أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - فكرى عبد المطلب - مستقبل الحركات الاسلاموية فى مجتمع العولمة..- الاخوان - مثالا















المزيد.....



مستقبل الحركات الاسلاموية فى مجتمع العولمة..- الاخوان - مثالا


فكرى عبد المطلب

الحوار المتمدن-العدد: 3542 - 2011 / 11 / 10 - 19:13
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


إذا ما قُيض لأحد المعاصرين ، من دارسى العلوم السياسية ، أن يستشرف – بتمعن ثاقب – مصير الواقع السياسى لـ " جماعة الإخوان المسلمين " ، فى آفاق المستقبل المنظور ، سيلحظ- بجهد لا عناء فيه – أن هذا المصير قد تقرر سلفاً ، ولن يتحدد خلفاً ، استناداً إلى "دعوة" مؤسس الجماعة ، ذاتها ، (حسن البنا) ، وإلى ما أفضت إليه هذه " الدعوة " من أنماذج حكم ، أو بالأحرى أنموذج وحيد ، اتخذته " الدولة المصرية " صيغة عمل فعلية لها ، من بعد العام 1954 ، وحتى العام 1976 ، وإن جرى – فيما بعد – تشذيبها عبر أشكال " شبه حزبية" أو "حزبوية" – على غرار الاصطلاحات التى صارت شائعة ، من قبل " إسلاموى" إلى "علمانوى" ، وما إلى ذلك – بينما ظل لسطوة هذه الصيغة ديمومتها ، ولنزقها الشمولى السافر حجيته ، إلى اليوم .

ففى مقالة شهيرة ، نشرتها له ، جريدة جماعته ، قبيل سنوات ، من إقدام الجيش على قلب النظام الملكى / الحزبى ، يقول (البنا) : " لقد آن الأوان أن ترتفع الأصوات بالقضاء على نظام الحزبية فى مصر ، وأن يستبدل به نظام تجتمع فيه الكلمة ، وتتوفر جهود الأمة حول منهاج قومى إسلامى صالح " (1) .

وكان (البنا) قد فصَّل أسباب دعوته ، تلك ، ضمن رسالته ، إلى المؤتمر الخامس لـ"الجماعة" والتى قال فى جانب منها : " إن الإخوان لا يضمرون لحزب من الأحزاب - أياً كان - خصومة خاصة به ، ولكنهم يعتقدون فى قرارة نفوسهم أن مصر لا يصلحها ، ولا ينقذها إلا أن تحل الأحزاب كلها ، وتتألف هيئة وطنية عاملة تقود الأمة إلى الفوز وفق تعاليم القرآن الكريم " .

وعزا (البنا) الأسباب التى دعت " الإخوان " لإعلان هذا الموقف إلى اعتقادهم بـ "عقم فكرة الائتلاف بين الأحزاب " التى هى " مُسكن ، لا علاج " ، فى حين أن " العلاج الحاسم الناجع أن تزول هذه الأحزاب مشكورة " ، " فقد أدت مهمتها ، وانتهت الظروف التى أوجدتها " ، إلى أن وصل إلى قولته الحاسمة : " لكل زمان دولة ورجال .. " (2) ، وهى قولة تعكس المدى الذى بلغته ثقة الرجل ، بقدرة جماعته على التحرك والانقلاب على أركان النظام السياسى المصرى ، أكثر مما تعكس حماسة طارئة لدى زعيم حركة يعلم – جيداً – الآثار المترتبة على إعلانه السياسى ، هذا ، أو بالأحرى انقلابه السياسى ، الذى جاء مقترناً بظرف دولى جديد ، حيث كانت الحرب العالمية الثانية قد وضعت أوزارها ، آنذاك (1945) ، بانتصار مدو لجبهة " الحلفاء " ، المناصرة لأيديولوجية " التعدد الحزبى " باستثناء (الاتحاد السوفيتى) ، وهزيمة فاجرة لجبهة " المحور " المروجة لنعرات " القومية " الاستعلائية ودواعى الأحادية الحزبية .. فهل جاءت قراءة (البنا) لمسار الأحداث – ضمن ذلك المشهد التاريخى الفارق ، فى حياة العالم – عبر تلك السلسلة من القراءات الخاطئة ، التى قد يرتكبها هذا السياسى أو ذاك ؟ أم نتجت عن وعى (البنا) بالمرامى المصلحية للمنتصرين الجدد ، والتى كانت ستحول دون عنايتهم بالمرامى الأيديولوجية (الليبرالية السياسية) ، داخل مستعمراتهم الكبرى ، كـ(مصر) ؟ وإذا كان الأمر ، على هذا النحو – ويبدو أنه كان كذلك – فهل كانت لدى (البنا) من المؤشرات ، أو الاشارات ، الدالة – دولياً – ما يدفعه لإعلان هذا الموقف الحاسم ، أو الانقلابى ،من جانبه ؟ أم أن الأمر – برمته – كان محض مراهنة ، أراد (البنا) – من خلالها- أن يظهر جماعته،بوصفها "البديل السياسى" للنظام السائد ، ككل ؟ .

وأياً كانت المقاربات المتاحة لتفسير موقف (البنا) ، فى هذه الشأن ، فالثابت أن " جماعته " كانت قد بلغت وضعاً مهماً فى صدارة المشهد السياسى والاجتماعى المصرى ، آنذاك ، بعد أن اتسعت القاعدة الاجتماعية " للجماعة " ، خلال فترة الحرب ، بشكل غير مسبوق ، وهو أمر ظل فى تنام ملحوظ ، خلال السنوات التالية ، حيث قدر (البنا) – زعماً أو حقاً – أعداد "الأعضاء العاملين" بـ " جماعته " عام 1948 بنحو نصف مليون عضو ، فى حين رفع أعداد " الأعضاء المنتسبين والمؤازرين " إلى ضعف هذا العدد (3) .

