أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - ريمون نجيب شكُّوري - يسوع الناصري















المزيد.....

يسوع الناصري


ريمون نجيب شكُّوري

الحوار المتمدن-العدد: 3527 - 2011 / 10 / 26 - 13:43
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


آراءٌ وأفكارٌ
3
يـسـوع الـنـاصري

مهما كانت إعتقاداتُنا أو تصوراتُنا الشخصية عـن يسوعَ الناصـري ينبغي الإقـرارَ بأنه هيمـنَ على التاريخِ خصوصاً الغـربي منه خلالَ القـرونِ العشـريـنَ الماضية . وقامتْ التعاليمُ التي تُنسبُ اليه الداعيةُ للمحبةِ والتسامحِ ونبذِ العنفِ وغفـران الأعداءِ بِدَورٍ فـذٍّ في تاريخِ البشـريةِ. كما أن معظمَ البشـرِ يؤرخون تقاويمَهم بدءاً مـن ما يُعتقدُ أنها سنةُ ميلادِه، ويُـقْسِمُ باليميـن كثيـرٌ مـن الناس بإسمه. ويـتضـرعُ يومياً اليه بالصلاة ملايـيـنٌ مـن البشـر، ويتناولُ كثيـرٌ منهم تذكـراً به وهم في غايةِ الخشوعِ ما يؤمنونَ حقاً أنه جسدُه ويـرتـشفون ما يعتقدونَ حقاً أنه دمُه *1*.
لكـن رُغم كـل ذلك لا يُعْـرَفُ عـن حياتِه الشخصيةِ إلا شيءٌ قليـلٌ. وكـلُ ما هو معـروفٌ عنه قد كُتِبَ في الأناجيـل وفي الأناجيـل فقط *2* بعد موتِه على الصليبِ بِعشـراتِ أو بِمئاتِ السنيـن. ويكادُ أن يكونَ مـن المؤكدِ أن كتبةَ الأناجيـل لم يكونوا معاصـريـنَ له ولا شهودَ عيانٍ لِما نُسِبَ اليه مـن معجـزاتٍ بـل كانوا مجـردَ مُدَّوِنيـن في كتاباتِهم الإنجيليةِ لما تناولتْهُ التقاليدُ والحكاياتُ المسموعةُ. ومما هو واضحٌ لمَنْ يقـرأُ الأناجيـلَ أن توثيـقَ السيـرةِ الشخصيةِ وشؤونِ الحياةِاليومية للمسيح لم يكـنْ مِـن أولوياتِ مهام أو إهتماماتِ كتبةِ الأناجيـلِ بـلْ كان التبشيـرُ بِتعاليمِه وأقوالِه وأعمالِه الإعجازية وبانطباق نبؤاتِ أنبياء العهدِ القديمِ عليه يشكـِّـلُ معظمَ أهدافِهم الـرئيسيةِ وليس مـن المستبعدِ ــ بـلْ مـن المـرَّجحِ جداً ــ أنهـم بالغـوا بأعماله الإعجازية وربـما اخـتـرعوا مـن عندهم بعضاً منها. ومـن الجديـرِ بالذكـرِ أن كلمةَ ” إنجيـل“ تعني الأخبار السارة. فهُم أذن كانوا يُـبشـرونً بني البشـر بِجنةٍ يخلدُ المؤمنونَ فيها خلوداً أزلياً بعد الموت. وهي أُفكارٌ كانتْ تلقى آنذاك صدىً مسموعاً ومؤثـراً في مجتمعاتِ ذلك العصـر (كما سنـرى بعد قليـل).
