أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعيد تگراوي - تجربة الاستثناء وتكسير القاعدة .... قراءة في قصيدة - مرثية دمٍ على قميص قتيل - للشاعر العراقي مكي الربيعي















المزيد.....

تجربة الاستثناء وتكسير القاعدة .... قراءة في قصيدة - مرثية دمٍ على قميص قتيل - للشاعر العراقي مكي الربيعي


سعيد تگراوي

الحوار المتمدن-العدد: 3677 - 2012 / 3 / 24 - 20:45
المحور: الادب والفن
    


سعيد تگراوي ، مراكش ، المغرب .

القراءة فعل يومئ بضرورة التفكير في المقروء بغية إدراك الأبعاد والدلالات ... إنتاج على إنتاج بطريقة استثنائية وخاصة ... تفكيك السنن و تحليل الرموز ... القراءة سعي دائم للعثور على ما يشكله النص المقروء من مواقف في الوعي وتوليد الأفكار عن طريق التفكيك ... تختلف القراءات وتتعدد بتعدد واختلاف بوصلاتها ما دامت القراءة – بشكل أو بأخر – ضرب من الإبحار في عالم / عوالم النص ... وتتبع للنص واقتحام لأفضيته ... لكن لابد من طرح تساؤل : ما هو هذا المقروء ؟ قبل التحديد نود أن نشير : إنه كتابة ... والكتابة - على حد قول الناقد الفرنسي رولان بارث – نقطة التقاء بين معطيين : ذاتي وموضوعي ؛ فالأول مرتبط بالذات الكاتبة ويتمثل في الأسلوب ، والثاني مرتبط بالمعطيات التي أسعفت الذات على الكتابة ... بصيغة أخرى : التحولات السياسية والاجتماعية والفكرية والثقافية ... التي تعيشها الذات الكاتبة .... من هذا المنطلق يكون المكتوب أو نقطة الكتابة من مقروئنا هذا ؛ هو نص " مـرثـية دمٍ عـلـى قـمـيـص قـتـيـل " ... نص يتميز بتحديد نوعي في إطار تصنيفه الأدبي... إذ يعكس تجربة فذة بالنسبة للشاعر مكي الربيعي .
لم يكن نص " مـرثـية دمٍ عـلـى قـمـيـص قـتـيـل " وليد الصدفة ... وإنما إنتاج شاعر ابتعد عن وطنه العراق عشرين سنة ... هذا ملمح من بواعث الكتابة /الاغتراب متخذا من استراليا عالم الإنتاج الشعري ومن العراق عالم قصيدته / شعره .... وفي ثنايا هذا الاغتراب يملأ الكون الشعري عطر الحنين ، والشوق للوطن ... ويغدو الشاعر مكي دائم الاستحضار لوطن جريح ... لعراق آخر غير عراق قبل عشرين سنة .... عراق النزيف والشرخ حيث يصور الربيعي خريطة ذبيحة متلمسا في ذلك الكشف والبوح بأقصى ما تبيحه قدسية الشعر ....
لا نجازف في الإقرار بأن نص " مـرثـية دمٍ عـلـى قـمـيـص قـتـيـل " نص الخرق بامتياز ... نص التمزق ... نص الشرخ ... وهذا الوعي بالنسبة لنا كقراء لا نستثني وعي الشاعر به ... ولهذا فإن التمزق أيضا ألبسه الشاعر جسد القصيدة ... تمزق على مستوى المقومات الشعرية ... مما يجعل النص يعكس تجربة فذة ... تجاوزت بكثير التصنيفات ...
يسعى الشاعر مكي إلى تأسيس تجربة جديدة على مستوى الكتابة ... صحيح أن الكتابات تختلف باختلاف المضامين الشعرية وباختلاف اللغة الشعرية ولكن الرؤية الشعرية تختلف .... هل هي حداثة جديدة في ظل ما يعرفه المجتمع العربي عامة والعراق خاصة ؟ مما لاشك فيه أن النص كشف وبوح عن واقع يلبس عريه ... نص يعكس تجربة الشاعر مكي الربيعي ويمكن أن أسميها تجربة الاستثناء وتكسير القاعدة ....
النص يكسر مجموعة من المألوفات على مستوى اللغة الشعرية ؛ مما يجعله نصا شعريا بامتياز . صحيح أن الممحص في النص والمتتبع سيلاحظ أن الربيعي يخلق عالما خاصا به وهو العراق الجريح .... استحضار نوعي رغم البعد وهو يصور العراق مختزلة في بغداد .... حضور في غياب مما يعني قوة الشوق وهو يصور بإتقان يقول :
في بغـداد ،
صـرخـتُ بـالـمـارة سـاعـدونـي ،
أريـدُ أن أرفـعَ
ظـلـي الـمـطـعـون مـن الـخـلـفِ بـرمـحٍ طـويــلْ .
أدار الـجـمـيـع ظـهـورهـم نـحـوي .
دخـلـوا فـي الـمـرآةِ وأغـلـقـوا
الـبـاب وراءهـم .