وسواء قدرت هذه الأعداد بالمليون أو أقل ، فقد شكلت – دون شك – قوة جاهزة للفعل الانقلابى، بكل ما يحمل هذا التعبير من معنى ، وكما تبدت فى " رسائل البنا " إلى عناصر "جماعته" ، والتى يقول فى إحداها : " أيها الإخوان ، إن الأمة التى تحسن صناعة الموت ، وتعرف كيف تموت الموتة الشريفة،يهب لها الله الحياة العزيزة فى الدنيا والنعيم فى الآخرة" ويضيف:"وما الوهن الذى أذلنا إلا حب الدنيا وكراهية الموت،فأعدوا أنفسكم لعمل عظيم واحرصوا على الموت توهب لكم الحياة"."فاعملوا للموتة الكبرى تظفروا بالسعادة الكاملة"(4) .

وبهذه العبارات القاطعة ، ظل (البنا) يهيئ عناصر جماعته لما هو قادم ، من نوازل الأمور ، فيقول بعبارات أصرح فى رسالة أخرى إلى المؤتمر الخامس للجماعة : " فى الوقت الذى يكون فيه منكم معشر الإخوان المسلمين ثلاثمائة كتيبة قد جهزت كل منها – نفسياً وروحياً بالإيمان والعقيدة ، وفكرياً بالعلم والثقافة ، وجسمياً بالتدريب والرياضة – فى هذا الوقت طالبونى أن أخوض بكم لجاج البحار ، وأقتحم بكم عنان السماء ، وأغزو بكم كل عنيد جبار، فإنى فاعل إن شاء الله " .

إشارة التحرك الانقلابى للجماعة كانت هى – إذاً – رهن تقديرات (البنا) ، بوصفه "مرشد الجماعة" و"إمامها" ، الذى بايعه أعضاؤها على " الطاعة " التامة ، باعتبارها طاعة الله – جل شأنه – وليس من حق أحد أن يعصى الله (عز وجل) (6) (...) .

لكن ، سرعان ما جرى " حل الجماعة " ، بقرار حكومى نافذ ، فى نفس التاريخ (1948) ، فاغتيال (البنا) ، ذاته ، فى العام التالى ، وذلك فى سياق سلسلة من الاغتيالات والتفجيرات أقدمت عليها " الجماعة " ، وواجهتها الدولة بإجراءات قاسية ، من حملات الاعتقال والترويع والتشهير ضد عناصر الجماعة ، لتطوى صفحة ، من صفحات الصراع السياسى بين الدولة والجماعة ، وتفتح أخرى ، باستقدام " مرشد " جديد للجماعة ، هو (حسن الهضيبى) ، ذو الصلات الطيبة بالقصر الملكى ، الذى ما لبث أن أطاحت بحكمه " حركة الضباط " ، (فى 23 يوليو 1952) ، التى كانت قد نسجت مع " الإخوان " خيوط اتصال سرية ، بغية تأمين تأييدها للحركة ، وهو ما انعكس فى استثناء الجماعة من قرار " حل الأحزاب السياسية " ، فى العام 1953 ، بوصفها " جمعية " لا " حزباً " (!!) ، لينفتح الطريق أمام ما كان يبغيه المرشد الأول من إحلال جماعته محل النظام الحزبى .

بيد أن الاخفاقات التى آلت إليها مراهنات (البنا) السابقة ، وكلفته وجود جماعته ووجوده ، هو، شخصياً ، كانت لحقت بـ (الهضيبى) ، فحُلت الجماعة ، من جديد ، وزج بعناصرها فى غياهب السجون والمعتقلات ، ناهيك عن أحكام الاعدام التى وقعت بحق العديد من قادتها وعناصرها ، طوال سنوات الخمسينيات والستينيات ، من القرن المنصرم .

وبحلول السبعينيات من ذلك القرن ، عادت الجماعة للظهور ، ضمن صيغة انقلبت فيها علاقة الدولة والجماعة من العداء السافر إلى التحالف الصريح (!) ، وهى الفترة التى شهدت صعوداً غير مسبوق لمجموعات اصطلح على تسميتها بجماعات " الإسلام السياسى " ، تلك التى تغذت على أيديولوجية الجماعة الأم – أى " الإخوان " - ، وإن لم تنشأ فى أحضانها ، وذلك ضمن معادلات إقليمية ودولية جديدة ، تبدت بُعيد حرب أكتوبر / تشرين الأول 1973 ، وما تمخض عنها من مفاوضات غير مسبوقة بين العرب وإسرائيل ، لأجل تسوية الصراع المحتدم ، فيما بينهما، منذ إعلان قيام دولة (إسرائيل) على أرض (فلسطين) ، فى العام 1948 . وهى المفاوضات التى جاءت فى مناخ ينفتح – بشدة – على حلفاء (إسرائيل) التاريخيين ضد العرب ، ويعضده مداخيل مالية هائلة ، لدول الخليج ، وفرتها الطفرة الهائلة فى أسعار النفط ، على إثر توقف حرب أكتوبر ، أو بالأحرى إجهاض نتائجها ، غربياً .

وقد مثلت هذه العوامل ، برأى العديد من دارسى ظاهرة " الإسلام السياسى " مصادر تغذية دسمة ، كان لها أكبر الأثر فى تنشيط هذه الظاهرة ، وما ترتب عليها من " عسكرة " هذه المجموعات ، بعد توجه العديد من عناصرها إلى (أفغانستان) ، خلال الوجود السوفيتى فيها (1979 – 1989) ، مما وفر إمكانيات موضوعية لإحياء التشكيلات المسلحة القديمة لـ(الإخوان) ، عبر هذه المجموعات ، وكان من نتيجتها اغتيال المسئول الأول عن رعاية التحالف بين الدولة المصرية والجماعة الأم ، أى (السادات) ، فى العام 1981 ، وما تلاه من اتساع نفوذ هذه الجماعات فى مختلف مناحى الحياة المصرية ، طوال سنوات الثمانينيات، وحتى أواخر التسعينيات ، من القرن الماضى ، إلى أن اندلع الصدام المسلح بين تلك المجموعات وحكومة (مبارك) ، وما أسفر عنه من خسائر اقتصادية وبشرية ، غير محدودة.

وبالمقابل فإن خبرة الجماعة الأم فيما يتصل بالنتائج المأسوية لمسلكها الانقلابى القديم أدى إلى اتباعها خطاباً يتسم بظاهر الاعتدال ، خلال تلك الفترة ، فيما دفعت المجموعات الموالية لها ،فكراً ، لا تنظيماً – كـ (الجماعة الإسلامية) و(الجهاد) – أثماناً باهظة لمسلكها الانقلابى على غرار ما دفعته الجماعة الأم ، فى سابق أزمنة الصراع السياسى مع الدولة المصرية .