وهكذا نجدُ المسيحَ اليوم إنساناً لا يُعـرَفُ عـن حياتِه البشـرية إلا الـشيءُ القـليـلُ فـمثلاً لا يُعـلمُ شيءٌ عـن طبـيعةِ عـملِه ولا عـن كيفـيةِ كـسْبِه لـقوتِه الـيومي ولا عـن حـالتِه الـزوجيةِ أكانَ متـزوجاً أم أعـزبَ؟ أكانَ متعلماً يجيدُ القـراءةَ والكتابةَ ؟ أضَحِكَ أو ابْتَسَمَ يوماً ؟ أسافـرَخارجَ الأراضي الفلسطينية (باستـثـناءِ سفـرةٍ الى مصـرَ أثناءَ طفولتِه مع والدتِه مـريم ويوسف) ؟ أغضبَ أو تشاجـرَ مع أحدٍ في يوم ٍ ما؟ تقول الإناجيـلُ أنه غضِبَ يوماً وضـربَ بسوطِه مستبيحي ساحةِ الهيكـلِ مـن باعةٍ وصـرافيـن. ولم تـروِ لنا الأناجيـلُ أنه تكلمَ ــ هو بِنفسِه ــ عـن ولادتِه البيولوجية التي مـن المفـروضِ أنها كانت معجـزةً كبـرى.
ربما يتصورُ قـراءُ الأناجيـل أن المسيحَ وعظاتِه وتعاليمَه ومعجـزاتِه قد أحدثتْ في زمـنِ حياتِه دوياً عالياً وضجةً مثيـرةً هـزّتْ يهودَ فلسطيـن ذلك العصـر وسكنةَ المناطق المجاورة. لكـن في الحقيقةِ، هذا التصورُ لا يطابقُ الواقع. إذ لم يأتِ ذِكْـرُ إسمِ يسوعَ المسيح في أيِ مصدرٍ مـن المصادرِ غيـرِ المسيحيةِ أو مـن خارج الأناجيـل لعشـراتٍ مـن السنيـن. ولم يتطـرقْ أيٌ مـن مؤرخي ذلك العصـرِ مـن اليهودِ أو الـرومان أو الإغـريـق الى المسيحِ إلا بعد قُـرابة أربعيـن عاماً مـن وفاتِه أو أكثـر. لعـلَ المؤرخَ الإسـرائيلي يوسيفوس كان أولَ مَـنْ جاءَ بذكـرِ كلمتيـنِ يتيمتيـنِ "المسيح" و"المسيحيـيـن" بصورةٍ عابـرةٍ في سنةِ 67 ميلادية في فقـرتيـنِ مقتضبتيـنِ جداً مـن كتابِه التاريخيِ الضخمِ (يعتقِـدُ بعضُ المؤرخيـن أنهما أُقحمتا مـن قِـبـلِ النقلةِ بعد مدةٍ طويلة). إضافةً الى هذا لم يكـنْ يبدو أن أغلبيةَ اليهودِ في فلسطيـنَ ذلك الـزمـنِ قد إستـرعتْ إنتباهَهم الإعما لُ الإعجازية التي تدَّعي الأناجيـلُ أن يسوعَ الناصـري قام بها, حتى أخوتُه وأخواتُه لم يكونوا يعبؤون به (كما تنوّهُ الأناجيـل). والمواطـنُ الـروماني الإعتيادي لم يكـنْ يعلمُ حتي بوجودِ شخصٍ بذلك الإسمِ إلا بعد صلبِه بسنواتٍ عديدة. ولم تكـنْ للتعاليمِ المسيحيةِ تأثيـرٌ يُذكـرْ على المجتمعِ الـروماني إلا بعد مضيِ عشـراتِ السنيـن مـن وفاتِه، ولم يصبحْ تعذيبُ وقَتْلُ معتنقي المسيحيةِ عند مدَّرجاتِ الكولوسيوم متعةً جماهيـريةً إلا بعد مـرورِ أكثـرَ مـن قـرنيـن مـن الـزمـنِ وبعد بلورةِ الكنيسة لمعتقداتِها. كـلُ هذه الأمورِ تجعـلُ مـن يسوعَ الناصـري ــ الشخصِ الذي تُصَوِّرُهُ لنا الأناجيـلُ ــ ليس إنساناً إنما كأنه بطـلٌ أسطوريٌ مثلُه مثـل گلگامش وغيـرُه كما يدَّعي بعضُُ المؤرخيـن. لكني لستُ ميْالاً الى الإتفاقِ مع هذا الإدعاءِ لأسبابٍ عديدةٍ أهمُها العبارةُ التنبوئيةُ الآتية :
" قـالَ لهم : والحقَّ أقـول لكم : في الحاضـريـن هـنـا
مَـنْ لا يذوقون الموتَ، حتى يُـشاهدوا مجئَ ملكوتِ
اللهِ في مجدٍ عظيم."
