أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - محمد عمر البستاني - لماذا لم يشارك -العلويون- في الثورة السورية؟ لا أمن وأمان للأقليات إلا في ظل دولة القانون والمواطنة الصالحة















المزيد.....


لماذا لم يشارك -العلويون- في الثورة السورية؟ لا أمن وأمان للأقليات إلا في ظل دولة القانون والمواطنة الصالحة


محمد عمر البستاني

الحوار المتمدن-العدد: 3853 - 2012 / 9 / 17 - 09:18
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


مدخل ضروري:
لابد بدايةً من ضبط معنى كلمة "العلويون" المستعملة كثيراً هذه الأيام من دون أدنى فهم أو وعي لمضمونها الثقافي، وطبيعة محدداتها الدينية العقائدية وامتداداتها التاريخية.. فهذه "الكلمة-الصفة" أطلقت في بداية القرن الماضي (القرن العشرين) على فئة معينة من الناس كانوا يعيشون بغالبيتهم الكاسحة في قرى وبلدات الريف الساحلي السوري من ريف حمص وحماة إلى طرطوس واللاذقية.. وهم ينتمون تاريخياً إلى طائفة "النصيريين" نسبةً إلى محمد بن نصير الذي كان يعمل باباً -بواباً- لدى الإمام الحسن العسكري (متوفي سنة 260هـ)، وهو الإمام الحادي عشر عند الشيعة الإمامية. وقد انفصل هذا الرجل (محمد ابن نصير) عن الخط الديني العام المعروف عن الشيعة، واختط لنفسه طريقاً باطنياً، تتمازج فيه مجموعة من الاعتقادات والتأويلات الدينية الباطنية الخاصة بالإمام العسكري، وبكل أئمة أهل بيت النبي محمد(ص) عموماً.. الأمر الذي دفع الحسن العسكري –بعد معرفته بتلك الاعتقادات المفضية بمجموعها للغلو بأهل البيت- لطرده من خدمته، كما تذكر كثير من مرويات التاريخ عند السنة والشيعة على حد سواء..
طبعاً كانت هناك جذور ممتدة تاريخياً لتلك القناعات والتأويلات الدينية لدى الطائفة النصيرية، تعود إلى زمن الإمام السادس عند الشيعة جعفر الصادق، ولكن ليس هذا مجال مناقشتها ودراستها..

وعرفت طائفة "النصيريين" منذ بداية تشكلها في زمن الإمام جعفر الصادق، إلى القرن الثالث الهجري حيث جرى تنظيم شؤونها العقيدية والفكرية على يد الحسين بن حمدان الخصيبي (المتوفي سنة297هـ)، في كل مراحل التاريخ الإسلامي إلى الآن بانتمائها الديني الباطني القائم على عقيدة الخلاص الفردي، بما تتضمنه من نصوص ومقولات وإذكارات دينية على شكل "سور" و"تراتبيات" وأدعية بالدرجة الأولى، يقولون بها، ويتولونها أيام الأعياد والمناسبات الدينية الخاصة بهم والتي تمتد على مدار العام.. ومنها عيد الغدير، وعيد الفراش، وعيد الفطر، وعيد الأضحى، والقداس، وغيرها..

ويندرج مفهوم التقية لدى هذه الفئة كجوهر ديني تتقوم به، وهو يعني إخفاء التعاليم الدينية "الخصيبية" الخاصة بهم عن الأعوام والغرباء وعن غير المؤمنين بها بطبيعة الحال.. ولكن تلك التعاليم والمقولات (السور) الدينية امتدت لاحقاً لتطال وتشمل عموم السلوك والممارسة الفردية والجماعية للمجتمع العلوي (النصيري) في علاقاته الذاتية مع بعضه البعض، والموضوعية مع الآخرين الأغيار، بحيث أنك تجد الفرد المنتمي إلى هذه الطائفة مدعو ومطالب دينياً بأن يمارس التقية فيعلن خلاف ما يبطن خوفاً أو طمعاً. وقد جاء في الموروث الديني لهم بأن "ثلاثة أرباع الدين تكمن في التقية". وأن أحد الأئمة قال "التقية ديني ودين آبائي وأجدادي". مع أن التقية (كمفهوم ديني إسلامي أو حتى كسلوك اجتماعي فردي) قائم وموجود ومطبق، وسبق لكثير من صحابة الرسول أن مارسته، ولكن من منطلق الحفاظ على النفس والذات في مواجهة الخصوم والأعداء.. كما جاء في النص "واتقوا منهم تقاة".. ولهذا حديث آخر لن نخوضه في هذه العجالة.

