أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - أبو ناصيف مختار - أنوار العقل العربي بين الفلسفة والدين















المزيد.....


أنوار العقل العربي بين الفلسفة والدين


أبو ناصيف مختار

الحوار المتمدن-العدد: 3667 - 2012 / 3 / 14 - 15:03
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


تمحورت الرؤية التي صيغت فيها مسألة ارتباط العقل النظري بالممارسة العملية في التراث الفلسفي العربي، حول نقطتين أساسيتين، فهي تربط العقل النظري من جهة بـــ"الصناعات العملية"، مثل الطب والصناعة والفلاحة وغيرها، وتسعى من جهة ثانية إلى ضبط نشاط العقل العملي ضمن نطاق فاعليته في "العلوم العملية"، الأخلاق وتدبير المنزل والسياسة، وكل ما يتصل بهذه القطاعات.
وفي هذا السياق يمكن التأكيد على أن مسألة العلاقة بين العقل والنقل قد كان لها حضورا مركزيا في إطار مشكلة الارتباط بين العقل العملي والعقل النظري. فقد انعكست هنا الطبيعة المعقدة لتلك الروابط، والتي تجد سندها في عدم التطابق الحاصل من التعريفين الشهيرين للإنسان: "حيوان عاقل" و"حيوان مدني". وهما التعريفان اللذان انطلقا منهما أرسطو في تمييزه بين وظيفتين للفكر: نظرية غايتها تحصيل المعرفة، وعملية تهدف إلى تحصيل الخير من خلال ضبط سلوك الناس وتنظيم العلاقات فيما بينهم بما يتطلبه ذلك الأمر- زمن العصر الوسيط- من إضفاء سمة دينية على القواعد والمعايير، سواء كان ذلك في مجال الأخلاق أو في مجال السياسة .
وبناء على ذلك اتجه الفلاسفة العرب- في حلّهم لمشكل علاقة النقل بالعقل- إلى التمييز بين خمسة ضروب من"الصناعات القياسية" التي تُعنى بطرق الاستدلال: أولها برهانية خاصة بالقول الفلسفي، ثم نجد الأقاويل الجدلية والسفسطائية التي تعتمد في علم الكلام بصفة عامة، وأخيرا هنالك الأقاويل الخطابية الشعرية، وهذه تستخدم في الدين(1).
ويرى الفارابي في كتاب الحروف أن "الصنائع القياسية" إنما تظهر في مرحلة معينة من التطور الاجتماعي يكون فيها الناس قد امتلكوا أسباب"الصنائع العملية"، وصاروا يشعرون بالحاجة إلى معرفة علل الأشياء والظواهر من حولهم، فيترقى الفكر بالتالي من أدنى درجات اليقين إلى أرقاها. وأول تلك المراتب هي التي تستخدم فيها الطرق الخطابية والشعرية. ومن خلال النظر في الآراء وفحصها وتصحيحها يصير بإمكان الناس تعلم الطريقتين السفسطائية والجدلية بتمييز بينهما، حيث ينتهون في الآخر إلى تبين بطلانهما في تحقيق اليقين، فيصلون بذلك إلى الفلسفة النظرية، والعملية الكلية القائمة على الأساليب البرهانية.
وينقسم تعليم المبادئ الفلسفية إلى طريقتين: أولها الحاصلة بفضل الأقاويل البرهانية التي يعتمدها الفلاسفة، وثانيها الطرق الجدلية والخطابية التي هي مشتركة للجمهور، إلا أن "الخطبية والشعرية هما أحرى أن تستعملا في تعليم الجمهور ما قد استقرّ الرأي فيه ويصح بالبرهان من الأشياء النظرية والعملية"(2).
أما فيما يتعلق بالخطاب الذي يُستخدم في الدين(أو الملّة)فيأتي هنا باعتباره محاكاة للفلسفة و"مثالات" لها. فإذا حدث أن الدين الذي وضعته أمة معينة على أساس الفلسفة، نقل إلى أمة أخرى على أساس الفلسفة باعتماد الألفاظ الفلسفية الأصلية بل أخذت مثالاتها بدلها سواء في بعضها أو في كلها، وكانت هذه الأمة الثانية لا تعرف أن ما في ذلك الدين من مثالات إنما هو تابع لأمور نظرية، صحت في الفلسفة ببراهين يقينية، اعتقدت تلك الأمة أن المثالات التي يشتمل عليها ذلك الدين هي الحق وإنما هي الأمور النظرية نفسها.
