أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - يوسف ميرة - موجة الحداثة وحقيقة الفكر العربي















المزيد.....



موجة الحداثة وحقيقة الفكر العربي


يوسف ميرة

الحوار المتمدن-العدد: 3820 - 2012 / 8 / 15 - 10:54
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


يعتبر موضوع الحداثة من المواضيع الحساسة التي أثارت اهتمام الباحثين في شتى بقاع العالم، كما تناولته تخصصات مختلفة ووضعت فيه دراسات وبحوث لاتعد ولا تحصى. لقد ولدت الحداثة من رحم أوربا وصارت موجة ضربت كل بقاع العالم والعالم العربي على وجه الخصوص.
الحداثة ليست مفهوما سوسيولوجيا ولا مفهوما سياسيا، وليست بالتمام مفهوما تاريخيا بل هي نمط حضاري خاص يتعارض مع النمط التقليدي أي مع كل الثقافات السابقة عليه أو التقليدية.
فماذا نقصد بالحداثة، وما هي مراحلها، وماهي تفسيرات المسلمين لها، وماهو تأثيرها على البلدان العربية والمغرب -على وجه الخصوص-؟
I- الـحــــداثة والعـقــــل
1) العقل عند الأوربيين
عرفت النهضة الأوربية منعطفا حاسما في التاريخ الأوربي، إذ قوت الاتجاه المناهض للزهد والمطالب بالعقلنة والانطلاق من الحياة التي يعيشها، وأفرز هذا الاتجاه شعارات رفعها الإنسان الأوربي ودش بها أجوبته عن أسئلة الأزمات الكبرى ابت-ءت بشعار العقل ضد الإيمان وهو الشعار الذي رفعه ديكارت في التفكير الفلسفي ورفعه فرنسيس بيكون في التفكير العلمي ورفعه مفكروا عصر الأنوار في التفكير السياسي والاجتماعي، فق- اعتبر هؤلاء العقل قوة متحركة ومتجددة لأنها تخضع لتبدل الأحوال والظروف فهم يرون أن العقل ينتقل من البسيط إلى المعقد وأنه يربط حاضر الإنسان بماضيه وعن طريقه يتصل الإنسان بأجداده الأقدمين أكثر مما يتصل بهم عن طريق الروابط الطبيعية والعرقية ، ولأجل هذه الخاصية التي يتميز بها العقل.
آمن الأوربيين بالتدريج بشدة وبقوة في تكوين العقل اعتمادا على التراكم، ولهذا يختلف عقل اليوم عن عقل الأمس وقد يكون مغايرا عن ما هو عليه اليوم، فالعقل كما ينظر إليه الأوربيون عملية مستمرة التكوين تشارك في بلورته ثقافات وحضارات بشرية، اختلف عطاءها باختلاف الظروف.
وقد جاءت النزعة الإنسية لتعزز هذا الاتجاه المطالب بالعقلنة فاعتبرته مقياسا لكل شيء، وتحول العقل الأوربي معها وبعضها إلى الاهتمام بالتجربة من أجل السيطرة على الطبيعة لما في ذلك من منفعة، فلم تعد غاية الإنسان الأوربي بنعيم الحياة الأبدية بعد الموت بل سار يبحث عن الطرق التي يستخدم فيها العقل العلمي بمزيد من المعرفة النافعة في الدنيا.
ويعتبر عقل القرن 18م نتيجة طبيعية لتراكم حاصل خلال العصور السابقة ولهذا تحدث فلاسفة هذا القرن عن قفزة التنوير فلا شيء مطلوب غير الحرية، فالعقل يجب أن يكون حرا في جميع المجالات وهو الكفيل بتحقيق التنوير للبشر .
ولقد كان جواب كانط حول السؤال الذي طرح عليه حول الأنوار فقال أنها بداية تخلص الإنسان من وهم وعجز العقل إلى المبادرة الشجاعة في استعماله ونقده لمفهوم العقل الخالص وتمييزه بين العقل العلمي والعقل النقدي، فكان يجعل العقل البشري المنظم للتجربة والمشروع للطبيعة، أما هيجل فاعتبر ان كل ما هو واقعي فهو عقلي وكل ما هو عقلي فهو واقعي وعناه أنه ليس هناك في الوجود شيء لا يقبل التفسير بالعقل .
لم يكن ولع الفلاسفة في فرنسا بالمبادئ هو الذي جعلهم متفردين فالذي جعلهم هكذا هو مبدأ معين، إنه العقل وهذه الكلمة التي تكررت باستمرار وفي السياقات الأكثر تنوعا خدمت كتعويذة أو كشهادة لحسن النية وجواب الرأي ولفكرة العقل نقيض فكرة الدين، فالعقلنة بالنسبة للفيلسوف كمثل النعمة بالنسبة إلى المسيحي. والعقل هنا وكما هي الحال في موضع آخر لم يتعارض مع الدين بل منح بصورة ضمنية المكانة العقائدية المطلقة للدين نفسها وبهذا المعنى فإن العقل كان مرادفا للعقيدة الإلهية.
