خالد إسماعيل
الحوار المتمدن-العدد: 3564 - 2011 / 12 / 2 - 15:44
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في مصر والسودان
الصعيد هو اقدم ارض سكنها الانسان فى مصر ، تشهد بذلك الآثار الدالة على حضارة " نقادة " و حضارة " البدارى " ، و هما حضارتان سبقتا حضارة " الفراعنة " ،... و " الثورة " - بمعنى التغيير الجذرى للعلاقات السائدة - عرفها " الصعيد " منذ آلاف السنوات ، و طوال عصورالحكم الرومانى و الاسلامى ، كانت تتفجر الثورات و يتم قمعها ، و لكن هناك " انتفاضات" و قعت فى عصر " محمد على " و اولاده ، كانت من روافد الثورة العرابية ، من اشهرها : انتفاضة " بدو " الفيوم و المنيا ، و انتفاضة " البدارى " بقيادة الشيخ احمد الطيب ، و كلتاهما وقعت فى عهد الخديو سعيد و الخديو إسماعيل ، و يضاف اليها انتفاضات " الفلاحين " الرافضين اسلوب جمع الضرائب الذى قرره – اسماعيل – لحل أزمة الديون ، ثم جائت الثورة العرابية ، و شارك فيها اهل الصعيد بالمال و القتال ، و التاريخ يحفظ اسماء " العائلات " التى اضطهدت ، عقب دخول الانجليز مصر ، و فشل الثورة العرابية ... ، و كان جيش عرابى قد ضم حوالى 15 الف مقاتل من فرسان " البدو " المنتمين لمحافظات الصعيد و الشرقية.
و فى ثورة 1919 كان الوفد المصرى الذى تشكل بزعامة سعد زغلول يضم اربعة من اعيان الصعيد هم : محمد محمود باشا و حمد الباسل و ويصا واصف و فخرى عبد النور ، وهؤلاء الاعيان ثمرة لإجراءات قام بها " محمد على" و "سعيد" و " اسماعيل " و تمثلت فى تمليك الأراضى الزراعية لعدد من شيوخ القبائل و الموظفين الذين التحقوا بديوان الحكم او قدموا خدمات لهم ، فتمت مكافأة عدد منهم فشكلوا " الارستقراطية " الزراعية فى الصعيد .
يضاف الى هذه الطبقة ، طبقة او شريحة أخرى تبقت من الحكم العثمانى و كانت تقوم بدور " الحكومة المحلية " و من رموزها : قبيلة " هوارة " التى وفدت الى " مصر " فى زمن يسبق زمن " المماليك " ، و قبيلة " الأشراف " و هم أبناء قريش " آل البيت النبوى " و " الأقباط " الذين عملوا فى الدواوين الحكومية فى وظائف مسح الأراضى و إمساك الدفاتر و الإحصاء ، و هذا الدور يقوم به " الأقباط " منذ الفتح الإسلامى لمصر ، و ادى هذا الدور الى تركز " الثروة " لدى قطاعات واسعة من الأقباط فى " اسيوط " و " قنا " و " سوهاج " و " المنيا " ...
و عندما فكر الخديو إسماعيل فى تشكيل مجلس شورى القوانين ، و هو مجلس نيابى " شكلى " لم له دور تشريعى ، اختار من هذه العائلات افرادا ، و منذ ذلك التاريخ لم تترك " السلطة " التشريعية و التنفيذية و الجيش ، و تحولت هذه " الارستقراطية " الى نواة للبرجوازية المصرية ، بعدما اضافت الى نشاطها التجارة و سكنت المدن و ارسلت أولادها للدراسة فى جامعات اوروبا .
و لعل المهتمين بالسياسة يتذكرون أسماء هذه العائلات التى مازالت تمارس دورها على الساحة مثل : آل محفوظ " منفلوط " ، آل حمادى " سوهاج " ، آل الشريف " سوهاج " ، آل الشريعى " المنيا " ، آل لملوم " المنيا " ، آل الباسل " الفيوم " ، آل عبد النور " سوهاج " ، آل سلطان ( أسرة هدى شعراوى ) و مقرها المنيا ، آل رفاعة الطهطاوى " سوهاج " ، آل دكرورى " المنيا " ، آل حزين " قنا " ، آل الدربى " قنا " .
و جاءت حكومات " الوفد " و " الأحرار الدستوريون " - الحزبان الكبيران فى زمن ثورة 1919 - من بين أفراد هذه العائلات ، و هى ذاتها التى تقاسمت فيما بينها مناصب الجيش و القضاء و الشرطة .
ثم جاءت ثورة يوليو 1952 ، لتهذب " الملكية " الواقعة تحت سيطرة هذه العائلات ، و تضيف إليها قطاعا جديدا من الموظفين و ضباط الجيش ، من اصول " فلاحية " ، و لم تقض على نفوذ هذا الإقطاع ، و ظلت خريطة " البرلمان " تعتمد على هذه العائلات بنسبة كبيرة حتى عصر مبارك !
