أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - كتابات ساخرة - اكرم المعراوي - جوارب عربية















المزيد.....


جوارب عربية


اكرم المعراوي

الحوار المتمدن-العدد: 3604 - 2012 / 1 / 11 - 04:15
المحور: كتابات ساخرة
    


يقول ( هنري نوري العص) :
- و لدت في بريطانيا من أم وأب عربيان يحملان الجنسية البريطانية ترعرعت على حب الوطن العربي ... رضعت القومية العربية والعصبية القبلية من ثدي أمي وكانت نسبة العروبة في الحليب تسعين بالمئة ... فطعم الحليب كان حامض جداً كما أذكر وكان لونه أصفر قاتم . لهذا فأنا عربي أصيل لم أرضع ثدي انكليزية قط ، ولم أتذوق قط طعم حليب الأجانب الحلو ، فحليبنا العربي مشهور بحموضته ومرارته ، لم أكن أعلم لماذا... ولكن أعلم بأن أبرز ما يميزه هي هذه الصفات.
إذاً أنا عربي ، أتحدث اللغة العربية بطلاقة ، وأعيش في جو منزلي عربي أصيل جداً ، فصوت فيروز ورائحة القهوة والسمن العربي والشنكليش والمكدوس صباحاً ، والأخبار والأحزان العربية والدبكات وصناعة الخزف والخيزران والنسيج واللبن ظهراً ، وأم كلثوم والبكاء ولعنة الحب الأول ليلاً ، وأنا من الأشخاص الذين يفتخرون بعروبتهم أمام الناس ، فكما نعلم جميعاً هناك الكثير من الأشخاص من أصل عربي ، تعرفهم من سمرتهم الجميلة ومن أسماء أمهاتهم ، ولكن للأسف يتنكرون لعروبتهم ، وعندما تسألهم: - هل أنتم عرب ؟
يقول لك :
- وات إز ميأن أربيان؟ نو .... نو أي ديدينت أتز أ تيرست .
أما أنا فالحمد لله منذ نعومة أظافري وأنا أدافع عن قضية العرب الكبرى ، وحقهم في استرجاع فلسطين ، و أسعى دائماً إلى تحسين صورة العرب أمام جميع القوميات ، بعد أن شوهها أعداؤنا وجعلونا مخيفين و خاصة في مخيلة الأطفال الأجانب .
تخليت عن حلم أبي وأمي بأن ادرس الطب ، ودرست السياسة والقانون ، لكي أكون عضواً سياسياً بارزاً في أي مجال سياسي في بلدي الثاني بريطانيا حتى أستطيع من خلال مهنتي أن أكون مدافعاً شرساً عن قضايا العرب قاطبة.
لكن أحلامي و طموحاتي و للأسف الشديد لم تتحقق لأسباب مجهولة ، و جل ما وصلت إليه هو أني توظفت في منصب حقوقي لإحدى شركات التنظيف...
لكن وبما أننا نحن العرب لا نيأس بسرعة ، ونجد حلاً لكل شيء ، بدأت بإقامة المنديات الثقافية والسياسية على صفحات الانترنت ، ليشارك فيها الجميع ، وتدعوا لتوحيد جهود العرب من أجل فلسطين الحبيبة ، ومن أجل بيان حقيقتنا ، و إظهار كرمنا وشجاعتنا ونخوتنا .
والفضل لله ... استطعت أنا وبعض رواد حقوق الإنسان في بريطانيا أن نجمع آلاف الشباب العربي الواعي الغيور المثقف ، المهتم بالقضية الفلسطينية وبحقوقنا المغتصبة.
دارت الأيام ، و شاءت الأقدار التعيسة ، وحصل حصار غزة المريع .
شعرت حينها بحزن عميق جداً.... وبفرح عارم جداً.....
أما حزني فكان على أطفال غزة المنكوبين ، وأما فرحي فكان لقراري الحازم في السفر إلى الوطن العربي ، نعم قررت شد الرحال صوب مشرق ...إلى وطني الغالي الحبيب ، أنا و اثنين من رفاقي الإنكليز ، المتعاطفين مع قضيتنا ، و المناهضين لسياسة الكيان الصهيوني و الاستعمار بشتى أنواعه ، حتى نجمع التبرعات الإنسانية العربية ، وندخلها إلى غزة .
