أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - محمد مصطفى سليم - شيء من القلق على مصر .... قراءة في مشهد الرئاسة لا الرئيس















المزيد.....

شيء من القلق على مصر .... قراءة في مشهد الرئاسة لا الرئيس


محمد مصطفى سليم

الحوار المتمدن-العدد: 3736 - 2012 / 5 / 23 - 09:29
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


شيءٌ من القلق على مصر ... يا أهلَ مصر!!
قراءة في مشهد الرئاسة لا الرئيس

كيفَ يمكن لك أن تكونَ محايدًا في مناخٍ غير محايد؟ .... تلكم هي عين الأزمة في مصر الآن، وذاك هو السؤال الموجع، الذي ينبغي لنا أن نكاشف به ذواتنا، ورجالاتنا، وأحزابنا، وطوائفنا، من دون النظر، ولو قليلاً، إلى العلاقة التراتبية في تسيير أمور البلاد عبر ما هو مُعلنٌ على السطح: المجلس والشعب والرئاسة التي تُنتظر؛ لأن كل شيء في مصر الآن بات على المحك؛ القضاء المصري على المحك، والديمقراطية على المحك، والإرادة الوطنية على المحك، والفعل الثوري نفسه على المحك، إن لم يكن الربيع العربي برمته يكاد يكون على المحك خلال الأيام القليلة القادمة. ويأتي ذلك في ظل ما يبدو صارخًا في الأفق المصري من أوراقٍ مختلطة الطرح، وطاقاتٍ مُبددة في انقسامات بعضها على بعضها، ومناخٍ ضبابي ينشط فيه الطعن على حساب المواجهة، وتتراجع فيه الحرية المسؤولة في التعبير عن الرأي أمام سلطة التغييب والإذعان لعصا الطاعة، أو تتراجع الحرية ذاتُها أمام الفوضى الفردية حينًا والموجّهة حينًا آخر، ولكن يبقى، لمن يعي قيمةَ الإسهام في صنع مستقبلٍ يليق به وبالأجيال القادمة، أن يُقرّ بأنها أيامٌ قليلةٌ فارقةٌ في حياة المصريين، تلك التي تفصل بينهم وبين صياغةِ تاريخٍ، يُفترض فيه أن يكونَ من الجدّة بما يجعله مغايرًا تمامًا، وناجزًا، عما كانَ من تاريخٍ صنعه السابقون؛ فعشناه مجدًا وخزيًا، وعشناه شموخًا وانكسارًا.
صحيحٌ أنّ أكثر المفرطين في التفاؤل بالحال في مصر، لم يكن، يومًا من الأيام، يطمحُ في مشهدٍ كالذي نحياه هذه الأيام على ما فيه من عللٍ وقصور، ولاسيما حين تتسمّرُ حيرتُنا وتكهناتُنا حولَ تحديدِ شخصية الرئيس القادم بدايةً من الآن وإلى يوم السادس والعشرين من مايو مع الجولة الأولى، أو إلى الواحد والعشرين من يونيه في حالة الإعادة. وصحيحٌ كذلك أن رصيد التأييد الشعبي والنخبوي، على بساط الشارع المصري، يتفاوت صعودًا وهبوطًا كلَّ يوم، إن لم يكن كلّ ساعةٍ، وخاصة مع أبرز المترشحين في حلبة التسابق نحو كرسي الرئاسة. وصحيحٌ أيضًا أننا نهرع إلى الاقتراع، وبعضنا مطويٌّ على حيرة دراميّةٍ في التصويت؛ إذ يجد نفسه وقد يمنحُ صوتَه إلى مرشحٍ، بينما يُعربُ، بلا ترددٍ، عن تعاطفه مع مرشحٍ آخرٍ أو ربما مع مرشّحَيْن. ... صحيحٌ كل هذا، وصحيح أنه، وإن كان مدعاةَ فخرٍ لنا، جادَ به عرقُ الشهداءِ والشباب والشيوخ، ممن أخلصوا ضمائرهم في سبيل تراب هذا الوطن العريق -فإنه فخرٌ غارقٌ في حالةٍ موّارةٍ من القلق الشديد على مستقبل بلدٍ لا يستحق منّا، جميعًا، إلا أن نبذلَ كلَّ ما في وسعنا؛ كي يخطَّ ملامحَ مستقبلِه كما ينبغي له أن يكون، وكما يليقُ بأبهى لحظةٍ فارقةٍ في تاريخ المصريين، ألا وهي لحظةُ ابتهاجنا بسلطان اللُّحمة الوطنية الفذّة، في أيامِ ميدانٍ؛ عزّ أن يكونَ لها نظير في دفتر أطيبِ شعبٍ فقهته الأرض مُذْ عُرِف النّاس.