إن شعور الفلاسفة الفرنسيين بالعداوة ضد الكنيسة الكاتوليكية والتي رأوها مستبدة وقمعية بل أكثر من ذلك كانت متواطئة مع دولة استبدادية وقمعية وما كان هذا عاملا مهيمنا في تفكيرهم وما كان على المحك بالنسبة إلى الفلسفة الفرنسية لم يكن سوى العقل، ولم ينفي العقل شرعية الكنيسة الكاتوليكية فقط بل أي صورة من صور الدين المؤسسي به وماهو أبعد من ذلك أي إيمان ديني يعتمد على المعجزات والعقائد التي تخالف قوانين العقل.
2) العقل عند المسلمين
يعتبر العقل في معناه الواسع بحر لا ساحل له، فالعقل التاريخي للحضارة العربية الإسلامية لا يستطيع الباحث معايشته إلا بإحياء الثرات من خلال التحليل والتركيب والفهم والتفسير
والعقل في المعاجم والموسوعات الإسلامية له مدلول واحد على الفهم والعلم والإدراك والرأي فالعقل حسب ابن منظور هو الحجر والنهي وهو عكس الحق، وعقل الإنسان الشيء فهمه وتدبيره، ومن جهة ثانية فهو مدلول على مدلول خلقي ويعني الكف عن الهوى والكف عن الّإساءة فالإنسان العاقل هو الذي يحبس نفسه ويردها عن هواها، فالعقل قوة ربانية يسرها الله للإنسان ليستعملها ميزانا يميز به بين الخير والشر، والملاحظ هو ان المعاجم العربية قد انطلقت في تحديداتها لمضمون العقل من التحديدات الواردة في القرآن، وانطلق فقهاء الإسلام من الاستعمالات القرآنية ليحددوا العقل التشريعي أي العقل التكليفي عند المسلمين المراعين له.
ويعتبر علماء الإسلام العقل أول ما خلق الله فهوة القوة الطبيعية التي وهبها للجميع، ولهذا أسماه الفرابي بالرأي المشترك، فإذا كانت النفس تميل علة المستوى المحسوس أي على المادي فإن القلب يحيل على الجوهر.
يرى محمد أركون أنه لابد أن يكون الانطلاق من نقطة الحداثة وليس من نقطة الماضي والتراث وعلينا تهذيب نفوسنا وتدريبها على أن تتصرف بطريقة متسامحة ومنفتحة ومرنة
وأن تقبل شيئا اساسيا يعتبر من منجزات الحداثة العقلية ألا وهو سببية الحداثة الأمر الذي يتعارض جذريا مع مطلق الحقيقة أو الاعتقاد بوجود الحقيقة كما ساد سابقا في كل الاوساط الدينية1، وبذلك تكون النتيجة التي يصل إليها أركون هي القطع مع التراث الديني عموما ولذلك يلاحظ أن معظم البلدان التي سادتها أنظمة سياسية كبلت فيها حرية العقول او مارست عليها الوصاية وفرضت عليها توجها أحاديا يقتصر على اجترار مقولات من الماضي وتمجيد صفحات من تاريخ متجاوز لبطولات وهمية في الحاضر وتعظيم أعمال قيادات سياسية لا تخطئ، وأنه لا بد من توفر مجموعة من العناصر المتكاملة لامتلاك شروط وأهلية ولوج عالم الحداثة ومن أهمها:
 وجود إرادة حقيقة وقوية لدى سلطة القرار
 ارتكاز الإرادة على مرجعية ثقافية حداثية وافتراقها بالوعي الكامل بما يتطلبه التحديث من تجاوز لكل متآكل ومهترئ وفاسد والانفتاح الواعي عاى كل ما هو إيجابي في الثقافات والحضارات الإنسانية الحديثة1.
 تحرير عقل الإنسان وإطلاق طاقاته الإبداعية والنقدية في كل القيود الملكية.
وبذلك اكتسب محمد أركون شهرة ضخمت أعماله لأنه كان ينتج على النمط الاوربي وزكى فرضيات وأطروحات أوربية، فإذا كان محمد عابد الجابري شكلت مساهمته في التفكير والكتابة عن العقل العربي ضمن ما سماه المشروع النهضوي، لأن نقد العقل جزء أساسي وأولي في كل مشروع، ولهذا بحث على الاهتمام بالعثل المكون داخل بنية عربية إسلامية على شرط أن سكون عقلا متجاوزا للخرافات والأساطير ويريد الجابري ممارسة النقد المتحرر والفعال من أجل التحرر مما هو ميت أو متحشي في كياننا العقلي وإرتنا الثقافي.
ترتبط مرجعية العقل العربي في رأي الجابري بعصر التدوين وترتكز بنية هذا العقل على أسس أولها قداسة اللغة العربية والأساس الثاني هو الفقه الذي شكل على الدوام أهم ضابط للمجتمعات الإسلامية، وهكذا يكون الجابري قد تناول العقل العربي من منطق الفيلسوف.
3) الحداثة
أــ تعريف الحداثة: لغة هي مصدر فعل حدث يحدث ووصف لما هو حديث ويمكن أن ترد في سياق يفيد ما استحدث أو ما حدث من تطور كما تفيد العصرنة والانسجام مع مستجدات العصر الحديث ونطلق كلمة حديث على كل ماهو جديد، وفي معاجم اللغة العربية في مادة حدث نرى أن الحديث نقسض القديم والحديث الخبر يأتي على القليل والكثير ويجمع على أحاديث على غير قياس واستحدتث خبرا أي وجدت خبرا جديدا ومستحدثات مولدات.