ولكن، إذا حدث ونقلت الفلسفة نفسها إلى الأمة، فينتج عن ذلك أحد أمرين: إما أن يحدث نزاع بين الدين(الملّة)والفلسفة، وإما أن يعلم الفلاسفة أن الدين قائم على الفلسفة، فلا يعادونه، وإن كان أهل هذا الدين يعادون أهل تلك الفلسفة. وفي الحالة الثانية قد يلحق الفلسفة وأهلها أذى عظيما من ذلك الدين وأهله، فيضطرون إلى معاندة أهل الدين، ولكنهم "يتحرّون أن لا يعاندوا الملّة نفسها، بل إنما يعاندوهم في ظنهم أن الملّة مضادة للفلسفة، ويجتهدون في أن يزيلوا عنهم هذا الظن بأن يلتمسوا تفهيمهم أن التي في ملّتهم هي مثالات"(3). وإذا تم للفلاسفة ذلك يصبح بمقدورهم تأييد الدين، الذي هو محاكاة لعلمهم، كما يكفّ أهل الدين عن معاداة الفلسفة، ففي هذه الحالة المثالية فقط يتمكن الفلاسفة من تبليغ الناس أن علمهم هو أساس المعرفة اليقينية، وأن الدين أشبه ما يكون بقطاع من الفلسفة(4).
وبناء على ما تم تقريره، يوكل الفارابي رئاسة "المدينة الفاضلة" إلى الفيلسوف، تلك المدينة التي تكون ملّتها "ملّة فاضلة"، ومحاكية للفلسفة الحقة. فتعليم الجمهور الأمور النظرية، التي تتم البرهنة عليها في الفلسفة اليقينية، إنما يكون بالتخييل والإقناع، بالضمائر والتمثيلات. وأما تصحيح تلك الأمور وتقويمها على ما هو مشهور في بادئ الرأي، فهذه وظيفة "صناعة الكلام"-كما يدعوه الفارابي- وبهذا التوجه يكون الدين ومعه علم الكلام خادما للفلسفة، "فإنه لما كان(الكلام)خادما للملّة، وكانت الملّة منزلتها من الفلسفة تلك المنزلة، صار الكلام نسبته إلى الفلسفة أيضا على أنها بوجه ما خادمة لها أيضا بتوسط الملّة"(5).
إنّ البحث في مسألة وحدة الحقيقة (الدينية والفلسفية) عند الفارابي، هو مسألة بالغة الأهمية. وفي هذا الإطار، هنالك ملاحظة هامة لا بد من التأكيد عليها: وهي أن لفظ "دين"(Religion) لم يكن غائبا نهائيا من قاموس الفارابي خاصة عندما يتعلق الأمر بالإسلام، ولكن حينما يتحدث عن الدين فنحن نجده يستخدم لفظ "ملّة". ومثلما يشير إلى ذلك الجرجاني في كتاب التعريفات، فإن لفظتي "دين" و"ملّة" متطابقتان من حيث الماهية، على أن التمييز بينهما إنما يدخل من جهة الدلالة. إذ يشير لفظ "دين" إلى العلاقة بين الإنسان والله، في حين يعود استخدام لفظ "ملّة" إلى النبيّ مؤسس الجماعة الدينية(6). وعلى هذا النحو الذي يُستخدم وفقه لفظ "دين" كميسم جماعي تعيشه جماعة من المؤمنين، يورد الفارابي فهمه هذا. أما الفلسفة هنا فتعني البحث فيما توصل إليه الفلاسفة اليونان، وكذلك تجذير الخطوات الأولى التي بدأت في الحضارة العربية-الإسلامية في القرنين الثالث والرابع هجري(القرنين9و10م).
إنّ العلاقة فلسفة/ملّة أو فلسفة/دين لا يمكن في الحقيقة إلا أن تكون علاقة تعارض. فالترجمات الكبرى من اليونانية إلى العربية، عبر السريانية أولا، ثم الترجمة المباشرة فيما بعد قد مكنت العديد من المفكرين البارزين في ذلك الوقت من رؤية للعالم استنزفت المجهود الفكري المتواصل للعقل الإنساني. إنّ القيمة الكونية للإدراك العقلي لما هو حاصل هي أولا نصوص أرسطو وأفلاطون(وكذلك نصوص أفلوطين ممتزجة مرة مع أفلاطون وأخرى مع أرسطو)، وكذلك شرّاح الأفلاطونية المحدثة، حيث يتراءى كل ذلك بمثابة إرث الفلاسفة الأوائل الذي لا يمكن استبداله. فقد تمت تبيئة ذلك الإرث ضمن مناخ ديني إسلامي كان بدوره منتظما وفق علوم الدين، والتي هي علم الكلام والفقه. فالملّة المسلمة، التي هي الدين نفسه، قد مهّدت لنشأة المذاهب التي لا تتخذ من النبيّ وحده مرجعا، وإنما أيضا مؤسسي المدارس، أي كبار المجتهدين(7). ومن ثمة فلا يمكن للفلسفة أن لا تتعارض مع ما طوّرته تلك المدارس، بل وحتى أن تدخل معه في صدام.
يتجلّى المشكل الديني إذن، في ملاحظات الفارابي، ضمن ثلاث وجهات نظر(8):
• أولا وجود النبوّة والرسالة اللتان تؤسسان وتبرران مكانة الأديان، إذ تحاول نظرية المعرفة الفارابية هنا أن تدمجها.
• ثانيا الوجود الفعلي للمجموعات الدينية، أي للملّة في معتقداتها وفي تنظيمها وأفعالها الثقافية، والتي يعد الإسلام بما هو دين ميسمها المفضل.
• أما وجهة النظر الأخيرة فتتعلق بالتأسيس وبالدفاع عن القوانين الشرعية التي تواصل ما بدأه المجتهدون، ولعل علم الفقه وكذلك علم الكلام إنما يجدان مكانتهما ضمن قائمة العلوم بناءًا على هذا الدور(9).