ــ التي جاءتْ، وفـق الإناجـيـل الأربعةِ المعتمدَة، على لسان يسوعَ الناصـري في إحدى عِظاته *3* ــ لم تتحققْ بعد إنقضاءِ وقتٍ وافٍ لتحققِها، ولم تـثبتْ صحتُها مطلقاً حتى الى القــرن الحادي والعشـريـن !!!. لا يتـركُ هذا الإخفاقُ شكاً بوجودِ شخصٍ حقيقيٍ قد نطقَ بها وإلَّا لما نقلتْها الأناجيـلُ التي كُـتبتْ بعد مـرورِ زمـنٍ كافٍ لتحققِ النبؤةِ وليس مـن المعقولِ أن تحشـرَ الأناجيـلُ نبؤةً كاذبةً لشخصٍ أُسطوري.
وليس مـن بُـدٍّ أن التعاليمَ والإصلاحاتِ الدينية التي كان يدعو اليها إجتذبتْ في حينها بعضَ الأتباعِ فغدتْ تلك المبادئُ بالنسبةِ الى الجهاتِ الـرسميةِ الدينيةِ والسلطاتِ السياسيةِ " مبادئَ هدَّامةً " تقوِّضُ المجتمع "!!!. الأمـر الذي آلَ بيسوعَ الناصـري ــ كما هو متوقعٌ ــ الى الإعتقالِ والـصلب.
بعد تلك النهايةِ المأساويةِ ط-رأتْ ظـروفٌ سياسيةُ وإقتصاديةُ وإجتماعيةٌ قلبتْ المأساةَ إنتصاراً وحوّلتْ النهايةَ الى ولادةٍ جديدةٍ وجعلتْ مـن شخصِ يسوعَ الناصـري نواةً حيكتْ حولها رواياتٌ وقصصٌ ومعجـزاتٌ تعاظمتْ بإطـراد خلال القـرنيـنِ أو الثلاثة التاليةِ لصلبِه، فقد أُسبِغتْ عليه هالاتٌ مـن القداسةِ غيـرِ المنتهيةِ وربما أُضْـفِيتْ عليه سماتٌ أُقتبِستْ مـن آلهةِ الوثنيـيـن لقدامى الإغـريـق *4*. وفُـسـرتْ مأساةُ صلبِه على أنها فداءٌ ذاتيٌ لجميعِ بني البشـر كي تُغفـرَ خطاياهم الأصليةُ الموروثةُ مـن آدمَ أبي البشـر وأن يسوعَ قد بُعِـثَ به خصيصاً لغايةِ الفداء !!!
وهكذا تفتحتْ وبـرزتْ الغيـبـياتُ وتمازجتْ مع التعاليم والأفكارِالتي نادى اليها يسوعُ الناصـري فإستحالَ هو أيضاً الى شخصيةٍ شبهِ أسطوريةٍ بـل الى إلاهٍ يعبدُه كثيـرٌ مـن البشـرِ كما هو معـروف. وهكذا ظهَـرَتْ الديانةُ المسيحية.