استحضار خاص رغم طعنة الظل غدرا ... موقف شعري نبيل في لحظة تخلى فيها الكل عن الشاعر الذي يتوسل بالقصيدة . فيبقى الشعر خلاصا للمغترب وهو يحن إلى البلد الجريح ... الشعر قناة البوح :

أيـتهـا الـقــصيدةُ :
تعالي نوقــد الــنار في الـمـمـر ،
ونحــث الـحــبــر عــلى الــتـزود بالأنـاشـيـد من ثدييّ الـمطر .

يبعث الحياة في القصيدة بشاعرية متميزة .... وتبقى القصيدة ذلك اللهيب المنتظر ... ولكن في الوقت ذاته الأمل الذي يراود الشاعر وهو يحن إلى بغداد / العراق حيث الشعر طريقة للخصب بمقصدية النهل من المطر كرمز للخصب قصد تكسير جفاف البلد لما يحلم به الشاعر ... بل أكثر من ذلك فإن الشاعر على وعي تام بأن الشعر العراقي عموما لا يحمل الهم ذاته ساعيا إلى رسم معالم قصيدة حارقة تأجج بالعبء ذاته يقول في هذا السياق :

أو نلفت انتباه عود الثـقاب للـقصيدة الباردة .

الشعر يعادل الحياة ....الشاعر يحيا في القصيدة ... الشعر متنفس الربيعي للكشف عن الجرح ... يقول :
لا حياة إلا في الشعر،

ثم يردف بالقول :
لا شعـر إلا بعد موتْ .

وهنا يتضح أن الشاعر يستعمل لفظة الموت استعمالا مجازيا ... موت الشاعر غربته وهو يعيش وضع التمزق الذي تعيشه العراق ... الموت في بعده الأسطوري ... مما لاشك فيه أن غربته في الوجود تمثلها غربة في الكلمة مما يجعله شاعرا يبعث من موته وهو يستحضر البلد .
فيصبح التوسل بالقصيدة / الكلمة التي تصور وضع البلد ..القصيدة المرآة تعكس شرخا في العراق :

يـا إلـهـي . أنـا بـحـاجـةٍ لـوقـتٍ طـويـلٍ ،
لـكـي أضـعَ بـاقـات الـورد عـلـى شـواهــدِ الـقــبـورِ الـمزروعـة فـي قـصـيـدتـي.

لكن القصيدة محاصرة .... وبقدر ما يحن الربيعي إلى الوطن يكون شعره نشازا ؛ فيعلن صرخته الممزوجة بالتأوه :

آهٍ ،
لـمـاذا كـلـمـا أخـتـصـرُ الـمـسـافـة بـيـنـي وبـيـن حـلـمـي ،
تـمـد الـحـرب يـدهـا فـي جـيـبـي وتـسـرقُ الـقـصـيـدة ؟

فالشاعر يستحضر خروجه من الوطن : وجع الخروج... الخروج الموجع ... مابين الربيعي الإنسان والربيعي الشاعر :

الـفـأسُ الـتـي ألقيتها فـي جـسـدي
مـازلـت تـحـتـطـبُ نـصـفـهُ الآخـرَ ،
مـازالـت تـعـمـقُ الـحـفـرة فـي رأسـي وتـفـكـك الـتـراب .

