أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - هشام عابد - فكرة الحرب عند ابن خلدون من خلال المقدمة؟















المزيد.....



فكرة الحرب عند ابن خلدون من خلال المقدمة؟


هشام عابد

الحوار المتمدن-العدد: 3550 - 2011 / 11 / 18 - 00:38
المحور: قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
    



تقديم عام
كيف بالإمكان استلال نظرية للحرب أو فكرة ابن خلدون حول الحرب من كتاب كان لبه الأساس هو نظرية العصبية؟
وكيف يمكننا في ضل التأسيس ومن خلال روح المخاض لعلم جديد علم عمران العالم، أن نستخرج من هذا القلق نفسه فكرة الحرب عند صاحبها؟ وكيف يمكننا ذلك في كتاب لم يفرد في صاحبه فصلا أو بابا خاصا بالحرب والمؤسسة العسكرية؟ بل كان حديثه عن الجيش والحرب في الدولة الإسلامية وطبائعها متفرقا في الكتاب. لأن كل شيء مرتبط بـ"العصبية"؛ الجوانب الاقتصادية، السياسية، المجتمع، المال، العلاقات، الملك، العلوم، البدو والتمدن، العسكر والحرب...
أهم ما يلفت انتباه قارء المقدمة هو وجود نظرية ثابتة (البداوة والتوحش، التنعم والرياش، الأفول والتدهور)، تتفرع عنها باقي الخيوط والتفاصيل الأخرى. طبقها ابن خلدون كنظرية عامة في كتابه وقلص بالمقابل هامش الاستثناءات. فكانت مقدمات عامة متخشبة لفت كل الجوانب المختلفة المعالجة في المقدمة في بوثقة واحدة فكانت النتائج جامدة مرتبطة بالمقدمات... فلم تترك لابن خلدون فرصة التحليل الحر والمتحرر والمنفتح حسب الحالات والظرفيات...
بوثقة العصبية ودائرية خط تاريخ الدول الثلاثية والرباعية الأجيال. كانت بمثابة قوالب سجنت نص المقدمة وبالتالي النظرية الخلدونية في العمران وعلى العمران وحصرت آفاقه. إن ترتيب الكتاب وتراتبية أبوابه، ترتيب دائري وحتمي أيضا كعديد من نقاط الكتاب المعالجة (من العام إلى الخاص) (من البداوة إلى الترف والحضارة) (من الأقدم إلى الأحدث (من الحادث على المحدث) (من الطبيعي إلى المصطنع)...
من هنا نسجل مركزية العصبية في تحليل عمران العرب والعجم والبربر؟ فما ذا كان موقع الجيش والعسكر في لائحة طبائع العمران؟


منهج ومنطق جديد للكتابة التاريخية
نجد ابن خلدون يضحد ومنذ البداية الكثير من الكتابات السابقة أو المنطق السابق أو السائد في الكتابة، والمستوى الذي يهمنا هنا هو الجانب العسكري.
فتمحيص الأخبار بمعرفة طبائع العمران، هو أحسن الوجوه وأوثقها لتمييز صدقها من كذبها وهو سابق على التمحيص بتعديل الرواة، ولا يرجع إلى تعديل الرواة حتى يعلم أن ذلك الخبر في نفسه ممكن أو ممتنع. ص 38
ونجده منذ الصفحات الأولى للكتاب يتحدث عن فضل علم التاريخ ويناقش فيه مغالط المؤرخين وأول ما يبدأ فيه من مغالطهم في المقدمة هو ما يتعلق بالجيوش والعساكر وأعدادها؟
فنجده يؤاخذ المؤرخين السابقين وتوغلهم في العدد، وتجاوزهم لحدود العوائد، ومطاولتهم لوساوس الإغراب، بسبب ولوع النفس بالغرائب، وسهولة التجاوز على اللسان، والغفلة على المتعقب والمنتقد، حتى لا يحاسب على خطأ ولا عمد، ولا يطالبها في الخبر بتوسط ولا عدالة، ولا يرجعها إلى بحث وتفتيش... ص 11 ونجده يبدي استغرابه ومنذ بداية الكتاب من "المسعودي" وغيره من المؤرخين من مقدار تعداد جيوش بني إسرائيل. ص9
وهو أي ابن خلدون يذهل عن تقدير مصر والشام واتساعها لمثل هذا العدد من الجيوش التي ذكرها المسعودي. إذ لكل مملكة من الممالك حصة من الحامية تتسع لها وتقوم بوظائفها وتضيق عما فوقها؛ تشهد بذلك العوائد المعروفة والأحوال المألوفة. ص9-10 ويتساءل كيف يقتتل جيشان كبيرا العدد حيث تضيق ساحة الحرب، وإذا اصطفت فهي بعيدة عن مدى البصر مرتين وثلاثا أو أزيد، فكيف يقتتل الفريقان وتكون الغلبة لأحدهم وشيء من جوانبه لا يشعر بالجانب الآخر والحاضر يشهد بذلك، فالماضي أشبه بالآتي من الماء بالماء. ص 14 كما يضرب مثال الفرس الذي بلغت مملكتهم الأقاصي ومع ذلك لم يكونوا يتوفرون جيوش الفرس مثل العدد المذكور عند المسعودي ولا قريبا منه.ص 105 كما أنه لو بلغت جيوش بني إسرائيل العدد المذكور لفاقت مملكتهم ما كانت عليه.ص 10 ويستبعد الأعداد الهائلة للجيش في عهد سليمان. ص 11... كلها أمثلة أوردها ابن خلدون مستغربا بشيء من المنطق عن لامعقولية أخبار الأولين من المؤرخين عن أمور الجيوش وتعدادها.


تعريف الحرب؟
حينما يحصل الاجتماع للبشر لابد من وازع يدفع بعضهم عن بعض لما في طباعهم الحيوانية من العدوان والظلم. وهذا الوازع يكون لواحد منهم يكون له الغلبة والسلطان واليد القاهرة، حتى لا يصل أحد إلى غيره بعدوان؛ وهذا معنى الملك. وقد تبين لنا بهذا أنه خاصة للإنسان طبيعية ولابد لهم منها، وهو موجود لدى بعض الحيوانات. بمقتضى الفطرة والهداية (النحل والجراد) لا بمقتضى الفكرة والسياسة.ص 45- 46
"في الحروب ومذاهب الأمم في ترتيبها" (هو العنوان المباشر والأبرز في أمور الحرب في "المقدمة"، ص 285) الأمر الذي يعطينا فكرة عن مدى صعوبة استنباط نظرية أو فكرة الحرب لدى ابن خلدون من خلال "المقدمة". يعني هذا أن فكرة الحرب جاءت متضمنة في ثنايا المقدمة كلها وبشكل متفرق، ومن جهة أخرى دليل على ان فكرة الحرب تتداخل مع نظرية العصبية لدى ابن خلدون والذي تتداخل لديه كل الأمور مع الجذر الأصلي: العصبية، والذي تتفرع عنه باقي اللأمور والقضايا.
في تعريفه للحرب يقول ابن خلدون أن "الحرب أمر طبيعي في البشر لا تخلو عنه أمة ولا جيل". وأن الحروب وأنواع المقاتلة لم تزل واقعة في الخليقة منذ برأها الله. وأن الأصل في الحرب إرادة انتقام بعض البشر من بعض، لو يتعصب لكل منها أهل عصبيته، حتى إذا وقع الشنآن في إحدى الطائفتين تطلب الانتقام والأخرى تدافع، رغم توقف الحرب ووقوع التوافق.
إذن الحروب تقوم بسبب الانتقام في الأكثر:
- إما غيرة ومنافسة.
- إما عدوان، وهو أكثر ما يكون من الأمم الوحشية الساكنين في القفر كالعرب والترك والتركمان والأكراد وأشباههم، لأنهم جعلوا أرزاقهم في رماحهم، ومعاشهم فيما بأيدي غيرهم، ومن دافعهم عن متاعه آذنوه بالحرب، ولا بغية لهم فيها وراء ذلك رتبة ولا ملك، وإنما همهم ونصب أعينهم غلب الناس على ما في أيديهم.
- إما غضب لله ولدينه؛ وهو المسمى في الشريعة الجهاد.
- إما غضب للملك وسعي في تمهيده؛ وهو حروب الدول مع الخارجين عليها والممانعين لطاعتها.
فهذه أربعة أصناف الأولان منها حروب بغي وفتنة، والصنفان الأخيران حروب جهاد وعدل. ص 285-286
أما صفة الحروب الواقعة بين الخليقة منذ أول وجودهم على نوعين: ص 286
نوع بالزحف صفوفا، ونوع بالكر والفر.