كيف حدثَ هذا ولماذا؟
يحوي المقالُ " آراءٌ وأفكارٌ 1" جـزئياً جانباً مـن الإجابة عـن مثـلِ هذا التساؤل: يـبدو أن المجتمعاتِ البشـريةَ آنذاك كانتْ في حاجةٍ ماسةٍ الى تعاليمَ وآراءَ وأفكارَ جديدةٍ لمعالجةِ أوضاعِها. وكأن التعاليمَ والأفكارَ والإصلاحاتِ ــ التي إحتاجتْها تلك المجتعاتُ ــ كانت معلقةً فوق السحابِ الذي يغطي منطقةَ حوضِ البحـرِ الأبيض المتوسط تنتظـرُ مـَنْ يمطـرُها على المتعطشيـن اليها . فـلمّا أنـزلَها يسوعُ الناصـري الى أرضِ الـواقـعِ ونـادى بهـا وضحّـى بِحياتِه مـن أجلِها، أخذتْ ــ خلال القـرونِ الأُولى بعد وفاتِه على الصليبِ ــ بالإنتشارِ السـريعِ في أوساطَ سكنةِ الشـرقِ الأوسطِ والأرجاء الواسعةِ للإمبـراطوريتيـن الـرومانيةِ والفارسيةِ الكُبـريَـتيـن آنذاك ووصلتْ حتى الى الهند فـتلقـفـتـْها الجماهيـرُ المسحوقةُ في كـلِ مكان. ولعـلَ أكبـرَ وقعٍ لها كان على أفكارَ أُناسِ الطبقاتِ الفقيـرةِ والعبـيدِ والأسـرى الموجوديـن في أنحاء تلك الإمبـراطوريتيـن. وكأن تلك التعاليمُ والآراءُ كانت قنابـلَ قوية تتفجـرُ في داخـل نفوسِهم وباطـن عقلياتِهم مُحدِثَةً تغيـراتٍ في أفكارِهم. فتعكسُ بـزاوية 180 درجة نظـراتِ أولئك المسحوقيـنَ والمستسلميـنَ الى واقعِ حياتِهم المـرِّ كقَدَرِ محتوم وتقـْـلبُ أُطـرَ تفكيـرِهم ومعتقداتِهم. إذ جاءتْ اليهم ببشـرى عظيمةٍ ورائعةٍ هي حياةٌ أُخـرى، حياةٌ جديدةٌ، حياةٌ خالدةٌ أبديةٌ غيـرُ منتهيةٍ أفضـلُ مـن هذه الحياةِ الأرضيةِ الـزائلةِ، حياةٌ يكونون فيها على قدمِ المساواةِ منـزلةً مع رؤوسائِهم ومالكيهم الحالـيـيـنَ بـلْ وربما يكونون أفضـلَ مـن أولـئـك بمجرد أن يُؤمنوا بيسوعَ الناصـري مسيحاً ومخلصاً. فصاروا مستعديـن بـلْ توَّاقيـنَ الى الإستشهادِ في سبيـلِ معتقداتِهم وتصوراتِهم الجديدةِ.
لعـلَ مـن الجديـرِ بالتذكيـر أن الإسلامَ ساهمَ بأُسلوبٍ له شَبَهٌ ليس بقليـلٍ مع ما قدمتَه المسيحيةُ للمسحوقيـن. فأغـرى الإسلامُ ولا يـزالُ يُغـري أتباعَه خاصةً الذكورَ منهم بحياةٍ أزليةٍ أُخـرى ملآى بإمتاعٍ غيـر منتهٍ لغـرائـزِهم الجنسية مع حورياتِ الجنةِ الباكـراتِ ويتمتعون خلالها بكـلِ ما هو محـرَّمٌ على الأرضِ مـن إحتساءِ الخمور وغيـر الخمور!!!
وهكذا نجدُ الغيبياتِ تتشابهُ في الأديانِ المختلفةِ وكأن كلاً منها صورةٌ كاريكاتوريةٌ متبادلةُ الواحدة مع الأُخـرى.
عانى المعتـنـقونَ الأوائـلُ للمسيحيةِ خلالَ القـرونِ الثلاثةِ الأُولى بعد الميلادِ كثيـراً مـن الإضطهادِ والتعذيبِ في أرجاء الإمبـراطوريتيـنِ العظيمتيـنِ آنذاك: هُدِّمتْ مساكنُهم وحُرقًتْ كتبُهم التي كانوا يُقدسونها وأُسـتُـشْهِدَ أعدادٌ كبيـرةٌ منهم بشجاعةٍ نادرة. وغدا شهداؤهم قدوةً يُقتدى بها مما شجعَ مـزيداً مـن المسحوقيـنَ إقتصاديا وآخـريـن غـيـرِهم الى اعتناقِ المسيحية. وبمـرورِالـزمـنِ تكاثـرتْ أعدادُهم وأصبحوا في عصـرِ الإمبـراطور الـروماني قسطنطيـن الأول قوةً لا يستهانُ بها ويـُـحسبُ لها ألفُ حساب.