لذا ، جاءت أقوال " الإخوان " فى هذا الشأن عاكسة دروس المحنة مع حركة ضباط يوليه ، التى راهنوا عليها ، كى تكون أداتهم فى القفز على السلطة ، فكانت وبالاً عليهم ، ومن بين هذه الأقوال (7) : " إن النجاح فى الاستيلاء على السلطة بالقوة لا يعنى حتماً ، النجاح فى تطبيق المبادىء التى من أجلها كان الانقلاب (فى 23 يوليه 1952) " ، وهو ما دعا "الإخوان" للاعتراف الضمنى بأن تشكيلاتهم العسكرية القديمة لم تكن السبيل القويم لبلوغ غاية دعوتهم : " إن التجارب علمتنا ، أن أية قوة عسكرية شعبية لم تعد تكفى فى عصرنا هذا لمواجهة قوات الدولة المسلحة لبُعد المسافة بين قدرة كل من الطرفين ، ومدى إمكاناته " ، و"لقد كان للحركة الإسلامية الشعبية (أى الإخوان) قوة عسكرية منظمة مدربة ، فلم تُغن عنها شيئاً ، ولم تستطع الدفاع عنها أمام طغيان السلطة " ، و" ولعلها كانت السبب فى عنف الضربة الموجهة إليها . أو على الأقل ، اتخذوها حجة يبررون بها هذه الضربات الوحشية التى ألحقوها بالحركة الإسلامية الشعبية " ، لذلك يرى (القرضاوى) أن " الحل الإسلامى المنشود " يتمثل فى " إقامة مجتمع إسلامى تحكمه عقيدة الإسلام وشريعته " ، وهذا المجتمع الإسلامى المنشود لن يتحقق – برأى (القرضاوى) – إلا عبر أمور ثلاثة : الأول تكوين "جيل مسلم" : " تكويناً إسلامياً صحيحاً متكاملاً " ، والثانى : " قاعدة جماهيرية إسلامية " ، " من كافة طبقات الشعب " .. " يناصر الفكرة الإسلامية ، يحب دعاتها ، ويكره أعدائها ، ويحرص على انتصارها " ، والثالث : " التغلب على المعوقات " ، والتى حددها (القرضاوى) فى ثلاثة مجالات ، الأول : معوقات شعبية تتمثل فى (أ) الجهل بالدعوات المناهضة للإسلام ، والجهل بحقيقة الحركة الإسلامية . (ب) اليأس من انتصار الحركة الإسلامية ، والاعتقاد بأنها حركة لا مستقبل لها . (ج) الخوف من الاضطهاد المتكرر والضربات الوحشية المتلاحقة للأعضاء والمناصرين .

المجال الثانى : يتمثل فى القوى المناوئة ، وهى : (أ) نفوذ أجنبى قوى . (ب) حكم عسكرى علمانى متمكن . (ج) ظروف دولية معاكسة .

المجال الثالث : المعوقات القائمة داخل الحركة الإسلامية ذاتها ، من خلال : (أ) اختلاف الكلمة . (ب)ضعف التنظيم والتخطيط ، والذى حدده (القرضاوى) بما أسماه " ضعف الصلة بين القيادة والجنود – بحيث لا تعرف القيادة فى القمة ماذا يعتمل فى أنفس الجمهور (الجنود) فى القاعدة ، ولا تعرف القاعدة ماذا عند القيادة من أفكار ومواقف – إما لضعف الإرسال فى القيادة أو لعجز الاستقبال فى القاعدة " ، أو لعدم توافر " الثقة " بين الطرفين ، والذى رأى (القرضاوى) أنه " يخل بمبدأ الالتزام بالسمع والطاعة فى المنشط والمكره " ، وهو " مبدأ " يشدد (القرضاوى) على ضرورة العمل به ، حيث أن نجاح "الحركة" مرهون بالتزام عناصرها بهذا " المبدأ " لأجل " تنفيذ الأمر ولو كان مخالفاً لرأيهم " (8) .

واللافت فى ذلك التوصيف الدقيق والشامل ، لواقع ومستقبل " الحركة الإسلامية " السياسية ، من جانب من بات يوصف بالقائد الفكرى لها ، منذ عقود عدة ، بروز جملة من التحولات :

أولها: نبذ المفهوم الانقلابى للاستيلاء على سلطة الحكم ليستبدل مفهوم الهيمنة التحتية على المجتمع ، عبر " أسلمته " ، استناداً إلى المفهوم " الإخوانى " لـ (الإسلام) بوصفه "عقيدة" ، "أيديولوجية" محددة الملامح والقسمات ، وبوصفهم " جماعة خاصة " ، أو " حزباً " يتمحور أفرادها حول " نخبة " عالمة ، رشيدة ، مطلقة اليد والنظر ، فيما تقرره ، دون مُعقب عليها ، تعزز سلطتها الفكرية مقولة العالم المعادى لها ، من خصوم الداخل والخارج ، فى آن .

ثانيها : التمسك بمفهوم الراعى والرعية ، ذى الأصول القبلية الصحراوية ، واستمزاجه بالمفهوم العسكرى حول القيادة والجندية ، الذى أرساه (البنا) كأساس لـ " التنظيم الإخوانى" ، وكأساس لبلوغ " الجماعة " أهداف دعوتها .

ثالثها : تعبئة الطاقات التنظيمية للجماعة نحو حسم صراعاتها فى المعارك الانتخابية الخاصة بالبرلمان والنقابات والجمعيات والروابط المختلفة ، بديلاً للمعارك غير المتكافئة مع أجهزة الدولة الأمنية ، بغية استنزاف سلطة الدولة ، أو الإطاحة بها .