يتعلق الأمر إذن، بالنسبة للفارابي، بإيجاد مكانة لهذا الثالوث داخل تصوّره العام عن العالم، وكذلك ببيان ضرورة التوافق بينها وبين نظريته في النفس، وفي المعرفة، وفي الكوسمولوجيا، وكذلك في الإلهيات. وسوف نحاول هنا تتبع بعض الإجابات عن هذه المسألة والتي تمت صياغتها في أوقات متباعدة وتحت مسميات مختلفة. فعلاقات الفلسفة بالشرع قد شكلت ولوقت طويل محل نظر عميق، ولعل ذلك النزاع الذي شكّله كتاب ابن رشد تهافت التهافت يجسد هذه العلاقة بصورة جليّة، فقد وسم هذا الصراع الفلسفة وشغل مباحثها لفترة طويلة. لذلك، فإنه من الأهمية بمكان أن ندمج في إطار هذا البحث المحفّزات والأرضية التي على أساسها انبنى موقف الفارابي. وترتسم بخصوص هذا الأمر اتجاهات عديدة، سوف نحاول تصنيفها ضمن أربعة رئيسية: يتعارض الاتجاهان الأولان بصفة حادة وهما نظرة الكندي ونظرة أبو بكر الرازي، فالأول يعتبر سلفا للفارابي في حين يعد الثاني معاصر له تقريبا.
إذ يرى الكندي أنه ينبغي التمييز بين علوم الأوائل والعلم الإلهي، وذلك فيما يتعلق بمصدرهما وكذلك من حيث المنهج والموضوع. وإذا كانت علوم الأوائل نتيجة "بحث وجهد وصناعة"، فإن الصنف الثاني من العلوم هو هبة إلهية خاصة بالأنبياء. فهؤلاء ليسوا بحاجة إلى البحث الإنساني، ولا إلى تعاقب الوقت حتى تحصل لديهم هذه العلوم، فهي تعطى لهم من خلال فعل إلهي مباشر وفوري(10). وإذ ينتج عن هذا الرأي، أنه يتعين على عمل الفيلسوف أن يقوده وينظمه الوحي النبوي. وعلى أساس هذه الرؤية نفسها انتهى الكندي، ومن وجهة نظر فلسفية، إلى القول بحدوث العالم وبعث الأجساد.
وفي الطرف المقابل لهذا التوجه نجد أبا بكر الرازي، الذي يؤكد على القيمة المطلقة للبحث الفلسفي، إذ ليس الدين-حسب رأيه-سوى ضرب من الوهم لا فائدة ترجى منه بالنسبة للشعوب، كما أن الأنبياء ليسوا سوى دجّالين في الغالب. وهذا الرأي نجده عند من أطلق عليهم الزنادقة، وقد تولى أبو حاتم الرازي الردّ على أبو بكر في خصوص هذه المسألة عندما أورد بعض المقتطفات من الكتاب المفقود والمنسوب لأبو بكر الرازي في نقض الأديان. ويمكن أن نضيف هنا أيضا أن هنالك رؤيتان متأخرتان عن أعمال الفارابي، نلاحظ فيهما تأثرا قويا بفلسفته:
• الأولى، ترى تداخلا كليا بين الدين والفلسفة، وهي أطروحة إخوان الصفا التي تعرض وجهات النظر العقلية للفيلسوف، الذي يتعين عليه أن ينخرط في القانون الديني(أي الشريعة) في حقيقته، ومثلما يكشفه الباطن.
• أما الرؤية الثانية، فهي تلك التي سادت القرن الرابع للهجرة وشدّدت على النزعة الإنسانية، ومن أبرز ممثلي هذه النزعة نجد أبو سليمان المنطقي والتوحيدي ومسكويه. فقد أكد هؤلاء على الخصوصية المتتالية للنبي-المشرع "الذي يتحدث باسم الله"، وللفيلسوف "الباحث عن الحقيقة"، والذي يتناول موضوعات من قبيل المادة الأولى، الوجود أو عدمه...الخ(11). ولكن مهما كان اختلاف الدين عن الحكمة، فلكل منهما سبب وجوده، وهما مكملان لبعضهما البعض، إذ"ينبغي على الإنسان أن يتقرب من الله عن طريق الدين، وأن يتأمل قوته في العالم عن طريق الحكمة"(12). وعليه، يستنتج التوحيدي أن الفلسفة هي كمال إنساني وأن الدين هو كمال إلهي، وكما أن الكمال الأول لا يمكن أن يستغني عن الثاني فإن الثاني بإمكانه الإستغناء عنه(13).

