محمد حيان السمان
الحوار المتمدن-العدد: 3719 - 2012 / 5 / 6 - 00:29
المحور:
الثورات والانتفاضات الجماهيرية
حقيقة الفيديوهات المسرّبة في الثورة السورية :
مَخْرَجَةُ الرعب ...ومزرعةُ الإذعان !!
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* محمد حيان السمان
في أواخرَ نيسان الماضي تم تسريب شريط فيديو مُرعِب, يصور مجموعة من الجنود السوريين يقومون بدفن شاب حياً. وهو – كما يُفهم من شتائم الجنود – متهمٌ بتصوير الأحداث في سوريا, بهدف إرسالها إلى وسائل الإعلام. وبينما كان الجنود يهيلون الترابَ على رأس الشاب المستغيث, كانت الشتائم تنهال عليه. وعندما أخذ يردد (الشهادة) استعداداً لموت محتم, وبّخه أحد الجنود قائلاً : قل لا إله إلا بشار..!!
فيما بعد تبين أن الشريط ( مفبرك ), بمعنى أن الواقعة لم تحدث حقيقة, وإنما تم تمثيلها خصيصاً للتصوير, ثم (التسريب) والتداول عبر مواقع التواصل والانترنت. لكن دلالة الفظاعة تظلُّ قائمة, والرعبُ يبقى حقيقياً وملموساً, ليس مما تحمله المَشاهدُ بحد ذاتها فحسب, بل مما أراده مخرجوها ومصوروها وممثلوها وناشروها... مغزى صناعة المشهدية المرعبة, وتفعيل توصيلها, والأهداف المتوخاة من كل ذلك.
* * *
منذ بداية أحداث الثورة السورية, لجأ النظامُ السوري, عبر تساند أجهزته الأمنية والإعلامية, إلى استثمار الرعب سلاحاً لتحقيق السيطرة على الحراك الشعبي. وقد لجأت القنوات التلفزيونية الرسمية وتلك المقرّبة من النظام, إلى عرْض مشاهد مروّعة لجثث العسكريين الذين قضوا على أيدي ( العصابات المسلحة ) كما زعم النظام منذ البداية. والحقيقة أن الرسالة المضمَرة, في عرض هذه المشاهد تقول التالي : هذا مصير كل من يحاول التمرّد ضد النظام من عسكريين يحاولون الانشقاق, أو مدنيين يحاولون التظاهر.
فيما بعد, ظهر ما أُطلق عليه في التداول نعت - مسرّب - بمعنى أن عناصرَ من الأمن أو الجيش صوّروا - سراً أو بشكل علني - مقاطعَ من عمليات ميدانية لتعذيب ناشطين أو استنطاقهم, مع التنكيل والإهانة بشكل استفزازي لئيم, ثم قام هؤلاء المصورون لاحقاً بتسليم مقاطعهم المصورة للثوار أو المواقع الالكترونية, تبرّعاً وكعمل مناهض للنظام, أو مقابل مبلغ من المال. لكن اتضح شيئاً فشيئاً أن معظم هذا الفيديوهات المسرّبة يقف وراء تسريبها وتعزيز تداولها أجهزة مخابرات النظام نفسه, بقصْد توصيل رسائل محددة إلى جمهور الثورة, بطريقة ذات فاعلية وتأثير شديدين, تقوم على جعْل العنف الممارَس في أماكن مغلقة أو مطوقة أمنياً, مرئياً ومتاحاً للجميع. فالإيحاءُ بأن هذه المشاهد مسرّبة من دون علم الجلاد القاتل أو الضحية ذات الجسد المحطم بوحشية منقطعة النظير,يعطي تأثيراً مضاعفاً, حيث يشعر المشاهِدُ بأنه حصل أخيراً على الحقيقة التي أراد النظام إخفاءها, مما يحفّز انتباهه ويحرك فضوله إلى أقصى حد, مع شعور بالنشوة مصدرُه الإحساس بكسب جولة ضد النظام من خلال كشف مستوره. ولكن نشوة الفوز هذه لا تلبث أن تصطدم بمحتوى الشريط المسرب, فينتقل المشاهد من النشوة والفضول المتحفز, إلى صدمة الرعب والقهر الشديدين. والمأمول من كل ذلك هو تحقيق صدمة الرعب والإحباط لدى النشطاء وجمهور الثورة, تمهيداً لتفريغ المجال العام من التظاهر, والسيطرة على الحراك وتعبيراته المدنية المتنوعة.