طبعاً هذا الانتماء الديني عند "العلويين" يتأسس على جملة رؤى واعتقادات وطقوسيات مشهدية دينية تتمحور حول فكرة "الصورة المرئية" و"التجلي" للذات الإلهية في بعض الأشخاص المنحدرين من نسل آل بيت النبي محمد، الذين أضحى لهم بحسب تلك العقيدة الخصيبية طبيعة أخرى (غير بشرية!).. ووصلت تلك الاعتقادات إلى حدود الغلو بهم، وتقديس أقوالهم وأفكارهم وأعمالهم، ونسب كثير من المعجزات والمكرمات إليهم، وهي مسجلة وموثقة عندهم في كثير من الكتب الباطنة والظاهرة المعروفة، كما يزعمون.

أما كلمة "العلويون" فهي مصطلح قديم تاريخياً، ظهر منذ العهد العباسي، وكان يطلق في وقته –ولا يزال كذلك- على كل من هو من نسل الإمام علي بن أبي طالب، أو أحد أولاده.. ولذلك يقال هذا فلان علوي، أي أن نسبه شريف يعود إلى أهل البيت.. وهو حسني أو حسيني أي هو من نسل الإمام الحسن ابن علي أو من نسل الإمام الحسين ابن علي.. وهكذا.. وكان هؤلاء يميزون أنفسهم عن غيرهم بارتداء العمامة السوداء، كدلالة نسب لأهل البيت.

ولكن في التاريخ الحديث أطلقت فرنسا -التي استعمرت سوريا بين عام 1920-1946م- هذا الاسم "علويون" على تلك الأقلية من ساكني الجبل (وربما كان بعضهم من ساكني المدينة أيضاً) ممن كانوا يقدسون علياً وينتمون إليه فكرياً وعقائدياً، ويمارسون طقوساً وتقاليد دينية تتركز كلها حول الولاء لعلي وأولاده من أهل البيت، والبراء من أعدائه، وومن ناصبه العداء تاريخياً من الأمويين ومن غيرهم.. فكل من يؤمن بعلي (ويقدسه، ويقول بأحقيته بالخلافة التي يعتقدون باغتصابها من قبل الخلفاء الراشدين الآخرين المعروفين عند أهل السنة.. وأيضاً كل من يعتقد بعلي إلهاً "في الباطن، حيث أنه إمام معصوم فقط في الظاهر"، وأن الله قد تجلى في صورة علي وأولاده) هو بالضرورة إنسان منتم دينياً وعملياً إلى هذه الطائفة، وهو من "الأخوان العلويين".. وأحياناً قد يكون الانتماء تقليدي قدري ذاتي لا خيار للمرء فيه فقط لكونه ولد في بيت علوي، ونشأ وتربى في بيئة ثقافية علوية، مع أنه قد لا يكون مؤمناً بأفكارهم ومعتقداتهم وأعرافهم وطقوسهم البسيطة. بل ربما قد يكون علمانياً ولا دينياً أيضاً.

المهم أن هناك فرقاً بين المصطلحين المطلوقين على هذه الطائفة، والأصح بالطبع هو مصطلح "النصيريون".. وهذا ما لاينكره العلويون أنفسهم إطلاقاً.. بل هم دائماً يتطلعون للسلف الصالح القديم من الآباء الأوائل المؤسسين لمذهبهم الديني الباطني، حتى أن هناك كثيرين منهم –خاصة المطلعين على التراث القديم- يصرون على المناداة والتعريف بهم بصفة أنهم "نصيريون".. ولا تزعجهم صفة "العلوية"، فهم –على كل حال- من محبي علي، ومن شيعته الحقيقيين كما يقولون.

