أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد حمدان الرقب - الغربة الروحية عند الرومانسيين














المزيد.....

الغربة الروحية عند الرومانسيين


محمد حمدان الرقب

الحوار المتمدن-العدد: 3713 - 2012 / 4 / 30 - 21:53
المحور: الادب والفن
    


الإنسان كما هو ابن بيئته فإنه أيْضًا ابن ذاكرته، فهي غالبًا ما تحدد اتجاهه ومساره، وذلك حَسْب تقبّله لنفسه أو ازدرائه لها، فطريق مستقبله محفوف بالمخاطر إذا ما استسلم لذاكرته بوصفها تنتظم صورًا ولوحات فنيّة قد تكون مرّة أو طيّبة.
كما أنه يستطيع أن يتجاوز المحن إذا كان ذا فكر متقبّل لروح الارتكاس، وأن هذه الدنيا هي ليست هدفًا بحدّ ذاتها، وإنما طريق موصل إلى الغاية الرئيسة والحياة الحقيقية في الآخرة حيث النعيم الخالد.
ويبدو أن المصاعب التي تعتور طريق الإنسان كثيرة جدًا، ويصعب تصنيفها حسْب درجة خطرها، إذ إن طبائع البشر وأمزجتهم تتفاوت تفاوتًا ملحوظًا، فربما مشكلة يقع فيها شخصٌ تسبب له ضغوطًا نفسية كبيرة قد تعصف بحياته ولا تُخْرِجْه سويًا, وقد تكون المشكلة ذاتها تلمّ بشخص آخر تقوّي من عزيمته وتجعله يكتسب الجلد ويتدرّب على الصبر.

وتبقى المشكلات الأكثر اهتزازًا للذات البشرية على الرغم من تباينها هي التي تنجم عن الفراق، الذي قد يكون بسبب فقد عزيز أو غدر حبيب أو نزول نازلة...! فتركيز الشخص ينصبّ حول "ما بعد الفراق" وليس على الفراق نفسه في أغلب الأحيان. ذلك أن الشخص لأول وهلة قد لا يتخيل حياته دون ذلك الإنسان الذي كان يشكل بؤرة حياته ومحور اهتمامه، فتشرع الذاكرة بمدّه بصورٍ قد تكون تخيّليّة للمستقبل الأسود الذي ينتظره، وقد تكون صورًا أو "أفلامًا" تسجيلية لما حدث بينهما من وصال في الماضي الجميل.
إنّ الذاكرة ناقوس الخطر، تجعلك تعيش فيها أكبر عدد من الأيام، بله السنوات، خاصة إذا كان المفارَق إنسانًا ينتمي فكره إلى حقل "الفلسفة" حيث الحياة الأفلاطونية والمدينة الفاضلة والحبّ الخالد والحبيب الذي يضحّي بكلّ شيء ويجعل كلّ الظروف دَبْر أذنيه وحاشية في كتابه، ويجعل الطرف الآخر مَتْنَ ذاك الكتاب الذي لا يكتمل إلاّ بمبدأ الاتحاد والحلول به.
يصعب على هؤلاء أن يتقبّلوا تصاريف الحياة بروحٍ رياضيّة، وأن يعذروا الظروف أو الحبيب الظاعن. إن السبب الحقيقي الكامن خلف نظرهم هذا هو رغبتهم في علاقة طويلة الأمد تمتدّ طوال العمر، ولذا لا يتفّهمون الظروف ولا الأسباب التي تحول دون الالتقاء الأبدي بالحبيب في حياةٍ واحدةٍ قوامُها جسدان بروحٍ واحدة انصهرت في حبّ جارف لا يقبل التراجع. وقد يكون حبّ التملك سببًا آخر في نظرتهم تلك، فمشاعر الغيرة قد تكون طافحة فيهم، فهم قد يتنازلون عن أي شيء مقابل عدم إزعاج الطرف الآخر، فهو يخافون من أي مشكلة أو معضلة تذهب به إلى حيث لا مآب، ومع ذلك نجدهم يتشبثون كثيرًا بالطرف الآخر ويرغبون في امتلاكهم امتلاكًا كاملاً، فالحبيب مِلْكٌ لهم وحدهم لا يجوز أن يشاركهم فيهم أحد.

ولكن إن وقع الفراق فحقًا إن الآثار التي سيخلّفها فيهم لن يستطيعوا بسهولة أن يتخلصوا منها، فالحياة بعد أن كانت كلها وَقْفًا عليهم، لا يزورون مكانًا إلا وصورتهم منتشرة فيه، منسدلةً من السماء، ومبثوثةً على جنبات الطرق. أمام أعينهم. على أيمانهم وشمائلهم. وأصواتهم يسمعونها في كل مكان، في خرير الماء ووقع الأمطار، وشجو البلبل، وزقزقة العصافير، وهديل الحمام، وروائح عطرهم تفوح في ثنايا الأنفاس لكأنها معلقة بأنوفهم. فكيف يمكن لهم أن يتخلصوا من كل هذه الذاكرة التي هي تاريخم! أيتخلى أحد عن تاريخه..؟! فيدخلون في متاهات الاكتئاب والحياة الصوفية المنعزلةـ ويصابون بحدّة رومانيكية كامنة، فضلاً عن حدّتهم الأصيلة فيهم. فيقلّ تواصلهم بالعالم الخارجي، ويأنفون من كلّ شيء، ويقبعون في زاويةٍ مظلمة يتأملون أنفسهم ويتفحّصونها من داخلهم إلى داخلها. إنهم حزينون في حياتهم الطبيعية، فكيف الحال وقد أصبحوا بنصف حياة أو يغيض...؟؟!