أخبرت أبي وأمي بقراري ، فأخذا ينصحاني بعدم الذهاب ، خوفاً من دخول غزة ، ولكني أبيت إلا أن أذهب ، فأعطتني أمي بعض المال لأحمله إلى ابنة عمها الوحيدة في الوطن ، أما أبي فكان يقول لي بأنه مقطوع من شجرة ، ولا يعرف أحداً هناك ، الشيء الوحيد الذي يعرفه بأنه من جبل بعيد في الشرق ، وبأن دخوله إلى بريطانيا كان في ظروف غامضة جداً لا يعلمها .
أما أمي فهي ابنة منذر الضبع ، أبوها تزوج ابنة أحد العرب الإنكليز أباً عن جد ، وبالتالي حصل على الجنسية البريطانية ، فأمي تنحدر من أصول عربية أصيلة .
وضبت حقيبتي ، واتفقنا أنا والإنكليز على موعد الذهاب ، حصلنا على التأشيرات ، و بدأت رحلتنا إلى الغالي حبيبي وطني .
قبل سفرنا كنا قد نسقنا مع الشباب على صفحات الإنترنت ، وأخذنا أرقام هواتف بعضهم لاستقبالنا في المطار .
وكنا نحن العرب بين بعضنا ، بعيد عن الإنكليز أو أي عرق أخر - فنحن أخوة وهؤلاء غريبين - نتفق على أن نري الإنكليز عند مجيئي وإياهم كرمنا وشجاعتنا وشهامتنا ونخوتنا ، آه كم كانت تدمع عيناي عندما نتحدث بالعربية كي لا يفهمنا الإنكليز ، وأضحك كثيراً عندما يمزح بعض الشباب ويسبونهم بالعربية ويلعنون أرحام أمهاتهم ، لأن حكومتهم تساعد الصهاينة ، فكنا نضحك ونضحك ، لكن و الشهادة لله بأننا كنا نحترمهم لأنهم سوف يساعدوننا .
بعد ساعات من الطيران وصلنا إلى الشرق ، وبدأت عيناي تدمع حين نزلنا إلى أرض المطار ودخلنا ، فقد بدأت أشعر بأواصر الأخوة والترابط منذ البداية مع أخوتي العمال الذين يحملون الحقائب ، فلم يشعروني بأني غريب بينهم ، حدثتهم بالعربية فتركوا حقائبي وحملوا حقائب الإنكليز لأنهم يتحدثون الإنكليزية ، على مبدأ بأني لست غريب ومن أهل البيت .
والموقف الذي جعل قلبي يطير من الفرح ، حين وضع العامل إحدى حقائب الإنكليز في عربتي وطلب مني أن أحملها في طريقي إلى خارج المطار ، كي لا يأخذ مني عربتي ، ويضع بها حقائب أخرى ، فأخذتها معي وقلبي يطير من الفرحة ، فهو لا يريد أن يشعرني بأني غريب في موطني ، ويأمرني بكل بساطة لأنني عربي مثله ، أتحمل الضغوطات والتعب ، وأستطيع المساعدة و التعاون ، لست نعنوع كالإنكليز ، و طبعاً نحن لا نريد من الإنكليز أن يضعوا ملاحظات علينا .
حتى أنهم طلبوا من الإنكليز المال ثمن توصيل الحقائب للخارج ، ولم يطلبوا مني أو حتى ينظروا إلي ، على مبدأ بأني لست غريب .
وسارعوا ليلبوا نداء الأجانب ويساعدونهم بحمل الحقائب ، حتى يرى هؤلاء بأننا أصحاب نخوة مضيافون كرماء أدمعت عيناي من أول موقف ، وشعرت بأنني في بلدي فعلاً ، بين أهلي وناسي وشعبي ، لا أعامل كالغرباء بل يجب علي المساعدة لتحسين صورتنا أمام الأجانب .
أصبحنا خارج المطار ، ولكن للأسف لم يكن أحد بانتظارنا ، مع العلم بأن الجميع يعلم موعد وصول الطائرة .
اتصلت هاتفياً بكثير من الشباب ، ولكن عبثاً ، فكل شخص كنت أقول له أنا هنري العص ، يقول لي لا أعرف أحداً بهذا الاسم .
لم أتضايق أبداً ، فهمومنا نحن العرب تكفي لتنسينا أسمائنا ، لسنا كالإنكليز مرتاحي البال ، لا نعرف طعم المسؤولية .