وفي اللغات الأجنبية نجد أن كلمة حداثة لفظ أوربي المنشأ ففي ففي الإنجليزية نجد لفظ Moderisme وModernity ومثلها في الفرنسية والترجمة العربية لهذين المصطلحين تختلف من حداثة إلى عصرية إلى معاصرة.
Modernity تعني المعاصرة والعصرية وتعني المعاصرة في تعريفه أو تعبيره إحداث تغيير وتجديد في المفاهيم السائدة والمتراكمة عبر الأجيال نتيجة تغيير اجتماعي أو فكري أو أحدث اختلاف الزمن.
Modernism حسب تعبيره تعني مذهب أدبي أو نظرية فكرية تدعوا إلى التمرد على الواقع والانقلاب على القديم الموروث بكل جوانبه ومجالاته.
المفهوم الاصطلاحي للحداثة، فهو دو حمولة فلسفية وإيديولوجية ترتكز على أحداث-ووقائع تميزت بها حقبة تاريخية معينة، وفي حيز جغرافي محدد ويتعلق الأمر بالتحولات السياسية والفكرية والعلمية والاقتصادية والحضارية التي عرفتها أوربا الغربية.
ب ــ نشأة الحداثة:
قبل أن نتحدث عن ظروف وتاريخ ظهور مفهوم الحداثة يجب التنبيه في البداية إلى الفرق بين حديث Moderne وModernité، فتاريخ لفظ حديث أقدم من تاريخ لفظ حداثة وهي كلمة تنطبق على كل لحظة تاريخية يحدها وازع التجديد في كل مجالات الحياة في المعرفة والتقنية والفن والأخلاق ويرجع هانز روبير يوس أصل ظهور لفظة حديث إلى القرن 15م، وفي عصر النهضة وفترة الأنوار لكن الوعي الحداثي لم يظهر إلا في القرن 19م وبالضبط حوالي 1830م مع شارل بودلير .
إن الولادة الشرعية لمفهوم الحداثة كانت داخل الصالونات الأدبية والفنية لكن تمت اختلاف بصدد جينيالوجيا الحداثة وبسبب الملابسات والشروط التي أفضت إلى ظهورها فهناك من أرجع الأصول الجينيالوجيا للمفهوم إلى فترة النهضة التي انبثق فيها الوعي التجديدي في الفنون المعمارية وأشكال التعبير والبحث الفكري أو إلى الإصلاح الديني الذي شكك في البابوية وسلطة الإكليروس وهناك من ربط شروط ميلاد الحداثة بمولد الدولة الوطنية المركزية وظهور البورجوازية كطليعة ليبرالية وتنامي الكشوف العلمية والتكنولوجية التي غيرت صورة الإنسان والعالم .
ت ــ منطق الحداثة
إن الحداثة هي عبارة عن مراجعة دائمة ورؤية متجددة باستمرار للعالم وللإنسان فإن ذلك منح الحداثة منطقها الخاص والذي يتجلى في نزع الطابع السحري عن العالم ورده إلى خارجية مطلقة وإرجاء إلى علاقات موضوعية معلومة لقد بات العالم منظور إليه كعلاقات رياضية وكجملة من الظوزاهر الموضوعية التي تنتظمها علل وأسباب عقلية وتحددها حتميات فيزيائية لا دخل فيها لقوى متعالية، بحيث أفرغ العالم من محتواه الميتولوجي الديني وألبس لبوس المعقولية العلمية والدقة الرياضية والتجرد الموضوعي وللحداثة أيضا ميسم تقني وهذا ما يجعل عصر الحداثة هو عصر الإنتاجية والنزوع إلى السيطرة على الطبيعة واحتواء العالم عبر العمل، وقد أضحى العالم الإنساني مواجها في الأزمنة الحديثة بوازع تحويل العالم ورغبة المردودية والفعالية التي ميزت البورجوازية كقوة صاعدة عن الفيودالية الوسطوية التي اقتصرت على تمثل العالم كما هو أو كمعطى مباشر بيد أن مناط العمل التقني والشطر العلمي في عصر الحداثة بلا ريب وهو العقل كأسطورة.وكمحرك للتاريخ ومنتج للمعاني، فالعقلانية الحديثة لم تعد تمثل العالم كهبة ؟؟؟ سحرية وكمجال من المعاني الهرمية التي يتعين فضها وتفكيكها.
والحداثة في المجال السياسي هي تجريد للدولة وعزل للحياة الخاصة عن الفضاء العمومي وفصل للسلطة الزظمانية عن السلطة الروحية وعقلنة بيروقراطية لأشكال الحكم بالإسناد إلى دساتير وهيئات إدارية وجهاز سياسي فعال.
أما الحداثة في شحنتها العلمية/التقنية او في لبوسها السياسي والاجتماعي أو الفني الجمالي وفي دلالاتها الفلسفية هي رجة دائبة وامتحان للقيم وتدمير للأوتان ومن هنا فمقاربة الحداثة معيارية ملتوية ومنطقها عائم لا ينهض على أساس ثابت ولايقوم على قرار صلب لهذا يستحيل الحديث عن نموذج معياري للحداثة.
إن الحداثة تستمد كينونتها من الصيرورة تستعير شرعيتها من ماهية العصر ومن مساومة ما هو جديد منقطع غير موصل بجينيالوجيا سابقة أو بأصل أسطوري.
