|
نهضة مصر - مسيرة تمثال
سها السباعي
الحوار المتمدن-العدد: 3731 - 2012 / 5 / 18 - 20:08
المحور:
الادب والفن
ملاحظاتٌ متعددة ومتباينة ، تكرَّم بتوجيهها عدد من النقاد المتخصصين والأساتذة الأجلاء، وبعض القراء الذين أفردوا من وقتهم مساحة لقراءة مقالي السابق بالحوار المتمدن "كاتمة الأسرار – مصر والمرأة المصرية في أعمال محمود مختار" ، جعلت التعقيب بمقال آخر ضرورة، وعملاً أدين به للقارئ الكريم.
أبرز النقاط التي أثارت جدلاً، انعدام الدقة في وصف الأعمال التي تعرض لها المقال؛ وهنا ينبغي أن أوضح أنني لست متخصصة في الفن أو النقد الفني أو الأدبي، وأرى النقد الأكاديمي المتخصص على الرغم من أهميته الكبرى للفنان ولدارس الفن، ثقيلاً وصعباً على المتذوق العادي؛ فالناقد كالطبيب، يحول العمل إلى جسد على طاولة الفحص، ليشخص مواضع الصحة والعلة فيه ويصف الدواء. وهو هنا يلعب دور المعلم والقاضي أيضًَا ليوجه الفنان ويحكم على عمله، وهذا النقد في غاية الأهمية للفنان وهدفه الرقي بالأعمال الفنية.
ولكن من جهة أخرى، فإن غير المتخصص، المتذوق، الذي يتمنى حين يرى العمل الفني أن يشعر به، ويفهمه بشكل مبسط ، وأن يؤثر في وجدانه وأن يغير في روحه بشكلٍ يساعدها على السمو إلى آفاقٍ أخرى، هذا الأخير تناسبه الكتابة "الانطباعية" أكثر من الكتابة التدقيقية الأكاديمية، فهي وسيلةٌ لوصف العمل من زاوية معينة ، وحين يأتي كاتبٌ آخر ليكتب من زاوية مختلفة ، تتجمع الكتابات وتتكامل الرؤى وبالتالي تكتمل الصورة ويرتفع مستوى المتلقي تدريجيًّا دون أن يصل به الأمر إلى العزوف عن التلقي لصعوبة الموضوع أو لبعده عن ملامسة حياته اليومية. فيجب أن نعترف أن الإنسان العربي مهموم دائمًا بمنغصات الحياة المختلفة من صراعاتٍ سياسية وأزمات اقتصادية وتقلباتٍ اجتماعية، مما يجعل الاهتمام بالفن ترفًا لا يقدر عليه. حقيقةٌ لا يجب أن ننكرها أن الطلاب المصريين في المرحلة الإعدادية يدرسون – نظريًّا – مختاراً وأعماله لكن نسبة عظمى منهم لم تزر متحفه في عاصمتهم القاهرة وقد لا يعرف ذووهم أين يقع أو إن كان له وجود!
وربما كان اتباعي لأسلوب الكتابة الانطباعية في مقالي السابق، هو أحد الأسباب التي جعلتني أغفل تفاصيل عديدة عن وصف خامات التماثيل وأبعادها وتواريخ صنعها والقصة وراء كل منها. أما السبب الآخر، فهو أن الموضوع موجهٌ بشكلٍ أساسي لكيفية تصوير مختار للمرأة المصرية في أعماله، وتأثره بالبيئة الريفية والتراث النحتي المصري القديم ، فقد وُصف مختار بأنه "أول فنان مصري يلتقط الأزميل من آخر فنان فرعوني فرغ من عمله منذ حوالي ألفي سنة.. تسلم مختار الأزميل وراح يعمل من حيث انتهى الفراعنة بنفس القدرة على الإتقان كأن الزمن لم يمر"، فلو أننا أُعطينا الفرصة للمقارنة، لوجدنا تشابهًا كبيرًا بين أعماله وأعمالاً فرعونية معروفة؛ على سبيل المثال لا الحصر، التشابه بين الجسد الممشوق للمرأة في تمثال "حاملة الجرة" و "حاملة القرابين"، وبين الجلسة المستقيمة الظهر في تمثال "الفلاحة الجالسة" و "الكاتب المصري"، وبين ملامح و أبعاد تمثال "شيخ البلد" ومثيله الفرعوني المسمى بنفس الاسم، ويظهر التشابه واضحًا في جدارياته ذات النحت الغائر أو البارز حيث تماثل الأسلوب الفرعوني المعروف. وعن ذلك يقول النحات السكندري المعاصر سركيس طوسونيان: " لقد أحيا مختار فن النحت الفرعوني، بعد أن أعاده إلى الحياة وقدمه بشكل حديث، فهو أول من مزج بين التأثير الفرعوني والنحت المعاصر".