أنواع الحروب؟
الحرب بالكر والفر:
أما الذي بالكر والفر فهو قتال العرب والبربر من أهل المغرب. وهو قتال ليس فيه من الشدة والأمن من الهزيمة ما في قتال الزحف، إلا أنهم قد يتخذون وراءهم في القتال مصافا ثابتا يلتجئون إليه في الكر والفر، ويقوم لهم مقام قتل الزحف كما نذكره بعد.
فمن مذاهب أهل الكر والفر ضرب المصاف وراء العسكر من الجمادات والحيوانات والعجم فيتخذونها ملجأ للخيالة في كرهم وفرهم، يطلبون به ثبات المقاتلة ليكون أدوم للحرب أقرب إلى الغلب. وقد يفعله أهل الزحف أيضا ليزيدهم ثباتا وشدة. ص 287
- أهل الكر والفر من العرب وأكثر الأمم البدوية الرحالة فيصفون لذلك إبلهم والظهر الذي يحمل ظعائنهم فيكون فئة لهم، ويسمونها المجبوذة...
الحرب بالزحف صفوفا:
قتال الزحف أوثق وأشد من قتال الكر والفكر. ذلك لأن قتال الزحف ترتب فيه الصفوف كما تسوي القداح أو صفوف الصلاة، ويمشون بصفوفهم إلى العدو قدما، فلذلك تكون أثبت عند المصارع وأصدق في القتال وأرهب للعدو؛ لأنه كالحائط الممتد والقصر المشيد، لا يطمع في إزالته...
من الأمم التي كانت تحارب بالصف هناك:
- الفرس أهل الزحف يتخذون الفيلة في الحروب ويحملون عليها أبراجا من الخشب أمثال الصروح، مشحونة بالمقاتلة والسلاح والرايات. ويصفونها وراءهم في الحروب في حومة الحرب كأنها حصون، فتقوى بذلك نفوسهم ويزداد وثوقهم.
- الروم والقوط بالأندلس وأكثر العجم، فكانوا يتخذون لذلك الأسرة ينصبون للملك سريره في حومة الحرب. ص 288
- أما عند العرب فكانت الحرب أول الإسلام كله زحفا. وكان العرب إنما يعرفون الكر والفر. وأول من أبطل الصف في الحروب وصار إلى التعبئة كراديس "مروان بن الحكم" في قتال الضحاك الخارجي والحبيري.
- أما الترك فكان قتالهم لهذا العهد مناضلة بالسهام، وتعبئة الحرب عندهم بالمصاف، وأنهم يقسمون بثلاثة صفوف، يضربون صفا وراء صف، ويترجلون عن خيولهم، ويفرغون سهامهم بين أيديهم ، ثم يناضلون جلوسا، وكل صف رديء الذي أمامه أن يكسبهم العدو، إلى أن يتهيأ النصر لإحدى الطائفتين على الأخرى. وهي تعبئة محكمة غريبة. ص 289


السرعة والعدد في الحروب؟
بالنسبة لابن خلدون فالتثاقل في الحرب أولى من الخفوف، حتى يتبين حال تلك الحرب.
يناقش ابن خلدون مسألة العدد في الجيوش منتقدا كلام"الطرطوشي" في أن الغلب في الحروب يكون لصاحب العدد الأوفر كلام غير صحيح، لأنه مبني على الأسباب الظاهرة. ص 393
إذ يبقى المحدد الأقوى الصحيح والمعتبر في الغلب كما يرى ابن خلدون هو ما يتعلق بالعصبية؛ "أن يكون في أحد الجانبين عصبية واحدة جامعة لكلهم، وفي الجانب الآخر عصائب متعددة؛ لأن العصائب إذا كانت متعددة يقع بينها من التخاذل ما يقع في الوحدان المتفرقين الفاقدين للعصبية. إذ تنزل كل عصابة منهم منزلة الواحد، ويكون الجانب الذي عصابته متعددة لا يقاوم الجانب الذي عصبيته واحدة لأجل ذلك فتفهمه".


البخت والاتفاق؟
يرى ابن خلدون أن لا وثوق في الحرب في الظفر وإن حصلت أسبابه في العدة والعديد. وإنما الظفر في الحرب والغلب فيها من قبيل البخت والاتفاق. ص 292
وأسباب الغلب منها: أمور ظاهرة وأمور خفية:
الأمور الظاهرة؛ الجيوش، ووفورها وكمال أسلحتها واستبعادها وكثرة الشجعان، وترتيب المصاف، ومنه صدق القتال وما جرى مجرى ذلك.
أمور خفية؛ إما من خدع البشر وحيلهم في الإرجاف والتشانيع التي يقع بها التخذيل وفي التقدم إلى الأماكن المرتفعة ليكون الحرب من أعلى فيتوهم المنخفض لذلك، وفي الكمون في الغياض ومطمئن الأرض والتواري بالكذب عن العدو حتى يتداولهم العسكر دفعة، وقد تورطوا، فيلتفتون إلى النجاة، وأمثال ذلك. وإما أن تكون تلك الأسباب الخفية أمورا سماوية لا قدرة للبشر على اكتسابها تلقي في القلوب، فيستولي الرهب عليهم لأجلها فتختل مراكزهم فتقع الهزيمة.
وحسب ابن خلدون، فإن أكثر ما تقع الهزائم عن هذه الأسباب الخفية لكثرة ما يعتمل لكل واحد من الفريقين فيها حرصا على الغلب، فلابد من وقوع التأثير في ذلك لأحدهما ضرورة، ولذلك قال "ص": (الحرب خدعة). فقد تبين يقول ابن خلدون " أن وقوع الغلب في الحروب غالبا أسباب خفية غير ظاهرة، ووقوع الأشياء عن الأسباب الخفية هو معنى البخت كما تقرر في موضعه". وأن هذه "الأسباب الخفية أمور سماوية خارجة عن إرادة البشر". ص 292
مثال رائع يعرضه علينا ابن خلدون ليشرح لنا مسألة البخت والاتفاق، يقول" كثير من تجاوزت عنه الشهرة وهو أحق به وأهلها. والسبب في ذلك أن الشهرة والصيت إنما هما بالأخبار، والأخبار يدخلها الذهول عن المقاصد عن التناقل، ويدخلها التعصب والتشيع، ويدخلها الأوهام، ويدخلها الجهل بمطابقة الحكايات للأحوال... ويدخلها التقرب لأصحاب التجلة والمراتب الدنيوية بالثناء والمدح وتحسين الأحوال وإشاعة الذكر بذلك... وأين مطابقة الحق مع كل هذه كلها؟ فتختل الشهرة عن أسباب خفية من هذه، وتكون غير مطابقة، وكل ما حصل بسبب خفي فهو الذي يعبر عنه بالبخت كما تقرر".