إن منطق الحداثة يتلخص في كونها وعيا مشرئبا إلى الآتي مهووس بروح العصر، وهذا الشغف بالآتي وهذا الحضور الدائم يجعل الوعي الحداثي في توثر دائم مع الجدور وفي شبهة دائمة مع المرجعيات والجينيالوجيا ويجعل الحداثة في النهاية ثورة على التقليد ورهانات على التجريد والتجريب والتجديد .
ث ــ الأسس الفلسفية للحداثة
لكي تكون الحداثة وعيا متجددا باستمرار ومنفلتا من التقليد بشكل دائم لذلك تقتضي أنتروبولوجيا جديدة تجعل الذات مركز للمعرف ومعيارا لإنتاج المعنى وتجعل العقل ملكة للإدراك والاستكشاف والنقد على هذا الأساس تصير الأنتروبولوجية الحداثية وعيا ذاتيا وفلسفة عقلانية ونزعة عقلانية نقدية ومناط هذه الأنتروبولوجية ذات مركزية تتمثل نفسها من خلال ما هو جديد وتضع كل شيء موضع نقد وموضع أزمة، ويمكن أن نعتبر النقد هو العلامة الفارضة للوعي الحداثي ومبدأ كل المبادئ الحداثية كالتقدم والعقلانية والتقنية والعلم وغيرها ويمكن إجمال الأسس الفلسفية للحداثة فيما يلي:
• إيلاء الأهمية للعالم الطبيعي باعتباره هو العالم الحقيقي.
• الانطلاق من الذات والإنسان بجعله أهم كائن في العالم الطبيعي.
• الاعتماد على العقل بأنه هو ميزة الإنسان ومصدر تفوقه وتفرده.
• إنه الأداة التي بها يتوصل الإنسان إلى الحقيقة كما أنه أصل المعرفة والوجود والقيم .
• إعادة النظر في القوى والروابط الإنسانية وذلك بتحويل الرؤية من العالم الآخر على هذا العالم انطلاقا من اعتبار الإنسان فاعلا أصيلا تعين مصيره وهو ما أدى إلى وضع طرق عقلية وموضوعية لفهم القوانين والتنظيم الاجتماعي والتطور الحضاري .
لقد أثرت الفلسفة اليونانية على الثقافة المرتبطة بالعقل ولاحظ بعض الباحثين أن العلماء المسلمين لم يستوعبوا التراث اليوناني ولذلك لم يوضفوه ولم يستخدموه في حياتهم اليومية بل رأوا فيه أداة تشويش وتقليد يحد من ملكة الإبداع عند العلماء المسلمين لأن هؤلاء أولا فيما بينهم المذاهب المختلفة وثانيا مزجوا شرح أرسطو والفلسفة اليونانية عموما وفلسفة الشرق وأخيرا مزجوا بين الفلسفة والشريعة .
أما ابن خلدون فله موقف مميز يكمن في تناوله للظواهر الاجتماعية باعتماده على العقل التاريخي، وحاول فهم هذه الظواهر عن طريق علم العمران فتمكن بفضل هذه الأداة أن يقر بأهمية العقل لدراسة الحياة الواقعية التي هي مجموع الأفعال البشرية الناتجة عن القوى الحيوانية بعد أن نظمها العقل حسب الإنسان الأسمى.
تخضع مضامين المفاهيم للظروف التي تتولد فيها ولتبدل الأحوال ويشحنها الباحث بمعطيات ذات ارتباط متين بشواغل عصره فإذا كان العقل نتاجا لعلم العمران عند ابن خلدون فما هي المضامين التي خص بها علماء الإسلام اليوم للعقل.
اهتم محمد أركون بالعقل العربي الإسلامي وطالب بإعادة قراءة التراث الإسلامي انطلاقا من شواغل آنية اعتمادا على معطيات ومناهج جديدة .
I- مقاربة الحداثة بين الأوربيين والمسلمين
1- عند المسلمين :
إذا شكل القرن 15م بداية دخول أوربا عصر الحداثة فإنه في العالم العربي كان بداية للتراجع و سيادة التقليد و حتى التطور الذي عرفه العثمانيون و السعديون في بلاد الغرب كان يطغى عليه الطابع العسكري التوسعي و بالتالي ما لبتث هذه الدول أن تراجعت بسرعة أمام تطور أوربا الفكري و الإقتصادي و الإجتماعي . لقد ساد الجمود الفكري و لم يستطع عقل الإنسان العربي الرازخ تحت و طأة الإقطاع والإستبداد أن يحقق ثورة فكرية شبيهة بحركة الإنسين ، و رغم أن المجتمع العربي لم يعاني من سيطرة جهاز ديني كما حدت في أوربا، إلا أن عدم تحرير العقل من جموده ظل هو السمة الغالبة على بنية العقل العربي.
ولم يشهد عالمنا العربي أي ثورة قادرة على خلخلة و تفكيك مكوناته و مساعدته على الإنطلاق و التحرر، هكذا ظل الفكر التقليدي هو السائد ،فكر اقتنع بواقعه و اعتبره قدرا ٌ لا يمكن تغيره إلا بمعجزة سماوية ، و حتى عندما انتبه مفكرون لهذا الواقع و آمنو بإمكانية تغييره خلال القرن 19م ، كان قد فات الأوان ، و اختلت موازين القوى.