لقد تأثر مسكويه إذن، في نطاق ما أوجبته هذه الرؤية الثانية المستندة إلى "نزعة الأنسنة"(14) ، بالتوجه الفلسفي الذي أرسى الفارابي دعائمه النظرية، لذلك نجده يركّز في كتاباته على الأهمية التي تكتسيها دراسة الأخلاق، كعلم عقلي يُعني بسبل تقويم الفعل الإنساني، في الانفتاح على "تجارب الأمم" الأخرى(15) ، حتى تلك المخالفة لنا في الدين والأخذ من انجازاتها من دون تعصّب أو انغلاق. فمهما يكن هذا الإنسان-حسب مسكويه- فإنه ليس في حاجة إلى وجود شريعة حتى تكون له أخلاق ما، إذ يقول في هذا الصدد: "للإنسان-بما هو إنسان- أفعال وهمم وسجايا وشيم قبل ورود الشرع، وله بداية في رأيه، وأوائل في عقله لا يحتاج فيها إلى شرع"(16). وهذا هو الدرس الذي أفادته الفلسفة في القرن الرابع هجري.
------------------------------------------------------
الهوامش والمراجع:
-يأتي القول البرهاني هنا في قمة هذه الصناعات من حيث القيمة المعرفية باعتبار أنه يفيد "اليقين بإطلاق". وتحلّ الأقاويل الجدلية التي تكون"صادقة بالأكثر"بعد هذه بما أنها تشكل محور المناظرة القائمة على موضوعات ظنية، من"المشهورات"وغيرها. كما أنه ليس بإمكان الطرق الجدلية لوحدها أن تحصل على المعرفة اليقينية، وإنما يحتاج إليها في غلبة الخصم في "الأشياء المشهورة"، وخاصة ما تعلق منها بالدين والأخلاق. ويلي ذلك الأقاويل الخطابية، التي يتساوى فيها الصدق والكذب، إذ تكمن مهمتها في إقناع السامع برأي معين دون الإتيان بالدليل. ثم ترد بعد ذلك الأقاويل السفسطائية التي هي "كاذبة بالأكثر"، حيث يسعى السفسطائي من خلالها إلى "غلبة مظنونة" على خصمه، فيوهم فيما ليس بحق أنه حق، وفيما هو حق أنه غير ذلك. أما المرتبة الدنيا من حيث القيمة المعرفية، فتحتلها الأقاويل الشعرية التي ترد "كاذبة بإطلاق" باعتبار أنها لا تتوجه إلى موضوعات المعرفة خارج الذهن وإنما إلى "خيالاتها"، والتي تهدف إلى التأثير في خيال السامع بدلا من التوجه إلى عقله. راجع في هذا الخصوص: الفارابي، رسالة في قوانين صناعة الشعر، في: "الفلسفة الإسلامية"(مجلد9)، منشورات معهد تاريخ العلوم العربية والإسلامية، جامعة فرنكفورت، ألمانيا، 1999، صص297-298.
2- الفارابي، كتاب الحروف، (طبعة2)، تحقيق محسن مهدي، دار المشرق، بيروت، 1990، مقطع 143.
3 -نفسه، مقطع 149.
4 -تختلف مسألة التوفيق بين الدين والفلسفة عند إخوان الصفاء عن الرؤية التي صاغها الفارابي، والتي تستند إلى محاولة الجمع بين الحقائق الدينية والحقائق الفلسفية عن طريق الميل بإحداهما إلى الأخرى، أو استنتاج حقيقة ثالثة تجمع العناصر المشتركة من هاتين الحقيقتين. إذ يمكن القول أن التوفيق عند إخوان الصفاء، يعود إلى مجرد رفع النزاع، وتقرير التعاضد بين الدين والفلسفة، خاصة بعدما تبين أن غايتهما واحدة، وأن الأمر يتعلق بخصومة تثيرها فئتين لا علم لهما بما يجري سواء في الحقيقة الفلسفية أو في الحقيقة الدينية. لقد حدد إخوان الصفاء موضوع النظر الفلسفي واختصروه في الرياضيات والطبيعيات، فأعلى"الناس في الصنايع والمعارف الجسمية هم الحكماء"، أما فيما يتعلق بالنظر في الإلهيات فقد أحالوا ذلك إلى الوحي، باعتبار أن العقل عاجز في مثل هذه الموضوعات عن إدراك حقيقتها(إخوان الصفاء، الرسائل، الرسالة 28-3، دار بيروت ودار صادر، بيروت، 1957، ص ص22-23). ويمكن في هذا الإطار للفلسفة أن تفيد في الإبانة عن حقيقة الدين، فهي-إن شئنا-تتقدم بوصفها"المنهج العقلي لفهم الدين"( نفس المصدر السابق، الرسالة14-1، ص427). تتطلب مسألة التوفيق بين الدين والفلسفة عند إخوان الصفاء إذن، مراعاة ما يلي من الاعتبارات:
