أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - هناء شرف الدين - لحظة ميلاد















المزيد.....

لحظة ميلاد


هناء شرف الدين

الحوار المتمدن-العدد: 3664 - 2012 / 3 / 11 - 22:22
المحور: الادب والفن
    


كانت الحرارة ترتفع من الأرض لتلفح وجهي. إني أشعر بها تتصاعد من تحت أقدامي. في البدء كانت دافئة وشهية كدفء لقاء حميمي بين عشيقين أضنتهما الوحشة والفراق. شيئا فشيئا بدأت تشتد وتقسو عليّ فكنت أشعر بلهب يلتهم وجنتيّ. رفعت يدي أتحسسهما وكأنني أبحث عن مصدر اللهب فلا أجد شيئا. لأنّ النار كانت تضرم في داخلي، في أعماقي. تنتابني رغبة قاسية في التّقيئ والغثيان. بحثت بعينيّ عن ملجئ أحتمي به ولكن كانت كل الأشياء تتطاير من حولي. ترتفع وتنخفض، تتمايل يمنة ويسرة وكأن آلاف الناس من حولي يحركون كل شيء دون أراهم. تخبّط بحركات بلهاء في فضاء مجنون، أين أنا، ماذا يحدث لي؟ تميد بي الأرض وتتحرّك. يتصلـّب لساني، قدماي أصبحتا أثقل من الثـّقلين كأنهما قدّتا من صخر صوّانيّ. كنت أبحث عن بعضي فلا أجد من نفسي إلا الأشلاء المتطايرة.
غليان حاد في أذنيّ وطنين يشقّ له رأسي لتنبثق منه نافورة اللهب المتصاعدة من أعماقي. حاولت الصراخ، طلبت النجدة: الغوث، الرحمة، هل من منقذ، ما الذي حلّ بي؟ لماذا أتثاقل وأنهار؟ جف لساني حتى من الكلمات. بحثت عن الحروف فلم أجد القدرة على النطق.
كنت كمن يحاول التقدم إلى الأمام ولكن آلاف الخيوط غير المرئيّة تشدني إلى الخلف بقوة أكبر وأعمق. كمن يغرق في دوامة رملية فلا يجد بما يتشبث إلا بالرمال المتحركة.
أشياء في داخلي، في أعماقي تتكسّر وتتحطـّم كأن يدا شيطانيّة تمسك بي وتلوّح في الفضاء الواسع، كخرقة منديل من قماش أبيض يلوّح بها محب لحبيب مهاجر بكل لوعة وألم يحركها بعصبيّة في الهواء.
بدأت الدنيا تظلم في عينيّ وكأن غمامة سوداء حطـّت على وجهي، ثقل حاد رقص على جفنيّ فهوى بهما وأطبقهما بلا حول مني ولا قوّة. لقد قاومت وقاومت وحاولت أن أبقي عينيّ مفتوحتين ولكن بالرغم عني أظلمت. ترنّحت ترنّح السكران تهاويت على أرض مبللة أعشابها بقطر الندي كنت أحس بذلك ولكن لا أستطيع المقاومة كمن يغرق في بركة ضحلة وهو سباح.
قاومت إحساسي بالغثيان وبالرغبة القويّة في التقيّء وبنزع أثقال الرصاص من على كتفي، لكن كنت ككومة لحم لا تأت حركة. لست أدري هل أنا متّ أم مازلت على قيد الحياة؟ هل أنا في حلم أم فعلت بي الحياة فعلتها وذهبت بعقلي؟
كنت في نزهة أم كنت في عمل. كل الأشياء من حولي ما عادت هي والكلمات صارت بلا معنى ولا أصل. ما كان هناك لغة أو أصوات فكل الذي كان حولي هو إشعاع نور يلفـّني، يجتذبني، يحتويني ويسكنني الأمان.
إني أتخبط في الهواء، في الفضاء، في أفق السماء. أرى الناس من حولي كأنها حروف تساقطت من معجم قديم تذروها الرياح. ما عدت أسمع لغوا ولا لاغيه. يجتذبني النور برفق وهدوء، يسقيني الأمان والراحة. انتابتني نشوة لذيذة وكأني في حضرة إلاه يحتويني ويمسح شعري بهواه. رائحة أطيب منها ما شممت في حياتي من قبل، تدغدغ مكامن أعماقي جسدي وروحي وعقلي. ما كنت أرى شيئا ولا ألمس شيئا ولكني كنت أشعر وأحسّ برقة وعطف ولأمان. النـّور، النـّور، النـّور يجتذبني، يلفـّني، يحتضنني برفق وحنوّ. ما عدت أبحث عن شيء ولا أفكر في شيء أصبحت كوليد في صرخته الأولى.
أيّ أمان هذا الذي يسكنني وأيّ استقرار عميق في داخلي، إحساسي في بأنني في حضرة الأنبياء والمرسلين، في جنات النعيم أمرّغ وجهي في تراب ليس كالتراب، وأبلـّل لساني بماء ليس كالماء الذي عهدته. إنه يطري لساني ومفاصلي. وكل ذرة في جسدي كانت تسبّح باسم الله الذي يحيي العظام وهي رميم.
