ماجد الشّيخ
الحوار المتمدن-العدد: 3608 - 2012 / 1 / 15 - 22:36
المحور:
المجتمع المدني
تقيم التصورات الدينية على اختلافها – ولا فرق هنا في هذا المجال بين دين وآخر – عند حدود أو تخوم نفي الحرية في نطاق المجتمعات الإنسانية، فيما تقيم بعض التصورات الدنيوية – على اختلافها كذلك – في فضاءات إقرارها بالحرية/ الحريات؛ نسبية أو مطلقة؛ للإنسان كفرد، وللتجمعات البشرية في انتظامها كدول، وفي وحدات وتجمعات أكبر أو أصغر.
ليست مشكلتنا نحن أبناء المجتمعات العربية مع المرجعية الدينية كحكم في أمور الفقه، لكنه خلاف مستحكم في أمور السياسة، والمشكلة الأكبر هي في وجود نزوع ونوازع سلطوية لدى قوى التديّن السياسي؛ إنتقائية ومثالية في جوهرها، مما قد يتعارض مع العقل، وبالتأكيد هنالك تعارضات كبرى بين التصورات الدينية للحكم السياسي وبين التصورات الدنيوية الخاصة بالتصورات المجتمعية، وما يتفرع منها من مسائل وقضايا إقتصادية وسياسية وثقافية وإجتماعية وتنموية وحتى بيئية.
لذلك وعبر العملية الانتخابية يريد إسلامويون كثر نفي الديمقراطية واستبعادها، ووقف تداعياتها التي بدأت في تزخيم وجودها مع بدء الثورات والانتفاضات والهبّات الشعبية، لا سيما وهم يضعون نقطة في نهاية سطر العملية الانتخابية؛ إيذانا بانتهاء النشاط السياسي في ظل العملية الديمقراطية، وفي هذا مماهاة غير صحيحة وبائسة بين العملية الانتخابية كعملية متممة، وإحدى آليات العملية الديمقراطية كعملية مستقلة ومتواصلة، ولها قوانينها وآلياتها وسلسلة تصوراتها وسيروراتها التي لا تنتهي بانتهاء عملية الاقتراع في صناديق الانتخاب. ولهذا تقتصر رؤيتهم لفوزهم في صناديق الاقتراع على كون السلطة السياسية، وهي تؤول كثمرة يانعة إلى أحضانهم، كونها السلطة المضافة التي تتوج سلطتهم الأساسية التي ابتنوها داخل مجتمعاتهم بالغلبة، وعبر تكريس سلطتهم الذاتية بالشريعة، وبالتأويلات التي عادة ما يستخلصونها كجوهر ثابت من ثوابت الهيمنة التي يرومها هؤلاء. بينما يقبع خيار المجتمعات والشعوب التي خضعت طويلا لأنظمة استبداد طغيانية، إلى جانب أنظمة استبداد أبوية أهلية كسلطة مضافة بلا قيمة، في مكان آخر؛ المكان الذي تؤكد من خلاله كل قوى المجتمع المدني على اختلافها، على ضرورة الكفاح والقتال من أجل نفي الاستبداد الطغياني أيا كان مصدره.
ولأن طبيعة التديّن تميل إلى الاستبداد والاخضاع، فلا غرو في أن يميل المتدينون إلى تحبيذ تأبيد وجه الاستبداد السلطوي دينيا كان أو سياسيا، ولئن صودف أن البعض منهم يعادي هذا النظام الاستبدادي أو ذاك، فلغايات سلطوية إحلالية، تريد إحلال الذات محل السلطة المراد الإطاحة بها، وليس لأي سبب آخر، ذلك إن التديّن بطبيعته وطبعه لا يقبل حرية الأفراد أو المجموعات والجماعات والتجمعات من خارج نطاقاته وأسيجته، فكيف له أن يقبل الحرية التي تأتي بها الثورات الشعبية ضد مظالم الاستبدادات السلطوية من داخل النظام وتلك التي تقبع خارجه، أي تلك التي تستمد من التدين البطريركي سلطته السماوية المطلقة؟.
وعلى هذا.. فليس هناك على الإطلاق من حلول سحرية لمشكلات الواقع، وهذا ما ينبغي إدراكه من جانب جميع الناس على اختلاف مشاربهم وثقافاتهم، وتنوع وتعدد أفكارهم وسياساتهم التي ينحازون إليها. لهذا تكمن الحلول في خلاصة ما تراه العقول والأفكار من مسارب ومسارات هي الأصلح والأعقل، فالدين كبنية روحية وبيئة إيمانية، تنحاز بعض تياراتها إلى الجوانب الدعوية والإرشادية فقط، ومثل كل الأديان الكبرى والصغرى، لا يمكن لكل البنى الدعوية أو الفقهية، أن تقوم مقام البنى السياسية والاقتصادية أو الاجتماعية والثقافية والفكرية أو الإنمائية المتباينة، في إيجاد معالجات متخصصة في كل هذه المجالات، فهذه الأخيرة تشكل جوهر وصلب الواقع الإجتماعي والسياسي والاقتصادي، حتى في ما يتعلق بالعلاقات الإنسانية داخل وخارج حدود الدول والمجتمعات البشرية؛ حيث الدولة المدنية بأجهزتها ومؤسساتها الراسخة وحدها التي يمكن أن تضطلع بمواجهة كامل تحديات السياسة والاقتصاد والفكر والثقافة من دون أدلجة، تنحّي الدولة عن أدوارها المفترضة، وتغرقها في بحار النهب والفساد، وتُبعدها عن مجالها العمومي المفترض أن تسوسه بعقلية انفتاحية متسامحة.