• التسليم بالمعرفة المتأتية عن الوحي، ومن ثمة التوفيق بينها وبين الحقيقة الفلسفية.
• اعتبار النبي فيلسوفا قبل أن يوحى إليه، ومن هنا تضافر معرفته كنبي ومعرفته كفيلسوف.
• اعتماد نظرية الظاهر والباطن، باعتبار أن النصوص الدينية تحتمل معاني باطنة إضافة إلى معانيها الظاهرة، وهذه النصوص يتطلب تفسيرها اعتماد المعاني الفلسفية الدقيقة.
5 -الفارابي، كتاب الحروف، مصدر مذكور، مقطع 111.
6 -الجرجاني، كتاب التعريفات، القاهرة، 8193، ص111.
7- نفسه، نفس الصفحة.
8-راجع هنا التحليل الذي يورده لويس غاردييه(Louis Gardet) في مقال له بعنوان: «L’accord de la religion et de la philosophie selon FARABI», ، في: "دراسات فلسفية وأدبية"(مجلة جمعية الفلسفة بالمغرب)، عدد1، 1976/1977، صص9-22.
9-وهو نفس النهج الذي طوّره ابن رشد فيما بعد، فلتحديد العلاقات الطبيعية بين الدين، التيولوجيا، والفلسفة، كان على ابن رشد أن يبدأ بتعريف هذه المذاهب الثلاثة: الفلسفة يمكن تعريفها على أنها الدراسة التأملية للموجودات، "واعتبارها من جهة دلالتها على الصانع"(فصل المقال، تحقيق ألبير نصري نادر، دار المشرق، بيروت، 1968، ص1). أما الدين فهو مجموع الوحي مضافا إلى العبادات، أي "امتثال الأفعال التي تفيد السعادة"(نفسه، ص44). الفلسفة والدين لا يختلفان في شيء من ناحية الموضوع(الله، الكون والحياة)، وإنما هما يخلفان من ناحية المنهج، والدرجة. ومن ثم، فـإن التيولوجيا هي تأمل عام مثل الفلسفة، ولكنها تأمل في نصوص الوحي. (راجع في هذا الصدد: Gauthier(L), «Religion et philosophie», in :”Islamic philosophy ” (vol 61), Publications of the Institute for the History of Arabic-Islamic Science, University Frankfurt, 1999, pp.21-22.
10-انظر في هذا الشأن: الكندي، رسائل الكندي الفلسفية، ، تحقيق عبد الهادي أبو ريدة، دار الفكر العربي، القاهرة، 1950، ص372.
11 -راجع: التوحيدي، الإمتاع والمؤانسة(ج2)، المكتبة العصرية، صححه وضبطه أحمد أمين، بيروت، 1953، ص18.
12 -نفسه، ص21.
13 -إنّ وجهة نظر الفارابي لا تتقاطع مع أيّ من هذه الرؤى الأربعة. فعلى العكس من أبو بكر الرازي، يثبت الفارابي واقعية وقيمة المعرفة النبوية. وعلى خلاف الكندي والتوحيدي، نجده يدافع عن أولوية الإدراك العقلي المحض قياسا بالإعتقادات الدينية. وإذا كانت رؤيته تتساوق مع ما يراه إخوان الصفا، فهو لا يصل إلى حد اعتبار أنه ينبغي على البحث الفلسفي أن يندمج في المعنى الباطن للشرع، وإنما على التعاليم النبوية، ومختلف الإعتقادات والأفعال الثقافية أن تندمج بكل انسجام حتى تصبح في مستطاع التناول العقلي للفلسفة. راجع هنا: أيت حمّو، محمد، "الكتابة المزدوجة عند الفلاسفة المسلمين"، في: مجلة "فكر ونقد"، السنة6، عدد57/مارس، 2004، صص112-113.
14- انظر هنا: أركون، محمد، نزعة الأنسنة في الفكر العربي، ترجمة هاشم صالح ، دار الساقي، بيروت، 1997، صص30-42.
15- ألّف مسكويه بهذا الغرض كتابا دعاه تجارب الأمم، تناول فيه بالعرض التدابير والتجارب المستفادة من السيرة التاريخية لبعض الشخصيات الهامة في تلك الفترة محللا أسباب وعلاجات تلك الصراعات والحروب. وذلك بهدف بيان مواضع الاستفادة من هذه التجارب، من جهة، ومن جهة ثانية حتى يرسخ توجهه الفلسفي الذي لا مكان فيه للقراءات التي تعتمد السير التاريخية المقدسة. انظر: مسكويه، تجارب الأمم(ج1و2)، مكتبة المثنى، بغداد، 1915.
16-مسكويه، الهوامل والشوامل (بالإشتراك)، مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر، القاهرة، 1951، مسألة77، ص192.