الحرب والعصبية؟
كيف نستطيع استلال نظرية للحرب من كتاب عصبه المركزي يدور حول مركزية العصبية في تحليل عمران العرب والعجم والبربر؟ كيف نستطيع فصل المقال في ما بين المؤسسة العسكرية ونظرية العصبية الخلدونية من اتصال؟ وماذا لو كان ابن خلدون قد تعاطى مع المجتمع وعلم العمران بدون أن يكون عصب التحليل والنظرية الخلدونية والتحليل الخلدوني والاجتماعي هو "العصبية" هو عنصر "لبداوة" و"القبيلة". وعنصر أن الانتقال إلى التنعم والرياش والرفاه ليس بالضرورة شيئا متلفا لجوهر الدول وجوهر الحضارة... بل أشياء أخرى؟
لماذا جعل ابن خلدون من أخلاق البدوي وأخلاق البادية معيارا للشرف والعصبية والقوة ومن البادية معيارا لحسن الجسم والخلق والقوة والغلبة والشرف...
فقيمة العصبية عند ابن خلدون تأتي انطلاقا من أنه بها تكون المدافعة والمقاومة والحماية والمطالبة، وأن من فقدها عجز عن جميع ذلك كله. إنها عصب الحياة المانع للمذلة للقبيل المغارم والضرائب والإهانة والضيم والذل من طرف الغير... ص 150. فالقوة والملك مرتبط بالتوحش والقفر نتعرف على ذلك من خلال عناوين مثل "في أنه إذا كانت الأمة وحشية كان ملكها أوسع". ص 153، و"الملك منتقل من عصبية إلى أخرى". ص 154... ما معناه أن اتساع الملك مرتبط بمدى التوحش وقوة العصبية وتماسكها.
لقد ارتبطت "المؤسسة العسكرية" بالعصب والعصبية كدولة مضر في تاريخ الإسلام. ولما أفلت دولتهم تفرقت إلى؛ ترك بالمشرق، وبربر بالمغرب، والفرنجة بالشمال. ص 29
حتى أنه على سبيل المثال فيما يخص القضاة في العهد الأول للإسلام فقد كانوا ذوو عصبية ومنعة وجاه وكانوا يقودون الجيوش ويترأسون الحروب. ارتباط الوظيفة و قيادة الجيوش بقوة العصبية.
فالعصبية تعني التغلب.. فأصناف التغلب مرتبطة بالعصبية. ص 36. وأصناف التغلبات أيضا تدخل في إطار الاجتماع الإنساني الذي هو عمران العالم.


الحرب بين البداوة والتمدن؟
ماذا يقول إبن خلدون اليوم إذا قلنا أن الإنسان في دولة الرفاه والتنعم والخصب هو من يتحكم في ساكنة الجبال والأدغال والصحاري؟ ماذا يفيد معيار التوحش والشجاعة والبأس أمام قوة العقل والتكنولوجيا والأسلحة الفتاكة التي يمتلكها الرجل الرافل والمنغمس في نعيم الدنيا؟(أفغانستان وأمريكا نموذجا).
هذا ما ناقشه ابن خلدون بشكل مبكر من تاريخ العالم في دراسته لجدلية المؤسسة العسكرية والحرب في علاقتها بالبداوة والحضارة؟
فلنرى رأيه في الأمر؟
فيما يتعلق بالبدو وأهل البادية عند ابن خلدون هم الأصل والبدء لكل دولة قوية مهابة الجانب ومستمرة الصولة والوجود... كما أن "أجيال البدو والحضر طبيعية لابد منها". (عنوان ص130) وأن "جيل العرب في الخلقة طبيعي".(عنوان ص 130) و"البادية أصل العمران".(عنوان ص 131) والبدو أهل عصبية.(عنوان ص 136) إنها عناوين واضحة المغزى لا غبار عليها...
إن عنصر البادية والبداوة، ينعكس على المستوى الحربي والأداء العسكري؛ فهم أي البدو "أقرب إلى الشجاعة من أهل الحضر".ص 133 وطرق العيش البدوية تؤدي إلى الشجاعة والتمرس على الحرب والنجدة والقيام بأمور الحياة بينما أهل الحضر استكانوا إلى أسوارهم وحامياتهم ولا يتحركون، قد ألقوا السلاح وتنزلوا منزلة النساء والولدان. ص 134 فـ"البدو لتفردهم عن المجتمع، وتوحشهم في الضواحي، وبعدهم عن الحامية، وانتباذهم عن الأسوار والأبواب قائمون بالمدافعة عن أنفسهم، لا يكيلونها إلى سواهم، ولا يثقون فيها بغيرهم. فهم دائما يحملون السلاح ويلتفتون من كل جانب في الطرق، ويتجافون عن الهجوع إلا فرارا في المجالس وعلى الرحال وفوق الأقتاب. ويتوجسون للنبآت والهيعات، ويتفردون في القفر والبيداء، مدلين ببأسهم، واثقين ببأسهم، واثقين بأنفسهم، قد صار لهم البأس خلقا والشجاعة سجية يرجعون إليها متى دعاهم داع أو استنفرهم صارخ. وأهل الحضر مهما خالطوهم في البادية أو صاحبوهم في السفر عيال عليهم لا يملكون معهم شيئا من أمر أنفسهم".
إن النجدة والقوة العسكرية إذن رهينة بالبداوة. فالبداوة والخشونة: مجد وعصبية وقوة. لذلك فالأمم الوحشية أقدر على التغلب ممن سواها.(عنوان ص 147) وهم يدافعون عن النفس انطلاقا من البداوة والشوكة وأنجادهم وفتيانهم المعروفين بالشجاعة فيهم، وبالعصبية والوقار والتجلة دون احتياج لأسوار ولا إلى من يذود عنهم والحكام والدولة مكبوحون بحكمة القهر والسلطان عن التظالم.ص 136 والبدو ذو العصبية يخشى جانبهم وشدة شوكتهم، إذ نعرة كل أحد على نسبه وعصبيته. وبها يكون التعاضد والتناصر، وتعظم رهبة العدو لهم. ص 137
وهذه الشوكة والعصابة يحتاج إليها في الحرب للثبات، لما يقع من بعد كرة القوم بعضهم على بعض عند الجولة، وثبات هؤلاء الجدران؛ فلا يضطرون إلى كبير عصابة ولا عدد.
والبدو لا يسكنون الأمصار والمدن؛ فبالنسبة للبدو لا يحتاجون إلى أمصار أو أسوار لأنهم يدافعون عن أنفسهم بل هم مبادون بالقتال والسطو. وهم أهل العصبية، البأس والشدة وصفاء العقل والبدن، بناء الدول، الازدهار والتمدن والتحضر، ثم الترف والفساد... لذلك فالأمصار والمدن قليلة بـ "المغارب" لأنهم أهل بدو وأنساب. ص 381
ويمكننا أن ننهي الحديث بهذه الجملة، يقول ابن خلدون "في البداوة تعاون على المعاش، وفي التحضر بحث عن التأنق والكماليات". ص 129 وشتان ما بين الضروري والحاجي وانعكاساتهما على الروح والجسد.
أما بالنسبة للتمدن وأهل الحضر، فابن خلدون يرى أنه بينما طرق العيش البدوية تؤدي إلى الشجاعة والتمرس على الحرب والنجدة والقيام بأمور الحياة بينما أهل الحضر استكانوا إلى أسوارهم وحامياتهم ولا يتحركون.. قد ألقوا السلاح وتنزلوا منزلة النساء والولدان. ص 134 ويرى أن الإنسان يتدجن ويتلطف بزوال البداوة والتوحش بسبب التنعم والخصب. كما أن الأحكام السلطانية والتعليمية تؤثر في أهل الحواضر في ضعف نفوسهم. فمعاناة أهل الحضر للأحكام مفسدة للبأس فيهم، ذاهبة بالمنعة فيهم. (عنوان ص 134) وأن المدن تدعو للدعة والسكون، ويصير ساكنها عيالا على حاميتها. أما الحضارة فهي غاية العمران ونهاية لعمره و مؤذنة بفساده. ص 396
كما يرى جدلية ارتباط الهرم بالترف والدعة والانفراد بالمجد بالملك، وحتمية فساد الدولة بحتمية وصولها إلى طور الحضارة. إذ الانتقال بالنسبة لابن خلدون حتمي من البداوة والعصبية والنسب إلى الملك والمدن والأمصار والحضارة.
وهو يوضح لنا أسباب هذا الأفول وذاك الاضمحلال حين يشرح لنا أن الحضارة مرتبطة بضياع الأنساب، حيث يكون مركز الحضارة ولبها هو صناعة وبناء ومعمار ومدنا وليس تركيزا على العصبية والأنساب التي تضيع في غمرة البحبوحة والرغد ولا يلتفت إليها. إذن فمع الملك والسلطان هناك ترف وخصب ومجد وفي نفس الوقت بداية فساد وتراجع وكسل واستكانة. فالملك بالنسبة لابن خلدون يؤدي إلى الدعة والسكون، وهو مناف لمظاهر البادية والعصبية حيث التوحش والأنفة والإقدام والشجاعة. ص 177 حيث إذا استحكمت طبيعة الملك من الانفراد بالمجد وحصول الترف والدعة أقيلت الدولة على الهرم. ص 178
نحصل إذن في النهاية على مسار واضح أنه مع الملك؛ يكون هناك إنفراد بالمجد، ترف ودعة، وانتهاء بالهرم. لما رجع الناس إلى الحضارة وخلق الانقياد إلى الأحكام نقصت بذلك سورة البأس فيهم. ص 135 وأنه مع البداوة هناك حفظ للأنساب يؤدي إلى عصبية وقوة، وسكنى البدو تؤدي إلى الشجاعة والأنفة والنجدة. وكلما كانت جذوة العصبية مشتعلة وقوية منذ نشوء الدولة كلما كانت قوية ومستطيلة في العهد والملك. ص 187 ص- 189
لكن المفارقة التي تضل مطروحة هي؛ كيف نجمع بين الحضارة والملك والتمدن والصناعة والرفاه وسلامة النسب والعصبية وعدم الوقوع في الظلم والفساد، مع القوة والباس والشدة في الحروب؟ ومهما بحثنا في فكر ابن خلدون وأمام هذه الجملة التي يفاجئنا بها من قبيل هذا العنوان "في أن العرب إذا تغلبوا على أوطان أسرع إليها الخراب". ص 158 فالخراب مرتبط بوجود العرب..! ولا شك أنه يتحدث هنا عن الأعراب وعن ساكنة البدو من العرب. كما أن الصنائع نفسها والتي هي من دواعي الحضارة بعيدة عن البربر لأنهم أعرق في البدو.
فقط يجب الإشارة إلى أن ابن خلدون يفصل بين العربي البدوي قبل الإسلام والموسوم بالتوحش والفساد والترحال والقسوة والنهب... والعربي المتمدن المسلم الذي يؤمن بالاستقرار والحكم والشرع والحضارة والتمدن.


