يبين توزع المقاعد في الدوما الجديدة أن ما يقرب من نسبة 37 بالمائة من أصل نصف الناخبين الروس تقريبا الذين جاؤوا إلى أقلام الاقتراع صوتوا لصالح "روسيا الواحدة". وليس هذا بقليل وإن كانت هناك حالات تلاعب قد سجلت لصالح حزب السلطة. فنجاح دميتي الكرملين، الحزب الديموقراطي الليبرالي (جيرينوفسكي) و"رودينا" (الوطن) اللتين سوف تصوتان في كل القضايا الهامة "كما يجب" يبين أن البرلمان سوف يكون "برلمان جَيب" بامتياز. والقوة المعارضة الرئيسية، بل الوحيدة في هذه الانتخابات، الحزب الشيوعي الروسي، كانت نتيجتها متدنية تدنياً قياسياً (حوالى 17 بالمائة). أما اتحاد القوى اليمينية و"يابلوكو" فعدم دخولهما البرلمان (لم يتمكنا من تجاوز حاجز الـ5 بالمائة) بيّن أن ليبرالية التسعينيات على تجددها بعض الشيء لتتماشى مع روح الزمن على قاعدة "الإمبريالية الليبرالية" قد أتت إلى نهايتها.
هي ذي اللوحة غير المفرحة.
وقد تساءل رفيق لي من حزب العمل البلجيكي جاء إلى موسكو في عز السباق الانتخابي متعجبا لماذا تطرح كل الأحزاب المعروفة إلى هذا الحد أو ذاك البرنامج نفسه والشعارات نفسها؟! وهذه هي، لعمري، الحقيقة. فكل الأحزاب التي شاركت في الانتخابات راحت تطالب إلى هذه الدرجة أو تلك بزيادة الأجور والمعاشات التقاعدية وبتعزيز قدرات الدولة وبفرض ضرائب إضافية على رأسماليي النفط.
وقد جاءت النتيجة على قدر الجهد. تصور معي أيها القارئ أن هناك سلعاً معروضة في دكان سعرها واحد تقريبا. فأي منها سيباع أكثر؟ بديهي أنه سيكون ذاك الذي يحظى بدعاية أكبر. في هذه الحالة كتلة "روسيا الواحدة" الموالية للسلطة.
وهنا بالذات يكمن سبب الفشل الذريع والمزري للحزب الشيوعي الروسي في هذه الانتخابات. فالحزب الشيوعي لم يأت ببرنامج بديل لتطوير المجتمع، بمبادئ بديلة لمعالجة مشاكل المجتمع. قصارى القول أن الحزب لم يدعُ إلى الاشتراكية في نشاطه التحريضي قبيل الانتخابات. والناخب عموما لم ير أي فرق بين الحزب الشيوعي الروسي وأحزاب البرجوازية الكبرى في دكان "انتخابات العام 2003".
قد يعترض أحدهم فيقول أن تقنيات قذرة ودعاية رسمية مغرضة وما شابه من الأساليب غير السليمة استخدمت ضد الحزب الشيوعي. ولكن من قال لكم أيها الرفاق أن عدوكم سيكون شريفاً ونبيلاً؟ هل تعتقدون فعلا أن الرأسماليين لن يلجأوا إلى شتى أعمال التلاعب والتزوير حين يتعلق الأمر بأرباحهم التي هم حريصون كل الحرص على بقائها؟
زد على ذلك أن الحزب الشيوعي حشر في قائمته الانتخابية رأسماليين من شتى الصنوف والأحجام. ومن بينهم من هو مرتبط بشركة "يوكوس" النفطية السيئة الصيت. وهكذا جعل زعماء الحزب كروشهم الرخوة عرضة لسكين الدعاية المضادة التي قادتها قنوات التلفزة الرسمية.