لقد أدى هذا الواقع إلى ظهور مفكرين مسلمين أتتو ما سمي بعصر النهضة العربية الذي عرف نعتاً موازياً لعصر التنوير الذي تميز بعنصرين متكاملين: ظهور متقفين يعطون لثقافة و ظيفة اجتماعية نقدية , وولادة ظواهر اجتماعية تضمنت الصحف و الأحزاب السياسية ، و تزايد عدد المطابع و الترجمة ، و التعرف على أشكال جديدة من الأدب و الفنون.
تطلع هذا العصر الذي عاش بقايا السيطرة العثمانية و مجيء الاستعمار الحديث ألى بديل اجتماعي ، يحاكي النمودج الحضاري الأوروبي و الموروث العربي الإسلامي ، وهو ما دفع مثقفيه إلى كلمة الجديد التي تقاسم استعمالها محمد حسنين هيكل و جبران خليل جبران و طه حسين و غيرهم.
لم تكن الكلمة الجديدة محررة من الإلتباس ، فالجديد المطلوب لم يكن جديدا تماما فقد بقي الإسلام الذهبي في عقول كثيرة ، و الامر واضح الدلالة ،لأن دعاة الجديد كانوا مقيدين إلى مجتمع تقليدي ، فتحته على الجديد الصدمة الاستعمارية .
يفرض الحديت عن النهضة التوقف لزوما أمام التوسع الإستعماري الذي كشف عن الفرق الحضاري بين المستعمرين و المستعمرين . و قد أملى الفرق الدي يجمع بين المقاومة و الإنبهار سؤالا واحدا مثماثلا سأل عبد الله النديم لماذا يتقدمون ونحن على تأخر ؟ وطرح شكيب أرسلان سؤاله الشهير لماذا تقدم الغرب و تأخر الشرق ؟ و قال سلامة موسى مبهورا لماذا هم أقوياء ؟
إن الأسئلة واضحة و صريحة و تتضمن اعترافا بالواقع لكن الإجابات المتوالية دارت في مجملها حول رد واحد ، لقد تأخر المسلمون لأنهم ابتعدو عن دينهم ، و أصبح هذا الجواب هو المحور الدي تدور حوله بدرجات متفاوتة جل أنماط الوعي الإسلامي الحديت و المعاصر . و هذا الجواب هو المسلمة الضمنية البعيدة التي تولدت عنها كل أشكال رد الفعل الإسلامي المعاصر ، لأنه جواب يتضمن إدانة ضمنية لتاريخ و التطور ، كأنه ليس من المطلوب مواكبة تطورات التاريخ . كأن المسلمون بانسياقهم مع متطلبات التطور قد تخلوا عن دينهم أي عن دواتهم و نواة هويتهم وقوام تطورهم الحقيقي.
من أين جاء التخلف و ماهي و سائل تجاوزه ؟ هذا هو السؤال الأساسي الذي حاول النهضويون الإجابة عنه بأشكال مختلفة، فقد دعا رفاعة الطهطاوي إلى حقوق مواطنة و سلطة تؤمن التساوي بين الناس في الحقوق و الواجبات و نبه الرجل إلى أن العلم و المعرفة لا وطن لهما ولا قومية تحتسبهما ، بل أوضح أن هذه العلوم و المعارف التي قام عليها عصر النهضة الأوربية إنما هي موروثاث عربية إسلامية أخدها الأوروبيون و طوروها فيجب أن نفتح لها الأبواب و النوافد لنأخد منها و نطورها نحن أيضا . إن الطهطاوي قد فاجأ قراءه عندما حدثهم عن العلماء في فرنسا ليس هم رجال الدين فقه الشريعة ليس هو العلم الدي يصنع الحضارة و يبني العمران ، ومن يظن ذلك فهو واهم .
إلى جانب الطهطاوي ، ندد عبد الرحمان الكواكبي بالإستبداد الديني الذي تفرضه سلطة مستبدة و دافع قاسم أمين عن تحرر المراة ، واجتهد محمد عبده في تأويل للنص الديني يركن إلى العقل و حاجات الناس العملية ، و طالب فرح أنطوان بمجتمع مدني ، و دعا طه حسين إلى الفصل بين العلم و الدين محددا مجالا خاصا لكل واحد منهما دون مرتبة أو امتياز، أعلنت الاسئلة عن مجتمع يجب تغيره ، يعاني من الإستبداد السياسي و الإنغلاق الديني و اضطهاد المرأة و تحريم الحرية الفكرية و التخلف في مجالات العلم و المعرفة.
2 _ الحداثة عند الأوربيين
يتحدث الكل عن الحداثة في أوربا، ولكن القليل يستطيع تحديد مضامين هذا المصطلح. فالحداثة سيرورة و ديناميكية لا تتوقف و اعتبرها بعض المفكرين إيديولوجيا التغير. تهدد بمحو كل معتاد أليف.