القلاع والحصون؟
هي مرتبطة لدى ابن خلدون بمجموعة شروط وأسباب؛ فمن أسباب سكنى الأمصار دفع ما يتوقع على الملك من أمر المنازعين والمشاغبين. ص 366 ويفسر ابن خلدون هذه الحاجة قائلا "إذا حصل الملك احتاج صاحب الملك إلى الأمصار لما فيها من تحصن ومنعة وحماية" ص. 366-367 وهي أي الأمصار تقوم مقام العساكر المتعددة لما فيها من الامتناع ونكاية الحرب من وراء الجدران من غير حاجة إلى كثير عدد ولا عظيم شوكة. ص 366-367
لذلك كان عمران إفريقية والمغرب كله أو أكثره بدويا، وأهل خيام وظواعن، وقياطن وكنن الجبال. وكان عمران بلاد العجم كله أو أكثر قرى وأمصارا ورساتيق، من بلاد الأندلس والشام ومصر وعراق العجم و أمثالها. (قارن مع ما جاء في وصف بلاد الفرس والترك الباديةعند ابن بطوطة في رحلته).
وإذا كانت العصبية والأنساب مرتبطة بالحرب والسطو وسكنى البادية وابتعاد عن الحضارة والبناء وسكنى المدن والصنائع. فإنه رغم ذلك فإن البوادي من القبائل والعصائب مغلوبون لأهل الأمصار. ص 161 كما أن حاجة البوادي إلى الأمصار من الضروري وحاجة أهل الأمصار إليهم في الحاجي والكمالي. والملك في الحضر والمدن غالب على العصبية والبوادي. ص 162


موقع الحرب من علم العمران؟
لقد قدم ابن خلدون العمران البدوي على سائر الأمور وهذا له مغزاه. كما قدم المعاش والصنائع على العلوم لأنها سابقة عليها ولأنها طبيعية، والطبيعي أقدم من الكمالي، والعلوم كمالية. إنه يقدم إذن البداوة والمعاش والكسب لطبيعتها وقدمها، فيكون بذلك مقدما للطبيعي وللأقدم على المكتسب والكمالي وهذا كله مرتبط بنظريته حول العصبية ودورها في العمران البشري ونشوء ازدهار وقوة الدول. إنه يجعل من الخام العريق منطلقا للمصنع والحديث المتمدن والمتحكم...
فإذا كانت البداوة والخشونة والعصبية طبيعية فالجندية صناعة واصطناع وعلم. يوضح لنا ابن خلدون ذلك من خلال اقتباساته؛ فنقلا عن المسعودي:"لا عز للملك إلا بالرجال، ولا قوام للرجال إلا بالمال، ولا سبيل إلى المال إلا بالعمارة..." ص 40 ونقلا عن أنو شروان "الملك بالجند، والجند بالمال، والمال بالخراج، والخراج بالعمارة..."، واقتباسا من الكتاب المنسوب لأرسطو في السياسة: "العالم بستان سياجه الدولة، الدولة سلطان تحيا به السنة، السنة سياسة يسوسها الملك، الملك نظام يعضده الجند، الجند أعوان يكفلهم المال، المال رزق تجمعه الرعية، الرعية عبيد يكفلهم العدل، العدل مألوف وبه قوام العالم، العالم بستان... " مسألة الدائرية في حكمية ابن خلدون (الملك، الرجال، المال، الخراج، الرعية، العدل...) ص 41
وكدليل على مدى تشابك وارتباط العسكر والجيش والحرب بنظريته المتمركزة حول العصبية والقبيلة والبداوة، يقول: "وقد قدمت العمران البدوي لأنه سابق على جميعها (..) وكذا تقديم الملك على البلدان والأمصار، وأما تقديم المعاش ضروري وطبيعي وتعلم العلم كمالي أو حاجي، والطبيعي أقدم من الكمالي؛ وجعلت الصنائع مع الكسب لأنها منه ببعض الوجوه ومن حيث العمران..." ص 43
وإذا كانت "الفروسية" تدخل ضمن الأعمال الإنسانية ومن الصنائع تحديدا: كالكتابة والتجارة والخياطة والحياكة. ص 408-409 فـ"الجندية" هي النوع الثالث من الصنائع وهي تحتاج إلى العلم. ص 42


علاقة الطبيعة بقوة البشر أو ضعفهم؟
في تناوله لمسائل المناخ وأمور الخصب والجوع يشير إلى علاقة ذلك بطباع البشر؛ فالفاقدون للحبوب والأدم من أهل القفار أحسن حالا في أجسامهم وأخلاقهم من أهل التلول المنغمسين في العيش: فألوانهم أصفى؛ وأبدانهم أنقى؛ وأشكالهم أتم وأحسن؛ وأخلاقهم أبعد عن الانحراف، وأذهانهم أثقب في المعارف والإدراكات حيث تغطي الرطوبات على الأذهان والأفكار. ص 94-95 لذلك فالمتقشفين في عيشهم تجدهم أحسن حالا في عقولهم وجسومهم. ص 95
ويوجد هذا الفرق حتى على مستوى القيام بأمور الدين "اعلم أن أثر هذا الخصب في البدن وأحواله يظهر حتى في حال الدين والعبادة؛ فنجد المتقشفين من أهل البادية أو الحاضرة ممن يأخذ نفسه والتجافي عن الملاذ أحسن دينا وإقبالا على العبادة من أهل الترف والخصب". فكيف لايكون الأمر كذلك في الحروب والنجدة والشجاعة، حيث أهل البادية أنقى وأقوى في أبدانهم من غيرهم جسما وعقلا.


