محمد نبيل الصالحي
الحوار المتمدن-العدد: 3829 - 2012 / 8 / 24 - 23:21
المحور:
الادب والفن
- في البعيد هنالك شيءٌ ما جميلٌ يا كاميليا..
- أين ؟ أنا لا أرى شيئاً..
- هناك.. ، في داخلي...
- لكن أنا لا أراك..!!
البداياتُ كثيرةٌ جداً ، إنّ حياتنا ليست أكثر من دائرةٍ مفتوحةٍ من البدايات الرتيبة و غير الرتيبة أحياناً ، فمن أين أبدأ!؟ حين نحاولُ رؤيةَ حياتنا من بعيدٍ فإننا لا نجدُ فيها نهايةً لشيء ، نجدُ البدايات فقط ، البدايات التي تقودنا لبداياتٍ أخرى مفتوحةٍ على احتمالاتٍ كثيرة ، البدايةُ مأزقٌ حقيقيٌّ وجميلٌ بنفس الوقت ، أمّا النهاية المزعومة فهي ناقصة ، تصطاد الشغف –شغفنا- ثمّ تغتاله ، خيطٌ دقيقٌ يفصلُ بينَ البدايةِ والنهاية ، بينَ الحقيقةِ والمجاز ، بينَ الوجودِ والعدمْ ، خيطُ دخانٍ يجعلنا نقف على حافةٍ ما ، الحافة الصغيرة اللذيذة دائماً والمتعبة ، والحبُّ أجملُ حافةٍ في هذا العالم.... البدايات كثيرة يا الهي فمن أين أبدأ!!؟
حسناً .. سأبدأ من الليل ، فالليلُ مهدُ البدايات..
*
في الليلِ ، الكلُّ ينغمسونَ في شهواتهم وفي لحظاتهم ، يستبطؤونَ الوقتَ ، الّا هي ، تجلسُ على أريكتها التي أهلكتها الليالي ، تتأمّلُ الأيامَ وفخذيها المشقّقينَ كخرداوات.. ، تنهضُ ، تمشي نحو سريرها خطوتين ثمّ تعودُ لعشّها مثل حمامةٍ بيضاءَ بلّلها المطر.. ، ترى السريرَ عن قربٍ وهو الذي كان المنفى اللذيذَ يرتاحُ الآنَ بلا صخبٍ ولا فرحٍ ولا معنى..! وذراعُ ساعةِ الحائط وحدهُ الآنَ من يتأرجحُ كصوفيٍّ في هذه الغرفه !
كاميليا تحبُّ الرقص ، الرقص الذي مضغتهُ سنينُها ، ولهذا فهي كثيراً ما تهيمُ بحركةِ ذراع الساعة ، هذه الحركةُ المتكررة تشبهها ، فكاميليا مثلُ ذراع الساعةِ الخشبيّ يذهبُ دائماً محمّلاً بالخطايا وبالحزن الخفيّ وحينَ يعودُ يعودُ بأيدٍ فارغة !
كاميليا تحبُّ الرقص ، الرقصُ الذي هو حنينُ الانسانِ المعذّب...
*
في الغرفةِ عزلةُ الكونِ الصغير..
لم تعد ترى الزوار الكثيرينَ أو القليلينَ حتى ، منذُ أن استبدلتهم بطقمِ أسنانها الاصطناعيّ وبقلبها الذي لا يعرفُ مهنةً في هذه الدنيا سوى ضخّ الحنين.. ، ذلك الحنين الصعب ، إنّ أصعبَ حنينٍ ذاك الذي يكونُ لأشياءَ لا نعرفها..