لكن هناك عدة متغيرات طرأت على الخريطة الطبقية فى الصعيد منها :
1- تشكل شريحة جديدة من الأغنياء بسبب طفرة " النفط " التى شهدتها دول الخليج و هجرة " الفلاحين " الصعايدة إلى عواصم النفط.
2- إتساع دائرة الطبقة الوسطى بفضل إصلاحات ثورة يوليو التى جعلت " التعليم المجانى " طريقا جديدا للصعود الطبقى و الالتحاق بأجهزة الدولة .
3- اتساع دائرة تجارة " الآثار " – و هى تجارة رائجة فى الصعيد – مما خلق شريحة جديدة من الأغنياء فى محافظات الصعيد جميعها ، برعاية الأجهزة الأمنية الفاسدة فى عصر " مبارك " ، بالإضافة إلى تجارة الأراضى و العقارات و هى تجارة ازدهرت فى عهد مبارك أيضا .
4- نشوء شريحة من " الموظفين " بفضل " بيروقراطية " الدولة الناصرية التى عمدت إلى استيعاب الخريجين من خلال خلق فرص عمل وهمية " البطالة المقنعة " ، و هذه الشريحة استطاع قطاع منها الصعود الطبقى و امتلاك الثروة ، فى ظل توظيف المناصب الإدارية لعمل صفقات " مليونية " فى مجال تجارة و تهريب السلع ، و السمسرة و بيع الأراضى المملوكة للدولة .
5- نشوء طبقة عاملة تقدر أعدادها بالآلاف بفضل مجموعة المصانع التى أنشأتها ثورة يوليو فى مجال صناعة " السكر " و حفظ المنتجات الزراعية و الألمونيوم و الغاز الطبيعى و الرخام و الحجر الجيرى " المحاجر" و هى طبقة عاملة خرجت منها محاولات لتأسيس أحزاب " شيوعية " ، لكنها فشلت بسبب حالة " الجذر الثورى " التى عاشتها مصر خلال الخمسين عاما الماضية ، و لم تحقق هذه هذه " الطبقة العاملة " الضعيفة تغييرا يذكر فى المجتمع الصعيدى ، فظل محملا بالأفكار القديمة المتبقية من زمن " الإقطاع " و جاءت مرحلة بيع " القطاع العام " و إلغاء " الطبقة العاملة " - فى عصر مبارك – لتلقى بظلالها على " العمال " فى مصانع الصعيد ، و لكن هذه الطبقة لم تنته بشكل مطلق رغم ضعف تأثيرها .
الصعيد عرف " ثورة مسلحة " - قام بها أبناء " الفلاحين " الفقراء و العاطلون و قمعها " مبارك " بوحشية ، و هى الثورة التى عرفت بأسم " الحركة الإسلامية المسلحة " ، فهى حركة ذات بعد " طبقى " تحت شعارات سلفية إسلامية ، بسبب غياب الأفكار و المصطلحات الاشتراكية ، و هذا الغياب " موروث " من زمن الحكم الناصرى الذى حل التنظيمات الشيوعية و أودع الشيوعيين السجون و سمح للخطاب " الإسلامى " بالانتشار ، و دعمه من خلال محاولة تقديم تفسير " اشتراكى ناصرى " للإسلام ، و تأسيس إذاعة القرآن الكريم فى العام 1964 و إصدار قانون الأزهر، مما أدى إلى جهل تام بقاموس " الصراع الطبقى " و حرمان الفلاحين الفقراء و العمال من تأسيس الأحزاب المعبرة عن مصالحهم ، فلم يجد هؤلاء الشبان الإسلاميون إطارا ايدولوجيا يعبرون به عن رفضهم للتناقض الطبقى الفاحش غير الإطار الإسلامى المتمثل فى المرويات السلفية الخاصة بالعدل فى الإسلام و دولة " عمر بن الخطاب " و " عمر بن عبد العزيز " و الشريعة الإسلامية التى كفلت " السعادة " للفقراء فى " الآخرة " .
لكن هذه الثورة ، قمعها " مبارك " و أعاد بسببها تقديم نفسه راعيا لمصالح الرأسمالية باعتباره صمام أمان ضد " الإرهاب المسلح " ، و قامت الولايات المتحدة بإعادة تأهيل اجهزة الأمن المباركية و تطوير تسليحها لتستطيع القيام بدور حامى الرأسمالية من " الإرهاب الإسلامى " .
و لم يكن الصعيد منفصلا عن حالة الحراك أو " المد الثورى " الذى بدأت مظاهره فى السنوات العشر الأخيرة ، و تفجرت ثورة " 25 يناير " ، و أجبر مبارك على التنحى ، و كانت مساهمات " الصعيد " فى هذه الثورة موزعة على بقية محافظات " مصر " مثل " السويس " و " الأسكندرية " و " القاهرة " بحكم هجرات الصعايدة الى هذه المحافظات , و كان هناك مواجهات بين الأهالى و الداخلية – أثناء أحداث يناير و فبراير ، فقام أهالى "ببا " – بمحافظة بنى سويف ، بإحراق قسم الشرطة ، و فى مدينة بنى سويف سقط عدد من " الشهداء " ، و " المظاهرات " شملت الصعيد كله فى الأيام التى سبقت تنحى أو خلع مبارك عن السلطة ، و منذ ذلك التاريخ لم يتوقف الصعيد عن الثورة ممثلة فى :
1- إعتصامات متزامنة مع إعتصام يوليو الماضى ، فى عدة مدن منها " أسيوط " و " سوهاج " و " الأقصر " .