يعيش الشاعر شرخا مزدوجا ؛ يكمن في الرؤية الانشطارية على مستوى الذات ؛ باعتبار هذه الأخيرة ذاتين : الأولى متجلية في الرحيل / الترحيل إلى أرض الغربة ... ثم الثانية المتجلية في السعي لخنق شعر الشاعر . إنه الشرخ الذي يعيشه الشاعر ؛ لكنه يؤمن بأن : " لا حياة إلا في الشعر،"
وبذلك يلح الشاعر بضرورة اقتحام الوطن رغم الجرح الذي ألحقه به الوطن ... وبالتالي فهو على دراية بما يترتب عن الدخول :

سـأقـتـحـمُ خـلـوتـكَ الـمـفـروشـة بـا لـحـصـى ،
سـأفـعـلـهـا ،
وتبقى القصيدة وسيلة مثلى لزعزعة الموقف الشعري الناجم عن الخروج والرحيل ... يقول :
وأقــلـقُ الـفـأس ،
ثـم أخـلـخـلُ يـدكَ الـقـابـضـة عـلـيـهـا .
شـكـراً لـلـريـح الـتـي هـبـتْ فـرفـعـت ثـوب الـسـواد ،
لـولاهـا ،
مـا كـنـا رأيـنـا ارتـجـاف خـفـيـكَ فـي الـظـلامْ .
نلاحظ أن الشاعر - بشكل أو بآخر - رغم الصورة القاتمة فإنه يرسم أملا موظفا في ذلك ثنائية الظلام والضوء سعيا منه لتضميد الجرح ... وتجاوز التاريخ المثقل بالكلوم ... ومواجهة كل من كان سببا في تعميق الجرح العراقي ... وتصبح القصيدة صرخة موجعة كاشفة ... يقول :

يـمـكـنُ أن يُـنـضـجَ الـضـوءُ فـي غـرفـةٍ مـظـلـمـةٍ ،
أن يـفـقـد الـزمـن الـكـثـيـر مـن وزنـه ،
أن نـشـم رائـحـة الانـقـراض فـي الـظـل الـمـمـدد عـلى الـرصيـف ،
أن نـسـحـبـكَ مـن الـمـرآة بـجـديـلـة ونـخـرجـكَ مـن مشـطـهـا .
لا أحـد يـتـكـهـن مـاذا سـيـحدث غـداً ،
حـيـنـمـا تمتلئ جـذور الـكـلـمـات بـالـصـراخْ .
تصبح القصيدة منفى الشاعر الذي يحيا فيه ... هي الأمل والبياض الذي يشده أكثر إلى الوطن :

أيـهـا الـبـيـاض :
دمـي يـنـتـمـي لِـدَمــكَ ، لـصـديـقٍ ضـاعَ فـي الـزحـام ،
ومـازالـت يـدي تـحـتـفـظُ بـتـحـيـتـه .

وأنا أتتبع أسطر النص الشعرية ؛ ينتاب الشاعر قلقا خاصا ممثلا في جدلية الأمل والعتاب ... الأخذ والرد حول العلاقة الاستثنائية بالوطن مصورا جراح العراق... وكأنه يسافر عبر الخيال ليصور وضعا دمويا معاتبا من أوصل العراق إلى هذا الوضع :

اصـغِ لأصـوات الـقـبـور الـسـائـرة فـي مـنـامـك ،
الـمـتــقـاسـمـة مـعـك الـوسـادة ،
كـيـف ابـتـكـرت دمـارك
يـوم كـنـت مـسـتـمـتـعـاً ومـسـتـرسـلاً وأنـت تـدخـل
فـي الـلـقـطـة الـشـرسـة .

وهو يعاتب يومئ إلى ضرورة التنبيه إلى أن الشعر / الشاعر بصيص أمل ما دام ينهج شعرية الكشف بنوع من السخرية وبلغة شعرية بليغة :

أدر رأسك نحو مدونات الشكوك ،
قبل أن ترتطم الشوارع ببعضها وترتبك القطارات ،
أدره نحو الجهات الأربع ،
ترى الضوء في المرايا يرفع قبعته ويحييني .

ويستمر الشاعر في عرض سخريته تلك ؛حيث يصنع الشاعر في عالمه الشعري وطنا له وهو يتقصى أخبار العراق ... يقول :
كنت جالساً أصخي إلى المذيع وهو يؤثث في صوته
حديقة العزاء ،
لم يقف عند حد الإصغاء وفي ذلك إشارة قوية إلى إلحاح الشاعر على تتبع أخبار الوطن ... يسخرفي شكل عتاب جارح وهو يكشف عن الحقيقة المرة التي قادت العراق إلى وضع مرفوض ....