النقطة الأخرى، التي كان لها نصيب من الملاحظات، هي غياب التفاصيل الموضحة لعملية تنفيذ تمثال نهضة مصر، وكيف أن مكانه الأول لم يكن كما هو الآن أمام كوبري الجامعة الذي يعبر النيل ليربط القاهرة بالجيزة وإنما كانت إزاحة الستار عنه في ميدان باب الحديد "رمسيس حاليَّا" بالقاهرة. وربما كان لأكبر وأشهر تماثيل مختار "نهضة مصر" قصة طويلة، تداخل فيها الفن مع الروح الوطنية ومقاومة الاستعمار والصراعات السياسية، وهي قصةٌ مليئة بالتفاصيل والأسماء والتواريخ والتي كتبت فصولها المناورات السياسية بين القصر والشعب لمدة ثماني سنوات كاملة.
وكانت البداية حينما فاز نموذج مصغر لتمثال نهضة مصر بالميدالية الذهبية في المعرض الدولي لـ "الجراند بالي"بباريس عام 1920، وكان "سعد زغلول" هناك يرأس وفد الدعوة لقضية مصر. وشهد رجال الوفد أعمال مختار، وأدركوا أن هذا الفنان يجب أن يحتل مكانه اللائق في بلاده. وكان "ويصا واصف" عضو الوفد في باريس أكثر أعضاء الوفد ملازمة لمختار ومتابعة أعماله ، ويبدو أنه كان صلة الوصل بين مختار والزعيم "سعد زغلول" . وأقام الوفد حفل تكريم لمختار حضره جميع أعضاء الوفد وأعضاء الجماعة المصرية في باريس.
وانتقلت أخبار "تمثال النهضة" إلى مصر. ووضع "أمين الرافعي" رئيس تحرير جريدة "الأخبار" الجريدة تحت تصرف الدعاة لتمثال نهضة مصر ، فكتب "محيى الدين حفني ناصف وحافظ عفيفي وواصف غالي و ويصا واصف وأمين الرافعي" نداء إلى الأمة للاكتتاب لإقامة تمثال نهضتها وقدموا "مختار" للأمة. وانطلق اسم "محمود مختار" سريعا بين الجماهير واعتبروه بطلاً قوميًّا. وأقيم احتفال بالقاهرة واحتفال بالإسكندرية ، وبدأت حركة الاكتتاب وأخذت الأقاليم وأفراد الشعب يتنافسون في مجال التبرع . وتوالت مقالات الكتاب وقصائد الشعراء. وتشكلت لجنة التمثال برئاسة "حسين رشدي باشا" الذي كان رئيسا للوزراء في عدة وزارات ، وعضوية واصف غالي وويصا واصف وحافظ عفيفي وأمين الرافعي ، ومحمد محمود خليل وعبد الخالق مدكور وفؤاد سلطان وعبد القوي أحمد". وشهدت هذه الفترة تغيرات متعاقبة للحكومات . ووقعت أول أزمة للتمثال في وزارة "عدلي يكن باشا" الأولى "16 مارس – 24 ديسمبر عام 1921. وعلى الرغم من اهتمام "عدلي يكن" بالتمثال إلا أن وزارة الأشغال التي رأت أن التمثال يقع في اختصاصها طلبت من "محمود مختار شهادة بحسن السير والسلوك. وهنا ظهرت شخصية "مختار" الذي يحترم فنه ويعرف قيمة الفن في المجتمع كتب رسالة إلى "عدلي يكن" يقول فيها: "كنت أرى دائما يا صحاب الدولة أن إشراف الإدارة الحكومية في الحالة الراهنة على شئون الفن ليس فقط عديم الفائدة ولكنه ضار. أليس مضحكًا ومثيرًا في الوقت نفسه وصاية وزارة الأشغال على الفنون الجميلة". وجاء رده على طلب وزارة الأشغال له بتقديم شهادة حسن سير وسلوك "لقد طلب مني أن أقدم شهادة حسن سير وسلوك ، ولما كنت سيئ السلوك والخلق وقضيت في السجن خمسة عشر يوما وأنني أعزب فأنا في استحالة مطلقة من أن أقدم الشهادة وقضي على ألا أكون أبدًا موظفًا حكوميًّا". وإهتم "عدلي يكن" بالرسالة وزار مختار في موقع التمثال.