2- إضراب عمال مصانع الصعيد كلها ، احتجاجا على وجود قيادات فاسدة داخل هذه المصانع .
3- تشكيل اتحادات و ائتلافات " شبابية منتمية إلى الاتحادات و الإئتلافات المركزية .
4- اشتراك عناصر " نسائية " فى كافة أشكال الغضب و الرفض الثورى ، بل إن ميدان " التحرير " شهد وجود خيام " اعتصام " تمثل كافة محافظات الصعيد و ضمت هذه الخيام الفتيات و الشيوخ و الشبان جاءوا من بلادهم الفقيرة للاشتراك فى الاعتصام .
5- سقوط الشهيد " محمد محسن " – شهيد معركة العباسية – و هو من ابناء محافظة " أسوان " مما يؤكد أن شباب الصعيد من أبناء الفلاحين و العمال و صغار الموظفين انتقلت إليهم " الثورة " باعتبارها الطريق الوحيد لتحقيق العدالة الاجتماعية .
6- تشكل مجموعات شبابية فى " نجع حمادى " لمطاردة فلول الحزب الوطنى و اتخاذ إجراءات و مواقف ثورية لمنع وصولهم إلى البرلمان .
7- اعتصام أهالى مدينة " سوهاج " فى ميدان الثقافة و قيام الشرطة العسكرية بفض الاعتصام بالقوة ، و هو فى الأساس اعتصام سائقى الميكروباصات احتجاجا على نقص البنزين .
8- تواصل الاعتصامات و أشكال الاحتجاج الأخرى – حتى وقت كتابة هذه السطور فى مدن أسيوط و المنيا و أسوان و بنى سويف و الفيوم و الوادى الجديد ، و هذه نقلة نوعية فى درجة وعى " أهالى الصعيد " تعنى أن " الصعايدة " – الكادحين – آمنوا بأن " العمل الجماعى " المنظم هو الطريق الوحيد لتحقيق الحرية و العدالة الجتماعية.
9- انخراط أعداد كبيرة من " العمال " و الحرفيين الصعايدة فى الأحزاب اليسارية التى تمت الدعوة إليها بعد تفجر ثورة 25 يناير و هذه أيضا من آثار " الثورة " على تفكير سكان هذا الإقليم .
و الخلاصة : الصعيد وصلت إليه " الثورة " ، و لكن مازالت هناك أشواط كثيرة يجب قطعها حتى تتحقق درجة التكافؤ بين الفعل الثورى فى محافظات الصعيد و محافظات الشمال.
وإن كانت هناك رواسب ثقافية تتمثل فى الارتباط بالقبيلة و الانحياز للفكر الصوفى و السلفى ، و هذه آثار مريرة لنظام يوليو بكافة حلقاته الذى غيب " الجماهير " عن المشاركة و قمع كافة التحركات الجماهيرية مما جعل هذه " الجماهير " تلجأ إلى أشكال " قديمة " من أشكال التكافل و التكاتف ، فالمعروف أنه إذا غاب " الحزب " و " الدولة " و " المظاهرة " و " الندوة " و الاجتماع ، ازدهرت " القبيلة " و " الطريقة الصوفية " و " الحضرة " و كل أشكال التنظيم السابقة على الشكل الحديث للدولة .
و فى اعتقادى أن الثورة فى الصعيد تواصل تجذرها حتى تحقق أهدافها التى تتلخص فى الشعار المشهور " عيش .. حرية .. عدالة اجتماعية ".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش :
• فى بداية عصر " محمد على " وقعت انتفاضة فلاحين فى منطقة " دروا " بأسوان و انضمت إليها قوات من الجيش " 20 الف جندى " كانوا فى طريقهم للسودان و أطلق الصعايدة على " محمد على " لقب ( ظالم باشا ).
• ثورة الشيخ أحمد الطيب ، كانت أيضا ثورة فلاحين لكن الشيخ " الطيب " أعطاها بعدا دينيا ، و قد انتهت بإصدار الخديو إسماعيل قرارا بوضع مئات الفلاحين على " الخازوق " و نفى البقية المتبقية إلى السودان ، و المنطقة التى شهدت هذه الثورة هى منطقة " قاو " التابعة للبدارى بأسيوط ، و" قاو" " QAU " شهدت حضارة معروفة قبل عصر الأسرات .
• انتفاضة الفلاحين فى طهطا و جهينة " 1795 " كانت جزءا من ثورة كبرى شهدتها مصر ، و قام علماء الأزهر فيها بدور القيادة .
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