بدأ الأساتذة الإنكليز يسألونني عن شباب الحملة ، فكنت أقول لهم بأنهم سوف يأتون قريباً ، و تابعت اتصالاتي مرتبكاً ، حتى تعرف علي أخيراً أحد الشباب ، كان في مباراة لكرة القدم ، ووعدني بالقدوم بعد انتهاء المباراة .
وبعد ساعات من الانتظار ، أتى هذا الشاب ممزق الثياب ، مزرق العينين من شدة الضرب ، منكوش الشعر دامي الوجه ، كان اسمه يعرب ، سألته عن سبب آثار الضرب ، فأخبرني
بأنه أمر بسيط ، مشاجرة بعد المباراة .
فسارعت و أخبرت الإنكليز المذهولين من منظره الذي يقطع القلوب ، بأن مشاجرة قد حصلت
في ملعب كرة القدم كما يحصل عندهم في الملاعب ، ولكن عندنا بتعصب أكثر قليلاً ، فنحن مخلصون لأي نادٍ نشجعه ، نكون معه في السراء والضراء ، وندفع أرواحنا ثمناً لولائنا . اغرورقت عيناي بالدموع عندما ابتسم الإنكليز و أبدوا إعجابهم بإخلاص يعرب لناديه ، وتصوروا بجانبه لكي يضعوا الصورة في صفحة نادي الأرسنال ، لكي يجعلوا جميع الإنكليز يرون مدى إخلاص العرب لأنديتهم الرياضية .
طلبنا من يعرب أن يأخذنا إلى أحد الفنادق كي نمكث فيه الليل ، حتى نبدأ غداً في جمع المساعدات فما كان من يعرب إلا حلفان أغلظ الأيمان بأننا لن ننام إلا في بيته ، فرحت كثيراً وبدأت أتباهى أمام الإنكليز بشهامة ابن وطني العربي ونخوته ، وهم يبتسمون ويحسدونني ويرمقونني بنظرات الغيرة .
أخذنا إلى المنزل وطلب منا أن نأخذ راحتنا ، فأعطانا المناشف كي نستحم ، وأعطانا الملابس العربية البيضاء "الجلابيات" ، ثم ذهب كي يأتي بالعشاء ، فطلبت منه أن يأتي لنا بشيء عربي أصيل ، وأردت أن أعطيه المال فأبى ، وهنا بكيت لم أستطع تحمل نفسي ، فبكيت وحتى الإنكليز أرادوا البكاء ، ولكنني لملمت الموضوع وقبلته ، وأكدت على الطعام العربي .
استحم الإنكليز بينما أنا جالس على شرفة الشقة أتأمل المدى العربي الرحب ، وأستنشق ما استطعت من رائحة الأرض الطيبة.
أتى يعرب وبيديه قدر كبير ، دخلنا جميعاً وفتح الغطاء عن قدر كبير من الأرز الأصفر فوقه اللحم والدهن والشحم .
بدأت آكل بيدي الاثنتين ، وكم أضحكنا أنا و يعرب أن الإنكليز لم يتجرؤوا على تناول الدهن ، واكتفوا بالأرز.
أكلت حتى التخمة ، ثم شربنا الشاي ، و بعدها وضع لنا الموالح والشراب المعدني ، وتحدثنا عن الحملة وكيف سنجمع التبرعات ، وعرضنا عليه الصيغة التي سنطلب بها ، واتفقنا على جمع الأغطية والأدوية والمعلبات .
طمأننا يعرب كثيراً ، ووعدنا بأخذنا إلى بيوت وجمعيات خيرية كي نجمع المساعدات ، ارتاح بالي بعد أن حدثنا وأثلج صدورنا بكلامه المليء بالحماسة والحسرة على ما يجري ، و بعد أن رأيت دموعه البريئة تسيل لما يحدث لأطفال غزة ، شعرت بأن الدنيا والعرب لازالوا بخير.
دخلت أنا و الإنكليز لغرفة في منزله لكي نخلد إلى النوم ، وفعلاً استلقيت واستلقى الإنكليز إلى جانبي ، و بعد فترة من الوقت ، استيقظت على صوت فتح باب الغرفة ، لأن نومي خفيف جداً نظرت وأنا في السرير، وإذا بيعرب يقترب من بنطال أحد الإنكليز ، بقيت كما أنا ولم أتحرك أبداً، مد يده إلى البنطال وأخذ ما بداخله من عملة ، اقترب من بنطال الآخر ومد يده وأخذ العملة ، اقترب من بنطالي، توقف قليلاً ، ولم يمد يده إليه ، ثم خرج من الغرفة .