ويبدو أن الجماعة قد نجحت – وفقاً لقياسات متفاوتة – فى انتزاع مواقع تلو الأخرى خلال العقود الأخيرة ، بناء على هذه الاستراتيجية ، فانتشرت فى أوساط المجتمع دعوتها إلى " تحجيب " النساء والفتيات ، وشاعت مقولاتها الفضفاضة حول " التحريم والتحليل " ، وتمكنت من السيطرة على أغلبية مجالس إدارات النقابات المهنية ، وفق عمليات كر وفر مع أجهزة الدولة ، تعطلت بسببها فاعلية هذه النقابات فى أداء الأدوار المنوطة بها ، بينما واصلت الدفع بمرشحيها فى الانتخابات البرلمانية ، منفردة أو عبر قوائم مشتركة مع أحزاب قانونية (الوفد، والعمل) إلى أن صارت أكبر كتلة برلمانية ، بعد الحزب الوطنى الحاكم تحت شعار "الإسلام هو الحل " محققة " نبوءة مؤسس الجماعة بأنها البديل السياسى لكل الأحزاب ، بعد نحو ستين عاماً، وإن جاء هذا سلمياً ، وعبر صناديق الاقتراع ، المحاصرة بوليسياً (!) .

وبذلك حققت جمهورية " 23 يوليو " – عبر عهودها الثلاثة (عبد الناصر ، السادات ، مبارك) – ما كانت تصبو إليه الجماعة ، دون اللجوء إلى عناء الفعل الانقلابى ، من خلال " جيل جديد " من " الكوادر الإخوانية " المتحدية ، واستناداً إلى " قاعدة شعبية " واسعة ، كانت الجماعة قد اكتسبت داخلها نفوذاً متزايداً عبر أساليبها الشعوبية المدغدغة لمشاعر واحتياجات البسطاء ،والمتمثلة فى بعض الخدمات العلاجية والتعليمية،شبه المجانية،طوال السنوات السابقة ، بدعم واسع النطاق من جانب أنصار الجماعة فى (السعودية) ، والعديد من الدول الخليجية .

وعلى الرغم من أن الانتصارت التى حققتها الجماعة على هذه الأصعدة جاءت فى مناخ حزبى وثقافى ، أسهمت شمولية الدولة – كما أسلفنا – فى تجفيف منابع ثرائه ، عبر سلسلة من التشريعات والقيود المطوقة للحريات العامة ، وحصرها فى حرية الصراخ والضجيج الإعلامى الديماجوجى ، فقد احتفت العديد من التقارير الغربية بما أحرزته الجماعة ، من خطوات ، فى الآونة الأخيرة ، حيث حمّل أحد هذه التقارير حكومات (مصر) و(الجزائر) و(المغرب) المسئولية عن عدم " استيعاب أشكال النشاط المذهبى اللاعنفى ، والأكثر ديناميكية"(9) فى النظام السياسى ، داعياً إلى إضفاء الشرعية الحزبية على عمل "جماعة الإخوان" المصرية ، و" جبهة الإنقاذ " الجزائرية ، وحركة " العدل والإحسان " المغربية ، فى ضوء " قبولها المبادىء الديمقراطية والتعددية واحترامها لقواعد اللعبة ، كما حددتها الدساتير القائمة " ، بحيث أصبح من غير الملائم ، بنظر مثل تلك التقارير " وصف هذه الحركات بأنها أصولية (متزمتة) أو حتى بأنها محافظة تماماً " ، بل اعتبار مطالبتها بتطبيق " الشريعة الإسلامية " إقراراً بحاجة هذه الحركات إليها ، بما يتيح أمامها الفرصة لممارسة "الاجتهاد" ، عبر عمليات متأنية .

ذلك أن المراهنات الغربية ، فى هذا الصدد ، قامت على افتراض أن حركات " الإسلام السياسى " " اللاعنفية " ، كـ " الإخوان " بإمكانها " إحياء الأفكار المتعلقة بحركة التجديد الإسلامية التى كانت قائمة فى أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين " والتى كانت قد وجهت جهودها آنذاك نحو تكييف التقاليد الشرعية الإسلامية مع الأوضاع الاجتماعية والسياسية المعاصرة " (10) ، وهو ما يتناقض كلية مع الطبيعة الأيديولوجية الثابتة لحركات "الإسلام السياسى" ، وفى مقدمتها " الإخوان " ، التى تسعى – أساساً – إلى طلب السلطة السياسية ، بينما ظلت حركات التجديد الإسلامية القديمة أقرب إلى الطابع الفكرى الثقافى ، منها إلى السياسى ، على حد ما تبدى فى جهود : (حسين المرصفى) و(محمد عبده) و(طه حسين) و(على عبد الرازق) ، وغيرهم ، وهى جهود كانت ذات وجهة تقدمية ، بمعايير هذا الزمان ، بينما ظلت جهود حركات " الإسلام السياسى " فى نطاقها التقليدى والمحافظ ، بوصفها كيانات أقرب إلى الطابع الطائفى ، المفارق لخارجه ، والساعى إلى امتطائه ، لا أكثر ، وهو ما تبرهن عليه كتابات قادة وعناصر هذه التيارات ، المنبتة الصلة بالأصول المعرفية والإبداعية للتراث الإسلامى ، فى أبعاده القديمة والحديثة ، وإنما انصبت جل جهود هؤلاء الكُتاب على محاولة تكييف الأصول الأيديولوجية الغالية لتنظيماتهم مع دوافع الطموح السياسى ومتطلباته ، كما تتبدى فى كتابات (القرضاوى) – السالف ذكر بعضها – وكتابات المقربين من هذه الحركات ، وخصوصاً كتابات (محمد عمارة) و(عبد الوهاب المسيرى) (*)، وغيرهم ، وهى كتابات مفارقة لكتابات المصلحين السابقين ، الذين ألحوا على أن " إحياء الإسلام لن يتم إلا إذا ضحى المسلمون تضحية مطلقة بكثير من سفسطات القرون الوسطى ، والأحكام والتفريعات غير الموضوعية " إلى جانب " التفرقة بين العصمة المكفولة للقرآن ، وبين أحكام الشريعة التى قامت على آراء الفقهاء والعلماء غير المعصومين " (11) ، وهو ما استلهمه أحد كبار الدبلوماسيين والباحثين الألمان ، عند اعتناقه لـ (الإسلام) ، معتبراً عدم التفرقة بين شريعة الله والشريعة التى استنبط الفقهاء والعلماء (القدماء) أحكامها وعلومها وأبوابها فى علم الفقه ، أو الشريعة ، خطأ فادحاً (12) ، وهو أمر لم تعهده حركات "الإسلام السياسى" ، ولن تستسيغ النظر فيه ، لكون ذلك يجردها من ركائز وجودها الفكرى ، القائم أساساً على مزج " شرعة الله " – التى لا تبديل فيها ولا تغيير – بشريعة الفقهاء ، بينما جاءت نظرية المصلحين السابقين فى التمييز بين الأمرين بمثابة الثورة على المعرفة القديمة ، استناداً إلى أن (القرآن) حدد غايات ومقاصد يتحرك الإنسان فى إطارها بحرية ، كما أن النظرة التحليلية لنقاط البرامج المعروفة للجماعات والأحزاب الإسلامية تبين أن تلك البرامج "ليست ذات غناء كبير ، طالما ظل المفهوم الحقيقى للشريعة مُبهماً،فجاً،مضطرباً، مُشتبه المعالم"(13) .