إن حماية ورعاية وحراسة الأساطير الخاصة، هي مهمة تيارات وفرق نخب وعصابات التعصب العقيدي والعقائدي، كمعادل موضوعي لنسخ استبداد جديد على مستوى السلطة السياسية، كما وعلى مستويات السلطات الأبوية، ذات الطابع الثيوقراطي التي تفرض نفسها "مرجعية يُعتد بها" لقضايا إجتماعية ليست في إطاراتها، ولقضايا سياسية ليست في إطاراتها كذلك، وأيضا لقضايا إقتصادية أو تنموية ليست في إطاراتها بالتأكيد. ولذلك فإن الحل الذي تطرحه مجموع القوى الإسلاموية؛ السلفية والإخوانية وغيرهما من اتجاهات وتوجهات – مهما ادعت من ليبرالية مدعاة أو وسطية أو اعتدال مزعوم – لا يقدم ترياقا شافيا لإشكالات واقع المجتمعات العربية بكل تفصيلاتها، وهي إشكاليات دنيوية لا دينية، أو من طبيعة تنتمي إلى عالم الروح والإيمان بالغيب، إلاّ إذا كنا سنرى كل ما في الدنيا من منظار التدين والشرع والفقه، استنادا إلى مرجعيات هي في معظمها دنيوية نصا وبشرا، لا تفلح في مهمتها حتى وهي تستند إلى الكتاب جزئيا أو تأويليا. وفي هذا مجال واسع للانحراف والتحريف، وتديين ما لا يمكن أو ينبغي تديينه، وليس من مهمة الدين أساسا مقاربته، كونه يقبع في مجال آخر من مجالات التمثيل أو التمثل؛ كالسياسة والفكر والثقافة والسلطة على سبيل المثال.
لهذا كله، فإن المهمة الرئيسة للثورات إنما تصب أو تقيم عند حد ابتناء وقائع تفضي إلى بناء جمهورية ديمقراطية، ولسنا أمام احتمالات بناء "خلافة سادسة" على ما ذهب حمادي الجبالي الأمين العام لحزب النهضة التونسي في خطاب له أمام أنصار حزبه في سوسة. ومهما تكن نتائج الانتخابات من فوز لتيارات وأحزاب الإسلام السياسي، أو هيمنة المؤسسة العسكرية على كامل العملية الانتخابية والديمقراطية، أو على جوانب من الوضع السياسي الناشئ في مصر، فإن وقائع انقلاب إسلاموي على كامل الأدبيات أو التنظيرات والوعود الخلابة، التي دفعت وتدفع بهم إلى الواجهة البرلمانية، قد تحول الديمقراطية وجمهورياتها في كل من تونس ومصر وليبيا واليمن وربما في سوريا فيما بعد، إلى ملهاة خلافية وخليفية، فلأي "إسلام" سلطوي بمفاهيمه ذات الصبغة الأيديولوجية المغالية؛ تكون الغلبة حينها، ونحن نرى الواقع العربي يمور بتيارات إسلاموية لا حصر لها، كل تيار منها يمني النفس بكون الغلبة تكون له ولأطروحاته؟ فأي جمهورية ديمقراطية أو دولة مدنية يمكن أن نبني في واقع تجزيئي، يغيب عنه الفكر والنظرية الثورية، ويهيمن فيه وعي مفوّت أكثر تخلفا عما ساد في بلادنا في فترات ما بعد الاستعمار؛ تجتزئه اليوم التيارات الدينية بمجموعها، وتجتزئه المفاهيم الناقصة غير المكتملة عن الديمقراطية والثورة التي يجري العمل على تحويلها إلى ثورة مضادة بين ليلة وضحاها..
إن بناء جمهورية ديمقراطية يتطلب وجود ديمقراطيين حقيقيين، يواصلون مسيرة وسيرورة ثورة الشباب ونشطاء الواقع الجديد الذي أضحت شعوبنا ومجتمعاتنا تعيش بين ظهرانيه. أما تلك الخلافة المفترضة والمتخيلة، فهي أبعد ما تكون من الواقع، إلاّ إذا كان نشطاء الإسلام السياسي يعدّون لمسار إنقلابي، تتوّجه الحروب الأهلية ومجازر دموية، للاحتفاظ بسلطتهم الجديدة والقديمة على حد سواء، وهي سلطة استبداد صريحة وليست مقنّعة، تعيد تكرار تجارب الاستبداد السياسي، واجترار استبدادات طغيانية ذات طابع ثيوقراطي وأوتوقراطي يجري "تحديثه" بمفاهيم وعي مفوّت، يراكم فقهه التنظيري ذات الأبعاد القياسية والنسخية، وهنا نكون أمام إمارات وأمراء إقطاعيات، لا أمام جمهوريات ولا.. ديمقراطيات.
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