وجمع الأهالي 6500 جنيه وتبرعت مصلحة السكك الحديدية بنقل الأحجار من أسوان إلى القاهرة ، وخصصت وزارة "عبد الخالق ثروت الأولى" "أول مارس – 29 نوفمبر عام 1922" مبلغ 3000 جنيه. ثم تعثرت خطوات تنفيذ التمثال بسبب النزاعات والوقيعة التي حدثت بين مختار وراعيه الأمير يوسف كمال على الرغم من العلاقة القوية بينهما. وظل العمل متعطلاً إلى أن جاء "سعد زغلول" رئيسا للوزارة الشعبية ووقف "ويصا واصف" في برلمان الشعب يدافع عن تمثال النهضة ويدعو الحكومة إلى تخصيص الاعتماد اللازم لاستكماله ، فأعلن "سعد زغلول" رئيس الوزارة الشعبية الأولى "يناير – نوفمبر عام 1924" أن حكومة النهضة يجب أن تتكفل بتمثال النهضة. ووضع "المهندس عثمان محرم" بتكليف من "سعد زغلول" تفاصيل المشروع .
ثم تعثر المشروع مرة أخرى بعد استقالة "سعد باشا" من رئاسة الوزراء في "نوفمبر عام 1924" ، وظل على هذه الحال إلى أن جاءت وزارة "عدلي يكن الثانية" "7 يونيو 1926-21 إبريل عام 1927". وكان "عدلي" رئيسا للوزارة و"سعد" رئيسا لمجلس النواب ، و"رشدي" رئيسا لمجلس الشيوخ .. وقرر البرلمان إجراء تحقيق في تعثر المشروع .. واعتمد البرلمان المبالغ اللازمة لإتمام التمثال ، وتعاقدت الحكومة على إنجازه في 13 شهرا.
وفي أولى وزارات الائتلافات الوفدية "7 يونيو عام 1926 - 21 إبريل عام 1927" ، وكانت هي الوزارة الثانية لعدلي يكن . وفي عهد تلك الوزارة حظيت ساحة التمثال بزيارات من "سعد زغلول" وعدلي يكن وحسين رشدي، وعبد الخالق ثروت" وعدد من أظهر شخصيات الدولة وهم جميعا يقدرون عمل مختار ويعجبون بحماسه. وفي عهد وزارة "مصطفى النحاس باشا الأولى 19 مارس – 25 نوفمبر عام 1928" انتهى العمل في التمثال وأقيم في ميدان باب الحديد "رمسيس حاليا" وأزاح الملك فؤاد الستار عن التمثال في 20 مايو عام 1928 ، وألقى رئيس الوزراء "مصطفى النحاس باشا" خطاب الدولة ، وألقى أمير الشعراء "أحمد شوقي" قصيدته: من يبلغ الكرنك الأقصري ويبني طيبة أطلالها / ويسمع ثم بوادي الملوك ملوك الديار وأقبالها / لقد بعث الله عهد الفنون وأخرجت الأرض مثالها . والتقى الاحتفال الرسمي بالحماس الشعبي فجعل من إزاحة الستار يوما قوميا. (*) ولم ينقل التمثال إلى مكانه الحالي الذي يظهر من خلفه المبنى الرئيسي لجامعة القاهرة بالجيزة إلا في عهد الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر بعد إقامة كوبري الجامعة.