الجيش المحلي وجيش الموالي والمصطنعين؟
انطلاقا من تركيز ابن خلدون على العصبية كنظرية مركزية في مقدمته فإن أمر الحديث عن جيش "المرتزقة" أو "القوات المساعدة الأجنبية" غير وارد أساسا لأنه يعتبر عيبا ليس بعده عيب للقبيل وللعصبية البدوية المتوحشة التي لا تحتاج لمن يدافع عنها كما يفعل أهل الحضر والمدن الكسالى الواضعين رقابهم في أيادي سلاطينهم وحكامهم المتدارين المختبئين وراء أسوارهم كالنساء والولدان...
يشرح لنا ابن خلدون كيف تنتقل الدولة في أطوارها من الاعتماد على عصبيتها في البداية إلى الاعتماد على الموالي والمصطنعين فيما بعد كالتالي؛ في الطور الأول من الدولة، الملك يستند إلى عصابته يقارع بهم ويقلدهم أعمال مملكته ووزارة دولته، وجباية أمواله وشركاؤه في الأمر، ومساهموه في سائر مهماته. ص 193 وفي الطور الثاني حيث الاستبداد والانفراد بالمجد، صار بعض من أتباعه من عصبيته من أعداءه واحتاج لما في انفراده وتعنته بالحكم إلى من يستظهر بهم على هذه الفئة المنتقدة الرافضة لحكمه بأناس جدد من الموالي والمصطنعين. ص 193-194؛ ويمثل لذلك بدولة بني أمية أو دولة بني العباس.
ويشرح بعدها أحوال الموالي والمصطنعين في الدول. ص 194 محددا أن القدم في الالتحاق بصاحب الدولة أو الحداثة هو المعيار الأول في تصنيف أهمية الموالي. ص 194-195، حيث النسب هو المصدر الأول للعصبية، والولاية والمخالطة بالرق أو بالحلف تتنزل منزلة ذلك، حتى أن النسب وهمي؛ والمعنى الذي كان به الالتحام إنما هو العشرة والمدافعة وطول الممارسة والصحبة بالمربى والرضاع وسائر أحوال الموت والحياة. وإذا حصل الالتحام بذلك جاءت النعرة والتناصر. 195
كذلك الاصطناع، فإنه يحدث بين المصطنع ومن اصطنعه نسبة خاصة من الوصلة تتنزل هذه المنزلة وتؤكد اللحمة.
فإذا كانت الولاية بين القبيل وأوليائهم قبل الملك: فلا يتميز النسب عن الولاية وكانت عروقها أوشج.
وإذا كانت بعد الملك: مرتبة الملك مميزة للسيد عن المولى، ولأهل القرابة عن أهل الولاية والاصطناع لما تقتضيه أحوال الرياسة والملك من تميز الرتب وتفاوتها.
أما الوجه الثاني؛ فإن قدم اللحمة يخفى فتشتد العصبية بذلك، وحداثة اللحمة بين الاصطناع والملك يقرب العهد ويكثر عارفه فتضعف العصبية. "حتى أن الدولة في آخر عمرها تراجع إلى استعمال الأجانب واصطناعهم، ولا يبقى لهم مجد كما بناه المصطنعون قبل الدولة لقرب العهد حينئذ بأوليتهم ومشارفة الدولة على الانقراض، فيكونون منحطين في مهاوي الضعة". ص 195 فيعمد الحكام من الملوك على اصطناع موالي وأتباع جدد لما يعتريه قدم اصطناع الأوائل من قلة الخضوع له وتمييزهم عن قبيله وأهل نسبه، فيحصل لهم بذلك دالة عليهم واعتزاز، فينافرهم بسببها صاحب الدولة. ويعدل عنهم إلى استعمال سواهم؛ فيكون عهد استعمال الجدد واصطناعهم قريبا، فلا يبلغون رتب المجد، ويبقون على حالهم من الخارجية، وهكذا شأن الدول في أواخرها. 196 (نتذكر حال إيطاليا في أواخرها كما وصفها مكيافيلي على هذه الحال).
إذن فحين طروق الخلل للدولة. ينقلب صاحب الدولة إلى قتل عصبته وإهانتهم وسلب نعمهم وهي العصبية الكبرى التي كانت تجمع العصائب الأخرى وتوحدها، فتنحل عروقها وتضعف شكيمتها، وتستبدل عنها بالبطالة من موالي النعمة وصنائع الإحسان ويتخذ منهم عصبية، إلا أنها ليست مثل تلك الشدة الشكيمية لفقدان الرحم والقرابة منها. ص 311 فيحدث في الدولة حين يطرقها الهرم والشيخوخة أن يتخير صاحب الدولة أنصارا وشيعة من غير جلدتهم ممن تعود الخشونة فيتخذهم جندا يكون أصبر على الحرب وأقدر على معاناة الشدائد من الجوع والشظف، ويكون ذلك دواء للدولة من الهرم الذي عساه أن يطرقها... وهذا كما وقع في دولة الترك بالمشرق؛ فإن غالب جندها الموالي من الترك. فتخير ملوكهم من أولئك المماليك المجلوبين إليهم فرسانا وجندا، فيكونون أجرأ على الحرب وأصبر على الشظف من أبناء الملوك كانوا قبلهم وربوا في ماء النعيم والسلطان وظله. وكذلك في ظل دولة الموحدين بإفريقية، فإن صاحبها كثيرا يتخذ أجناده من زناتة العرب ويستكثر منهم، ويترك أهل الدولة المعودين للترف فتستجد الدولة بذلك عمرا آخر سالما من الهرم. ص 179


العرب والحرب؟
كيف يصور ابن خلدون العرب في علاقتهم بالحرب؟
ينتقد ابن خلدون العرب حتى تعتقد أنه يكرههم لكن الانتقاد لتبيان مدى أصالة عصبيتهم وعمق نسبهم وهويتهم، وتحررهم، ونقاوة أصلهم وبأسهم ونجدتهم... فمع ابن خلدون يصبح التوحش والبداوة نقاء وصفاء وبراءة من ذميم الأخلاق وساقط الخصال وبشع الصفات.
فالعصبية لا تقبل غلبة أخرى عليها وبالتالي لا تقبل الذل فيسارع إليها الفناء إذا غلبت. ص 156-157 وهم أهل عيث وانتهاب. ولا يذهبون إلى المزاحفة والمحاربة إلا إذا دفعوا بذلك أنفسهم. أما البسائط فهي نهب لهم وكعمة لأكلهم، يرددون عليها الغارة والنهب والزحف لسهولتها عليهم، إلى أن يصبح أهلها مغلبين لهم. فالعرب لا يتغلبون على البسائط. ص 157
ويتركون كل معقل أو مستصعب إلى ما يسهل عنه، ولا يعرضون له. والقبائل الممتنعة عليهم بأوعار الجبال بمنجاة من عيثهم وفسادهم. لأنهم لا يتسنمون إليهم الهضاب، ولا يركبون الصعاب ولا يحاولون الخطر.
العرب أمة وحشية مرتحلة، خارجة على ربقة الحكم، غير منقادة للسياسة وهي، طبيعة منافية للعمران مناقضة له. ص 158 غالب الأحوال العادية عندهم الرحلة والتغلب وذلك مناقض للسكون الذي به العمران ومناف له. رزقهم في ظلال سيوفهم. يصلحون للحرب وللعصبية لجانب السلطان والملك ولا يصلحون للملك لتعوذ نفوسهم على القفر واستغنائهم عن الخصب لاعتيادهم على شظف العيش وخشونة الحياة فاستغنوا عن غيرهم وصعب في نفس الوقت انقيادهم لبعضهم البعض فلا يحبون الملك ولا يحبون الخضوع لملك. ص 160


العرب والبحر؟
ما نلمسه من مقدمة ابن خلدون أن العرب لا يهمتمون بركوب البحر للتجارة أو للحرب... لأن السفر في البحر بعيد ويحتاج إلى الأزودة والعلوفة للعساكر ؛ ثم إنهم إذا ساروا في غير أعمالهم احتاجوا إلى انتهاب الزرع والنعم وانتهاب البلاد فيما يمرون عليه، ولا يكفي ذلك للأزودة والعلوفة عادة...(الخلاصة صعوبة نقل كفايتهم من المؤونة في غير أعمالهم) فلابد من المرور بأعمال قد ملكوها و دوخوها لتكون الميرة منها. وإن قلنا أن تلك العساكر تمر بهذه الأمم من غير أن تهيجهم فتحصل لهم الميرة لهم بالمسالمة، فذلك أبعد وأشد امتناعا، فدل على أن هذه الأخبار واهية أو موضوعة. ص 13
أما بالنسبة لقيادة الأساطيل، ص 265 وقيادة البحر فهي مرؤوسة لصاحب السيف. وهو يسمى"الملند" عند الإفرنجة.
أما العرب لم يكونوا أهل بحر ومعرفة بأموره. ص 266 ومع معاوية بدء الغزو في البحر، والجهاد في أعواده. كما أن العرب لما ملكوا أمما أخرى استفادوا من خبرة الأعاجم في أمور البحر وصناعته. لكن ذلك ضل دون الاهتمام الكبير.