ومكمنُ القلقِ يعودُ إلى الحالة الضبابية التي هيمنت، ومازالت تهيمن، على سماء مصر في سياساتها وإداراتها؛ الداخلية والخارجية، وبثّت، في فضاء هذا الوطن، ما يكفي لتمذقه بعنفٍ غير مسبوق؛ فمن شكوك متناسلة في الخطوات الإجرائية نحو صناعة أركان الدولة العصرية الحُرّة التي ننشدها، وغموض شديد يُفضي إلى تعميق انعدام الثقة في كل المجالات، وبين الأطياف والقوى السياسية والثورية، إلى إرجاء بتّ أمورِ ملفاتٍ كثيرةٍ ما كان لها أن تتأخر يومًا واحدًا؛ حفاظًا على أبناء هذا الوطن، واحترامًا لوجدانه المشبّع بالحياة، وتقديرًا لوعيه العفيّ الذي تفتق عن ثورة لم ولن تتكرر بعد، فضلاً عما تكشفت عنه الأسابيع القليلة الماضية من مظاهر جليةٍ في الفرقة، كثّفت الشعور بالقلق على مصر، وهو الأمرُ الذي جعلَ تأمل مشهد الاقتراع الرئاسي مصحوبًا بعوامل متعددة، يصعبُ معها إقصاء تأثيراتها العميقة في تحديد الموقف النهائي من الانتخابات الرئاسية، ومنها، فقط، صعوبةُ إبعاد تأمل هذا المشهد بعيدًا عن استحضار فكرة المؤامرة في تفسير كثيرٍ من الأفعال وردود الأفعال، بين الأطراف محل النزاع والتصارع في مصر؛ مما يُضرمُ الشكوك في نزاهة التصويت عند بعضنا، بداية من المادة الثامنة والعشرين، التي تفتح أفق التوجس من تزوير إرادة الناخبين إلى الشك الكامل في أهداف إدارة المرحلة برمتها،
إنّ مشهدًا بهذه الإدارة غير القادرة على تبيان الحدود الفاصلة بين الممارسات الوطنية لأفراد الشعب ومؤسساته، والقرارات الداعمة لإرادة الشعب، والأهواء الخاصة بطائفة أو جماعة أو مؤسسة تُنقب عن صيانة مقومات بقائها بعيدًا عن أية مساءلة، لهو مما يُسهم، وبشكلٍ كبير، في تعقيد الرؤية وعدم وضوح الغاية عند الأطراف المشكلة للمشهد المصري؛ فمن مطالبة برلمانية بتحريك قانون العزل، إلى حراك قانوني كوميدي لدى أعتى قمم السلطة القضائية، التي حرمت، باسم القانون والاختصاص، مرشّحًا من الدخول في حلبة التسابق الرئاسي ثم أعادته مرّة أخرى باسم جهة الاختصاص وغيرها، وما بين هذا وذاك يُصدر إلينا وقوف المجلس الأعلى على الحدود الفاصلة متخبطًا في حياده، الذي تتآكل قوته بفعل البطء الشديد في القراءة والإدارة؛ مما يُضطره- عند كل مناسبةٍ متصلةٍ بانتخابات الرئاسة- إلى الحرص على تأكيد حياده؛ وهو ما قد يُفسَّر، عند كثيرٍ من القوى والأطياف، بأنه وقوف على (الحياد المتواطئ) لدعم مرشحٍ بعينه، أو فصيلٍ بعينه، بل قد يسمحُ أيضًا برصد رباطٍ غير بعيدٍ بين هذه الحالة وبين ما يُتداول حول عودة الحراك المنظم لإنعاش ذاكرة الحزب الوطني، على مستوى المحافظات، ممثلاً في الجناح الإعلامي؛ ليمارس دورًا محددًا، ومدفوع الأجر، في الدعوة إلى، أو دعم، مرشحٍ محسوبٍ على نظامه... أيُّ تناقضٍ هذا؟ وأيُّ غموض ذلك الذي يحدثُ بمباركةٍ من بعض قطاعات الحكومة الحالية في تصريحات زئبقية لا تقود إلى هدى، بقدر ما تؤدي إلى ضلال وغموض؟! فخذ مثلاً (أسطورة جِراب الصناديق الخاصة)، إذا جازت لي تسميتها، وما تكتنفه من دهاليز وسراديب، يستحيل معها أن تصل إلى حقيقة ثابتة على مستوى إحصاء عددها، أو على مستوى تقدير رصيدها الإجمالي، يمكن أن تبني عليها قرارًا سليمًا، ولاسيما مع تحديد سقف الموازنة العامة للدولة إذا ما ضُمّت هذه الصناديق إلى خزانتها. وفي مناخٍ كهذا، يلفه الغموض على هذا النحو، يستوي كل شيء، ويكثر اللغط الفارغ، ويتعالى صوت الهدم على حساب البناء، فنقرّ حكمة صينة قديمة تقول: كل القطط سوداء في الظلام.
يبدو لي أنّه ثمة إفراط كبير في كل شيء؛ في الخلاف والاتفاق، في الرفض والقبول، في الاتهامات والإنصاف، في التنزيه، والتخوين، والتأييد، والصراخ، وتغيير المواقف الكبرى في حياة الشخصيات والجماعات والأحزاب. والجميعُ، في كلٍّ، سيدفع، بلا أدنى شكٍّ في ذلك، فاتورةً باهظةَ التكاليف جرّاء هذا الإفراط، والإسلاميون هم أول من سيعضون الأنامل غيظًا من وقوعهم في شَرَكِ الميديا، وما جرّته عليهم من الدخول في معترك التفاصيل العارضة، التي كان من المفترض- مع ورودها، ومن باب العقلانية وقراءة الواقع فقط- ألا يُلتفت إليها إلا بعد تثبيت الأصول والأسس التي ترسم مسار الحزب، أو برنامج الجماعة، أو أهداف الدعوة ذاتها، لكنهم قدموا حالةً من التّعصب الأعمى في الاختلاف، قاد فصيلاً كبيرًا في المجتمع المصري إلى أن ينفَضّ عنهم طواعيةً إلى الطرف النقيض لهم، وإن تمّ ذلك بمساعدةٍ من إعلامٍ غير محايد تمامًا، وربما غير مهنيّ أيضًا، وهي الحال نفسها مع القوى الثورية السياسية التي ستدفع فاتورتها نظير التعصب المدفوع، أولاً وأخيرًا، بصدمةِ قادتِها أنفسهم، عندما عاينوا حجم حضورهم الحقيقي الهزيل في الشارع المصري بالقياس إلى سيادة الشعور الإسلامي بين طوائف المجتمع، فضلاً عن هشاشة الحصاد الذي آل إليهم؛ أي إلى قادة القوى، بعد تنحي الرئيس لا النظام، وبروز السّلف لا الثوار.