بعد أن رأيت ماذا حصل ، بدأت عيوني تدمع لهذا الموقف ، آه وألف آه لم يسرق مني ، شعرت بأن الغرفة ستطبق جدرانها علي من شدة فرحي ، لم يسرق مني لأني عربي مثله ، ولست إنكليزي آه وألفين آه ، إنه دافع الأخوة طغى وسحق دافع حب الذات والسرقة ، والله شعرت بأن شعراء الدنيا لن يستطيعوا أن يعبروا عن مدى الترابط والمحبة بيننا نحن العرب ، كيف طوع هذا الشاب العربي حديد نزواته أمام حسه الوطني ، و رابطة قوميّته ، وتحت أقدام وحدة حالنا ، وتقدير بعضنا لبعض ، و بينما أنا مسترسل بنشوتي و انبساطي ، قطع تفكيري دخوله من جديد ، آه يا ليت الأرض انشقت وبلعتني ، يا ليتني مت ، وكنت نسياً منسيا ، لقد طوعته نزوته أمام حسه الوطني ، تباً للنزوات والدوافع ، ولعلم النفس و فرويد وأرسطو، و تباً لرأس أفلاطون وكل الدماغ البشري ، لقد أجبر دافع السرقة هذا الشاب الكريم أن يدخل ويمد يده إلى بنطالي ، ويقطع أواصر الأخوة ، ويغتال القضية ، آه وألف آه تباً لك يا دنيا .
وبينما هو يمد يده إلى البنطال ليسحب ما بداخله من أموال ، أطلق الإنكليزي ريحاً صوتها كصوت الرعد دوت في الغرفة كانفجار، هرع يعرب إلى الخارج وأغلق خلفه الباب .
تحمدت الله على ما حصل ، على الأقل الإنكليز لم يشعروا بشيء ، و يعرب لم يستطع أخذ المال مني ، فقررت أن أضع في محافظهم المال حتى لا يدركوا ما حصل .
ولكن هيهات .... فبعد خروجه بدأ الإنكليز يتحدثون بصوت منخفض جداً ، ويتوشون فيما بينهم على أنه مجرم وسارق ، وأخذا بالبكاء .
الإنكليزي من شدة خوفه أطلق ريحاً ، والأخر أصابته نوبة هستيريا .
اقتربت منهما أحاول أن أهدئهما ، و لكنهما صارا يبكيان بطريقة غريبة من شدة الخوف ، وأنا أبكي من تضارب أحاسيسي و اضطراب شعوري .
طمأنت الإنكليز بأننا سوف نخرج صباحاً دون علمه ، وبررت بأنه شاب ومراهق ، ويمكن أن يكون محتاجاً ، حتى لا يشتكوا عليه إلى السلطات .
وفعلاً بقينا مستيقظين حتى بزوغ الفجر، خرجنا عندما تأكدنا من نوم يعرب ، وبدأنا نمشي في شوارع المدينة النائمة في أحضان الهدوء ، والتي تؤذن بولادة أمل جديد لأطفال غزة .
وقفت في وسط ساحة فارغة في المدينة لأعبر عن غضبي ، وصحت بأعلى صوت :
- يا دنيا تباً لك كم أنت مذلة ومتعبة وظالمة .
فلم أشعر إلا وبعصا تضرب مؤخرتي وظهري ، نظرت إلى الخلف وإذا بعامل تنظيف الشارع يشتمني ويهجم علي ، و الإنكليز يضحكون من العجوز الذي يضربني .
قلت له : - ما بك يا خالي ، ماذا فعلت كي تضربني ؟
فقال لي : - خلخل الله رقبتك يا نجس ، ألا تستحي يا وقح ، في كل صباح تأتي وتنده لدنيا ابنة أبو سامر؟؟ .....ابتعد عنها يا ضال ، يا ابن الشارع ، جعلتها علكة بأفواه أبناء الحي ، هات أعطني ثمن فطور قبل أن أنده لأخوتها ويقتلوك ...هات يا وقح .
ضحكت كثيراً ، أعطيته بعض المال واعتذرت منه لقلة أدبي .
ضحك وقال لي : - عادي جداً يا ولدي فعندما كنت بسنك كنت زير نساء حقيقي ولم تفلت لا دنيا ولا عليا من شر رومانسيتي .