وبعد هذه القصة الطوية، والتي أغفلت فيها عن عمد النزاعات والمحاولات الهادفة لتعطيل تنفيذ تمثالي سعد زغلول للفنان نفسه، أيضًا لأسباب سياسية، والبيروقراطية المصاحبة لإقامة اللجان المشرفة على الأعمال الفنية، أليس من حقنا أن نتساءل كمتذوقين غير متخصصين للفن، الذي آفاقًا أوسع للإحساس ورؤية أفضل تساعدنا على تقدير قيمة الجمال، عن مصير الأعمال الفنية بين التقلبات السياسية ، واتجاهات الحكومات، في وقت تتفاوت فيه المعتقدات التي يريد بعضها أن يسيطر ليس فقط على ميدان السياسة وإنما على أسلوب الحياة وطريقة التفكير. وفي وقت تتكاثر فيه العبارات المطاطة والوعود البراقة في برامج المرشحين ! أما آن لهذه الأعمال المتصلة بالوجدان أن تستقل عن صراع السياسة والمال لتصبح مرآة حقيقية لذاتنا الإنسانية بدون تدخل مشوِّه أو سيطرة مقيِّدة.
(*) يمكن الاطلاع على القصة الكاملة لإقامة التمثال في موقع المعرفة ، والتي لها عدة مصادر موثوقة على الرابط التالي: http://www.marefa.org/index.php/محمود_مختار
#سها_السباعي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
كاتمة الأسرار – مصر والمرأة المصرية في أعمال محمود مختار
-
إنها ليست كراهية، إنه حب امتلاك
المزيد.....
-
توم يورك يغادر المسرح بعد مشادة مع متظاهر مؤيد للفلسطينيين ف
...
-
كيف شكلت الأعمال الروائية رؤية خامنئي للديمقراطية الأميركية؟
...
-
شوف كل حصري.. تردد قناة روتانا سينما 2024 على القمر الصناعي
...
-
رغم حزنه لوفاة شقيقه.. حسين فهمي يواصل التحضيرات للقاهرة الس
...
-
أفلام ومسلسلات من اللي بتحبها في انتظارك.. تردد روتانا سينما
...
-
فنانة مصرية شهيرة تكشف -مؤامرة بريئة- عن زواجها العرفي 10 سن
...
-
بعد الجدل والنجاح.. مسلسل -الحشاشين- يعود للشاشة من خلال فيل
...
-
“حـــ 168 مترجمة“ مسلسل المؤسس عثمان الموسم السادس الحلقة ال
...
-
جائزة -ديسمبر- الأدبية للمغربي عبدالله الطايع
-
التلفزيون البولندي يعرض مسلسلا روسيا!
المزيد.....
-
التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا
...
/ نواف يونس وآخرون
-
دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و
...
/ نادية سعدوني
-
المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين
/ د. راندا حلمى السعيد
-
سراب مختلف ألوانه
/ خالد علي سليفاني
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد
...
/ أمال قندوز - فاطنة بوكركب
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ د. أحمد محمود أحمد سعيد
-
اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ
/ صبرينة نصري نجود نصري
-
ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو
...
/ السيد حافظ
-
السيد حافظ أيقونة دراما الطفل
/ أحمد محمود أحمد سعيد
-
إيقاعات متفردة على هامش روايات الكاتب السيد حافظ
/ منى عارف
المزيد.....
|