الحرب بين مأزق العصبية والوازع الديني؟
بين العصبية كنظرية والوازع الديني لدى ابن خلدون يوجد مأزق حاول مؤرخنا من خلال علم العمران تجاوزه وتوضيح ملابساته وفصل المقال فيما بين العصبية والدين من توافق أو اتصال.
إنه مأزق "الشرع والدين" الذي وقف في وجه نظرية "العصبية" لدى ابن خلدون.
فلماذا تؤثر نظرية الشرع والدين في فكر ابن خلدون مقابل مركزية العصبية والقبيلة التي جاء الإسلام أصلا لمحوها لصالح إنسان مسلم بغض النظر عن لونه وعرقه وعصبيته؟
لقد اكتشفنا أن العصبية كما يراها ابن خلدون مجرد "درجة" صغيرة لكن مهمة في سلم أو طريق الحضارة والعمران. إذ "إذا استقرت الدولة وتنهدت قد تستغني عن العصبية".(عنوان ص 164)
فما العلاقة إذن بين العصبية والشرع؟
يقول ابن خلدون كجواب عن هذا السؤال أن العصبية مذمومة بحكم الشرع. ص 214 وأن لجام العصبية هو الدين والخلافة. ص 215 وأن الصبغة الدينية هي التي تمحو ذلك عنهم(عنف العصبية ووحشيتها)، وتجعل الوازع لهم من أنفسهم وتمكن من اجتماعهم تحت سقف الملك والاجتماع.
ولتبيان دور الدين وأهميته في حياة العرب يقول ابن خلدون "حتى أن العرب لم يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية من نبوة أو ولاية أو أثر عظيم من الدين على الجملة". عنوان ص 159. وأن"عمران العرب تم بالدين". حيث منذئذ عظم ملكهم وقوي سلطانهم...
و لا يفرق في أمر امتعاضه بين دول العروبة ودول الأعاجم. ص 315-316 بسبب ترك الدين، والدليل على ذلك يقول ابن خلدون متحدثنا عن دول الإسلام "حتى أن أجيالا منهم نبذوا الدين، فنسوا السياسة، ورجعوا إلى قفرهم، وجهلوا شأن عصبيتهم مع أهل الدولة ببعدهم عن الانقياد وإعطاء النصفة؟ فتوحشوا كما كانوا، لم يبق لهم اسم الملك إلا أنهم من جنس الخلفاء ومن جيلهم. ولما ذهب أمر الخلافة وانمحى رسمها انقطع الأمر جملة من أيديهم، وغلب عليهم العجم دونهم، وأقاموا في بادية قفارهم، لا يعرفون الملك ولا سياسته... لكن بعد عهدهم بالسياسة لما نسوا الدين فرجعوا إلى أصلهم من البداوة. ص 161
إذن فالوازع الديني لما ساد لدى العرب في نفوسهم رتب وهدأ نوازعهم المتوحشة المتضاربة وهذب انقيادهم ورتب اجتماعهم، وذلك بما يتضمنه الدين من الروح المذهبة للغلظة والأنفة ووازع التحاسد والتنافس. إنه تهذيب للتوحش في نفوس العرب. فالدين يهذب النفس ويقلل ميلها للشر. إذ "الشر أقرب الخلال إليه إذا أهمل في مرعى عوائده ولم يهذبه الإقتداء بالدين". ص 136
وحتى حين يتعارض الدين مع أمور العصبية يغلب ابن خلدون الدين على العصبية ويضع له الحظوة والسبق والأحقية. ص 135 فالأحكام السلطانية والتعليمية مفسدة للبأس لأن الوازع فيها أجنبي. بينما الأحكام الشرعية غير مفسدة لأن الوازع فيها ذاتي. ص 136
وما كان يقلق ابن خلدون هو أنه مع تبدل العصبية من أبناء مضر وقريش أي العرب عموما إلى العجم من فرس وأتراك وغيرهم هو تغير عوائد ومراتب الحكم والتي في نظره تبعد عن الدين باختلاف عصبية الحاكمين عن العروبة.
وبالنسبة لـ"مسألة النظام" في المجتمع. فابن خلدون يتحدث عن ضرورة وجود "وازع" حاكم: تارة يكون مستندا إلى شرع منزل من عند الله، يوجب انقيادهم إليه إيمانهم بالثواب والعقاب عليه. وتارة إلى سياسة عقلية يوجب انقيادهم إليها ما يتوقعونه من ثواب ذلك الحاكم بعد معرفته بمصالحهم. والأولى يحصل نفعها في الدنيا والآخرة لعلم الشارع بالمصالح في العاقبة، ولمراعاته نجاة العباد في الآخرة. والثانية إنما يحصل نفعها في الدنيا فقط.
من هنا نرى كيف أجاب ابن خلدون عن إشكالية العلاقة بين العصبية والدين وما يمكن أن يقع بينهما من تشنجات. فتحدث لنا عن التحام الدعوة الدينية بالعصبية ودورهما في نشوء الدولة؛ فبينما كانت العصبية هي البذرة أو الجذوة المشتعلة والتي على كل دولة أن تتوفر عليها في بداياتها، كان الدين هو اللبوس الأخلاقي والسامي لهذا الوجود المتوتر والثائر. وبينما عبرت العصبية عن جانب السيف والقوة والمنعة عبر الدين عن احتضان وحماية تلك المنطلقات العنيفة وأنسنتها وشرعنتها فيكون بذلك سمو الهدف ورفعة الوازع معبرا معقولا وربانيا عن كل ماينتجه الدول والأمم من حروب وتوسعات وتملكات...
لكن ابن خلدون يعود لاقناعنا بضرورة العصبية إلى جانب الأنبياء والصالحين والحكام ومنشئي الدول قائلا "اعلم أن الملك غاية طبيعية للعصبية".213 وهو بذلك مسألة وجودية وليست اختيارا.
ويجيبنا ابن خلدون عن هذا الأمر بعناوين واضحة لا غبار عليها مثل "الدعوة الدينية تزيد الدولة في أصلها قوة على قوة العصبية التي كانت لها من عددها" (عنوان) و"الدعوة الدينية من غير عصبية لا تتم".(عنوان ص 168) و"الدول العامة الاستيلاء العظيمة الملك أصلها الدين إما نبوة أو دعوة حق". (عنوان ص 167) "وهكذا حال الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في دعوتهم إلى الله بالعشائر والعصائب، وهم المؤيدون من الله بالكون كله لو شاء؛ لكنه إنما أجرى الأمور على مستقر العادة، والله حكيم عليهم". ص 169 يشاركه في نفس المنحى تقريبا مكيافيلي في أن "النبي الأعزل دائما مغلوب". ومن تم التأكد من مدى ضرورة العصبية في العصور الوسطى في زمني ابن خلدون ومكيافيلي بعده.
يؤكد ابن خلدون أن الشرائع والديانات وكل أمر يحمل عليه الجمهور فلابد فيه من العصبية، إذ المطالبة لا تتم إلا بها كما قدمناه؛ فالعصبية ضرورية للملة وبوجودها تم أمر الله منها. ويستشهد ابن خلدون من الشرع والدين نفسه على صدقية وعقلانية كلامه يقول؛ وفي الصحيح: "ما بعث الله نبيا إلا في منعة من قومه ". ثم وجدنا الشارع ذم العصبية وندب إلى اطراحها وتركها قال: (إن الله أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء، أنتم بنو آدم وآدم من تراب). نستفيد من هذا أن العصبية مجرد مرحلة مؤقتة ينتقل بعدها إلى الخلافة والحضارة (حتى الملك فهو منبوذ) لما يجلبه من استمتاع بالترف، وإسراف في غير قصد وتنكب عن صراط الله. وحض بالمقابل على الألفة بالدين. حيث إذا استقرت الدولة وتنهدت قد تستغني عن العصبية. ص 164
وفي مسألة تفرق الملك وانقسامه وخروجه من أيدي العرب حيث "افترق العرب وغلب العجم"، ووصفه لغلبة العجم بمصطلحات تدل على عدم اتفاقه وقبوله لهذه الغلبة المتفرقة والأعجمية في نفس الوقت بعدما كانت عصبية موحدة جامعة وعربية مضرية، قريبة أشد القرب من الشرع والدين. فنجده يقول واصفا الحال الجديد "واستبد بنو بويه والديلم بدولة الإسلام وحجروا الخلافة"، وبقي بنو سامان في استبداءهم وراء النهر وتطاول الفاطميون من المغرب إلى مصر والشام فملكوه، ثم قامت الدولة السلجوقية من الترك فاستولوا على ممالك الإسلام وأبقوا الخلفاء في حجرهم إلى أن تلاشت دولهم".
ويجب أن نشير أخيرا أن ابن خلدون يفصل بين العربي (المسلم) والعربي (البدوي).