أما وإنّ الحالَ بهذه الكيفية الملتبسة شكًّا، وتخوينًا، وفُرقةً، وانعدامَ رؤيةٍ وطنيةٍ خالصة لهذا البلد اللغز، فإنه يجدرُ بنا أن نلوذَ بما تبقى من وفاء لهذه الأرض، التي طهّرت، بأنقى ما فينا من سلوكٍ حضاريٍّ فذّ، أبدانَنا من وجعٍ عتّقه النظام البائد، أو نلوذَ بشيء من القلق، الذي عدّه الفلاسفة والمفكرون أساسًا رئيسًا للوعي؛ فليكن القلق من واقعٍ معتلٍّ قليلِ العافية رغبةً في الوصولِ به، عبر درجةٍ من الوعي، والوعي السليم، إلى واقعٍ غير معتلٍّ؛ واقعٍ أكثر عافية. إذن؛ نحن في أمس الحاجة إلى ذلك القلق الذي سيُعيد الوعي المسؤول إلى مشهدنا في مصر.
ولعل أول مظاهر الوعي الناجم عن القلق من هذا المشهد المرتبك، أن نبتعد عن المؤثرات السلبية التي تسهم في تحديد تصوراتنا حول المرحلة، رغم صحتها، ولنتخذ موقفًا من أجل القيمة والمبدأ؛ والقيمة هي مصر، والمبدأ هو الوفاء لضريبة الدم ممثلةً في شهداء ثورتها. وتكمن ترجمة هذا الموقف في تأكيد القطيعة مع كل مسببات الثورة ذاتها؛ للتمكن من بثّ الحياة في أوصال أهدافها، أو على الأقل للوصول بها إلى بدايةٍ جديدةٍ، تُصاغُ فيها خارطةٌ جديدةٌ لمرحلة انتقالية، وتُتبنى أهدافٌ من إفرازات الأخطاء المتراكمة على مدار خمسة عشر شهرًا مضت بتلكؤٍ غريب، وتلكم هي المسؤولية الحقيقية أمام غدنا، ومستقبل بلدنا، تقديرًا لغضبة الدم، حينما نُعلي من قيمة الشهداء فوق أية قيمة أخرى؛ وليكن اختيارنا، في الاقتراع الرئاسي، محددًا في اتخاذ ذلك الموقف: القطيعة مع من لهم علاقة بالماضي البغيض. وهذه القطيعة التي بمقدار ما هي ضرورة مُلحّة فإنها، فيما أتصور، صعبة التحقق، بل تكاد تكون مستحيلة؛ لأن أكبر خسارة حصلناها في الفترة التي أعقبت التنحي تمثلت في شيطنة الفعل الثوري نفسه، والكفر بالقيم النبيلة التي من أجلها خرج الناس، وثار الشعب.
وعلى أية حال، فإن القطيعةَ مع الماضي، بكل رموزه؛ المرشحة للرئاسة وغير المرشحة، لا تعني، بالضرورة أبدًا، إملاءً أو فرضَ وصايةٍ؛ فما نريده للبلاد هو أن تخوض تجربةَ إعادة البناء وفق آليات خطاب الثورة ذاته وإن تعثرت في ذلك؛ فالمرحلة الانتقالية في صياغة الروابط الداخلية والخارجية وأدوات تسيير أمور الدولة التي ننشدها لم تبدأ بعد، فضلاً عن أننا نؤمن بأنه لم يعد مقبولاً بعد الخامس والعشرين من يناير 2011، بأية حال من الأحوال، وفي ضوء حرية التعبير عن الرأي؛ أكثر ثمرات الثورة حضورًا في الحياة المصرية -لم يعد مقبولاً أن يسمحَ أحدُنا لنفسه بأن يوجّه مجموعةً ما، ولو كانت من صميم أهله وأفراد أسرته، نحو تأييد مرشحٍ رئاسي على حساب مرشحٍ آخر، فكلُّنا مسؤول عن صوته؛ مادام كلُّ مصريّ منّا له شخصيته، وتفكيره، ورؤيته، إلى الحد الذي يوجب عليه أن يربأ بنفسه من القول لأحدٍ: انتخب فلانًا، ولا تنتخب فلانًا.