هي الآن تجلسُ وحدها على حافّةِ الشرفةِ وهي التي صنعت ذاكرةً للجميعِ الا لها.. ، هي التي صنعت بدايات كثيرة ولم تصنع نهاية لشيء! ، تحتسي القهوةَ ببطءٍ وتلاحظ استدارةَ خصرها الذي كانَ فلكَ الجميعِ .. تتحسّسهُ .. لم يتغيّر كثيراً .. ما الذي تغيّر اذن !؟ لم تكن تدري ولم أكن أدري أنا أيضاً لماذا تتذكّر في هذه اللحظة من العمر أنها تحبُّ الرقص ، الرقص المحمول على البدايات الكثيرة ، تنهضُ للمرآة فترى فيها كلّ الغرفةِ الّا نفسها ، تدورُ في مكانِها مرّتين كي ترى ما لا يظهرُ في المرايا فلا ترى شيئاً! .. تتوقّفُ .. تبتسمُ قليلاً لآخَرها المكسور في المرآة وتذهبُ بعيداً في خيالها ، بعيداً بعيداً ، يااااه كم يذهبنَ بعيداً في خيالهنّ هؤلاء اللواتي يجلسنَ وحيدات.. ، وفجأةً تعودُ للمرآةِ فتبكي قليلاً لضيقٍ ما ثمّ ترمي بطقمِ أسنانها على الصورةِ الكاذبةِ فتكسرها.. وتكسرهُ.. وتصرخ.. ثمّ تدوس عليهما حتى تتعب.. ، فتعود سعيدةً بانتصارها اليوميّ وتجلسُ على السريرِ زاهيةً جميلة... ويأخذها نومٌ طويل....
-ماذا بعد يا كاميليا ؟
-ماذا بعد!؟ لا شيء. لا شيءَ اطلاقاً!
*
ثمانيةُ أشخاصٍ يقفون على شيءٍ يشبهُ خشبةَ المسرح ، وكنتُ معهم أنا غيرَ أنني.... لاعليكم مني الآن!
الأولُ يقفُ ثابتاً في زاوية المكانِ حاملاً بيدهِ جرساً يقرّبهُ الى أذنهِ ودونَ أن يفتحَ عينيهِ يرنُّهُ ثلاث مرّاتٍ ثمّ يغرقُ في الصدى.. ، ثمّ يرنُّهُ ثلاث مرّاتٍ ثمّ يغرقُ في الصدى.. ، الرنينُ نشوتهُ ، هو هكذا فاتركوه.. ، بجانبهِ يجلسُ المشغولُ بذاكرتهِ من غير يدين! ورغم أنّ عينيه مفتوحتينِ على اتساعهما فهو لا يرى شيءً هنا ، فقط يرمّمَ الماضي بعينيهِ.. ، يفتحُ عينيهِ على اتساعهما ولا يرى شيءً سوى البدايات الخالقة الأولى ، الذاكرةُ مرضٌ يصيبُ الظلَّ الى الأبد! . خمسةٌ في قفر المكانِ لا وجوهَ لهم ولا صوت ، يصنعونَ حلقةً بأجسادهم التي تكادُ أن تكونَ واحدة ، كلّ واحدٍ من الخمسة يمسكُ حفنةَ طينٍ ويرسمُ بها وجهاً يشتهيهِ على رأسِ الذي يقفُ بجانبه ، رأسُهُ الخالي من الاستعارات ، يتمّونَ الرسمَ ، ثمّ ينظرونَ الى وجوهِ بعضهم وقد صارَ لهم وجوه ، كلّ واحد من الخمسة يرى الوجه الذي يشتهيه على رأس الذي يقف بجانبه ، فيفرحون بها وينتشونَ أكثرَ مما يجب..، ويأخذون بالدوران.. وتدورُ الحلقة.. وفي منتصف المشهد تماماً في منتصف الحلقة امرأةٌ ملقاةٌ على الأرضِ عاريةٌ تماماً والحلقةُ تدورُ حولها .. تدور بلا بدايةٍ لشيء ولا نهاية! ، والوجوهُ تدورُ .. رغمَ كلِّ ما يرتدونَ من ثيابٍ ومن دروع الحرب رأتهم عرايا.. ، هي لا تحبُّ الوجوه المرسومة بالطين ، خاصةً تلك التي تدور.. ، وتدورُ الوجوهُ.. وتطوِّقُ العالمَ من كلِّ الجهاتِ.. وهي تبكي وتغصّ بدمعها.. والوجوهُ تدورُ.. تعتصرُ صدرها بيديها.. وتنثني.. والحلقةُ تدورُ.. والوجوهُ تدورُ.. وتسرعُ... تنثني أكثر.. والدنيا تدورُ وتسرعُ.. تطفئُ كلَّ حواسّها كي لا تراهم فتراهم في كلّ شيء.. تنثني.. وتتلوّى.. يدورُ الخمسةُ وتدورُ الوجوهُ.. تتأوّهُ.. تبكي.. أصبحت الوجوه الآن كثيرةً لا تحصى! تغمضُ عينيها وتغيبُ...