لقد شن دعاة الحداثة هجوما على مقدسي القديم و ناهضوا استعباد الفكر الذي أرادوه أن يكون حرا طليقا خلاقا ، واعتادت الأسطوغرافية الأوروبية اعتبار 1453 م منطلقا لعصر الحديث غير أن البرتغاليين اقترحوا بدءه سنة 1415 م ،و هي السنة التي احتلوا فيها سبته و طالب مؤرخوا إسبانيا باتخاذ سنة 1492 م منطلقا لهذا العصر أي السنة التي طرد فيها المسلمون من الأندلس و اعتقد هؤلاء أنه من الأحسن أن يتخذ الأوروبيون انطلاقة للعصر الحديث أحداثا يخلدون بها انتصاراتهم و ضخمت الكتابة الأوروبية محاسن الحقبة الحديثة على حساب العصر الوسيط ، فإذا كان العصر الحديث نورا و نهضة فإن الوسيط ليل و ظلام ، فالحداثة هي ديناميكية أوربا و هي أيديولوجيا الجد و التجديد ،ويرجع تجدرها إلى ارتباطها بالطبقة البرجوازية ،فمند القرن 16 م أصبحت للتجار مكانة في المجتمعات الأوروبية ، واعتبر كارل ماركس هذه الطبقة أساس و سر نمو و تقدم الرأسمالية في اوربا ، لأنها عرفت كيف تجعل من حركتها حركة ثورية مناهضة و مفتتة للنظام الفيودالي المنهار و لقد تمكنت هذه الطبقة أي التجار من خلق الظروف الملائمة لتقود العالم عن طريق كسر السلطة الروحية في القرون الوسطى ، و لأجل هذا دعمت طبقة التجار الاكتشافات الجغرافية الكبرى ، لم تكتفي البرجوازية بالهيمنة على الاقتصاد بل و وطدت مكانتها في المجال الفكري فشجعت الإبداع و النقد ، فكانت انتقادات الإنسيين لعادات العصر الوسيط و قيمه تخدم طموحات هذه الطبقة و نزلت كتابة رجال الإصلاح و مواقفه كالصاعقة على مكتسبات الكنيسة و كثرت الانتقادات ضد البابوية ، و عمل رجال الإصلاح على تبسيط العبادات حيت ر كزوا على ضرورة التقليص من تدخلات الكنيسة ، و أظهروا أن الدين ينبني بالأساس على الإيمان و أن المؤمن لا يحتاج إلى و وساطة بينه و بين ربه و اعتبر ماكس فيبر في دراساته أن الإصلاحات الدينية من العوامل الأساسية التي ساهمت في خلق ذهنية ر رأسمالية ، و بذلك كانت دعما لطموحات الطبقة الجديدة .
لقد شكلت الحركة الإنسية إحدى أبرز مظاهر الحداثة الأوروبية إلى جانب الإصلاح الديني ، فقد جاء الفكر الإنسي كرد فعل ضد التصورات السائدة هذه التصورات لم تكن لتخرج عن الإطار الذي حددته الكنيسة . لقد كانت الكنيسة هي مالكة الحقيقة المطلقة او هكذا كانت تعتقد .
غير الإنسيون مفاهيم كثيرة ظلت راسخة لعقود طويلة و ظلت جزءا من الإيمان الحقيقي لفكرة الشقاء و الخطيئة و إشاعة مفاهيم جديدة كالسمو و الكمال و التفاؤل ،وكان عليهم تغيير النظرة إلى عدة مجالات أبرزها الفن خاصة الرسم و النحت من خلال أنسنة المواضيع و الخروج من تحت جناح الكنيسة إلى مجال أرحب و أوسع ، فالحرية و السعادة و الجمال و احترام الذات هي القيم الكبرى للأخلاق الفردية التي تصب في الأخلاق الجماعية .
جاءت نظرية كوبرنيك حول الكون كضربة موجعة للكنيسة القائلة بمركزية الأرض في المجموعة الشمسية و اعتبار هذا جزء من الإيمان .
لقد أتبث كوبرنيك العكس و بالتالي كان لابد للإنسان الأوروبي أن يطرح سؤالا جوهريا و بديهيا : هل تملك الكنيسة الحقيقة ؟ و إذا كانت لا تملكها فمن يمتلكها إذن.؟
III- مسألة الحداثة وإشكالية التحديث في المجتمع المغربي
1) حداثة تفرض نفسها
إن دخول المجتمع الأوربي إلى الحقبة البورجوازية لا يعكس شيئا آخر غير دخوله فيما نسميه بحقبة "الحداثة"، وإذا كان هذا المجتمع قد دخلها بفعل دينامكيته الداخلية الخاصة، فإن حاجته إلى حيازة المزيد من عوامل التطور والتقدم جعله ينزع نحو التوسع والهيمنة على باقي العالم، مكونا نظاما رأسماليا احتل مركزه في حين احتلت بقية المجتمعات التقليدية، ومنها المغرب، أطرافه وهوامشه التابعة .
يمكن اعتبار منتصف القرن التاسع عشر بمثابة بداية للاحتكاك الفعلي للمغرب بمظاهر الحداثة الأوربية سواء العسكرية او الصناعية ، ففي هذه الفترة، وإثر الهزائم المتوالية التي شكلت بداية صدمة الحداثة على الواقع المغربي والتي افتتحت مع احتلال الجزائر سنة 1830 وهزيمتي إسلي 1844 وتطوان 1859-1860، وكذلك مع المعاهدات التي توجت بفرض الحماية على المغرب في 30 مارس 1912، وجد هذا الاخير نفسه مرغما على التفاعل مع الآثار المباشرة للحداثة الأوربية، ومظاهر الاستجابة المختلفة للأشكال، فمطلب التحديث الذي وجد المغرب نفسه مضطرا للاستجابة له لم يكن اختيارا ذاتيا وتلقائيا ولا اقتناعا بنموذج أثبت نجاعته وتفوقه، بل كان مرتبطا بالغزو والحصار البري وبدوي المدافع على حدوده، حيث أفاق المغاربة على كور المدافع وهم يستيقظون على مشارف العصر الحديث .