طائفة بلا مرجعية، تاهت وضاعت في دهاليز السلطة المستبدة:
على الرغم من أن تاريخ سوريا الحديث يشهد على وجود دور مهم بل وحيوي، ومشاركة فاعلة للعلويين (النصيريين) -مع باقي المكونات الدينية والمجتمعية السورية- في بناء وتكوين صورة ومشهد سوريا الوطن لكل أبنائه منذ ما قبل عهد الاستقلال عن الانتداب الفرنسي.. وما تبعه من أحداث وتحولات ومتغيرات انطلقت من خلال انضمامهم إلى باقي جماعات الوطن في دفاعهم عن سوريا، ومشاركتهم الفاعلة بالثورة على المستعمر الفرنسي، ورفض كثير من نخبهم الانفصال عن سوريا الوطن.. مع أن بعض أبناء الطائفة (ومنهم والد الأسد الأب، سليمان الأسد) طالبوا ودعوا فرنسا للعمل على فصل الساحل السوري عن جسد سوريا الأم، وإعلان قيام الدويلة الذاتي العلوي في تلك المنطقة الممتدة من حمص إلى طرطوس واللاذقية.

ونفتح هنا هلالين لنقول بأن هذا الخيار "الأقلوي" الانتحاري لإقامة كيان علوي خاص قد عاد للبروز مجدداً في الآونة الأخيرة بعد تفاقم الأزمة الوجودية للنظام السوري في مواجهة معظم أبناء شعبه، وباقي أبناء سوريا الثائرين حالياً ضد الفساد والاستبداد والقمع التي مثلها فكر وسلوك قادة ورموز هذا النظام العائلي الضيق.

وبروز الخيار الكياني المستقل للأقلية العلوية ليس خيار كل العلويين بالطبع، بل هو خيار نهائي انتحاري للنظام السوري "الأقلوي" الغارق في أزمته الوجودية، ومن معه من الفاسدين والمرتكبين والمنتفعين والمتورطين في أعمال القتل والتشبيح والإجرام الجارية حالياً على قدم وساق في معظم أنحاء سوريا.. بينما الطائفة ككل تريد العيش بأمان ومحبة وتصالح وسلام مع باقي أخوانهم من طوائف ومكونات المجتمع السوري الأخرى كما كانوا في السابق قبل العهد "البعثو-أسدي".. وهي ترفض إقامة كيان ذاتي خاص بها، وهي لم تكن في كل تاريخ سوريا طائفة سياسية، بل هي طائفة دينية لها هويتها العربية السورية المركبة، ولها عاداتها وطقوسها وتقاليدها "وفلكلورها الديني" البعيد كل البعد عن شيء اسمه سياسة.. وكل ما طلبته سابقاً وما تطلبه حالياً هو أن تكون مساهمة وشريكة –مع باقي مكونات المجتمع السوري- في بناء الوطن السوري، ليكون لها حقوقها الوطنية، خاصة وأنها دفعت ثمناً وخاضت سابقاً معارك الاستقلال الوطني في سبيل رفعة وعزة الوطن.. حيث كان الشيخ صالح العلي (أحد مشايخ الطائفة) أول من أطلق رصاصة ضد الانتداب الفرنسي، وكان يتغنى بالوطنية العربية السورية..

وبعد الاستقلال الذي أنجزته الثورة السورية الكبرى، وشارك به العلويون، ساهم هؤلاء أيضاً في بناء الدولة الوطنية السورية، ونزلوا إلى الساحات والميادين العامة مشاركين من موقع وطنيتهم السورية وليس الطائفية، ومساهمين بفاعلية في تشكيل صورة سوريا الوطن التنوع لكل أبنائه واتنياته وطوائفه وقومياته.. حتى أن كثيراً من أبنائهم انتسبوا إلى الكليات العسكرية وتخرجوا ضباطاً وأصبحوا لاحقاً من رموز وشخصيات البلد.. وهذا يدل على أن أحداً في سوريا في تلك الفترة لم يكن ينظر للعلويين نظرة أقلوية ضيقة، والوطنية السورية الحديثة عموماً كانت تتسع لهم ولغيرهم، ولم تمنعهم من المشاركة في بناء الوطن، كما لم تضطهدهم كما يدعي بعض غلاة الطائفة.. حتى أن المذهب الجعفري "الاثني عشري" اعترف به في سوريا (ذات الغالبية السنية) عام 1952، بينما لم يعترف به في العراق (ذات الغالبية الشيعية) إلا بعد ذلك التاريخ بزمن طويل..