الجند والمال؟
في كل الأدبيات السلطانية وكتب نصائح الملوك؛ تجد ارتباط الجند بالمال والجباية في شبه اتفاق بين كل مؤرخي ونصاح السلاطين...
نفس الأمر نجده لدى ابن خلدون؛ ففي مرحلة الترف تقل الجباية وتكثر العوائد، ويكثر بكثرتها أرزاق الجند وعطاؤهم، فيستحدث صاحب الدولة أنواعا من الجباية يضربها على البيعات، ويفرض لها قدرا معلوما على الأثمان في الأسواق، وعلى أعيان السلع في أموال المدينة. وهو مضطر لذلك لما دعاه إليه ترف الناس من كثرة العطاء مع زيادة الجيوش الحامية. ص 296
وننتظر إلى الفصل 27 من الباب الثالث من المقدمة في فصل معنون بـ "في كيفية طروق الخلل للدولة" عند الصفحة 311، لنكتشف أهمية الجند والعسكر في المؤسسة العسكرية عموما وعلاقتها بالنظرية المركزية لدى ابن خلدون أي "العصبية"؛ يقول ابن خلدون: "اعلم أن مبنى الملك على أساسين لا بد منهما. فالأول الشوكة والعصبية وهو المعبر عنه بالجند، والثاني المال الذي هو قوام أولئك الجند، وإقامة ما يحتاج إليه الملك من الأحوال".
فحال الجند يفسد، وإذا كانت أرزاقهم من السلطان عند أهل الفلح زرعا، فإنها تقل جبايتهم من ذلك، ويعجزون عن إقامة الجندية التي هم بسببها ويرتزقون من السلطان عليها. ص 424 فبالنسبة لأسباب انهيار الدولة؟ فالخلل يأتي للدولة من ناحيتين: ص 311-314
العنصر الأول- الشوكة والعصبية؛ فمع بلوغ الدولة إلى أقاصيها في الاتساع تتكون لأصحاب السلطة المولين عليها عصبية مستجدة من طول الولاء والسنون وبسبب البعد عن المركز وصاحب العصبية الأولى فيتغلبون على الأطراف والأقاصي فتحصل لهم هناك دعوة، وتنقسم به الدولة يساعدهم في ذلك صبغة الانقياد والتسليم منذ السنين الطويلة فيستغنى عن أمر العصبية ويكفي صاحبها، كما حصل له في تمهيد أمرها الأجراء على الحامية من جندي مرتزق، ص 312
العنصر الثاني- المال والجباية. وهو الذي يهمنا هنا؛ ومحض ذلك أن الدولة في مرحلة الترف تكون قد استطالت ووسع نطاقها وزادت نفقاتها فيحتاج الجند إلى أعطيات وأموال، ويكون الجند في ذلك الطور قد تجاسر على الدولة بما لحقها من الفشل والهرم في العصبية فتتوقع ذلك منهم، وتداوى بسكينة العطايا وكثرة الإنفاق فيهم، ولا تجد عن ذلك وليجة. ص 313
"فتنصرف سياسة صاحب الدولة حينئذ(حين طروق الخلل للدولة) إلى مداراة الأمور ببذل المال، ويراه أرفع من السيف لقلة غنائه. فتعظم حاجته إلى الأموال زيادة على النفقات وأرزاق الجند، ولا يغني فيما يريد. ويعظم الهرم بالدولة ويتجاسر عليها أهل النواحي؛ والدولة تنحل عراها في كل طور من هذه إلى أن تفضي إلى الهلاك وتتعرض لاستيلاء الطلاب فإن قصدها طالب انتزعها من أيدي القائمين بها، وإلا بقيت وهي تتلاشى إلى أن تضمحل كالذبال في السراج إذا فني زيته وطفئ." ص 314
إذن سبب زوال الدول؛ ضعف العصبية وهدر المال على قلة جباته. والقاسم المشترك بينهما هو الجند؛ حيث الجند يشترك مع العصبية في الشوكة، ويشترك مع المال في اعتباره سببا في وجودهم وبقاءهم.
فبالشوكة والعصبية يتسع نطاق الدولة والتغلب على الأمم، فتكثر الحاميات ويتطلب ذلك المال وتكاثر الرزق والنعم والعتاد... وفي غياب العصبية القوية والمال الوافر، ليس هناك جند وبالتالي ليس هناك دولة.