-هل كان حلماً!؟ هل كانت هذه كاميليا!؟ لستُ أدري...
*
الجوّ باردٌ جداً...
يصعد أحد الجيران درج البناية فيشتمّ رائحة كريهة تفوح من بيت كاميليا ، رائحةٌ تشبه رائحةَ البيض الفاسد.. ، الجارُ يعقد حاجبيه ، يغلق أنفه ، يلملم معطفه الطويل ، ويسرع بالمشي لبيته.
بعد يومين ، يستاء الجيران في البناية الى حدٍّ يحسّون فيه بأنّ الرائحه الكريهة ستخرج من رؤوسهم فيجتمعون و يقرّرون زيارتها ، يتجمّعُ الجيرانُ أمامَ الباب ، في الأمام يقف الجاران الطاعنان في السنّ اللذان يسكنان الدور الأول ، الى جانبهما تقف جارتها الصبية الجميلة ذات الشفتين المكتنزتين والصدر الممتلئ النديّ بكامل جمالها ، وخلفهم يقف جيران الطابق العلويّ ، العائلة الهادئة جداً ، والتي لفرط هدوئها يكادُ الجميع أن ينسى أمرهم دائماً ، يصطفّونَ كلّهم أمام الباب ، يدقّون الباب ، مرّةً.. ، مرّتين.. ، عشرة! ، ولا أحدٌ يجيب ، فينصرفون الى بيوتهم مستائين .
لم يعد الوضع محتملاً فقرّروا صبيحة اليوم التالي أن يخلعوا الباب ، خلعوه... ، كانت كاميليا ملقاة على السرير بلا حراك.. ، ملقاةٌ وشعرها البنّيّ منفولٌ على السرير يتدلّى منه ، الجيران الذين لم يلفتهم من البدايات الكثيرة ، المعتلّة والموحشة ، سوى الرائحة الكريهة ، لم يكن من الصعب عليهم أن يعلموا منذ الوهلة الأولى بأنها ماتت.. ، كاميليا الملقاةُ مثل حجرٍ في الطريق الآن ترقصُ في مكانٍ ما ، كاميليا النائمة على سريرها الآن بجانب الدبّ الذي أهديته لها في عيد ميلادها قبل أعوام كثيرة حين وضعته على عتبة البيت خلسةً ثمّ طرقت الباب وهربت.. ، الدب الذي أسمتهُ أيضاً كاميليا كانت تراه الشيء الوحيد الذي يلوّن الدنيا ، ويدفّئها في أيامٍ باردةٍ كهذه ، الجيران يحدّقون بالمشهد مصدومين ، يحرّكون شفاههم بصورةٍ توحي بأنهم يتمتمون الصلاوات لروحها ، وفي غفلةٍ منهم ، تتقدّم الشابة الجميلة ذات الشفتين المكتنزتين والصدر الممتلئ النديّ ، الجارةُ التي تحبُّ الرقصَ أيضاً ، تأخذُ كاميليا ، الدب الأبيض الصغير و تخبؤه بمعطفها ، ثمّ تسترق النظر لليمين ولليسار لتطمئنّ من أنّ أحداً لم يرها وهي تضعه بمعطفها ، يخرجُ الجناز... ، الجناز الصغيرُ الذي حضره الجيران فقط ، الجناز الذي يسيرُ الى التراب الأم.....
كاميليا..
وهل كان اسمها حقاً كاميليا !؟
وهل كانت تحبُّ الرقصَ حقّاً !؟
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