لا بد أن الإمبـراطورَ قسطنطيـن أخذَ يشعـرُ بِاستحالةِ إيقافِ موجةِ المدِّ المسيحيِ فبدأتْ تختمـرُ في ذهنِه فكـرةُ استغلالِ تلك الموجةِ لِمصلحتِه الشخصيةِ وللأغـراضِ السياسيةِ لِمصلحةِ إمبـراطوريتِه فأنقدحتْ في ذهنِه فكـرةُ ركوبِ تلك الموجةِ العاتيةِ وتسيـيـرِهِ إياها هو بِـنفسه حسبَ مصالحِه وأهوائه . وهذا ما قامَ به فعلاً. إذ أَعلـنَ في سنةِ 311 ميلاديةٍ إعتناقَه الديـنَ المسيحي وإلغاءَهُ جميعَ قوانيـنَ الإضطهادِ ضد المسيحيةِ وعـيّـنََ مسيحيـيـنَ في مناصبَ هامةٍ كانت مـحـرّمة علـيهم سابقاً. وفـي سـنةِ 324 ميلادية أعلـنَ أن المسيحيةَ هي الديـنُ الـرسميُ الوحيدُ للإمبـراطوريةِ الـرومانية. وصارَ يتدخـلُ في شؤونِ الكنيسةِ ويتـرأسُ مؤتمـراتِها الأيمانية. وكافأتْهُ الكنيسةُ بعدئذٍ بتسميتِهِ هو ووالدته قديسَـيْـن !!!
تٌعْتَبَـرُ لحظةُ إعتناقِ الإمبـراطور قسطنطيـن الديـنَ المسيحيَ لحظةَ تحولٍ كبـرى في تاريخ المسيحيةِ خاصةً في أورپا. فكان المسيحيون قبلها مضطهَـديـن (بفتحِ الهاء) وأصبحوا بعدها مضطهِـديـن (بكسـرِ الهاء).
الفـرقْ بيـن المسيحيةِ والإسلامِ مـن هذا المنطلقِ هو أن "قسطنطيـنَ" الإسلامِ الذي ربطَ الديـنَ مع الدولةِ هو محمدٌ نبيُ الإسلامِ نفسُه.
في المسيحيةِ هنالك يسوعُ الناصـري يعظُ في فلسطيـنَ وهنالك سياسيٌ - عسكـريٌ يحكمُ في روما ربط الديـنَ مع الدولةِ يفصـلُ بيـن الشخصيـنِ ثلاثةُ قـرونٍ وآلافُ الكيلومترات .
وفي الإسلامُ ينطبقُ الواعظُ في مكةَ والحاكمُ السياسيُ - العسكـريُ في المدينة بشخصٍ واحدٍ هو محمد إبن عبد الله ويتقلصُ الـزمانُ والمكانُ الي بضعةِ سنواتٍ وعددٍ مـن الكيلومتـرات.
في عهدٍ الإمبـراطور "القديس" قسطنطيـن وبإيعازاتٍ منه أو بأوامـرَ منه نهبَ المسيحيون ذخائـرَ وتماثيـلَ المعابدِ الإغـريقيةِ للوثنيـيـن لتُـزيـنَ بها شوارعُ القسطنطينية المدينة الجديدة التي أنشأها وأطلقَ عليها إسمَه، وعذبوا كهنةً وثنيـيـن حتى الموت، وهـجَّـروا كـلَ مَنْ هو غيـرَ مسيحي مـن كثيـرٍ مـن المدنِ ودمَّـروا معابدَ اليهود َوالوثنيـن في القدس وبعلبك وفينيقيا، وصلبوا السحـرةَ والعـرّافيـنَ واضطهدوا اليهود.