وحتى بعد استلم حافظ الأسد الحكم في سوريا، بعد انقلابه 1970 على زملائه وأبناء طائفته بالذات، وغدره بهم، وبدء دخول سوريا الوطن في نفق الطائفة والعائلة ونظام الحلقة الأسرية الضيقة، يشهد تاريخ العلويين في سوريا على أنهم كانوا من أشد المعارضين لحكم آل الأسد في سوريا، حيث رأينا أنه وخلال مرحلة الثمانينات والتسعينيات من القرن الماضي سجن وعذب وشرد من نخب العلويين المعارضين سياسياً لحكم الأسد أكثر من عشرة آلاف معتقل رأي سياسي كانوا بغالبيتهم ينتمون لأحزاب وتيارات اليسار العلماني (بعثي-شيوعي-ناصري-قومي سوري..الخ)، وكثير من أولئك المعتقلين كانوا من مدينة "القرداحة" مسقط رأس الأسد.

ومع أنه كان للعلويين على الدوام موقع ودور مهم في أوساط المعارضات السياسية التي مرت على البلد، إلا أنه قد بات واضحاً للعيان الآن أن العلويين –وبعد مرور أكثر من سبعة عشرة شهراً من عمر الثورة السورية الراهنة- لم ينخرطوا كلياً مع باقي أفرقاء ومكونات الوطن السوري في خضم مسارات ووقائع وأحداث وتفاعلات هذه الثورة، ثورة الحرية والكرامة.. بل بقوا –كما قد يفهم- شبه مندمجين في صلب سياسات النظام الأقلوي التسلطي القائم، لا بل ومدافعين عنه، حيث أن الكثرة الغالبة من الفرق والألوية والكتائب المقاتلة الحارسة للنظام والمدافعة عن بقائه ووجوده تعود في تكويناتها المذهبية إلى صفوف طائفة العلويين أنفسهم، والدليل على ذلك هو عدد القتلى الذين يسقطون منهم والذي وصلت أرقامه إلى حوالي 8000 عسكري ورجل أمن علوي (والأرقام في تصاعد كبير)، حيث لا نجد قرية ولا بلدة في الساحل السوري إلا وقد سقط منها قتيل أو أكثر نتيجة المواجهات الحاصلة على الأرض مع المعارضة السورية المسلحة التي باتت تشكل جبهة سنية واسعة وقوية في مواجهة جبهة علوية (نظامية) للأسف الشديد.. كذلك لم نلحظ حتى اللحظة حدوث الانشقاقات بين صفوف العسكر العلوي إلا فيما ندر، بينما كل الانشقاقات الواقعة جرت وتجري على الجانب المذهبي الآخر، أي بين صفوف العسكر المنتمين للطائفة السنية..