ومع ذلك ، يبقى أن الأيديولوجيات المتعددة بتعدد حركات " الإسلام السياسى " - وإن ظل منبعها واحداً – هى نتاج مرحلة تاريخية باتت البشرية على أبواب تجاوزها ، وهى مرحلة الدولة القومية ، أو الدولة / الأمة ، التى أشاعها – عالمياً – عصر القوميات الأوربية ، فيما تدخل البشرية الجديدة عالماً مخالفاً كل ما سبقه على صعيد الاجتماع والسياسة والاقتصاد والأفكار ومنظومات القيم ، والذى بات ينعت "بعالم ما بعد صناعى" ، "ما بعد قومى" ، "ما بعد حداثى " (أوربى) ، وربما كانت هذه التوصيفات تبدو – للوهلة الأولى – خاصة بواقع التحولات فى تلك المجتمعات ، التى تقع فى غرب أوربا وأمريكا الشمالية ، إلا إن المفارقة تكمن فى عصف هذه التحولات ببنى مختلف المجتمعات الأخرى ، تلك التى صاغها – بدرجة أو بأخرى – عصر الصناعة ، بقيمه ومفاهيمه وأنظاره ، الممتزجة بفلسفة الحداثة الأوربية ، مما جعل من هذه التحولات انفلاتاً أو تحرراً – إن شئت – من أسر الصبغة الثقافية الأوربية القديمة لأوربا وللعالم ، فى الوقت نفسه ، باتجاه طريق جديد ، ينفتح لمختلف الأفكار والرؤى والتصورات التى حبستها أو ابتسترتها الحداثة الأوربية داخل الثقافات الأخرى ، لتنفتح كل ثقافة على نفسها ، وعلى كل ثقافة أخرى ، داخل ميادين تفاعلية .

وها هنا تكمن أهمية العولمة ومغزاها ودلالاتها المعرفية والحضارية ، نحو غايات لم تعهدها البشرية ، فى ظل الامبراطوريات الكبرى ، وهى غايات تصبو إلى التوحيد والوحدة الكوكبية، لإعمال الفعل البشرى المشترك ، وهو ما يقدم فيه الإسلام ، إجابات ومساهمات خلاقة ، عبر نصه الفريد (القرآن) ، وعبر تراثه الحضارى والثقافى الخصيب ، ولعل ذلك ما دعا أحد أبرز أنصار الحركة الإسلامية المعاصرة - عند بحثه فى مستقبل هذه الحركات - قادة هذه الحركات إلى الانخراط فى صفوف الحركة العالمية الساعية إلى منع الكارثة التى تحيق بالكرة الأرضية، من جراء التلوث البيئى ، واستنفاد الموارد الطبيعية ، والانفجار السكانى ، وتطور الأسلحة الذرية والبيولوجية التى يترتب عليها أجواء أقل صلاحية للتنفس ، وماء أقل صلاحية للشرب ، وشواطىء أقل صلاحية للسباحة (14) ... الخ .

والمدهش أن دعوة (النفيسى) ، تلك ، لم تلق أى استجابة من قادة وأبناء هذه الحركات ، رغم مرور سنوات عديدة على الدعوة ، التى أطلقها رجل من ألمع أنصار هذه الحركات (!) ، فيما بقيت أقلام هذه الحركات على حالها بالتركيز على البعد القيمى والأخلاقى فى الإسلام ، وإهمال أو تجاهل دور الرأسمالية العالمية والنظام الاقتصادى الغربى فى تلويث العالم ، واستنزاف الموارد الأرضية ، وهى التحديات التى تقدم للتصدى لها عدد من مسلمى ألمانيا – أى من أبناء العرق الآرى ، الذين أسلموا – عبر وضع أسس لعلم الأخلاق البيئى الإسلامى، منذ نهاية الثمانينيات ، من القرن الماضى ، باعتبار أن الأمر الجوهرى المطلوب يتمثل فى نوعية جديدة مختلفة من الاقتصاد . أى أن رياح التغيير على ساحة الفعل الإسلامى العالمى تهب من جهات غير متوقعة ، كما لاحظ الخبير الفرنسى فى شئون الحركات الإسلامية السياسية (جيل كيبل) ذلك أن ما يسميه (كيبل) " السلفية العقلانية " تتبدى اليوم فى صفوف علماء الطبيعة المسلمين والمهندسين والمثقفين التقنيين أكثر منها فى صفوف الفقهاء ، ليكون هؤلاء العلماء هم المطالبين بهذه النهضة ، ناهيك عن دور العلماء المسلمين فى الجامعات الغربية فى هذا الصدد،أولئك الذين لم تؤثر جرعات ثقافتهم العلمية فى تمسكهم بالإسلام (16) .

لذا ، يراهن (هوفمان) على هذا النمط الجديد من الشباب الذى يقبل على النصوص القرآنية ، وهو غير مثقل بحصيلة دينية تجعله يهاب بها الإقدام على تدبر آيات الله ، وإمعان النظر فيها ، مستقلاً بفكره وبصيرته ، ليستشف منها معرفته المختارة ، بمصفاته هو ، لا بمصفاة سابقة (17) . وهو التحدى الذى يواجه مستقبل حركات " الإسلام السياسى " التقليدية فى مجتمع العولمة الجديد .