استمـرَ معظمُ الأباطـرةُ اللاحقون على النهجِ نفسِه في تشجيعِ المسيحيـيـن على القيامِ بمثـلِ تلك الأعمال الوحشية بـل وبِأبشعَ منها. فأُمِـرَ بإغلاقِ جميعِ المعابدِ الوثنيةِ ودُنِّسَ بعضُها بتحويلِها الى إسطبلاتٍ أو الى دُورٍ للبغاء. كما أمـرَ الإمبـراطور جوفيان بحـرقِ مكتبةِ أنطاكيةَ وكذلك حُـرِقت أطنانٌ مـن الكتبِ في الساحاتِ العامةِ في المدنِ الشـرقيةِ للإمبراطوريةِ البيـزنطية (الأناضول أي تركيا اليوم).
بتحـريضٍ مـن مطـران الإسكندرية في سنةِ 410 ميلادية أمسكَ رعاعٌ مسيحيونَ بالفيلسوفةِ والـرياضياتيةِ والفلكيةِ هيـپاتيا صاحبة البحوثِ والمؤلفاتِ المتعددةِ وسحلوها في شوارع الإسكندريةِ وقطَّـعوا جسمَها إرباً إربا وطافوا بالقطعِ حول المدينةِ وثم حـرقوها مع كـتبِها.
هذه بعضُ الأمثلةِ للأعمالِ الوحشيةِ التي قامَ بها مسيحيو ذلك العصـرِ وفي كثيـرٍ مـن العصورِ التالية ومنها عصـرُنا الـراهـن. مـن الممكـنِ أن يؤلِّفَ المؤرخون مجلداتٍ عـنها، لكني أرى ضـرورةَ توقفي عـن مـزيدٍ مـن السـردِ. إذ أتـركُ لمحبي الإطلاعِ عليها مـراجعةَ كتبِ التاريخ والموسوعات.
هنالك تعتيمٌ على هذه الأعمالِ الوحشيةِ وأمثالِها عند معظمِ المعاصـريـن مـن المسيحيـيـن. إذ نجدُ أن معظمَهم إما أنهم يجهـلون تماماً عنها وإما أنهم يفسـرونَها تفسيـراً تبسيطياً بالإدعاءِ أن أولئكَ القومَ ليسوا بمسيحيـيـن سوى بالإسمِ فقط ما داموا غيـرَ ملتـزميـنَ بتعاليم المسيح المسالمةِ المتسامحةِ والداعـيةِ الى نبذِ العنفِ وإرساءِ المحبةِ المتبادلة. في حيـن تُـثيـرُ أعمالٌ مماثلة تقومُ بها جماعاتٌ مـن أديانَ أو مذاهبَ أو طوائفَ أُخـرى أو أحـزاب سياسية غضبَ المسيحيـيـن وإشمئـزازَهم ويعـزونها الى سوءٍ في السلوكِ الشخصي لأنبياءِ تلك الأديانِ والمذاهبِ والطوائفِ ولـزعماءِ الأحـزاب والى نصوصٍ وردتْ في ما يقدِّسون مـن كتبٍ. ينطبقُ في الواقع على كـلٍ منها قولُ يسوعَ الناصـري: " لماذا تنظـرُ الى القشةِ في عيـنِ أخيكَ ولا تبالي بالخشبةِ في عينكَ؟ " (أنظـرْ لوقا 6:41). في الحقيقةِ ليس في عيونِ كـلٍ من تلك الفئاتِ مجـردُ خشبةٍ إنما أعمدةٌ خشبية .
أما أنا فأجدُ نفسي رافضاً أمثالَ تلك التفاسيـر التبسيطية. أتصورُ نفسي وكأنما أنا واقفٌ على سطحِ كوكبِ المـريخ أتفـرجُ بحيادٍ تامٍ عمّا يجـري على كوكبِ الأرض. فأرى مجموعاتٍ متنوعةِ المذاهب والأديان والأصول مـن الجنسِ البشـريِ الذي مـن المفـروضِ فيه إمتلاكُهُ للعقـلِ ــ أراها ــ عند ظـروفٍ ليست نادرةً تفـقدُ عقلانياتِها وكأنها مصابةٌ بجنون البقـرِ خاصةً في الحالاتِ التي أُستـنبتـتْ في أدمغتِهم منذ الطفولةِ فيـروساتُ الغيـبـياتِ وأُضفيتْ هالاتٌ مـن القدسيةِ والقداسةِ على أشخاصَ أو على نصوصٍ أوعلى مبادئ. وكأنما أنا أسمعُ مـن على ذلك البُعد تبادلَ التهمِ المماثلة وتقاذفَ الشتائمِ المتشابهة بيـن مجموعةٍ وأُخـرى.