الوظائف الحربية بين الخلافة والملك؟
وظائف كثيرة كانت تدخل في باب الخلافة ذهبت بذهاب الخلافة، وأصبحت وصارت سلطانية: كوظيفة الإمارة والوزارة والحرب والخراج... ووظيفة الجهاد؛ بطلت ببطلانه إلا في قليل من الدول يمارسونه ويدرجون أحكامه غالبا في السلطانيات. ص 238
كان السلطان يستعين إلى ما تفرع من أصحاب أحد الفرعين الهامين في تاريخ الإسلام: السيف والقلم، أو أصحاب السيف وأصحاب القلم. ص 248
القلم يتفرع إلى: قلم الرسائل والمخاطبات، وقلم الصكوك والإقطاعات، قلم المحاسبات وهو صاحب الجباية والعطاء وديوان الجيش.
السيف وهو ما يهمنا هنا يتفرع إلى: صاحب الحرب، صاحب الشرطة، صاحب البريد، وولاية الثغور.
الحاجة في بداية الدول إلى "السيف" أكثر من الاحتياج إلى "القلم" لأن القلم في تلك الحال خادم فقط منفذ للحكم السلطاني؛ والسيف شريك في المعونة. ص 270 وكما يحتاج إلى أصحاب السيف في أول الدولة، يحتاج إليهم في آخر الدولة فتحتاج الدولة على الاستظهار بهم، وتقوى الحاجة إليهم في حماية الدولة والمدافعة عنها. فيكون للسيف بذلك مزية عن القلم في الحالتين. ويكون أرباب السيف أوسع جاها وأكثر نعمة وأسمى إقطاعا.
أما في وسط الدولة يكون نوع من الاستغناء عن أصحاب السيف لأنه قد تمهد ولا يبقى هم صاحب الدولة إلا في تحصيل ثمرات الملك من الجباية والضبط ومباهاة الدول وتنفيذ الأحكام. ص 270-271
في وسط الدولة يبزغ نجم أصحاب القلم لاحتياج صاحب الملك وتدوين خصاله وعظمته وجوده وسلطته وجاهه وقوته... بينما يتوارى أصحاب السيوف ويستغنى عنهم، ويبعدون عن باطن السلطان ويبعدون عن باطن السلطان، حذرين على أنفسهم من بوادرهم... ص 271
يدخل في هذا الباب شارات السلطان ومظاهر أبهته وقوته: بنشر الألوية والرايات وقرع الطبول والنفخ في الأبواق والقرون، والسر في ذلك حسب أرسطو يقول ابن خلدون إرهاب العدو في الحرب. ص 271
محركات ومثيرات الحماس عند العرب: قصائد الشعر الحماسية. ص 272 حال الترك في استخدام الرايات والطبول في الحرب. ص 273
إن انقلاب الخلافة إلى ملك: انقلب معه الكثير من دلالات الأمور والوظائف. ص 272 فعديد من الوظائف لما كانت في أهل عصبيتها كانت للأكابر وعلية القوم وأعزتهم... لكن حين أصبح يتقلدها أحد من المصطنعين والعجم يقول ابن خلدون "ثم فسد اليوم منصبها وخرجت عن رجال عصبيتها وصارت ولايتها للمصطنعين والأعاجم والضعاف فضعفت وفسدت وقل شأنها". ص 265.
وفي حديثه عن الوظائف المتعلقة بالحرب؛ فالوزير مثلا كما كان معروفا في الدول القديمة بالمشرق، ولهذا العهد بالمغرب (عهد ابن خلدون). ص 249. كان ينوب فيها الوزير عن السلطان (في أمور حماية الكافة وأسبابها من النظر في الجند والسلاح والحروب وسائر أمور الحماية والمطالبة).
أما بخصوص وظيفة (ديوان الأعمال والجبايات) يقول ابن خلدون "وهذه الوظيفة جزء عظيم من الملك، بل هي ثالثة أركانه؛ لأن الملك لا بد له من الجند والمال والمخاطبة لمن غاب، فاحتاج صاحب الملك إلى الأعوان في أمر السيف وأمر القلم وأمر المال، فينفرد صاحبها لذلك بجزء من رياسة الملك".ص 257 فصاحب ديوان العطاء يعرف بناظر الجيش وصاحب المال مخصوص باسم الوزير، وهو الناظر في ديوان الجباية العامة للدولة، وهو أعلى رتب الناظرين في الأموال، لأن النظر في الأموال عندهم يتنوع إلى رتب كثيرة لانفساخ دولتهم، واتساع أموال جبايتهم فتعين لذلك تخصيص "الوزير" وهو رديف لمولى من موالي السلطان وأهل عصبيته وأرباب السيوف في الدولة، ويرجع نظر الوزير إلى نظره، ويسمى عندهم أستاذ الدولة؛ وهو أحد الأمراء الأكابر في الدولة من الجند وأرباب السيوف. وفي الحالة التي يكون فيها " الوزير من الجند فلا يكون لأستاذ الدار نظر عليه، حيث يبدو ما لرتبة الجيش من أهمية على باقي الرتب. كما والطابع الحربي للدولة العثمانية". ص 259
وبالنسبة للشرطة؛ فيسمى صاحبها لهذا العهد بإفريقية "الحاكم"، و"صاحب المدينة" في دولة أهل الأندلس، وفي دولة الترك "الوالي". أما أصل وضعها كان في الدولة العباسية، لمن يقيم أحكام الجرائم... ص 264.


العدل؟
لما سمع الملك نصيحة الموبذان مصاغة على لسان "البوم". لأرجع أمور الدولة إلى نصاب العدل وقطع مادة الفساد والظلم، فاستقامت حال الرعية، وقوي الضعيف، وعمرت الأرض وأخصبت البلاد وكثرت الأموال عند جباة الخراج وقويت الجنود وقطعت مواد الأعداء وشحنت الثغور، وأقبل الملك على مباشرة أموره بنفسه، فحسنت أيامه وانتظم ملكه. ص 303. نفهم من هذه الحكاية أنه بالعدل، يكثر الخير وبه تقوى الجباية، وبالجباية يقوى الجند، وبالجند تحمى الثغور وتقوى الدولة. فكل الأدبيات السلطانية أقرت أن "العدل أساس الملك".


خلاصة
تبقى قراءتنا مجرد إسهام بسيط جدا في بحر المساهمات التي يجب أن تكون حول مقدمة من أشهر مقدمات العالم، حاولنا الاشتغال في هذا المقال على جانب صغير جدا من كل، ومن منظومة فكرية شاملة لصاحبها الذي أسهم بفكره وبقطيعته الإيبيستيمية مع الفكر السابق في عالم التاريخ وعلم العمران علم الإجتماع فيما بعد والذي كان أحد واضعي أسسه الأولى. ولابد من معاول أخرى تنقب في هذا الإرث الثقافي والعلمي الكبير لاستخراج مكنوناته وكنوزه أكثر فأكثر فأكثر، من أجل قراءة جيدة للحاضر واستشراف صحيح للمستقبل...
إذ ليس من السهل استخراج فكرة الحرب لدى ابن خلدون من خضم البنيات الدائرية والخطاطات المتشعبة والبنيات المتداخلة لأطراف النظرية أو النظريات المبتوتة بين دفتي المقدمة... وذلك راجع في نظرنا لمخاض المفكر الإنساني نفسه الذي كان يعلم حق المعرفة مدى الجهد الذي كان يعانيه في استخراج هذه النظرية أو تلك الفكرة أو البث في تلك المشكلة أو نقد تلك المعرفة أو القول في تلك الفكرة الجديدة... فكانت كتابة نقدية بطعم الإكتشاف العلمي أثرت بما لا يدع للشك في إنجاز هذا الصرح... ومهما كان من أمر فنحن أمام زخم وأمام كنز كيفما كانت نهاية تشكله. إذ يكفيه أنه كان مبدعا جديدا وبصمة مميزة في تاريخ الإنسانية.



#هشام_عابد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- فلسفة الحرب عند سن تزو؟
- الشعب والدستور؟
- دولة كامونية وشعب انتهازي..!
- إحراق الذات-اللغة الجديدة للحتجاج-
- تاريخانية عبد الله العروي؟


المزيد.....




- مصر: بدء التوقيت الصيفي بهدف -ترشيد الطاقة-.. والحكومة تقدم ...
- دبلوماسية الباندا.. الصين تنوي إرسال زوجين من الدببة إلى إسب ...
- انهيار أشرعة الطاحونة الحمراء في باريس من فوق أشهر صالة عروض ...
- الخارجية الأمريكية لا تعتبر تصريحات نتنياهو تدخلا في شؤونها ...
- حادث مروع يودي بحياة 3 ممرضات في سلطنة عمان (فيديوهات)
- تركيا.. تأجيل انطلاق -أسطول الحرية 2- إلى قطاع غزة بسبب تأخر ...
- مصر.. النيابة العامة تكشف تفاصيل جديدة ومفاجآت مدوية عن جريم ...
- البنتاغون: أوكرانيا ستتمكن من مهاجمة شبه جزيرة القرم بصواريخ ...
- مصادر: مصر تستأنف جهود الوساطة للتوصل إلى هدنة في غزة
- عالم الآثار الشهير زاهي حواس: لا توجد أي برديات تتحدث عن بني ...


المزيد.....

- الكونية والعدالة وسياسة الهوية / زهير الخويلدي
- فصل من كتاب حرية التعبير... / عبدالرزاق دحنون
- الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية ... / محمود الصباغ
- تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد / غازي الصوراني
- قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل / كاظم حبيب
- قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن / محمد الأزرقي
- آليات توجيه الرأي العام / زهير الخويلدي
- قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج ... / محمد الأزرقي
- فريديريك لوردون مع ثوماس بيكيتي وكتابه -رأس المال والآيديولو ... / طلال الربيعي
- دستور العراق / محمد سلمان حسن


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - هشام عابد - فكرة الحرب عند ابن خلدون من خلال المقدمة؟