إن دخولَ أي مرشح محسوب على الماضي في مرحلة الإعادة يعني، بكل وضوح، أنه سيصبح رئيسًا لمصر من دون اجتهادٍ عميقٍ في التأويل؛ لأنه سيحصد إلى زمرة مؤيديه أصوات أقرانه ممن تبقوا من كورال جناح المركز الطبّي العالمي وأجنحة طُرة الحرّة، فيما يُعرف بجماعة (آسفين يا ريس) والغالبية من المنتفعين والفلول والبسطاء من الناس، وتُضمُّ إلى ذلك أيضًا أصوات غالبية إخواننا المسيحيين، الذين لا يخطئهم أحد في أي موقفٍ يتخذونه من دون مراعاة القطيعة مع الماضي؛ فما عاينوه من خطابات الترويع التي أشعلتها الفضائيات والوسائط الإعلامية الأخرى عبر سدنة التيار الإسلامي الشغوفين بالظهور، كفيلٌ بأن يجعلهم فوق ذلك وأكثر، فضلاً عن أن حزب الوفد أعلن تأييده لعمرو موسى، وحزب مصر القومي أعلن تأييده لأحمد شفيق، فنصاب كل واحدٍ منهما في الأصوات سيؤول إلى صندوق من يدخل منهما الإعادة. أما من سيكون معهما في الإعادة، والإعادة أقصاها قد تكون بين ثلاثة، وسنفترض أن الاثنين الذين سيدخلان هما: أبو الفتوح ومرسي، أو أبو الفتوح وصباحي، أو مرسي وصباحي؛ أيًّا ما كانت الصورة، فإن الأمر حاصلٌ في تشتيت أصوات القوى الثورية والتيار الإسلامي بينهما، وسيعطي توحدًا للمرشح الثالث.
وكم سيبدو مجيء واحدٍ ممن أسهموا في صياغة الماضي بمثابة الطعنة والخيبة؛ الطعنة للرصيد المقدس من أرواح النبلاء الشهداء، والخيبة كل الخيبة للشباب الغض الذي أكمل صورة البهاء لمصر في وقتٍ كنّا ننفض فيه أيادينا من مراسم دفن ركائز التمايز ، أو التميز، على المستوى الإقليمي والعالمي. فعندما ننتهي من تأمل هذه المشهد كله إلى الإقرار بأن الحراك اليومي الهادر في الشوارع، والمقاهي، وشاشات الفضائيات الملوثة بالشك والريبة في رؤاها، تمخّض في الختام عن نتيجة الخيبة، التي لا يهم وقتها إن كانت نتيجةً حركها التربص الأبدي بهذا الوطن العزيز؛ من الداخل والخارج، أم كانت من فعل آخر؛ لأننا سنكونُ أمام حالة تراجيدية قاسية، طمرت شعبًا ثارَ ،وقدّم الدم، وملأ الدنيا ضجيجًا، أوقف به الحياة لتترقب صناعته التاريخ كما تعودت منه، وإذ به يختار العودةَ إلى المربع الأول كما كان- والاختيار هنا- أيها القراء- ليس فعلاً إراديًّا خالص الجوهر، ويا ليته يكون كذلك مع كلِّ أسفٍ!!.
وتتفاقم كثافة الحالة المأساوية عندما تجد هذا الشعب، الموبوء في بعض أبنائه، مُتَرقَّبًا في عودته القاسية تلك من قِبَل بعض أنظمة عربية أخرى، راهنتْ على هذه العودة الوشيكة رهانَ التشبث بطلقة الرصاص الأخيرة؛ لتتقاعس عن الوفاء باستحقاقات شعوبها في المطالبة بإصلاحات وتغييرات تنظّم كيان الدولة العصرية، وترفع من قيمة الإنسان الحر... أليس خليقًا بهذا الشعب الذي أُسقِط من فوق صهوة جواده، بأيدي أبنائه، أن يراجع نفسه قبل أن يخرج فعلاً، لا قولاً، من الصورةِ الحضارية كلّها؟!!.