ولاريب فى أن مثل هذه النزوعات ستجد مجالات عدة للتقاطع والتداخل مع النزوعات الجديدة فى أوساط الحركة الإسلامية عامة ، والتى تبدت فى المراجعات الشهيرة لفكر " الجماعة الإسلامية " ، عبر قادتها المعتقلين ، أو فى مساعى الأقلام الإخوانية المتعددة لإيجاد تكييفات فكرية إسلامية ملائمة ، للاندماج فى أطر وبنى النظام السياسى ، المفارق للتصورات الإخوانية القديمة حول أسس الدولة والحكومة الإسلامية .

إذ إن تحولات السياسة والنزوع إلى المحكومية – أو الحكمانية – بتعبير آخر ، وهو اتجاه مستقبلى ، ربما يحدث فى مصر – والقائمة على إعادة صياغة ، بل على تشكيل مفاهيم وأنماط شبكات السياسة ومؤسساتها نحو شراكة ثلاثية بين الحكومة والقطاع الثالث (جماعات المجتمع المدنى والأهلى) والقطاع الخاص ، قد تساهم – فى الأمد الطويل ، على أكثر تقدير– فى تحريك أنماط التفكير السائدة ، فى حقل الأفكار السياسية الإسلامية والدينية ، عموماً ، فى مصر والمنطقة العربية ، إلا إن ذلك لابد أن يفرض – برأى أحد الباحثين فى الظاهرة الإسلامية – أنماطاً جديدة من التكيف الفكرى والسياسى والحركى ، ولاسيما أن ثمة احتمالية لنشوء حركة اجتماعية جديدة تختلف عن الحركة الاجتماعية القديمة ، والتى يندرج " الإخوان" كجماعة ضمن إطارها ، إلى حد ما (18) ، ناهيك عن غياب مثال (حكم إسلامى) جاذب للنجاح ، إقليمياً ، وهو ما قد يؤثر على مستقبل الجماعة السياسية" ، أو " اليوتوبيا الإسلاموية" ، بحسب التعبير الذى استخدمه (جيل كيبل) ، فى كتابه الأخير : " الجهاد الإسلامى ، وتوسع الحركات الإسلامية وأفولها " ، وهو مأزق قد تتفاقم فصوله مع النكوص البادى عن متابعة تجديد بنى الأفكار الأساسية ، التى تشكل عموميات خطاب " الإخوان المسلمين " ، إذ لم تستكمل الجماعة إصدار بيانات فقهية أو سياسية حول معضلات " تجديد الخطاب " ، والانخراط فى أمور تتسم بالتركيب فى العلاقة مع إنجازات الحداثة القانونية والقضائية والسياسية ، فضلاً عن المتحولات الجديدة ذات الطابع المعلوم ، والتى تطرح إشكاليات وتحديات أمام الخطابات التقليدية والحديثة (الغربية منها والعلمانوية) ، بل وما بعدها فى أمور تتصل بأزمات الدولة القومية الحديثة ، والهياكل النوعية الجديدة ، وكيف يتم التعامل معها وبها إزاء عالم ما بعد 11 سبتمبر 2001 ، بوصف أن تجديد الفكر الدينى والفقه والاجتهاد – كجزء من مواكبة أسئلة العصر وإشكالياته وأزماته وتعقيداته – هو من الالتزامات العملية ، التى تقع على عاتق الباحث والمثقف والمفكر المسلم ، أياً كان مجتمعه وانتماءاته .. الخ (19).

بيد أن هناك من يرى أن " النص الإسلامى " – بكل ما يتفرع عنه من نسق قيمى وخطاب أيديولوجى – يمثل ، فى الحقيقة ، البعد الثقافى فى قراءة الظاهرة الإسلامية (السياسية) ، بوصفه بعداً يؤثر ويتأثر بالبيئة الاجتماعية ، ومن ثم ، ففى ظل بيئة سياسية ديمقراطية يمكن أن تعاد قراءة هذا " النص الثقافى " ، بصورة تجعله عنصراً إيجابياً من عناصر عملية التطور الديمقراطى (فى البلدان الإسلامية) ، حيث يمكن للثقافى أن يتغير ، عبر تفاعله مع الاجتماعى، وإن كان بصورة أبطأ من السياسى والاقتصادى ، بما يتيح – فى نهاية المطاف – الحديث عن ثقافة ديمقراطية يمكن أن تولد – فى ظل بيئة سياسية واجتماعية مواتية – ولو قيصرياً ،من رحم الثقافة التقليدية (20) ، ذلك أن رحلة التفاعل بين الثقافى والاجتماعى هى رحلة تاريخية طويلة ، من الصعب فيها تثبيت الثقافى باعتباره قدراً حتمياً لا يتغير ، مثلما من الصعب ، أيضاً ، تجاهل تأثير الاجتماعى فى الثقافى ، فرغم الطبيعة المختلفة لكلا الحيزين ، والآلية الخاصة التى تحكم عملية التغيير داخل كل منهما ، ففى النهاية يصبح من الصعوبة بمكان أن نتصور حيزاً ثقافياً خالداً ، ولكن من الوارد ، أن يكون الوعاء الثقافى والحضارى الإسلامى عنصراً مساعداً فى نجاح عملية التحول الديمقراطى فى مصر والعالم العربى ، بحيث يمكننا أن نتصور ، وفى المستقبل المنظور ، ظهور تيار " إسلامى ديمقراطى " لا يجد أى تناقض بين ارتباطه الدينى والتاريخى والثقافى بالإسلام ، وبين خطابه السياسى وممارساته الديمقراطية (21) ، وهى مقاربة ربما يكون النموذج الإسلامى التركى فى الحكم هو أحد تجلياتها ، لا تجربة " الإخوان الجدد " فى مصر عبر النقابات المهنية ، وفى البرلمان ، طوال عقد الثمانينيات من القرن المنصرم ، والتى حاول أحد الباحثين فى الظاهرة الإسلامية السياسية أن يدرجها ضمن عمليات التطور والانفتاح الديمقراطى (22) ، بينما جاءت هذه التجربة ، ضمن سياقات نمط إخوانى فى " التعبئة السياسية الإثارية " للحقل السياسى المصرى – الذى أضحى تقليدياً – وضمن حالة من الاضطراب فى أسواق اللغة والسياسة وأنماط استهلاكها ، بما ساهم فى شروخ مست الموحدات السابقة – مع بقاء مناطق الاختلاف الكبرى حول علاقات الدينى بالسياسى والمدنى – وهو ما ولد صداً وخوفاً وريبة ، وعدم ثقة متبادل بين الجميع ، وإلى تدهور فى صدقية الخطابات الحزبية ، والإخوانية وجماعات المثقفين ، وبما يحول دون التصدى لظواهر سياسية بنائية ، تمس بناء الشرعية والسلطة ، وصنع السياسات ومردودها الاجتماعى والسياسى (23) .