أعجبني كلامه جداً ، فتجرأت و سألته بأدب عن سبب طلبه للمال ، فلم سؤال الناس إذا كان يعمل؟
فأجابني بأنه موظف حر... أي أنه يعمل لحساب نفسه ، فيلم ما بداخل النفايات من أشياء مفيدة ليبيعها ويجني منها بعض المال .
أحزنني حديثه جداً ، أخرج ورقة سيجارة من علبة التبغ العربي التي بحوزته ، وبدأ يلف سيجارة طلبت منه أن يلف لي سيجارة فأعطاني ، اقترب الإنكليز وهم يبتسمون ، وطلبوا مني أن يلف لهم سيجارة ، فقام الرجل بلف سيجارة أخرى ، وعندما سحب الإنكليزي السحبة الأولى سألني بتعجب إذا كان بداخلها ممنوعات ، فأخبرته بأنه تبغ عربي ثقيل لا أكثر ، وطلبت منه أن لا يدخنها بسرعة ، تابعت حديثي مع العجوز تشكرته على التبغ ، فسألني عن الشابين اللذين بصحبتي ، فأخبرته بقصتنا .
كان يكره الإنكليز كثيراً ، ويقول لي :
- لا تتوقع منهم خيراً يا فتى ، هم من سرقوا أرضنا .
ثم لف لهم سيجارة أخرى ، كانت ثخينةً جداً ، أعطاهم إياها ، و عاد يحدثني ويدلني على شوارع المدينة الرئيسية .
بعد أن رحل نظرت إلى الإنكليز، وإذا بالاثنين منبطحان على الأرض ، يطلبان النجدة بصمت أدمعت عيناي لهذا المنظر، وأحسست بحقد العجوز على الإنكليز لأنهم سرقوا أرضنا ، ركضت إليهما كانا قد ابتلعا الدخان بسرعة كبيرة لإعجابهما بطعمه ، وأصيبا بدوار شديد ، رششتهما بالماء وأيقظتهما ، وذهبت بهما إلى السوق الذي دلني عليه العجوز.
دخلنا في الصباح إلى مطعم صغير كي نتناول طعام الفطور ، كان مطعماً مشهوراً بصنع الفول والحمص والفتة .
لم أشأ أن أطعم الإنكليز فتة وفول ، لكنهما أصرا على تذوق هذا الطعام الذي تفوح رائحته اللذيذة في أرجاء المطعم ،فرضخت لرغباتهما و طلبت الفول و الحمص و الفتة العربية ، بدأنا الأكل كان الإنكليز يأكلون بنهم شديد ، وجوع شديد ، وإعجاب شديد بطعم الفتة ، اغرورقت عيناي بالدموع وأحسست بالفخر الشديد لهذا المنظر ، وشعرت بتراث العرب وطيبتهم تعود لتتضح أمام الإنكليز كانا يتناولان البصل بكثرة ويشربان المياه بكثرة ، أكلا الطبق الأول ، ثم طلبا مني أن آتي لهما بطبق آخر ، فجلبت طبقاً آخر ، وسألتهما ألا يكثرا من هذه الأكلة ،فهذه أول مرة يتناولانها ، حتى لا يصابا بعارض كعارض الدخان العربي ، الذي أصابهم بالدوار الشديد .
ولكن هيهات فالفتة كالسحر كانت بالنسبة لهم بطعمها اللذيذ ، لكنهم لم يحسبوا حساباً للآخرة فعندما انتهوا ،وغسلوا الأطباق بألسنتهم ، ما هي إلا لحظات قليلة حتى بدأ سحر الفتة والفول ، يخلق جواً أخر
بدأ الاثنان بالركض داخل المطعم ، وأيديهم على بطونهم ، وهم يستغيثون بالآلهة والملائكة والشياطين ، وبكل شفيع في بريطانيا....
بدأ المغص والتفاعلات الكيمائية تعمل في بطونهم عملها ، ساعة و نصف وهم يركضون ويدخلون المرحاض ويخرجون ، ولكن عبثاً فكلمة الآه تصدح في المطعم كعواء الذئاب ، وأخيراً بعد أن شربوا النعناع ، استطاعوا أن يفرغوا ما أكلوه ، و ارتاحوا قليلاً .
دخلت أنا أيضاً إلى المرحاض ، وقلت في نفسي وفي البلوعة ، يا دنيا تباً لك و للإنكليز وللفتة.