في هذا الجو بات الكثير من المثقفين والنخب السياسية يسألون:
لماذا أحجمت الطائفة العلوية عن الانضمام للثورة السورية؟ وما هي الأسباب والدوافع التي منعتها من الانخراط الميداني في أتون ثورة الحرية والكرامة السورية؟ ولماذا تظهّر موقف العلويين عموماً –إلا فيما ندر- على الأرض وكأنه موقف داعم ومؤيد بالكامل لسياسات النظام القمعية والدموية بحق باقي أبناء وفرقاء الوطن من المذاهب والطوائف الأخرى خاصة السنية منها؟ ثم كيف نفهم هذا السلوك الأقلوي اللاوطني مع أن التاريخ يشهد على خلافه؟ ثم أين هي النخب الدينية والسياسية والفكرية العلوية؟ أين هم كبار الطائفة من رجال الفكر والسياسة والدين من أصحاب القرار والمرجعية الدينية، إذا كان ثمة مرجعية باقية؟ ألا يناقض موقف العلويين في دعم وتأييد ممارسات النظام الأسدي القمعية، صلب اعتقاداتهم الدينية حول قضية الإمام الحسين في ثورته ضد الظلم والاستعباد وخاصة مقولته التي بات يرددها السنة قبل الشيعة: "هيهات منا الذلة"؟!! أين هم من ذلك كله؟!! أليست ثورة سوريا هي ثورة ضد الظلم والقهر والاستعباد والاستبداد من أجل إقامة مجتمع العدل والحرية والمساواة، وهي نفسها القيم التي ناضل من أجلها إمامهم الحسين في كربلاء ؟ صحيح أن معظم المشاركين بهذه الثورة السورية ينتمون لطائفة معينة، مع أن طوائف الدروز والاسماعيليين وحتى المسيحيين شاركوا، ولكن ما الذي منع الطائفة العلوية -التي تسمى النظام بها، واسترهنها وركب مطيتها- من الاستمرار في المشاركة بها خاصة وأنها اندلعت ثورةً مدنية عامة شارك بها الجميع في بداياتها حتى العلويين أنفسهم نزلوا إلى ساحات التظاهر في اللاذقية مع إخوانهم السنة؟ هل لأن النظام عسكرها وطيفها وقام بارتكاب أعمال وحشية ضد السنة مهدداً بها العلويين أنفسهم وفق مبدأ: "إياك أعني واسمعي يا جارة"؟!!

في الواقع إذا دققنا في طبيعة تلك الأسئلة، وبحثنا بهدوء وتأمل في ماهية الأسباب التي جعلت العلويين يستنكفون -بصورة عامة- لاحقاً عن الاستمرار في المشاركة الشعبية العارمة في الثورة السورية بالرغم مما ألحقه بهم هذا النظام من أصناف الاضطهاد والعذاب مثل باقي أبناء الوطن السوري، حيث أن بعض نخبهم كانوا قد انخرطوا في صفوف الثورة باكراً مع باقي أفرقاء الوطن من الطوائف الأخرى، لابد من العودة قليلاً إلى الوراء عندما قام حافظ الأسد –كما ذكرنا- بانقلابه عام السبعين على زملائه في القيادة البعثية، واعتقاله لهم ووضعهم في السجون والزنازين، وملاحقة وتصفية الباقين منهم في كل أصقاع الأرض، حيث أن حافظ الأسد -وهو الأب المؤسس للحكم الأقلوي العلوي في سوريا- قام على مدى ثلاثين عاماً من حكمه بتشظية وتفتيت وتذرير الطائفة العلوية التي حكم بإسمها زوراً وبهتاناً، مفرغاً إياها من أية قواعد وثوابت فكرية وطنية يمكن للعلويين أن يستندوا عليها للمشاركة الوطنية الفاعلة في بناء مستقبل وطنهم جنباً إلى جنب باقي مكونات المجتمع السوري.

هذا التشظي والتفتيت الممنهج للطائفة "العلوية" لم يقتصر على دور ومكانة وطبيعة رجال الدين العلويين الذين حاولوا في بداية حكم الأسد الأب تأسيس مرجعية دينية وطنية -وليس سياسية- موحدة للطائفة أسوة بباقي طوائف الوطن السوري.. أقول هذا التفتيت لم يقتصر على المذهب ورجالاته بل تعداه إلى العائلات الوطنية العريقة والمعروفة تاريخياً المنتمية لتلك الطائفة، ولكل من كان يشتم منه أدنى رائحة أو إمكانية أن يكون ولو مجرد معارض بسيط، فضلاً عن أن يكون بديلاً عن الأسد في حكم البلد.. حتى في قريته "القرداحة" منع الأسد الأب أي ظهور غير مألوف لأية شخصية أو عائلة معروفة تاريخياً غير عائلته التي كانت أفقر وأصغر عائلة وأقلها عدداً قياساً بالأصول العائلية لأسر تاريخية أخرى كآل الخير واسماعيل وآل مخلوف وغيرهم.. حيث انتمى كثير من هؤلاء إلى أحزاب وتيارات سياسية علمانية غير بعثية نكاية بآل الأسد الذين استولوا على حزب البعث السوري، وعلى سورية كلها دولة وسلطة، ثروة وحكماً..