فجأة ،
قطع نشرة الأخبار وتساءل متعجــباً :
ألم تكن قبل هذا الوقت ممعـنـاً في الغرق ،
وكان البحـر يدون فوق جـلدك أسماء بارجات النفط الـمهربة ،
فيما كانت يدكَ تبحـث في المتاهة عن الـفـراغ ؟

وبنبرة الغضب يوجه الخطاب :

اخرجْ من دخان مديحك قبل أن يمتلئ الثوب بحروف العلة ،
قبل أن يستــنسخ صرير الباب نفسه ،
أو حتى ،
قبل أن تلقي اليد بالندوب الدميمة من النافذة ،
اخرجْ . مثل رجل لـفـظـتـهُ الحياة قـبـل أن يـتـلـمـس طـريـقـهُ
نحو المقعد الخشبي .
ثم افتح بـيديك المرتعشتين
المرارة وتـوارى ،
لكي لا تر الرماد يتساقط من سقف عينيك ،
أو يفزعك نمو الشجرة الطالع من
حبر الكلمات ،
وحتى لا تر نفسك متورطـاً ووحــيداً في سـلة الهـبوطْ .

ويبلغ الاستهزاء مداه عندما يقول :

تأمل ظلك الذي طارد فـناء البـيت ،
تتوغل الرؤية فيبدو المخاطب في صورة ظلام ... لكن الشاعر يسعى لرسم معالم بلد من ضوء البلد ذاته ... هو الأمل الذي يخلق توازنا في القصيدة بين جدلية اليأس/ التمزق و الأمل / التوحد :

مـهـلاً أيـهـا الـظـلام :
سـأصـطـادكَ ، مـادمـتُ أحـيـكَ الـشـبـكـة مـن ضـوء بـلادي .

لا يكتفي الربيعي برسم معالم العراق بطبيعتها وتضاريسها ووديانها وبرها وبحرها وديارها وشوارعها وسمائها وأرضها ووديانها وأناسها وليلها ونهارها ... بل ينتقل لتصوير من يقتحمها ويسعى لتمزيقها .... يقول :
في الطريق رأيت جـمعاً من الجــنود يحملون فوق أكتافهم
جثة البلاد ويطوفون بها الشوارع وهم يصرخون بالناس :
أن يوسعوا الطريق . في ذات اللحظة التي رفعت فيها يدك لترد على تحيتهم . سقط الـقمر .

نعم سقوط القمر : سقوط وتداع للأمل المنشود للعراق في مخيال الشاعر ولاسيما وأنه أضحى مستعمرا ممن يجولون في الشوارع بعجرفة من خوَّل لهم الدخول وعبَّد لهم الطرق زارعين الرعب من جهة والفتنة من جهة أخرى .... هي الرؤية التي تسعى إلى الإفصاح عن غياب الحياة البسيطة الفطرية ؛ وفي الوقت ذاته تلك إشارة صريحة بأن التمسك بالأصل دون زيغ كفيل بالذود عن العراق دون تخاذل يقول :
سقطت الشجـرة التي كان يجلس تحـتها آدم بانتظار مجيء حواء .
سقطت يد عازف الكمان التي كانت مستعدة لمواجهة
نيران المدفعية بقطعة موسيـقــية باذخة الجنونْ .
سقط صوت المغني فـوق رؤوس العائلة التي كانت
تجلس تحت سقـفه مطمئـنة .
الحقيقة الشرخ التي يبوح بها الشاعر وهو يتأمل عالمه الشعري : العراق النائية جغرافيا الحاضرة وجدانيا .... ثمة حائل يجعل الحقيقة مبهمة وغامضة فالمرآة تريد أن تتكلم لكن حجرا في فمها يحول دون ذلك ...
المرآة تريد أن تتكلمَ ،
غير أن حجـراً ينمو في فمها .
لينتقل الشاعر بعد ذلك إلى الوطن في عملية مد وجزر بين القلق واليأس ودرء التعتيم والسخرية والفضح والتأنيب .... فيصرخ كاشفا عن الحقيقة الغامضة :

وطـنـي :
أيها الكمان المتوغـل في دماء الرياح .
في روحي خمر كثير من ظلال المكان ،
عذوق كثيرة تـتدلى في فم معصرة ،
كتاب لشجــرة العائــلة ،
نوتة تــتساقط من مفاتيحها النايات ،
شال مشبوك بصنارة من ذهبٍ ،
محبرة تشكو الغياب ،
قطة تموء تحت السرير .
رعشة طائـشة ،