2) الرحلة والحداثة
كان للمغرب بفعل قربه جغرافيا من أوربا السبق في التعرف مبكرا على عوالم هذه الحداثة عبر "الرحلة السفارية".
فلا شك في أن أول من لاحظ وتعرف على الحداثة الأوربية عن كتب هم الرحالة المغاربة الذين كانوا يرسلون في مهمات رسمية من طرف السلاطين المغاربة، وكان معظم هؤلاء الرحالة يدونون مشاهداتهم وخصوصا الأمور التي أثارت انتباههم ولم يروا مثلها في المغرب من بنايات وأدوات وأفكار...
فقد جاءت رؤى وتصورات الرحالة للحضارة الأوربية متفاوتة بحسب الظروف الموضوعية وبمدى ارتباطهم بالبنية الثقافية العربية الإسلامية وبالسلطة السياسية المخزنية، فما نقرأه مثلا عند ابن عثمان المكناسي ليس هو ما نقرأه عند الصفار أو الحجوي من بعده، لكن ومهما يكن من تفاوت في الرؤى فإن معظم هذه الكتابات شاءت أم أبت – بفعل إعجابهم وانبهارهم- فإنها حملت في طياتها بعضا من معالم هذا التفوق الذي كان بمثابة المرآة التي عكست مدى تأخر المغرب، وهذا ما يجعلنا نقول أن النخبة السياسية المغربية كانت على علم ومعرفة سابقين بهذه القوة، فلماذا إذن لم تنتبه النخبة السياسية قبلا من هذا التطور ولم يستطيعوا تجنب زحف الحداثة الأوربية -العسكرية منها على الخصوص-؟
3) إشكالية التحديث عند النخبة السياسية المغربية
أ‌) التحديث والاجتهاد
التحديث يتعلق بالوجود الاجتماعي وما يرتبط به من انماط الوجود السياسي والاقتصادي والقانوني والفكري... كما أنه يتعلق بما يحصل من وعي في النظر إلى تلك الأنماط المختلفة من الوجود في صلتها بالأحداث المستجدة والظاهرة في مستويات السياسة والاقتصاد والمجتمع... ، فالقول بوجوب التحديث هو القول بوجوب تطوير- في مجتمع ما- قوى الإنتاج، وتعبئة الموارد والثروات وتنمية إنتاجية العمل وتركيز السلط الاجتماعية والسياسية داخل أجهزة محكمة ، وبعبارة أدق فإنه مجموعة من الكيفيات التي يسلكها الفكر والمجتمع في النظر إلى التحول الاجتماعي الحادث وفي التغير السياسي الضمني أو الصريح المواكب لذلك التحول أو الناتج عنه، وهو في نفس الوقت، مجموع الحلول المقترحة للرد على الإشكالات الحاصلة، وحصيلة الإجابات النوعية الدقيقة والمضطربة على الأسئلة الحرجة .
والحديث عن التحديث في العالم الإسلامي يفرض ضرورة أخرى وهي الحديث عن مسألة "الاجتهاد"، فماذا نقصد بهذا المفهوم؟
"الاجتهاد" هو نظر في الدين وفي الشريعة بغية تقديم الحلول والأجوبة الشرعية على المستحدثات التي تحدث في المجتمع الإسلامي وتتعلق بالوجود في ذلك المجتمع وشروط العيش فيه عيشا يواكب مستلزمات التغيير ومقتضيات التطور، وبما أن الوقائع التي يتوقع حدوثها لا نهاية لها، فإن الفقيه مدعوا إلى استخلاص الأجوبة الشرعية المناسبة للحوادث الجديدة والمطابقة لأحكام الشريعة، وهو مطالب بإعمال العقل الفقهي بغية الحصول على تلك الأجوبة وهذا الجهد العقلي الذي يبذله في مجال الشريعة أو إعمال العقل قصد الحصول على الحكم الشرعي في "النازلة" هو ما يدعى في الاصطلاح الفقهي بـ"الاجتهاد" .
ما هو موقف العلماء/الفقهاء من المستحدثات ومن التحديث؟
ب‌) موقف الفقهاء من المستحدثات التقنية ومن المنتجات الأوربية
مع صدمة الحداثة للمغرب اتجه الاجتهاد الفقهي إما إلى قبول التحديث والمستحدثات التقنية في مختلف صور ومناحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية، أو إلى رفضها في كل أو بعض من أوجهها.
من المستحدثات التي أثارت جدلا لدى الفقهاء في منتصف القرن التاسع عشر واستمرت حتى بداية القرن العشرين "التلغراف" ، الذي أفتى فيه مجموعة من الفقهاء وتساءلوا عن مدى شرعية استعماله وعن مدى شرعية الاعتماد على الأخبار التي ينقلها، وخاصة منها ما تعلق بالشرع والشعائر الدينية، كحلول هلال رمضان أو هلال العيد، وقد أدخلها السلطان الحسن الأول إلى قصره بالإضافة إلى اهتمامه ببعض المخترعات الأخرى؛ كآلات توليد الكهرباء والسكة الحديدية والتلفون وآلة التصوير وآلة الكلام (الفونوغراف) .