إذاً، هذا التفتت في المرجعية الدينية والوطنية –في مواجهة المرجعيات الأخرى القائمة في الوطن- ظهر أثره السلبي لاحقاً في بعض المنعطفات التاريخية الخطيرة التي مر بها أو تعرض لها المجتمع السوري كالمنعرج الأخير المتمثل في الثورة السورية، ثورة الحرية والكرامة.. حيث لاحظنا أن سحق وإلغاء آل الأسد –ومراكز قواهم الأمنية العسكرية الشديدة الانغلاق- لأية مرجعية وطنية دينية للعلويين جعل الأسد الابن يستمر في حربه ضد الشعب السوري –وبالتحديد من أبناء الطائفة السنية- ويغرق بالدم السوري، ويولغ في حله الأمني الاستئصالي من دون رادع قانوني أو إنساني ولا ضمير أخلاقي أو وطني، وهذا عائد في أحد جوانبه إلى عدم وجود مرجعية وطنية –أسوة بمرجعيات وطنية دينية أخرى- تخص جماعته العلوية، والتي كان من الممكن أن تقف في وجهه، لتردعه وتمنعه من الإيغال أكثر فأكثر في دماء أبناء وطنهم السوري الآخرين ومن كل الطوائف الأخرى.. أو على الأقل تعلن براءتها منه لتريح باقي أبناء الوطن، وتنفس الاحتقانات الطائفية السائدة ضدهم حالياً.. والتي ليس لهم مسؤولية فيها سوى ذيليتهم وتبعيتهم لنظام القهر الأسدي. والتي يستغلها هذا النظام حالياً ليقوم بكل خبث وحقد بتطويع كثير من أبناء الطائفة العلوية الفقراء من أهل القرى الجبلية في "تشكيلات تشبيحية" مقاتلة ضد أبناء السنة في مناطق واسعة من اللاذقية وطرطوس، بعد أن فعلها رامي مخلوف العام الماضي في حمص وأدت لحدوث مجازر دموية وحشية مرعبة بحق أهل السنة.. وتوزيع السلاح جارٍ حالياً على قدم وساق في كثير من قرى وبلدات الساحل السوري.. في مشهد يقدم لنا صورة مأساوية عن حجم الكارثة الوطنية التي ستحلق بهذه الطائفة نتيجة انغماسها بسياسات أقلوية، واستغلالها واسترهانها وتخويفها من قبل هذه الطغمة العائلية الحاكمة المرعوبة من الثورة السورية، والتي تستخدم الطائفة نفسها دفاعاً عن وجودها الأخير، كحل انتحاري عدمي.

ولنا أن نلاحظ ونشير هنا إلى أن هؤلاء الفاسدين المجرمين من أبناء ورموز ومستلحقي الطغمة الأسدية الحاكمة لم يكترثوا طيلة عقود طويلة لواقع وصور تخلف الساحل السوري الكثيرة الذي هو مجالهم الحيوي الأساسي.. ولم يلتفتوا لانعدام أية تنمية مجتمعية ومدنية فيه، ولم يتذكروا هذه المنطقة –التي هي منطقتهم أساساً- بأية استثمارات اقتصادية عامة حقيقية طيلة الفترة السابقة التي امتدت 42 سنة من حكمهم الدموي العنيف القائم على البلطجة والقتل والاستئصال، بينما نراهم اليوم يتذكرونه فقط بحملات الدفاع عنهم وعن مصالحهم من خلال توزيعهم للسلاح، الذي باتوا يقدمونه مجاناً لأهل منطقة الساحل بهدف زجهم في خيارات أقلوية مميتة، وقنوات ومسارب وأنفاق الطائفية المقيتة..
وبغض النظر عن شعارات ومقولات المدنية والعلمنة وغيرها التي نحن من أشد المؤيدين لها والمدافعين عنها، فقد ظهرت الآن الأهمية الكبرى لوجود مرجعية تاريخية وطنية لهذه الطائفة التي فتتها ودمرها الأسد الأب، وجعل الطائفة بلا مرجعية واحدة، بل بمرجعيات كثيرة كان منهم من عمل سابقاً في صفوف الأمن والجيش والمخابرات، وبعد تقاعده أصبح في موقع الشيخ والمرجع.. وبذلك ضمن النظام مرجعية (وطنية!) من جنسه ومن صلبه صاغت تعاليم وتقاليد الطائفة بعد عام 1970 على مقتضى ورغبة أهل النظام، أخذوا بتلقينها –مع التعاليم المقدسة- للناشئة الجديدة وفق بنية سياسية-طائفية دينية أقلوية، تمازج فيها الواجب القدسي بالأمني والتاريخي الديني بالسياسي الآني.