خرجت وذهبت بهم حتى نجمع المساعدات ، بدأنا بدخول الصيدليات ، نحكي لهم لماذا نحن هنا دخلنا إلى أول صيدلية ، وبعد أن قصصنا على الصيدلي مشروعنا ، بكى قليلاً وبكيت معه وبكى الإنكليز ، وبعد انتهائه من البكاء بدأ يختبر الإنكليزية خاصته
وبدأ يرينا مهاراته في اللغة بكافة فروعها ، حتى بالشتائم ، فكان إذا دخل إليه أحد يعطيه الدواء ويشتم أمه بالإنكليزية ، فيضحك الإنكليز ويضحك هو ، وبعد أن انتهى من التسلية ، نظر إلينا نظرة صادقة حزينة ، ثم اعتذر لنا بكل أسف و حسرة ، عن تقديم المساعدة ، وقال لنا بأنه ليس الصيدلي وبأنه متدرب عنده فقط .
ذهبنا نجرجر أذيال الخيبة و ربما الغضب إلى غيره من الصيادلة ، منهم من أعطانا بعض أدوية الفيتامينات ، ومنهم من وهبنا حبوب للصداع ، وأحد الصيادلة أعطانا حبوب منع حمل منتهية الصلاحية ، ولكن طبعاً لم أخبر الإنكليز بذلك ، اكتفيت بذرف القليل من الدموع .
بعض الصيادلة حاول أن يجد عمل في بريطانيا عن طريق الإنكليز الذين يرافقوني ، كنا ندخل إلى الصيدلية كي نأخذ دواء لأطفال غزة ، فنجلس لنناقش الصيدلي بلغته الإنكليزية ، كانوا يهدونا الابتسامات ، وكان الإنكليز يتصورون بجانب الصيادلة المحترمين ، و يتبادلون البريد الإلكتروني خاصتهم .
ولكن للأمانة لم ندخل إلا إلى قلة قليلة من الصيدليات ، أعتقد بأنهم فقط هؤلاء الذين لا يملكون الحس الوطني ، حتى لا يتحسس الصيادلة في وطني العربي الغالي .
بعد أن انتهيت من الصيادلة ، وأحسست بأني لن أستطيع أخذ دواء كافٍ ،
قلت لنفسي :
- يا دنيا تباً لك وللبانادول .
ذهبنا أنا والإنكليز نمنا في الفندق ، طبعاً الجدير بالذكر بأن الإنكليز أضربوا عن أكل الطعام العربي ، ولم يتناولوا سوى المياه ، حاولت بشتى الطرق أن أقنعهم بتناول طعام أجنبي غربي ، ولكن أبوا و رفضوا رفضاً قاطعاً ، عبثاً ما كنت أحاول .
ذهبنا كي نجمع المساعدات من الأهالي ، حتى نعجل في الذهاب إلى غزة بأي شيء مفيد ، وقلت نعود مرة أخرى إلى الوطن العربي .
لكن حتى الإنكليز صاروا يتململون ويطلبون مني العودة إلى بريطانيا ، والتخطيط لحملة منظمة أكثر من هذه بإشراف الأمم المتحدة .
خرجنا منذ الصباح الباكر كي ندق الأبواب ونشرح لهم كيفية المساعدة ، طرقت الباب الأول عرفت بنفسي وقلت أننا نجمع التبرعات إلى أهالي غزة المحاصرة ، وبأن معنا تصريح من وكالات عالمية للدخول إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة ، و بإمكان الشخص المتبرع إرسال ما يريد .
طبعاً الرجل أدخلني ، ورحب بي و بالإنكليز كثيراً ، جلسنا في غرفة الاستقبال ، و استأذن منا كي يحضر القهوة ، كان رجلاً بالستين من عمره يبدو عليه ملامح التوتر ، مع العلم أنه استقبلنا بحفاوة كبيرة .
وفجأة لم نشعر إلا ورجال الشرطة فوق رؤوسنا من كل ناحية ، والبندقيات في عشرة مواضع من جسم كل شخص منا .
أنا كنت أعيش حالة خوف عارم ، تعصف بركبتي وبجسمي كله ، والإنكليز أحدهم بال ببنطاله وأغمي عليه ، والثاني بدأ يتوسل للشرطة ، ويقول لهم بأنه مسالم ، ويريد أن يفتح لهم حقيبة ظهره كي يريهم بأنه لا يملك شيئاً.