لذا ، يظل مستقبل الحركة الإسلامية السياسية – ضمن فاعلية الفعل الإسلامى العام ، الذى يزعم بعض من هذه الحركات الحديث الكلى باسمه مرهوناً بأمور عدة ، منها : إيجاد آليات حوارية وسجالية تتسم بالرغبة فى تشييد الجسور بينها وبين الجماعات السياسية والمدارس الفكرية المختلفة (24) ، والسعى إلى وسائل للتفاعل مع منظمات المجتمع المدنى العالمى ، عبر خطاب إنسانى عالمى جديد مستمد من القيم الإسلامية فى العدالة والمساواة ، فى ضوء الحاجة إلى إسلام سياسى ديناميكى يحل مكان – أو يتوازى مع – مؤسسات " الإسلام الرسمى " ، من أجل إدارة صراع سياسى مع قيم العالم الجديد ، من داخل وسائل العصر فى التعبئة السلمية والخيال السياسى (25) .

بيد أن هذه المتطلبات قد تصطدم بسطوة الصيغ الأيديولوجية ، التى هيمنت على فكر حركات الإسلام السياسية ، وفى قلبها " الإخوان " ، فيما يتصل بنفى حاكمية الإنسان ، وخلافته لله على الأرض ، استناداً إلى طروحات (أبو الأعلى المودودى) القائلة " بالحاكمية لله " (26) ، والتى راج مفهومها بين هذه الحركات ، حول الدولة الإسلامية المرتقبة ، ودار الإسلام ودار الحرب ، والنحن والآخر ، وهى مفهومات صارت شائعة فى الخطاب السياسى العام ، بعد استنساخها ، ضمن صيغ غير دينية ، من قبل " نحن والآخر " ، وإن ظلت الماكينة الأيديولوجية لحركات الإسلام السياسية هى المغذية لهذه الصيغ وأشباهها .

ذلك أن هذا النمط من الصيغ الجاهزة ، مع اصطحاب العادة ، وقوة الكلمات التى تحفظ عن ظهر قلبى ، وتتكرر دون تردد أو تفكير ، تُسير الناس زمناً أطول مما يعتقدون (27) .

بيد أن (شارل جنييبيرت) ، وهو أحد كبار الاختصاصين فى علم الأديان (المقارن) ، يرى أن القوة المستمدة من العادة ومن الكلمات هى قوة ميتة ، بحد ذاتها ، أى فى تلك اللحظة التى يتوقف فيها تأثيرها ، حيث تصبح الشروح والتفاسير عاجزة عن إخفاء التعارض الذى نشأ بين ما تؤكده هذه الصيغ وبين ما تتطلبه روح بعض الأوساط الجديدة ، ومن ثم فإن محاولة هذه الحركات تغيير هذه الصيغ ليست إلا محاولة للإبقاء على وهم من الأوهام لا يلبث بطلانه أن يبدو واضحاً للعيان ، وذلك مع تشكل وسط ثقافى لم يعد يستطيع قبول المؤكدات التى تفرضها السلطة (السياسية / الدينية / الحركية) ، وهو وسط يرى (جنييبيرت) أنه محصلة معقدة ، مكونة من عناصر عديدة يصعب عزلها ، شأنها فى ذلك شأن الثقافة العامة للبلد أو العصر الذى تنشأ فيه ، معتبراً أن المجهودات المستميتة لإنقاذ هذه الصيغ ، عبر ما يسميه التوفيق البطولى فيما بينها وبين الروح الجديدة ، أو العلم الجديد ، ليست سوى جهود يقوم بها الضمير الدينى ليتخلص منها (28) (...) ، وحينها يصير مفهوم مثل " الحاكمية لله " مفارقاً لذلك المفهوم الذى يضارع مفهوم " الحكم باسم الله " ، كما صاغته الكنيسة الرومانية الغربية ، فى عصور أوربا الوسطى ، أو كما صاغته حركات الإسلام السياسية ، وخاصة جماعة " الإخوان المسلمين" ، فى ثلاثينيات القرن العشرين ، وما بعدها ، بوصفه مفهوماً لا للهيمنة باسم الله بل لإعادة تحرير الإنسان من كل سلطة طاغية ، تحد من إرادته وفاعليته واختياراته المسئولة . تلك السلطة المتمثلة فى الخطابات التوليتارية،سياسية كانت أم دينية أم مالية أم إعلامية ..الخ، بوصف أن الله هو وحده الحامل لحاكميته ، لأنه الغالب المطلق الأعلى ، الذى لا تحد سلطته قوة من القوى ، بحسب تعبيرات (أبو الأعلى المودودى) ذاته (29) ، حول هذه الحاكمية التى تتحرر – عندئذ – من الصيغ التى سعى هذا الخطاب أو ذاك أن يسجنها فيها ، ففارقت بها السلطة الإلهية ، بعد أن تمكنت – أى تلك الصيغ – من استعباد أصحابها ، باسم الإله ، المتعالى على كل صيغة وكل سلطة ، وهو النظر الذى بات الناس يستعيدون آفاق فعله على وجودهم ، رويداً ، كما عبرت عنه ينابيع الإسلام الأولى ونصه الحكيم (القرآن) ، ضمن وسط ثقافى عالمى ، يتشكل على نحو مغاير من التشكيلات الثقافية القديمة ، والتى تتداعى أركانها اليوم ، واحداً بعد الآخر ، على نحو تفقد فيه حركات الإسلام السياسية ركائزها القديمة ، وخاصة جماعة " الإخوان " ، وها هنا تتحدد مآزق المستقبل الذى ينتظرها ، شاءت هذه الحركات أم أبت ، أمام تلك السيولة المعرفية المتعاظمة والمؤثرة على مختلف الجماعات والأمم ، بعد أن صارت الأجيال الجديدة فيها تشكل أغلبيتها الساحقة ، وتشكل مادة هذه المعرفة المتعولمة .