وأيضاً كان من مظاهر هذا التشظي للطائفة، وخلخلة وجودها الوطني، استدامة تفقيرها واستضعافها، والتلاعب بمشاعرها التاريخية الدينية، وإبقائها في حاجة ماسة للنظام من أجل استمرار كسب ولائها الحيوي بالنسبة لوجوده السياسي، مستغلاً عقدة الاضطهاد التاريخية المتغلغلة في روح الطائفة وفي نسيجها المجتمعي كأقلية دينية.. فقام النظام منذ بداية حكم الأسد، بتطويع أبناء الريف العلوي على وجه الخصوص في قطاعات جيشه وعسكره وأمنه، ومختلف وظائف الدولة الحساسة.. وهذا كله طبعاً جاء على حساب الانتماء الوطني والاندماج الطبيعي للطائفة في الوطن السوري ككل.

أما عقدة الاضطهاد التاريخي التي كانت من عناوين تلاعب النظام الأسدي بطائفته وبعموم مشاعر الأقليات السورية مثل المسيحيين والدروز وغيرهما من أقليات النسيج التاريخي الجميل لهذا الوطن المتنوع، فقد أمعن هذا النظام تشتيتاً في طائفته بالخصوص، من خلال تركيزه المتواصل على فوبيا الأقلية المضطهدة، وحديثه الدائم عن تحالف الأقليات في المنطقة (شيعة-علويين-موارنة-.. وربما اليهود!) ليسهل عليه لاحقاً السيطرة عليها، ودمجها وإلحاقها به بالكامل تحت تأثير هيمنة شعورها التاريخي بالحرمان والمعاناة والاضطهاد، والضعيف دائماً يبحث عن موقع قوة له بأي ثمن كان، ومن أية جهة جاء.

والثابت تاريخياً هنا أن كل الأقليات وليس فقط العلويين تعرضوا لأعمال وممارسات تهجيرية واضطهادات قسرية مورست بحقهم في السابق، وبقيت تضغط على حياتهم وسلوكياتهم وعلاقاتهم مع الآخر، وربما بالغوا هم في تصوير اضطهاد الآخر لهم.. ليس السنة من قاموا بها ضدهم، بل من تسمى بإسمهم وحمل رايتهم من العثمانيين ومن غيرهم، وهذا أمر لا يتحمل مسؤوليته السنة إطلاقاً.. مثلما أن ما يقوم به النظام الاستبداد السوري حالياً من أعمال وحشية يندى لها جبين الإنسانية بحق أبناء السنة على وجه الخصوص، لا يتحمل مسؤوليته العلويون (الذين يدعي النظام تمثيلهم وحمايتهم مع أنه هو من يحاول الاحتماء بهم خوفاً وطمعاً) بأي شكل من الأشكال، حتى مع وجود بعض الأشخاص الشعبويين المنافقين منهم ممن يؤيدون أعمال النظام الدموية بحق السنة..

وأخشى ما أخشاه الآن، بعد مضي أكثر من 18 شهر على تفجر واندلاع الثورة السورية التي تعسكرت مرغمةً –مع أنها بدأت سلمية متحملة سوء العذاب والقتل لحوالي ثمانية أشهر من بدئها- نتيجة قسوة عنف النظام ضد الشعب الأعزل المستبعد والمقصي من ساحة السياسة منذ عقود، والانشقاقات العسكرية التي طالت صفوف الجيش السوري نفسه، وأضحت معركة الثورة حالياً هي معركة وجود وتحرر واستقلال وطني ضد حكم الطغمة الأقلوية المهترئة الحاكمة في دمشق.. أقول: أخشى ما نخشاه هو أن يدفع "العلويون النصيريون" الذين لم ينخرطوا في صفوف النضال والكفاح ضد النظام المستبد ممثلاً بهذه السلطة الديكتاتورية الأقلوية، ثمن وقوفهم إلى جانب النظام البعثو-أسدي، وأقله بالطبع الثمن السياسي المستقبلي..