لقد اتخذ الكثير من الفقهاء موقفا حذرا اتجاه المستحدثات التقنية وحاكموها من جهة علاقتها بشؤون الدين، كما نجد من حاكم المنتجات التي تأتي من عند الأوروبيين بنفس الطريقة فالفقيه أحمد بن عبد المالك العلوي قاضي فاس ومكناس في عهد عبد الرحمان بن هشام قد وضع تأليفا في تحريم السكر المستورد من أوربا باعتباره بضاعة جديدة لا يعلم حكم الشرع فيها ويقال بأنه لم تكن تقبل شهادة من يشربه. كما نجد الفقيه محمد بن جعفر الكتاني يضع تأليفا صغيرا بعنوان "حكم صابون الشرق وشمع البوجي وصندوق النار المجلوب من بلاد الكفار لعنهم الله، وحكم خياطة أهل الذمة قبحهم الله"، يناقش فيه مدى جواز الطهارة بالصابون المصنوع من شحم الخنزير كما يناقش مدى جواز الصلاة بثياب خاطها الكفار.
ت‌) تحديث الجهاز المخزني وموقف ورجال المخزن من ذلك
كان المخزن يعي تماما ضرورة إحداث تغييرات في أمور الإدارة والجيش، فقد خطى المغرب أولى خطواته في درب انتحال التنظيمات الحديثة منذ عهد السلطان عبد الرحمان، حيث ظهرت إرهاصات لأول تجربة برلمانية فيما عرف بـ"مجلس الأعيان" ، كما قام السلطان الحسن الأول بإرسال بعثات طلابية إلى مختلف البلدان الأوربية قصد تحصيل لغات تلك البلاد وتعلم الفنون العسكرية، وقام بإنشاء معمل لصناعة الأسلحة النارية، وقد كانت هذه العمليات تتعرض إلى انتقادات من طرف العلماء المحافظين الذين اعتبروها خطرا على الدين واتصالا ببلاد "الكفر" .
أما في عهد السلطان عبد العزيز فقد عرف المغرب مجموعة من التوترات تمثلت في ضياع مناطق من الشرق(منطقة التوات) وفتنة "بوحمارة"واحتلال مدينتي وجدة ثم الدار البيضاء، وهذه الأحداث صارت كلها بالموازاة مع الاستمرار في سلوك خطة التحديث من جهة أولى، واللجوء أكثر فأكثر إلى القروض الأجنبية وتعاظم السيطرة الفرنسية واقترابها من إحكام قبضتها على المغرب من جهة ثانية، ومن الأسباب التي أدت إلى عزل السلطان عبد العزيز هو دفعه بخطة التحديث والانفتاح على الغرب إلى الحدود القصوى التي لم يكن من شأن الوعي الديني أن يجيزها.
ولم تجد سياسة التحديث التي انتهجها السلاطين المغاربة طريقها إلى النجاح لأسباب داخلية مرتبطة بسوء التدبير في الغالب وبكون خطة التحديث شملت الجوانب التقنية وغيبت الحياة الاجتماعية، كما أن بنيات الدولة لم تكن في استعداد للإفادة من تلك السياسة، وهذا ما جعل أفراد البعثات ـ على سبيل المثال ـ حين عودتهم مهيئين ومدربين يعيشون على هامش الحياة التي أعدوا من أجلها .

وخلاصة القول فإن الأوربيين أصبحوا في تفكيرهم العقلي يؤمنون بالعلم، ولم يعد العقل الأوربي يهتم بنعيم الحياة الأبدية بقدر ما طور مداركه من أجل تطوير الحياة الاجتماعية، وبالتالي أصبح إيمانه الأول والأخير هو العلم، وتطوير مختلف البنيات الاجتماعية.
أن المسلمين/العرب عموما والمغرب على وجه الخصوص جعلوا من الدين عائقا أمام كل ماهو جديد في الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية... وحتى عندما حتم الواقع على السلاطين القيام بتحديثات إصلاحية لم تجد هذه الأخيرة طريقها إلى النجاح إلا عبر الإصلاحات التي قام بها المستعمر.



#يوسف_ميرة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الحل في العقل
- الجهاز المخزني المغربي في التاريخ، ماذا تغير؟


المزيد.....




- صديق المهدي في بلا قيود: لا توجد حكومة ذات مرجعية في السودان ...
- ما هي تكاليف أول حج من سوريا منذ 12 عاما؟
- مسؤول أوروبي يحذر من موجة هجرة جديدة نحو أوروبا ويصف لبنان - ...
- روسيا تعتقل صحفيًا يعمل في مجلة فوربس بتهمة نشر معلومات كاذب ...
- في عين العاصفة ـ فضيحة تجسس تزرع الشك بين الحلفاء الأوروبيين ...
- عملية طرد منسقة لعشرات الدبلوماسيين الروس من دول أوروبية بشب ...
- هل اخترق -بيغاسوس- هواتف مسؤولين بالمفوضية الأوروبية؟
- بعد سلسلة فضائح .. الاتحاد الأوروبي أمام مهمة محاربة التجسس ...
- نقل الوزير الإسرائيلي المتطرف إيتمار بن غفير للمستشفى بعد تع ...
- لابيد مطالبا نتنياهو بالاستقالة: الجيش الإسرائيلي لم يعد لدي ...


المزيد.....

- في يوم العمَّال العالمي! / ادم عربي
- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - يوسف ميرة - موجة الحداثة وحقيقة الفكر العربي