يا أهلَ مصر، إنّ شيئًا من القلق على مصر ما بعد 26 مايو 2012، أو مصر ما بعد 21 يونيه 2012، موجودٌ ولا يمكنُ إنكاره؛ فمآلها يعود رسمُه إلى ما سيتضح في الأيام القليلة القادمة، التي قد تُعيد إنتاج آليات خطاب نظامٍ قد نُحّي مؤقتًا بما تحمله دلالات فوز أحد رموزه؛ إذن، هي أيام فاصلة قد تدفع بالأمور في اتجاه ثورة ثانية ذات طابع نخبوي فقط، وإن حدثت فلا تنتظروا مساندة شعبيةً لها، وستخذلها الجماهير العريضة، والعامة من الناس المليونيين في ربوع الوطن، ممن ملّوا الحراك والاحتجاج في مناخ غير محايدٍ، ولا يطرح لهم غطاءً اجتماعيًا يحفظ معطيات الحياة العادية للأفراد، وخاصةً أنهم قد يستيقظون، بعد تلك النتيجة الخيبة، على مفاجأة صاروخية مذهلة تحمل لهم عودة الأمن والانضباط الميري المعهود إلى الشارع والمؤسسات، بما ستجِفّ معه فورًا منابع البلطجة والمأجورين، وربما تُفتحُ أمام غدهم أقفال الصناديق الخاصة التي آلت منذ أيام إلى خزانة الدولة، وناهيكم عن كل هذا، فما الرسالة التي وصلتنا من أحد مرشحي الماضي إلا ورقة التوت التي سقطت عن أولئك المتواطئين في حق أوطانهم، وليست ذلة لسان كما قد يفسرها بعضنا؛ لأننا عاينّاها جميعًا في أحداث ميدان العباسية في الأسبوع الأول من مايو الجاري، حيث فض اعتصام المتظاهرين عبر الكشف عن آليات التعامل الجديدة مع مثل هذه الاحتجاجات، تلك التي أكّد أحمد شفيق التلويح بها في الرابع عشر من الشهر نفسه، عند إجابته عن سؤال مغرض حول آلية التعامل المتوقعة، إذا ثار الناس في الشوارع احتجاجًا على فوزه بالرئاسة.
وشيء من القلق على مصر ، يا أهلَ مصر، إن أفضتْ الانتخابات إلى فوز جماعة الإخوان بالرئاسة عن إرادة شعبية حقيقية، وهي النتيجة التي قد تدفع بالأمور في اتجاه انقلاب عسكري يرفعُ لافتةَ التذرعِ لإنقاذ البلاد بالوقوف بين غضبة الخارج الرّافض من جهة وإثارة الفوضى الفئوية المخطط لها جرّاء تقاعس اقتصاد الداخل، وتدهور الحد الأدنى في الحياة الآمنة الكريمة من جهة أخرى، وهو ما ستُجيّش له ثكنات الإعلام المستعد للنضال على هذه الجبهة، التي تدرب عليها كثيرًا وتمرس في آلياتها عبر عقود من الزمان الفائت.
شيءٌ من القلق يلفنا عندما نكتشفُ أننا أضعنا كثيرًا من الوقت في السؤال المصيري: من سيكون الرئيس؟ ولم نمنح الوقتَ ذاتَه للسؤال: كيف سنختار الرئيس؟ فها هي المحصلة تلوح في الأفق، من خلال ما تطالعنا به نتائج استطلاعات الرأي ومؤشراتها، التي تُضاعف من تضليل الرأي العام بالجري خلف شخصية الرئيس، وبناء الاستطلاعات على ما يتمتع به كلّ واحدٍ منهم من تاريخ وكاريزما خاصة به، أو بناء على انتمائه الحزبي التنظيمي المُعلن، مثلما هي الحال مع الإخوان المسلمين والنور وغيرهما، أو بناءً على انتمائه الحزبي غير المُعلَن، مثلما هي الحال مع الحزب الوطني المنحل.