من الملاحَظ أن سياق (التسريب ) متصلٌ بسياق الوقائع على الأرض. إن تكتيكات النظام للسيطرة على الحراك, تتضمن استخدام الرعب لتحقيق الإذعان والكفّ عن الثورة. مما يعني اشتداد الطلب على التسريب, كلما تصاعدت حدة التظاهر والاحتجاجات, و/ أو كلما تطلب الأمر إنهاءَ الوضع الحالي برمته والسيطرة على الحراك الثوري الشعبي, استجابة لمواعيد ومهل واستحقاقات دولية وعربية ممنوحة للنظام. من هنا لجأ النظام , ليس إلى تسريب فيديوهات عن وقائع حدثت بالفعل داخل فضاءات الرعب والتنكيل والإذلال فحسب, وإنما إلى تصنيع مشاهد – فبْرَكتُها – ثم تسريبُها. بكلام آخر يمكن القول : إن الوقائع الحقيقية المصورة والمسرّبة لم تعد تلبي الحاجة الملحة إلى – مَسْرحة التعذيب وعرضه على الملأ – بهدف كبح الحراك ولجمه بالرعب, مما جعل النظام يلجأ إلى التصنيع الكامل – بحسب الطلب والحاجة وضغط الوقائع الميدانية- , تمثيلاً وتصويراً وإخراجاً, وصولاً إلى تأمين التداول على أوسع نطاق : فعالية التوصيل .
في هذا السياق تحديداً يمكننا فهم الدوافع الإجرائية التي ألجأت النظام إلى فبركة شريط الفيديو المشار إليه مبتدأ المقال. إن خطة كوفي عنان تقتضي البدء بوقف العنف, وسحْبِ المظاهر المسلحة من المدن, مما يعني – بالنسبة للثورة وجمهورها – فرصة نادرة للخروج من جديد للتظاهر في (المجال العام ), الذي مثّل منذ بداية الثورة موضوعَ تنازع شديد وحاسم بين النظام والثوار. لقد فرضت الحاجة إلى لجم الجمهور عن التظاهر, من دون استخدام القوة المباشرة والعنف الميداني الوحشي ( بسبب وجود المراقبين وفرض الخطة ) إلى صناعة شريط الفيديو هذا وتعميم تداوله, مع شريط آخر ظهر في نفس الفترة, تبدو فيه سيارة مدنية صغيرة تجول في شوارع إحدى المدن السورية, وقد رُبطت إليها من الخلف جثة شاب شبه عارية. إن دفن الشاب حياً, وسحل جثة الشاب الآخر, يمكن قراءتهما كبديل للإجراءات الأمنية الميدانية, ولكن بالمفاعيل والنتائج نفسها : رعب الجمهور والانكفاء بعيداً عن المجال العام, طلباً للسلامة الشخصية.
* * *
يضمر نسق الفيديوهات المسربة هذه, دلالة خطيرة عن مدى توحّش السلطة الحاكمة في سوريا, واشتغالها خارج أي منطق سياسي أو شرعية تاريخية وقانونية, تتصل باشتراطات الدولة الحديثة, أو المجتمعات المعاصرة. لقد بيّن ميشيل فوكو في كتابه الشهير عن (المراقبة والمعاقبة ), التحوّلَ الكبير الذي طرأ منذ القرن التاسع عشر, على – الجسد المعذّب - ورصَدَ عملية انطفاء – العيد القصاصيّ – و – العَرْض العقابيّ - , حيث " زال خلال بضعة عقود الجسم المعذب المقطع, المبتور, الموسوم رمزياً في الوجه أو الكتف, المعروض حياً أو ميتاً..بشكل مسرحي" . ويشير فوكو إلى التوجه نحو – إبطال المشهد وإلغاء الألم – في التشريعات الجزائية والإجراءات العقابية, التي ظهرت منذ القرن التاسع عشر, كبديل لبربرية العقاب الجسدي الفظيع و الممسرح في العصور السابقة.
