فيكتور شابينوف
الحوار المتمدن-العدد: 1050 - 2004 / 12 / 17 - 10:37
المحور:
اليسار , التحرر , والقوى الانسانية في العالم
شهدنا خلال الآونة الأخيرة بضعاً مما سمي بـ"الثورات المخملية" في صربيا وجورجيا، والآن في أوكرانيا. وثمة الكثير مما يجمع بينها. فمضمون هذه "الثورات" يكمن في كل مكان في تغيير الزعيم غير المنسجم كلياً مع المصالح التجارية والسياسية لرأس المال الأميركي، ليحل محله زعيم أكثر انسجاما مع هذه المصالح، زعيم يكون غالباً "في الجَيب". هذه الأساليب جديدة نسبيا، إذ إن رأس المال الأميركي كان في الغالب يستخدم أسلوب الانقلابات العسكرية، بل في أحيان كثيرة التدخل العسكري المباشر. وإننا لنرى هذا الأسلوب الأخير يطبق اليوم بكل حذافيره في العراق.
بيد أن "الثورة المخملية" تكلف غالياً. فلا بد بدايةً من إعداد السكان إعدادا مكثفاً ليعتبروا نظام بلادهم غير ديموقراطي (وهذا أمر غير صعب المنال إذ إن هذا هو الحقيقة بعينها في 90 بالمائة من البلدان). ثم تلقى تبعة الوضع الاقتصادي والاجتماعي المتردي على رأس النظام الذي سيكون على "الثورة" إياها أن تزيحه. وهكذا يتركز غضب فئات كثيرة من الناس على هذا الزعيم فتطالب باستبداله. ثم يعد الخبراء الأميركيون المجربون "الثوريين المحترفين" الذين سيكون عليهم أن ينظموا الجماهير في الوقت المناسب والمكان المناسب للتحرك. كل هذا يتطلب طبعاً اعتمادات مالية كبيرة، وهي يتم التعويض عنها بالتملك المقبل في البلد المعني وبالحق في نهب ثرواته وموازنته إذا ما تحق لهم إيصال "ابن كلب" من جماعتهم إلى سدة الحكم، أي "رئيس منتخب ديموقراطياً". هذا الأسلوب استخدم في صربيا وجورجيا وأوكرانيا كما قلنا آنفاً.
ولكن ليس فقط فيها.
فهو استخدم أيضا في فنزويلا وفي بيلوروسيا وفي زيمبابوي، بل في كوبا أيضا. غير أنه لم يؤت هناك أي ثمار. ففيم الأمر؟
في فنزويلا، مثلا، تمكن الأميركيون من شراء قادة الجيش والنقابات المنباعة. غير أن النتيجة لم تأت مثلما في "ثورة الورود" الجورجية أو "ثورة البرتقال" الأوكرانية. بل جاءت النتيجة معاكسة تماما. فتشافس ولوكاشنكو لا يزالان على رأس بلديهما، بينما شيفاردنادزة المتقاعد سعيداً ينتظر يانوكوفيتش الأوكراني كي يلحق به.
هذا يعني أن دسائس ومؤامرات الإمبريالية العالمية لا تكفي وحدها لإسقاط الزعماء الوطنيين. فلانتصار "الثورات المخملية" لا بد من توفر بضعة شروط داخلية ليس بمقدور لا الاستخبارات الأميركية ولا أموال وزارة الخارجية الأميركية أن تؤمنها.
أول هذه الشروط تردي الوضع المادي للجماهير الشعبية وتشديد اضطهادها من قبل الدولة، وهو ما تعي هذه الجماهير أنه ظلم يلحق بها.
وثانيها الانقسام الخطير الذي قد يحصل في داخل الطبقة الحاكمة، وهو ما يتيح لرأس المال الإمبريالي العثور على حليف له جدي وغني داخل البلاد.
بدون هذين الشرطين لا يمكن لأية "ثورة مخملية" أن تنتصر. لنر بعض الأمثلة.
بيلوروسيا: وضع الجماهير وإن لم يكن ممتازا، هو أفضل من وضعها في بلدان الاتحاد السوفياتي السابق الأخرى. فالفئات الحاكمة هناك هي من البيروقراطية السوفياتية سابقاً التي استطاعت أن تحافظ على امتلاك الدولة للقسم الأعظم من المؤسسات وأن تتراص حول الرئيس لوكاشنكو. فإزاحة لوكاشنكو ستعني خصخصة هذه المؤسسات لصالح رأسي المال الأوروبي والروسي، فيما سيبقى القادة البيلوروس خالي الوفاض، ولذلك هم يتمسكون بالرئيس لوكاشنكو. ولذا لم تمر "الثورة المخملية" هناك.