فهل هو ممكن فوز الشيوعيين في الانتخابات؟ لا في 99,9 بالمائة من الحالات. غير أن بوسع الشيوعيين أن يناضلوا في سبيل الحصول على مقاعد في الدوما بغية استخدام منبرها لتنظيم النضال الثوري. ولا بد هنا من القول إن الحزب الشيوعي الروسي كان دوما على خلاف مع النضال الثوري، وإننا اعتدنا رؤية ذلك منه. غير أن زعماء الحزب فعلوا في هذه الانتخابات كل ما في وسعهم لكي يخسروا المعركة الانتخابية. فعلى الرغم من أنه كان من الصعب جدا أن تخاض الانتخابات الحالية أسوأ مما خيضت انتخابات العام 1999، بين زوغانوف وجماعته أن لا شيء غير ممكن بالنسبة إليهم. فالحزب الشيوعي دخل الدوما عمليا بفضل احتكاره لتسمية "شيوعي". وفي ما خلا الاسم لم يطرح الحزب الشيوعي أي برنامج إيجابي. فشعارات الاستفتاء المحظور الأربعة المعروفة وردت في برامج كل الأحزاب عمليا وتم التعبير عنها في بعضها مثل كتلة "رودينا" (الوطن) لغلازييف- روغوزين بدقة أكبر.
يمكن طبعا، كما يحب أن يفعل عادة زعماء الحزب الشيوعي الروسي، التشكي من "سرقة شعاراتهم". ولكن اسمحوا لي بالسؤال: أية شعارات هي هذه التي تصلح لأن تكون شعارات الجميع؟
ما هو الاستنتاج الذي يجب أن يستنتجه الشيوعيون من الهزيمة المنكرة في هذه الانتخابات؟إن الحزب الشيوعي يجب أن يكون شيوعياً. أي أن عليه ألا يختبئ وراء شعارات مقبولة لدى بعض فئات الرأسماليين في إطار "التقدم الاعتدالي في ظل الشرعية". فكيف الأمر، يا ترى، إذا كانت قائمته الانتخابية محشوة بأسماء المرشحين من ممثلي هذه الفئات الرأسمالية إياها؟ على الحزب أن يقترح بديلا عن مجمل النظام الرأسمالي. بهذا فقط يمكنه الفوز وإحراز النصر. ثمة في الواقع إيجابيات معينة بالنسبة إلى المعارضة اليسارية في كون أجنحة السلطة حصلت على الأغلبية الساحقة من مقاعد الدوما. فلن يكون ممكنا بعد اليوم للدوما ان تنتهج أي سياسة باستثناء سياسة بوتين. وحتى أشد المعاندين عنادا في البرلمان من عداد "المعارضة البناءة" سيكونون مضطرين إما للانضمام إلى الأغلبية المطيعة ونسيان أية معارضة، وإما للبحث عن قوى من خارج البرلمان يمكنهم التعويل عليها.
لقد دخل الدوما من خلال قوائم الحزب الشيوعي الروسي زعيم حزبنا حزب العمال الشيوعي الروسي-حزب الشيوعيين الروسي، فيكتور تولكين. وهذا الأمر هو بالنسبة للشيوعيين مهم على الرغم من النتائج المعروفة للانتخابات. ذلك أنها المرة الأولى خلال كل تاريخ الدوما الروسية سيمكننا أن نلحظ فيها عملا برلمانيا من نوع آخر. فممثل الحزب الشيوعي العمالي سيحرك ماء الدوما الآسن لأنه ذاهب إلى البرلمان لا لأجل درس مشاريع القوانين التي ستطرح، بل لأجل النضال في سبيل استبدال النظام العميل الخاضع كليا للـ"ديموقراطية" البرجوازية بنظام سوفياتات (مجالس) العمال. وهذا ما لم تره الدوما حتى الآن! وإذ نأمل بالمستقبل فإننا نربط بهذا أملنا، وليس أبدا بأغلبية في الدوما وطنية شعبية موهومة.