#أبو_ناصيف_مختار (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- فلسفة البراكسيس أو في فلسفة الممارسة الثورية
- نقد الاطروحات الليبرالية في الفلسفة


المزيد.....




- صديق المهدي في بلا قيود: لا توجد حكومة ذات مرجعية في السودان ...
- ما هي تكاليف أول حج من سوريا منذ 12 عاما؟
- مسؤول أوروبي يحذر من موجة هجرة جديدة نحو أوروبا ويصف لبنان - ...
- روسيا تعتقل صحفيًا يعمل في مجلة فوربس بتهمة نشر معلومات كاذب ...
- في عين العاصفة ـ فضيحة تجسس تزرع الشك بين الحلفاء الأوروبيين ...
- عملية طرد منسقة لعشرات الدبلوماسيين الروس من دول أوروبية بشب ...
- هل اخترق -بيغاسوس- هواتف مسؤولين بالمفوضية الأوروبية؟
- بعد سلسلة فضائح .. الاتحاد الأوروبي أمام مهمة محاربة التجسس ...
- نقل الوزير الإسرائيلي المتطرف إيتمار بن غفير للمستشفى بعد تع ...
- لابيد مطالبا نتنياهو بالاستقالة: الجيش الإسرائيلي لم يعد لدي ...


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - أبو ناصيف مختار - أنوار العقل العربي بين الفلسفة والدين