ثم يوظف أسلوبا أخر في الخطاب وهو يتعقب تفاصيل الحياة .... جامعا بين المادة والزمن والطير الجريح وخريطة الوطن والنشيد المدرسي وتحية الغريب الممثل في الجنود :

افترشْ الأوراق ، تمدد على الطاولة ،
اغـتسلْ بالغموض كما تـشاء ،
افترشْ الظهيرة المشتعلة في قيامة المشرحة ،
جناح الطير الجريح ،
العباءة الملقاة فوق الرصيف ،
خطوط الطول والعرض ،
خرائط البلاد ،
النـشيد المدرسي ،
تحية الجنود ،
لكن إصراره على البقاء وفيٌّ بحيث يقر :
لن نـتغـيـر .
ستجدنا الأفعى التي تأكلُ عشبتك .
والإصرار نابع من التمسك بالوطن ؛ إذ يتشكل ضوء من الشاعر / الشعر ... لزرع الأمل في الجرح :

انظر إلينا :
كيف ننمو في البذرة ضوءاً ،
نتماهى في الصعود على سلالم الهواء ،
في رشفة الشاي المغــشوش ،
في الطين العالق بثوب نخلةٍ ،
في العَلَمِ المشقوق إلى نصفــين .

هي رؤية تطالعنا بنوع من الترميز ... تحيل إلى الشرخ برمزين حاضرين بقوة النخلة والعلم .
ولم يقف الشاعر عند حدود الترميز باللفظ بل وظف الرمز الديني ممثلا في يوسف ... يوسف في تفسير الجرح العراقي الغائر ... يوسف الشاعر الذي ينتفض لإعطاء صورة عن هذا الواقع المتمزق ... يوسف المؤمن ببراءة الذئب من دمه ... يجهر ببراءته وبإصراره على بلوغ الغيمة سقف المنحدر ... قمة الرغبة في الخصب بتوظيف الغيمة والماء :

مازال يوسف
يفسر للحالم شهوة الطير الموغـل في تعميق الحفرة ويوصي :
ببراءة الذئــب من دمهِ ،
ببلوغ الغيمة ســقــف المنحدر ،
بالسنابل التي عَــقــدَتْ ضفائرها يــد عجــفاء ،
بــقــمــيصه الذي أشاع العمى في قــلوب إخوته ،
بمكيالهِ وهــو يملأ فم العاصفة بالحضورْ .
يوسف مازال في البئر يفسر الظلام ، ويدون
في دفــتر الــماء خرس الهـواءْ .

ثم يبدي من جديد مدى تمسكه بالوطن ، فالغربة جعلت الشاعر يرسم خريطة للوطن من خلال القصيدة ؛ يقول :
وطني :
التراب العالق في قـدمـيـكَ ،
يمكن أن نصنع منه وطناً فـي الـمنافي .
يمكن أن نسميه أول الهـروب ونفتح بوابـتـيه على متسعهــما ،
ليتسلل من بـين ثـقوبه المارة ،

وطن مصنوع برافديه وما خلفه الجرح من تهاو الجسور ... صورة للوطن الجرح :
يمكن أن أريك النهر الذي يفصل ضفـتـيه ،
والجسر الذي احـتـضـن حـديـده وهـو يـتـهـاوى .

جميل ان يتداخل الشعر والعمق فيرسم الشاعر معالم وطن بحرقة تعيد التوهج :

هكذا : أُؤرخ ُالمكانَ ،
ــــ بجمـرةٍ ، تستعيد توهجها كلما اشتدت الرياحْ .

ثم ينتقل الشاعر لإعطاء صورة الوطن من جهة أخرى بتوظيف جميل لأسطورة السندباد ... لا يحل الشاعر محل سندباد بل استحضاره فقط على سبيل ذكر ما يشكل وسيلة الخلاص للسندباد وهو يواجه مخاطر مغامراته ... تتداخل مغامرات السندباد مع مغامرات الشاعر؛ لكن وجه الاختلاف كامن بالأساس في وضوح المسعى للسندباد حيث العودة إلى بغداد ولقيا الزوجة ... لكن وسيلته في العودة تطارد الشاعر السندباد لتظل معالم الوطن المرغوب فيه مبهمة :

مازال اللوح الذي تعلق فيه السندباد البحري يطاردنا ، الموج يـقـذفـنا
من رصيفٍ لآخــرَ ، وفي رؤوسنا تحلق لوحة غامضة المعالمْ .