ولكن هيهات فالصفع كان سيد الموقف ، وضعوا حقيبة ظهره برأسه ، وبعد نصف ساعة من الرعب القاتل أتى ضابط برتبة عالية ، سألني عن سبب مجيئي إلى هنا ،
أخبرته بحكايتي و أنا أتلعثم ، وأريته جواز سفري وتصريحي بالدخول إلى الوطن العربي ، فأمر الشرطة بإنزال البنادق عن أجسادنا ، اعتذر مني ومن الإنكليز ، وأخبرنا بأن هناك مطلوبين أجانب يشترون أعضاء بشرية ، وبأن هناك سوء تفاهم حصل .
ذهبت إلى لإنكليزي الذي أغمي عليه ، أيقظته و هدأت من روعه ، وبينت لهم ما حصل و بأنه أمر طبيعي ، و حق مشروع ، فالأمر برمته متعلق بأسباب أمنية خطيرة .
ذهبت بهم إلى الأسواق الشعبية كي أنسيهم ما حصل ، مشينا بالشوارع ، كان الباعة يعطون الإنكليز البندق والحلويات ، ونسي الإنكليز الإضراب عن الطعام ، بعد أن أخبرتهم بأنها أشياء خفيفة لا تضر بالصحة .
دفعت كثيراً من المال ثمن الأشياء البسيطة التي كان الإنكليز يتناولونها ، والشخص الذي لا ندفع له مباشرة ، كان يصفع الإنكليزي الذي تناول الشيء ، فكنت أسارع و أخبر الإنكليز بأنها من الفلكلور وبأنه نوع من الترحيب ، و من شعارات المحبة ، فكان الأخير يبتسم ويضحك ويتصور بجانب الباعة وبجانب الشخص الذي يلطمه ، احمرت رقاب الإنكليز من كثرة الصفع ، الإنكليز أصبحوا كالملطشة ، الكل يأتي ويصفعهم ، حتى الأطفال في السوق ، وأراد أحد التجار أن يشجع البيع في دكانه على حساب الإنكليز ، فأخذ يصيح :
- اللطمة على الرقبة مع كل كيلو حلو شرقي .
فتنهدت و قلت في داخلي : - تباً لك يا دنيا فليلطم الإنكليز قليلاً ، وأعطي المال الذي أملكه لأطفال غزة بدل أن أدفعه للذين يضيفون الإنكليز الحلويات والمكسرات .
اغرورقت عيناي بالدموع ، لم يلطمني أحد ولم يضيفني أحد ، خفت على الإنكليز من الأذى فأخذتهم لنكمل رحلة التبرعات ، طرقنا أحد الأبواب فطردنا ظناً منه أننا باعة متجولون ، وآخر
اعتقد أننا متسولون .
لكن و أخيراً بدأت رحلتنا تأتي بثمارها _ و أي ثمار _ فقد تحدثنا إلى أحد الأسر ، فبكوا وأعطونا أغطية مستعملة والكثير من الجوارب ، وأيضاً أسرة ثانية أعطتنا جوارب كثيرة وعلبة مشمش، دخلنا بأحياء أخرى و أخرى ، الكل كان يعطينا الجوارب .
صرت أعود إلى الفندق ، أضع ما تبرع به الناس من جوارب و أمور أخرى داخل الغرفة وأعود .
لم أكن أستطيع أن أقول لهم لا نريد هذه الكمية من الجوارب ، والكل كان يرسلنا إلى أقارب له كي نأخذ من عندهم أشياء لأهالي غزة ، كان يرسلون معنا أحد أبنائهم ، فيعرف الناس بنا ويقول أعطوهم ما تملكون زائد عن حاجتكم ، فيدخلون ويأتون بأكياس مليئة بالجوارب ، وبعضهم يعطيني خبزاً وأكل مطبوخ قديم ، لم أكن أستطيع أن أقول لهم لا......
كان باستطاعتي البكاء فقط ، وكانوا هم يبكون أيضاً ، والإنكليز يبكون ويتصورن مع الأهالي
بعضهم كان يطلب مني أن أعطي أبنائهم بعض الدروس في الإنكليزية ، وحين أعتذر يأخذون مني الجوارب .....
وصل عدد أكياس الجوارب لدرجة من المستحيل أن تحملهم شاحنة كبيرة ، ونصف شاحنة خبز يابس قليلاً ، ومشمش مفعوس قليلاً ولكنه صالح للأكل ، والكثير الكثير من الزيتون ، آه كم تبرع الناس بالزيتون.....