فنزويلا: وضع الجماهير هناك في عهد الرئيس اليساري أوغو تشافس تحسن مقارنة بسنوات حكم خبراء صندوق النقد الدولي. وقد بدئ تنفيذ برنامج للتعليم الشعبي المجاني وللطبابة المجانية. الطبقة الحاكمة منقسمة إلى برجوازية وطنية جزء منها يدعم سياسة تشافس، وإلى رأس المال النفطي المرتبط بالولايات المتحدة. وقد أممت كبريات الشركات النفطية في عهد رئاسة تشافس.
والنتيجة أن انقلاب قيادتي الجيش والنقابات الرجعية على تشافس لم يمر واعتقاله لم يعمر طويلا إذ قضت عليه تحركات الجماهير الشعبية في الأحياء الفقيرة من العاصمة كراكاس.
جورجيا: مستوى معيشة الناس متدنٍّ جدا وعدم رضى الشعب عن السلطة في عهد شيفاردناذزة شامل. الطبقة الحاكمة تتأرجح بين رأسي المال الأميركي والروسي. النتيجة أن "ثورة مخملية" انقضت على نظام شيفاردنادزة وجاءت بالعميل الأميركي ساكاشفيلي رئيسا للبلاد.
أوكرانيا: مستوى معيشة الجماهير متدنٍّ، والسخط كبير على ضغوطات رأس المال الكبير في أوساط الفئات البرجوازية الصغيرة. الطبقة الحاكمة لم تستطع أطرافها أن تتفق على مرشح موحد فراح كل جناح من جناحي الأوليغارشيا يطرح مرشحه: جماعة دونِتسك من أصحاب المليارات في صناعة التعدين رشحت يانوكوفيتش، فيما "ملك السكاكر" بوروشنكو وعدد من رجال الطغمة الأصغر شأناً رشحوا يوشنكو.
النتيجة: لم يتمكن يانوكوفيتش الفائز في الانتخابات (بفعل التزوير والدعم السلطوي) من تبوء منصبه تحت ضغط جماهير البرجوازية الصغيرة التي تنظمت تحت لواء "ثورة البرتقال".
كما نرى، ليس لـ"أموال الغرب" أن تثير دائما "ثورة مخملية". فـ"يد الغرب" يمكنها أن تفعل ما تفعله فقط حيث الشعب أصلا مضام من قبل الرأسماليين المحليين ودولتهم، وحيث لا يمكن لهؤلاء الرأسماليين أن يتفقوا فيما بينهم، فيبدأون يتصارعون على المكشوف.
كثيرون هم زعماء الدول "المستقلة" الذين إذ يرون ما يحصل من تغيير في الأنظمة يحاولون تدارك هذا عندهم بزيادة التعسف والقمع ضد المعارضة وبإقامة نظام دكتاتوري. ولكن يمكن القول منذ الآن أن هذا لن ينفعهم في شيء. تعلموا أيها السادة من تشافس ولوكاشنكو: أمنوا لشعبكم الحد الأدنى من المستوى المعيشي على الأقل، وإنكم ستؤمنون حماية أنفسكم من "ثورات برتقال وورود" مماثلة. غير أن الطبقات الحاكمة الجشعة من أوساط البرجوازية الوطنية لا تريد أصلا أن تتعلم من "الرؤساء الشعبيين". وهي تواصل نهب شعوبها مثلما فعل كوتشما ويانوكوفيتش في أوكرانيا، ومثلما لا يزال يفعل بوتين في روسيا إلى أن يأتي وقت يحل محلهم فيه على موجة الغضب الشعبي من يشبه ساكاشفيلي وغيره من الدمى الأميركية.
ما الذي يمكن يا ترى أن يقابل به الشيوعيون مشاريع الإمبريالية هذه؟ من الحماقة بمكان أن يساندوا رأسمالييهم المحليين ضد الرأسماليين الأغراب. فهم بذلك لن ينقذوا "برجوازيَّهم"، وسيكونون كيساريين في أعين الشعب مثابة مدافعين عن نظام مفلس تعسين ومنباعين. فليس هكذا يمكن أن نقارع الإمبريالية. يجب علينا أن نفوز على الإمبريالية في مسألة تنظيم الجماهير الشعبية، أن نأخذ زمام المبادرة منها. أوليس هذا ما استطاعت فعله بالأمس الأممية الشيوعية، وكانت لها فيه الباع الطولى؟ فالطغاة المحليون كانوا يخافون من هذا التنظيم الرهيب أكثر بكثير من خوفهم من منافسيهم الإمبرياليين في ما وراء المحيط. والإمبريالية ليس يمكنها أن تنظم تحرك الشعب وتوجه نقمته لأغراضها الخاصة إلا عندما لا نحسن نحن، الشيوعيين، تنظيم الشعب (وبالأخص طبقته العاملة).
إن بوسع الشيوعيين أن يدرأوا حصول "ثورات البرتقال" ليس بدعمهم أمثال يانوكوفيتش من الرأسماليين المحليين، بل فقط بتنظيم وتدبير الثورات الحمراء.
----------------------------------------------
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