرا. لكن مايتفوق على اخطاء ماركس ونبوءاته غير المتحققة حول الرأسمالية ويتسامى عليها الدقة الأخاذة التي كشفت عن طبيعة الوحش. ولكن، وبينما كل ماهو صلب سيذوب الى هواء، لن يفقد تصوير رأس المال المفعم بالحيوية للقوى التي تحكم حيواتنا – عدم الأستقرار، الأغتراب والأستغلال الناجم عنها - رنينه أبدا، او قوته لدفع العالم على التركيز. وكما استنتجت مقالة مجلة نيويوركر تلك في عام 1997:’ ستظل كتبه تستأهل القراءة مادامت الرأسمالية باقية على قيد الحياة.‘ وبعيدا عن انه دفن تحت أنقاض جدار برلين، فأن ماركس يظهر، الآن فقط، بأهميته الحقيقية. وما زال بمستطاعه ان يصبح أكثر المفكرين نفوذا في القرن الحادي والعشرين.
انتهى الكتاب
#سعدي_عبد_اللطيف (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
كتاب : كارل ماركس - قصّة حياة- - تأليف: فرانسيس وين/ الفصل ا
...
-
كتاب : كارل ماركس - قصّة حياة- - تأليف: فرانسيس وين/ ترجمة س
...
-
كتاب : -كارل ماركس - قصّة حياة- - تأليف: فرانسيس وين/ الفصل
...
-
كتاب : -كارل ماركس - قصّة حياة- - تأليف: فرانسيس وين
-
من أجل السلام الذي ترعاه: أحمد مختار مشرفاً موسيقياً في مشرو
...
المزيد.....
-
Xiaomi تروّج لساعتها الجديدة
-
خبير مصري يفجر مفاجأة عن حصة مصر المحجوزة في سد النهضة بعد ت
...
-
رئيس مجلس النواب الليبي يرحب بتجديد مهمة البعثة الأممية ويشد
...
-
مصر.. حقيقة إلغاء شرط الحج لمن سبق له أداء الفريضة
-
عبد الملك الحوثي يعلق على -خطة الجنرالات- الإسرائيلية في غزة
...
-
وزير الخارجية الأوكراني يكشف ما طلبه الغرب من زيلينسكي قبل ب
...
-
مخاطر تقلبات الضغط الجوي
-
-حزب الله- اللبناني ينشر ملخصا ميدانيا وتفصيلا دقيقا للوضع ف
...
-
محكمة تونسية تقضي بالسجن أربع سنوات ونصف على صانعة محتوى بته
...
-
-شبهات فساد وتهرب ضريبي وعسكرة-.. النفط العراقي تحت هيمنة ا
...
المزيد.....
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
-
فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال
...
/ إدريس ولد القابلة
المزيد.....
|