وأيًّا ما كان الأمر، فقد تخرج مصرُ من هذه المعضلة، وهذا ما نرجوه، بأقل الخسائر الممكنة، عندما يفاجئنا شعبُها المسالم، كما عودنا دائمًا، بما لم يكن في الحسبان أبدًا، وخاصةً عند مثوله أمام اللحظات الفاصلة في تاريخه المعاصر. وإذ بنا قد ندخلُ في مرحلةٍ انتقاليةٍ تمهيدية يسودها تخبط في التخطيط، أو تخطيط التخبط؛ وصولاً إلى مرحلةٍ رئاسيةٍ تالية، يكون الناس عندها قد فقهوا مفاتيح اللعبة، وهذا ما لا نملك غيره عندئذٍ، إن أردنا التقاط الأنفاس؛ لإعادة ترتيب أوراق البيت من الداخل؛ حتى تفرز مصرُ معطياتٍ أخرى، ومقدماتٍ تقودنا إلى نتائج تُرضينا؛ ففيما يبدو لي، فعلاً، ومن واقع ما أثبتته الشهور الماضية، أن النوايا الطيبة لا تُوقف نظامًا غير وطني، ولا تُحدُّ من استبداد الرؤية، ولا غطرسة القرار؛ إذن، فيا أهلَ مصر، هيئوا عقولكم للصدمة، ووجدانكم للحزن، ووعيكم للانهيار، ومصرَكم للفوضى، إن كانت لكم قراءة أخرى تُعيدون بها الكَرّة من جديد، في حالة أكثر مأساوية مما نحنُ عليه الآن، وقد تطول إلى حدٍّ بعيد؛ لنتبادل حينها حبّ مصر عبر التناحر، ونطرز أعطاف ترحتها بالدمع والدم، فنلجأ يائسين إلى الغضب منها ولها، والدعاء عليها ولها، فما أجمله من قول للشاعر أحمد بخيت عن مصرنا وعن المتورطين في روحها:
ونشتمها بدمعِ العينِ عُتْبى .... ونغضبُ لو يعاتِبُها العتابُ



#محمد_مصطفى_سليم (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- روسيا تدعي أن منفذي -هجوم موسكو- مدعومون من أوكرانيا دون مشا ...
- إخراج -ثعبان بحر- بطول 30 سم من أحشاء رجل فيتنامي دخل من منط ...
- سلسلة حرائق متتالية في مصر تثير غضب وتحليلات المواطنين
- عباس يمنح الحكومة الجديدة الثقة في ظل غياب المجلس التشريعي
- -البركان والكاتيوشا-.. صواريخ -حزب الله- تضرب مستوطنتين إسرا ...
- أولمرت: حكومة نتنياهو تقفز في الظلام ومسكونة بفكرة -حرب نهاي ...
- لافروف: أرمينيا تسعى عمدا إلى تدمير العلاقات مع روسيا
- فنلندا: معاهدة الدفاع مع الولايات المتحدة من شأنها أن تقوض س ...
- هجوم موسكو: بوتين لا يعتزم لقاء عائلات الضحايا وواشنطن تندد ...
- الجيش السوداني يعلن السيطرة على جسر يربط أمبدة وأم درمان


المزيد.....

- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل
- شئ ما عن ألأخلاق / علي عبد الواحد محمد
- تحرير المرأة من منظور علم الثورة البروليتاريّة العالميّة : ا ... / شادي الشماوي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - محمد مصطفى سليم - شيء من القلق على مصر .... قراءة في مشهد الرئاسة لا الرئيس