يبدو جلياً أن النظام السوري يفعل الآن العكس تماماً...يذهب نحو همجية بائدة غادرها العالمُ الحديث منذ قرنين. إن النظامَ الحاكمَ في سوريا يصنع المشهد وآلامَه, الصورة وبلاغتها الإرعابية, بطريقة تختزن أفظع متخيلات الخطاب الديني الأخروي عن الجحيم الإلهي, ونفس آلياته التخويفية الترهيبية. ثم يقوم تالياً بتأمين تداول المشهد, وتحقيق فعالية التوصيل للجمهور. إنه يفتح قصداً - من خلال التسريب - فضاءَ الجحيم المغلق ومهيمنات مشاهده الفظيعة, سعياً منه لتصريف ما يشتمل عليه ذلك الفضاء من الألم والخوف الهائلين, إلى المجال العام الذي هو مجال الاحتجاج والتمرد وبلاغات الثورة أيضاً. وهكذا يتكامل البطش الميداني اليومي, مع فعالية التوصيل والتداول لمشاهد الرعب والعروض العقابية المسربة. إنه تشميلُ الرعب والألم, تمهيداً للجم كل توق إلى الحرية والتمرد على واقع الإذعان والخنوع.
لقد تمت الإشارة إلى مجزرة حماه – شباط 1982 – بوصفها عملاً جذرياً وبشعاً أقدم عليه حافظ الأسد من أجل إنشاء وتوجيه رسالة تخويف وتهديد لعموم السوريين والمدن الأخرى, بهدف إعادة إحكام السيطرة الكاملة على سوريا, وتأمين الطاعة المطلقة للنظام. ولتعزيز هذا التفسير يمكن الإشارة إلى أن أحياء في المدينة المنكوبة, تعرضت لتدمير وحشي بالترافق مع مجازر ارتُكبت داخلها, وتم تداول أخبارها المروعة على نطاق واسع, مثل ( البارودية, الزنبقي, العصيدة, السخانة... والامتداد غرباً باتجاه حي الكيلانية التاريخي, الذي دُمر بالكامل براجمات الصواريخ والعبوات الناسفة )؛ هذه الأحياء الواقعة على الطريق الدولية التي تخترق المدينة, قادمة من دمشق وحمص متجهة نحو إدلب وحلب, قد تُركت أنقاضاً وخرائبَ فترة طويلة بهدف عرضها على المسافرين العابرين بالاتجاهين.
مما لاشك فيه أن الأسد الأب قد استخدم – مشهدية التدمير الفظيع – في حماه, من أجل تكريس أقوى لسلطته كمستبد وديكتاتور مطلق السلطة. ولكن يجب أن نشير هنا إلى أن الأسد الأب كان يفعل ذلك بالتساند مع شبكة هائلة من رموز القداسة وآليات السيطرة والضبط المنتشرة والمتمكنة على نطاق كبير في المجتمع والمؤسسات وفي داخل كل فرد تقريباً, وهو ما عرضته – ليزا وادين – في كتابها ( السيطرة الغامضة ) بشكل ممتاز. بمعنى أن – التخويف من أجل تحقيق السيطرة والامتثال – كان مجرد بعدٍ من أبعاد المنظومة الهائلة من رموز وآليات السيطرة والضبط, تنبع أساساً من ظاهرة تقديس الحاكم التي ظهرت في سوريا مع مجيء حافظ الأسد, وتعززت بالتدريج, حتى وصلت إلى مستويات عالية من الشمولية والصرامة.
بالنسبة للأسد الابن فمن الواضح أن – مَسْرحة العنف بقصد التخويف – من خلال المشاهد المعروضة في الفيديوهات المسربة, أو من خلال أجساد الناشطين الشهداء التي تتحول إلى خرائط للرعب والألم الفظيعين, وقد ألقيت في المجال العام ليشاهدها أكبر عدد ممكن من الناس؛ إن ذلك كله يأتي – كرعب عار ومطلق - , وكأداة وحيدة لتحقيق السيطرة والإذعان. وبينما كان الأسد الأب يأمر بالبطش من خلال – كاريزما – تجمع بين القوة والقداسة الصارمتين؛ فإن شخصية الرئيس الحالي تبدو أقرب إلى موضوع للتندر والسخرية, هزيلة مجردة نهائياً من عناصر الهيبة والإقناع والأبوة البطريركية التي امتلكها أبوه. هذا الفارق الجوهري هو ما يجعل حاجة النظام السوري الآن لمسرحة العنف أكثر إلحاحاً وأكثر دموية وبربرية... ولكن – أيضاً – هو ما يجعل استخدام العنف بهذا الشكل المتوحش, والسعيَ الحثيث لتشميله وتوزيع مفاعيله من قبل الأسد الإبن وزبانيته, بدون جدوى على الإطلاق. وهو ما يثبته استمرار الثورة بالرغم من كل هذا الرعب العاري والدموية الفاشية للنظام السوري.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* باحث وكاتب من سوريا.
#محمد_حيان_السمان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