ذهبت والإنكليز إلى قريبة أمي ، كانت أرملة طيبة جداً ، في الخمسين من عمرها ، أعطيتها المال الذي أرسلته أمي لها ، وعرفتها بنفسي وبالإنكليز، أتت لي بالقليل من الجوارب ، وطلبت مني أن أشطف لها درج البناء لأنها لا تقوى على شطفه ، ولم تأتي شطافة الدرج منذ أسبوع ، شطفت أنا والإنكليز الدرج ثم رحلنا إلى الفندق .
لم أستطع النوم وإياهم في الغرفة لكثرة الجوارب فيها ، وقعت في حيرة من أمري ، ماذا أفعل؟ أأذهب إلى غزة برفقة الإنكليز والجوارب ؟؟ أم أذهب لأكمل مسيرة التبرعات ؟
قلت في نفسي إن ذهبت لإكمال مسيرة التبرعات ، فسوف يتعفن الطعام الذي أعطونا إياه الناس ، وإن رميته ، فالشباب الذين حلفوا الأيمان بأنهم لن يدعونا حتى نكمل مسيرة التبرع ، سوف يحزنون من فعلي هذا....
وبينما أنا أفكر ، وأبرر للإنكليز سبب كثرة الجوارب في البلاد ، أتى صاحب الفندق
وطلب مني إخراج الجوارب من الغرفة بسرعة ، بسبب شكوى نزلاء الفندق ، وإخراج الطعام الذي تعفن وأصبحت رائحته نتنة جداً ، و جعلت من جو الفندق مزعجاً للنزلاء الأكابر على حد قوله.
لم أستطع إخراج الكم الهائل من التبرعات لوحدي أنا والإنكليز، فاستأجرت عدداً من العمال لنقل الجوارب إلى خارج الفندق .
وأخيراً أخذت قراري ، و طلبت من الإنكليز أن يجهزوا أنفسهم للرحيل ، ولكن إلى بريطانيا وليس إلى غزة.....
فرح الإنكليز بقراري أيما فرح ، ووضبوا حقائبهم بلمح البصر ، وأوقفوا تاكسي ، وقالوا لصاحب التاكسي بالعربية أن يذهب إلى المطار.
تفاجأت من تعلمهم بعض الكلمات العربية ، جلست في الخلف بعد أن جلس أحد الإنكليز إلى جانب السائق و أخذ يرجوه أن يسرع - بالعربية - وبدأ الثاني يهدئ من روعي ، ويقول لي بعطف شديد لا تزعل حبيبي ، و قام بمسح دموعي بجورب كان قد نسيه في جيبه ، فاغرورقت عيناي بالدموع ، لكلمته الجميلة ولتعلمهم اللغة العربية، وكسبهم بعض الخصال العربية ، و الحنان العربي الفريد من نوعه .
كانوا متحمسين جداً للرجوع إلى بريطانيا ، وكأنهم بشروا بالجنة ، و أنا كنت أفكر بيني و بين نفسي بكل ما حصل و أسترجع كل ما حدث.........
أخرجت رأسي من نافذة التاكسي ، وقلت بصوت عالٍ ،عالٍ جداً :
- يا دنيا تباً لك ......... وللجوارب العربية





#اكرم_المعراوي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295


المزيد.....




- مقدّمة في فلسفة البلاغة عند العرب
- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي


المزيد.....

- فوقوا بقى .. الخرافات بالهبل والعبيط / سامى لبيب
- وَيُسَمُّوْنَهَا «كورُونا»، وَيُسَمُّوْنَهُ «كورُونا» (3-4) ... / غياث المرزوق
- التقنية والحداثة من منظور مدرسة فرانكفو رت / محمد فشفاشي
- سَلَامُ ليَـــــالِيك / مزوار محمد سعيد
- سور الأزبكية : مقامة أدبية / ماجد هاشم كيلاني
- مقامات الكيلاني / ماجد هاشم كيلاني
- االمجد للأرانب : إشارات الإغراء بالثقافة العربية والإرهاب / سامي عبدالعال
- تخاريف / أيمن زهري
- البنطلون لأ / خالد ابوعليو
- مشاركة المرأة العراقية في سوق العمل / نبيل جعفر عبد الرضا و مروة عبد الرحيم


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - كتابات ساخرة - اكرم المعراوي - جوارب عربية