لئلا يساءُ أودُّ التأكيدَ أني أنظـرُ الى الأُمورِ نظـرةً أناديمية بحتة، لا أسيءُ الى المسيح ولا الى محمدٍ ولا الى غيـرِهما. وإن ما أهدفُ اليه في هذه المقالةِ هو التوصـل الى المقولةِالآتية:
لا يتصـرفُ رعاعُ الأديانِ بالضـرورةِ إقتداءً بأنبيائِهم إنما يُـقادون كقطعان ماشيةٍ بفعـلِ هالاتِ التعظيمِ والتبجيـلِ والتقديسِ المضفاةِ على أنبيائِهم وعلى نصوصٍ مـن كتبِهم "المقدسة".
دعنا نتـركَ العنانَ لخيالِنا ولنتصورَ ظـروفاً شاءتْ أن تجعـلَ مـن تولستوي نبياً مبجلاً ذا أتباعٍ كـُـثـرٍ وأن تجعـلَ مـن مؤلفاتِه كتباً مقدسة. ولنتساءلَ كيف كان سيتصـرفُ الغوغاءُ التولستويون؟ ألا يتوقعُ القارئُ ــ متفـقاً معي ــ أنهم كانوا في أغلب الأحوالِ سيتصـرفون بطـريقةٍ مشابهةٍ لغوغائيي الأديانِ المعـروفةِ الأُخـرى. وألا يتفقُ معي القارئُ أن الدولَ "التوبستوية" سوف تُـجيِّـشُ جيوشاًلـِ" فتوحاتٍ تولستوية " غيـرمباليـن ولا مقـتديـن لا بتولستوي ولا بغيـرِه.
_______________________________________________
الــهــوامــش

*1*إذا كانوا حقاً يؤمنون بذلك فلستُ أدري ألا يشعـرون أنهم قد غدوا مـن أكلة لحوم البشـر وشاربي دمائهم.
*2*لا تخلو الأناحيل مـن عدم إنسجام فيما بينها.
*3*مثلاً لوقا 9 ومتى 16،28
*4*المقـتبسة أصلآً مـن سكنة وادي الـرافديـن ومـن الزاردشتية.



#ريمون_نجيب_شكُّوري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- إلتواءاتٌ لغويةٌ في النصوص الدينية
- ضرورة إعتماد الموضوعية عند الإنتقادات الدينية


المزيد.....




- أوكرانيا: السلطات تتهم رجل دين رفيع المستوى بالتجسس لصالح مو ...
- “خليهم يتعلموا ويغنوا ” نزل تردد قناة طيور الجنة للأطفال وأم ...
- فيديو خاص عيد الفصح العبري واقتحامات اليهود للمسجد الأقصى
- “ثبتها الآن” تردد قناة طيور الجنة 2024 Toyor Aljanah لمشاهدة ...
- بعد اقتحامات الأقصى بسببه.. ماذا نعرف عن عيد الفصح اليهودي ا ...
- ما جدية واشنطن في معاقبة كتيبة -نيتسح يهودا- الإسرائيلية؟
- بالفيديو.. مستوطنون يقتحمون الأقصى بثاني أيام الفصح اليهودي ...
- مصر.. شائعة تتسبب في معركة دامية وحرق منازل للأقباط والأمن ي ...
- مسئول فلسطيني: القوات الإسرائيلية تغلق الحرم الإبراهيمي بحجة ...
- بينهم طلاب يهود.. احتجاجات مؤيدة للفلسطينيين تهز جامعات أمري ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - ريمون نجيب شكُّوري - يسوع الناصري