وتتضح أكثر صورة الوطن الجريح وهو يخاطب الموت ... بل يعاتب الموت الذي يفغر فاه دون شبع ... صورة للعراق المتداعي المنهار ... المدمر المحطم ...

أُقلِبُ النعوشَ ،
أعدها ،
أقول : أما شبع الموت من حطام البلاد ؟
أما تعبت خطاه ؟
أما آن له أن يغـسل يديه من غـــيوم الرصاص ؟


ثم يجهر الشاعر مكي الربيعي برؤية سوداوية :
آهٍ مـنـكَ ،
أيـهـا الظلام المتكئ على سواد المدخـنة .
تـذكر :
أن حــقــول الــقــمح الزاحــفة نحو مناجــل الـمزارعــين ،
تـنتهي في تـنور أمي .
فسواد الحلكة متكئ على سواد مدخنة ؛ إنها رؤية خاصة حيث يخاطب الشاعر حقول القمح التي تطاوع ذاتها راغبة في مد أعناقها للمناجل ... مناجل المزارعين وفي هذا أكثر من بعد .... هي انحناءة مقدسة لإعطاء الحياة ... هي بعث افتراضي ... الموت من أجل الحياة ... حياة الآخر ... حياة العراقي ... حياة العراق ... بعث من أجل الإحياء ... إحياء الأم في رمزيتها للوطن الجائع ؛ للعشق للحرية للتوحد للاكتمال حيث يصنع الشاعر من القصيدة بياضا ونورا زارعا الأمل ....
يسعى الشاعر مكي إلى خلق رؤية حول الوطن الذبيح ... فرغم الصورة القاتمة التي يرسمها الشاعر فإن الأمل يساوره ، وبفنية جميلة عن طريق استبدال صوتي في لفظتي العراك والعراق ... إذ مما لا شك فيه أن الأمل سينتج عن طريق العراك من أجل العراق :

نُشَّيـدُ منه بـيوتـنا المائــية . زوارقـــنا .
وعــصيــنا الــمليئة بعافــية العــراكْ .
يـقـــيـنا ً
أيها الحزن الــقديم ،
ســـنـعـلـقُ الـجـرس قـلادة فـي عـنـق الـنـهـارْ .

أخيرا ؛ إن " مـرثـية دمٍ عـلـى قـمـيـص قـتـيـل " قصيدة البوح بامتياز ، قصيدة الأمل بالنسبة للشاعر مكي الربيعي ... قصيدة السعي لبناء عراق جديد وبعثه من نقع الحطام بكل تمظهراته... نص يعكس تجربة جديدة على مستوى الكتابة الشعرية ، أسميها تجربة الاستثناء وتكسير القاعدة ....



#سعيد_تگراوي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- محامية ترامب تستجوب الممثلة الإباحية وتتهمها بالتربح من قصة ...
- الممثلة الإباحية ستورمي دانييلز تتحدث عن حصولها عن الأموال ف ...
- “نزلها خلي العيال تتبسط” .. تردد قناة ميكي الجديد 1445 وكيفي ...
- بدر بن عبد المحسن.. الأمير الشاعر
- “مين هي شيكا” تردد قناة وناسة الجديد 2024 عبر القمر الصناعي ...
- -النشيد الأوروبي-.. الاحتفال بمرور 200 عام على إطلاق السيمفو ...
- بأكبر مشاركة دولية في تاريخه.. انطلاق معرض الدوحة للكتاب بدو ...
- فرصة -تاريخية- لخريجي اللغة العربية في السنغال
- الشريط الإعلاني لجهاز -آيباد برو- يثير سخط الفنانين
- التضحية بالمريض والمعالج لأجل الحبكة.. كيف خذلت السينما الطب ...


المزيد.....

- أبسن: الحداثة .. الجماليات .. الشخصيات النسائية / رضا الظاهر
- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سعيد تگراوي - تجربة الاستثناء وتكسير القاعدة .... قراءة في قصيدة - مرثية دمٍ على قميص قتيل - للشاعر العراقي مكي الربيعي