مراجع



1 – انظر جريدة " الإخوان المسلمون " ، عدد 9/4/1946 .

2 – حسن البنا ، رسالة المؤتمر الخامس ، دار الكتاب العربى ، القاهرة ، ص56 .

3 – رفعت سيد أحمد ، الإخوان المسلمون (1928 – 2005) (النشأة – التطور – الأفكار) – من أوراق البرنامج البحثى الموسع حول الإخوان المسلمين ، الدراسة الأولى ، مركز يافا للدراسات والأبحاث ، القاهرة 2005 ، ص7 .

4 – حسن البنا ، الرسائل الثلاث (رسالة الجهاد) ، دار الكتاب العربى ، بيروت ، ص37 .

5 – حسن البنا ، رسالة المؤتمر الخامس ، مصدر سبق ذكره ص24 .

6 – محمد أحمد خلف الله ، الصحوة الإسلامية فى مصر ، ضمن كتاب : الحركات الإسلامية المعاصرة فى الوطن العربى ، مركز دراسات الوحدة العربية ،بيروت 1987 ، ط1 ،ص48.

7 – انظر : يوسف القرضاوى ، الحل الإسلامى فريضة وضرورة ، من الصفحات 148 وما بعدها ، وانظر ، كذلك ، محمد أحمد خلف ، الصحوة الإسلامية فى مصر ، مرجع سابق ، ص ص 78 ، 79 .

8 – يوسف القرضاوى ، مرجع سابق ، ص197 ، وما بعدها .

9 – المجموعة الدولية لمعالجة الأزمات (I-C-G) ، الإسلام السياسى فى شمال أفريقيا : (I) تركات التاريخ ، عن موقع كرايز جروب ، ص2 (عن الترجمة العربية) .

10 – المرجع السابق ، ص 3 .

11 – مراد هوفمان ، الإسلام كبديل ، ترجمة : غريب محمد غريب ، مجلة النور الكويتية، الكويت ، أبريل 1993 ، ط1 ، ص111.

12 – المرجع السابق ، نفس الصفحة .

13 – نفسه ، ص 147 .

14 – عبد الله النفيسى ، مستقبل الصحوة الإسلامية ، عن كتاب : الحركات الإسلامية المعاصرة فى الوطن العربى ، ص234 .

15 – مراد هوفمان ، مرجع سابق ، ص165 .

16 – المرجع نفسه ، ص113 .

17 – نفسه .

18 – نبيل عبد الفتاح ، سياسات الأديان : الصراعات وضرورات الإصلاح ، ميريت للنشر والمعلومات ، القاهرة 2003 ، ص233 .

19 – المرجع السابق ، ص ص 338 ، 477 (بتصرف) .

20 – عمرو الشوبكى ، مستقبل الحركات الإسلامية بعد 11 أيلول (سبتمبر) ، حوارات لقرن جديد ، دار الفكر ، دمشق ، كانون الثانى (يناير) 2005 ، ص ص 260 ، 261 (بتصرف).

21 – المرجع السابق ، ص 261 (بتصرف) .

22 – نفسه .

23 – نبيل عبد الفتاح ، مرجع سابق ، ص ص 339 ، 340 (بتصرف) .

24 – المرجع السابق ، 2239 .

25 – عمرو الشوبكى ، مرجع سابق ، ص ص 300 ، 301 .

26 – أبو الأعلى المودودى ، الحكومة الإسلامية ، ترجمة : أحمد إدريس ، طبعة القاهرة 1977 ، ص ص ص 81 ، 82 ، 116 .

27 – شارل جنييبيرت – تطور العقائد – ترجمه وقدم له وعلق عليه : د. محمد محمد حسانين ، القاهرة 1991 ، الطبعة الأولى ، ص 310 .

28 – المرجع السابق ، ص ص ص 310 ، 322 ، 323 (بتصرف) .

29 – أبو الأعلى المودودى ، مرجع سابق ، نفس الصفحات ، وانظر كذلك : رفعت سيد أحمد ، قرآن وسيف ، من ملفات الإسلام السياسى ، دراسة موثقة ، مكتبة مدبولى ، القاهرة 2002 ، ص 31 .







--------------------------------------------------------------------------------


* كاتب وباحث مصرى فى الحركات السياسية الدينية.


* انظر مثلاً كتاباتهما حول الدولة الإسلامية والعلمانية ، التى تستدعى مفهوماً أوربياً آفلاً فى الواقع الثقافى العربى والإسلامى المغاير .


This message has been truncated




#فكرى_عبد_المطلب (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- بيبي بالطريق جايينا..استقبال تردد قناة طيور الجنة على نايل س ...
- بفيديو دعائي..-حسم- الإخوانية تهدد بعمليات إرهابية في مصر
- لماذا المسلمون وحدهم يحرمون من السلاح النووي؟
- تجمّع العلماء المسلمين بلبنان: الإمام الحسين (ع) رسالة إلهية ...
- السيد الحوثي: إحياء ذكرى الإمام الحسين (ع) تجسيد لقضية الإسل ...
- استقبال تردد قناة طيور الجنة بيبي على الأقمار الصناعية نايل ...
- سوريا: الطائفة الشيعية في دمشق تحيي عاشوراء هذا العام في ظل ...
- الشرطة الألمانية تفرق مظاهرة مؤيدة لفلسطين وتعتقل ناشطين يهو ...
- ستة ملايين سائح زاروا كاتدرائية -نوتردام- في باريس منذ إعادة ...
- خطوات تثبيت تردد قناة طيور الجنة بيبي الجديد على النايل سات ...


المزيد.....

- السلطة والاستغلال السياسى للدين / سعيد العليمى
- نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية / د. لبيب سلطان
- شهداء الحرف والكلمة في الإسلام / المستنير الحازمي
- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - فكرى عبد المطلب - مستقبل الحركات الاسلاموية فى مجتمع العولمة..- الاخوان - مثالا