بعد أن ظفروا بالمحبوب ووجدوا ما يسقي عطش قلوبهم، ويروي غلّتهم، وتستقرّ حياتهم وتستحيل إلى جمالٍ وغبطة وسرور، فإذا هو يرحل، ويهدم سعادتهم على عروش قلوبهم، ويقطع السبيل عليهم-سبيل الاتحاد الكامل والحَلول التام.
وهنا يتولّد الوَجْد؛ الذي عادةً ما ينبجس من شوقٍ إلى الغائب، أو أسف على فائت، أو ندم على ماضٍ كما جاء في اللمع للسراج الطوسي.
ولهذا نجد لشخصيّة ابن حزم الأندلسي مثلاً تحليلاً في هذا السياق إذا علمنا أنه لم يغتسل سبعةَ أشهر كمدًا على موت زوجته "نُعْم" بعد أن ملأت عليه حياته، فهي كانت أمنية المتمني وغاية الحسن خَلْقًا وخُلقًا، وعقلاً وعفّةً، وأخذ في بكاء طويل مع أنه كان معروفًا بأكل الكُنْدَر وهو طعام تجمد معه العينان.
فإذا عَرَفْنا هذا تبيّن لنا عَرْضِه في "طوق الحمامة" لهذه الحادثة "الفراق" بعد مدّة طويلة وكيف أنه لم يَنْسَ الأيام الخوالي معها؛ حيث يقول "وإن حنيني إلى كلّ عَهْدٍ تقدم ليغصّني بالطعام ويشرقني بالماء... وما انتفعتُ بعيْشٍ ولا فارقني الإطراق والانغلاق مُذْ ذقْتُ طعمَ فراق الأحبة، وإنه لشجىً يعتادني وولوع همّ ما ينفكّ يَطْرقني، ولقد نغّصَ تذكّري ما مضى كل عيش استأنفته، وإني لقتيل الهموم في عِداد الأحياء، ودفين الأسى بين أهل الدنيا".
إذن، كانت زوجته في عداد الظاعنين، والظاعن أصبح جزءًا من الماضي، فمحور حياته لم يتحوّل إلاّ إلى الأسوأ، فهو يدور حول نُعْم، وهذا شأن من يطلب حبًا عفيفًا يتجاوز الجمال الجسدي ليصل إلى الجمال الروحي، فالحب هو حبّ الخلود، مثلما هو حبّ الخير.
وهذا الأمر حَصل مع شعراء الغزل العُذْري، ولعلنا نستذكر حادثة وقعت مع مجنون ليلى حينما كان في أحد المرات معًا يتشاكيان لهيب الحبّ وناره، فأراد أن يختبرها، وطلب منها أن تمكّنه من نفسها، فرضت ذلك رفضًا شديدًا، فقال إذ ذاك وقد استراح لعفّة الحبّ بينها، والله لو وافقْتِ لتركتك منذ هذه اللحظة.
إذن نفهم مما سبق أن الحدّة الرومانتيكية عند هذا الصنف من الأشخاص تكون هي المسيّرة لدفة حياتهم بعد الفراق، ذلك أنّ الفراق قد حال بين الهدف النبيل والمبتغى الأعلى في الدنيا وهو الظفر بالمحبوب والاتحاد معه. فحُقّ لمثل هؤلاء أن ينعزلوا ويحسوا بغربة روحيّة تسري في دمائهم.



#محمد_حمدان_الرقب (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- -كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟ ...
- مصر.. الفنان بيومي فؤاد يدخل في نوبة بكاء ويوجه رسالة للفنان ...
- الذكاء الاصطناعي يعيد إحياء صورة فنان راحل شهير في أحد الأفل ...
- فعالية بمشاركة أوباما وكلينتون تجمع 25 مليون دولار لصالح حمل ...
- -سينما من أجل غزة- تنظم مزادا لجمع المساعدات الطبية للشعب ال ...
- مشهور سعودي يوضح سبب رفضه التصوير مع الفنانة ياسمين صبري.. م ...
- NOW.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 154 مترجمة عبر فيديو لاروزا
- لماذا تجعلنا بعض أنواع الموسيقى نرغب في الرقص؟
- فنان سعودي شهير يعلق على مشهد قديم له في مسلسل باللهجة المصر ...
- هاجس البقاء.. المؤسسة العلمية الإسرائيلية تئن من المقاطعة وا ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمد حمدان الرقب - الغربة الروحية عند الرومانسيين