من خلفي أسوار وأسوار كان يطرق سمعي أشباه ألسنة وهمس مكتوم. كأن أحد يجتذبني من عليائي بقوّة ليعيدني إلى أرض اليابسة القاسية أرتكز عليها من تعب أسفاري. تتضاءل بقعة الضوء وتنحسر لتقترب الأصوات من مسمعي ولكنها كانت مجرّد طلاسم وهمهمات.
ثقل حاد في رأسي، ما كنت أستطيع تحريكه ولا حتى قيد أنملة. عاد ثقل لساني بعد أن كنت قد ارتويت من نبع الأمان. إن لساني أقرب منه لقطعة خشب ملقاة في أرض مهملة على أنه عضو حي في إنسان. إني كنت كمن ابتلعته الصحراء فكان يرى سرابا ولا يدرك ماء. حاولت أن أخلص نفسي من هذا الرداء الأسود الذي يلفني، وأحاول دفعه عني ولكن دون جدوى. أرهقتني محاولاتي ولكني أقاوم خوف من ماذا... لست أدري. حاولت تحريك يدي، رأسي أو حتى رفع جفنيّ عن بعضهما ولكن الثقل كان أثقل مني. أجهدت نفسي ولم أقدر حتى على تحريك لساني لكي أمرره بين شفتيّ لعلـّهما ينديان ولو قليلا.
لأصبحت الأصوات أكثر وضوحا:" إنّها تتحرّك، إنها تقاوم". ما الذي يتحرك وما الذي يقاوم وماذا يقاوم؟ لست أدري ولم أفهم. يعود الصوت من جديد:" حاولي تحرّكي قاومي إنك تستطيعين". وكأنه يخاطبني وكأنه يحثني على فعل شيء، أن آتي بحركة هكذا الصّمت قال لي. كان اللغو والأصوات تحوم من حولي تحوم من حولي بكلمات مفهومة وكلام غير مفهوم.
أين أنا؟ ماذا حدث لي؟ ما الذي جرى؟ أخبروني هل أنا في حلم أم في حقيقة؟ هل أنا متّ أم حيّة؟ كل ما أذكره أني كنت أنتفض كالذبيحة وهي ترقص رقصتها الأخيرة مودعة الحياة. كم شدني ذلك المشهد. هل كانت الذبيحة ترقص فرحا أم حزنا وهي تفارق الحياة؟ رقصة الموت تثيرني وترعبني وتهزّني من الأعماق. هل مت أنا؟
يطرق سمعي من جديد اللغو:" إنها تقاوم، لقد عادت الحياة تدب في الجسد من جديد، لقد تحدت الموت، إنه موت مؤقت، لقد دام لبضع ساعة أو ساعات. سبحان الله يحيي العظام وهي رميم. كان هذا سيل من الكلام الذي يجري على ألسنة أناس لا أعرفهم ولم أفهم هل كانوا يتحاورون عليّ أم على غيري ولكن إحساسا في داخلي يحثني على فتح عينيّ، على فتح منخريّ على فتح فمي وكأنني أتلذذ بهبات النسيم التي كانت تلفح وجهي وتدغدغ أنفي. وبجهد فتحت عينيّ فإذ بوجوه تغرق في الضباب تتحرّك من حولي وإذ بأحد الوجوه ينحني عليّ هامسا:" ماذا حدث لك؟ بماذا تشعرين وما لذي جرى؟ أين كنت؟" وبجهد جهيد وكأن أحرّك فك أبي الهول لكي تجري على لساني كلمة: لست أدري... لست أدري... لست أدري".
أغلق عينيّ من جديد أبحث عن النـّوم أو النـّوم هو الذي داهمني فجأة. كنت أشعر بهدوء وراحة وسكينة أستلذّ بهما للنوم فغرقت في نوم عميق. لأن النوم نصف الموت وأنا أبحث على ما يحاكي الموت.

إمضاء: الزهرة البرّيّة
خريف 2008



#هناء_شرف_الدين (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295


المزيد.....




- -بنات ألفة- و-رحلة 404? أبرز الفائزين في مهرجان أسوان لأفلام ...
- تابع HD. مسلسل الطائر الرفراف الحلقه 67 مترجمة للعربية وجمي ...
- -حالة توتر وجو مشحون- يخيم على مهرجان الفيلم العربي في برلين ...
- -خاتم سُليمى-: رواية حب واقعية تحكمها الأحلام والأمكنة
- موعد امتحانات البكالوريا 2024 الجزائر القسمين العلمي والأدبي ...
- التمثيل الضوئي للنبات يلهم باحثين لتصنيع بطارية ورقية
- 1.8 مليار دولار، قيمة صادرات الخدمات الفنية والهندسية الايرا ...
- ثبتها أطفالك هطير من الفرحه… تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- -صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - هناء شرف الدين - لحظة ميلاد