من هنا، ليس للعلويين من خيار للاستمرار في هذا الوطن سياسياً وثقافياً وتاريخياً –وهم مستمرون بطبيعة الحال وجودياً وعضوياً وبيولوجياً- إلا بالمباشرة برفع الغطاء الطائفي وورقة التوت العشائرية الأخيرة التي لا يزال هذا النظام الضعيف حالياً، يتلطى خلفها ويستر ما تبقة من عورته بها، وهو المستمر في ضعفه وهوانه وانحداره وانهياره إلى مصيره المحتوم نتيجة ضربات المقاتلين في كل مكان من سوريا التي لن يرسم صورة مستقبلها الناصع والمشرق والحضاري سوى أبناء البلد من كافة طوائفه وتياراته واتنياته وقومياته وأقلياته وأكثرياته من السنة والمسيحيين والعلويين والدروز والاسماعيليين والعرب والأكراد وغيرهم..

طبعا كلامي لا يعني أنني أميل لتحميل العلويين –كأقلية دينية- مسؤولية عدم مشاركتهم في الثورة على النظام السوري المنتمية -بعض أهم وأبرز رموزه وهياكله الأساسية- طائفياً إليهم كما يزعمون، وعدم وانضوائهم في تحولات وفاعليات الثورة السورية على الأرض، ولا يعني أيضاً أنني أدعو إلى جعلهم يدفعون أثمان عدم المشاركة في محرقة أتون الثورة الاستقلالية الكبرى جنباً إلى جنب باقي تيارات ومكونات وتنوعات وأبناء الوطن السوري، وبالتالي حرمانهم من حقهم الطبيعي في صنع مستقبل البلد، والمشاركة المسؤولة والواعية في بناء صورة ونموذج الدولة الديمقراطية المدنية المستقبلية المنشودة، بمقدار ما أنني أدعوهم –بما تبقى من وقت قصير يفصلنا عن لحظة السقوط التاريخي والنهائي لنظام القهر والاستبداد السوري- للتحرر والانعتاق من أسر وسجن هذا النظام المتجبر الذي أخرجهم من دائرة الفعل التاريخي الوطني، بعد أن حبسهم (وحبسوا أنفسهم معه) في داخل المنغلقات الطائفية الأقلوية.
وهذه دعوة لهم، إلى أن يثوروا ويفكوا قيودهم الطائفية الضيقة التي كبلهم بها هذا النظام، بعد طول استخدام واسترهان لهم، ودفْعهم باتجاه خيارات انتحارية خاطئة وشديدة التكلفة وفائفة الخطورة والسلبية بالمعنى الوجودي على مستقبلهم السياسي ودورهم التاريخي كجزء من سوريا الوطن والحضارة..



#محمد_عمر_البستاني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- هارفارد تنضم للجامعات الأميركية وطلابها ينصبون مخيما احتجاجي ...
- خليل الحية: بحر غزة وبرها فلسطيني خالص ونتنياهو سيلاقي في رف ...
- خبراء: سوريا قد تصبح ساحة مواجهة مباشرة بين إسرائيل وإيران
- الحرب في قطاع غزة عبأت الجهاديين في الغرب
- قصة انكسار -مخلب النسر- الأمريكي في إيران!
- بلينكن يخوض سباق حواجز في الصين
- خبيرة تغذية تحدد الطعام المثالي لإنقاص الوزن
- أكثر هروب منحوس على الإطلاق.. مفاجأة بانتظار سجناء فروا عبر ...
- وسائل إعلام: تركيا ستستخدم الذكاء الاصطناعي في مكافحة التجسس ...
- قتلى وجرحى بقصف إسرائيلي على مناطق متفرقة في غزة (فيديو)


المزيد.....

- في يوم العمَّال العالمي! / ادم عربي
- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - محمد عمر البستاني - لماذا لم يشارك -العلويون- في الثورة السورية؟ لا أمن وأمان للأقليات إلا في ظل دولة القانون والمواطنة الصالحة