أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فاطمة فائزي - «في المغرب العربي» للشاعر بدر شاكر السيّاب















المزيد.....



«في المغرب العربي» للشاعر بدر شاكر السيّاب


فاطمة فائزي

الحوار المتمدن-العدد: 3518 - 2011 / 10 / 16 - 22:10
المحور: الادب والفن
    


تحليل قصيدة
«في المغرب العربي» للشاعر بدر شاكر السيّاب

قد تكوّن قصيدة بدر شاكر السيّاب «في المغرب العربي» ،[1] من بين أهم قصائده دلالة و قيمة. " إنّها في جميع الأحوال قصيدة مميزة تشكّل علامة فارقة في مسيرته الإبداعية نظراً لما إتّسمت به من بناء متوازن و متماسك الى حدّ بعيد، و من إرتياد لطرق في التعبير و من محاولة تجديد في الإيقاع لا تخلو من جرأة و مغامرة ـ هي تتناول نضال العرب في الجزائر و شمال أفريقيا من أجل إستقلالهم و تحرّرهم و نهضتهم، معبّرة عن الإلتزام السياسي القومي في مسيرة الشاعر الفكرية والإبداعية"[2].
و تتّضح من ذلك أنّ قصيدة «في المغرب العربي» في نطاق الإلتزام القومي العربي، و قد نظّمها السيّاب عام 1956، و نشرها في مجلة الآداب في عدد آذار من العام نفسه و فيها تجاوب حي عميق بين الشاعر و الإنتفاضات العربية التحرّرية في شمالي أفريقيا، في تونس و المغرب و الجزائر، و في كلّ بقعة عربية أخرى. فضلاً عن تجاوبه مع الفكر القومي العربي، و شعاراته الإيديولوجية الحديثة التي أخذت تنتشر في الأقطار العربية المختلفة، و مع التراث العربي و الأمجاد العربية و تاريخ العرب القومي و الحضاري[3]:
قرأت إسمي على صخرة
على آجرة حمراء،
على قبر فكيف يحسّ إنسان يرى قبره؟
يراه و إنه ليحار فيه:
أحي هو أم ميّت؟ فما يكفيه
أن يرى ظلاله على الرّمال
كمئذنة معفّرة
كمقبرة
كمجد زال
كمئذنة ترّدد فوقها إسمُ الله
و خط اسمٌ له فيها[4]
من هذا المطلع، يتّضح أن السيّاب في هذه القصيدة و بلسان الإنسان العربي، يهدف إلى التعبير عن شخصية الأمّة و تاريخها و واقعها و تطلّعاتها. فلقد كان لأمّة العرب حضورٌ في ما غير من الزمان على إمتداد إمبراطورية واسعة الأرجاء شملت من بين ما شملته بلاد المغرب العربي في شمالي افريقيا، و تجلّي حضورها دولاً و مؤسسات و لغة و ثقافةً، و ديناً و منشآت، و تراثاً عربياً غنياً بالفكر والأدب و الفن و العلوم، و حضارة إنسانية شامخة ماتزال آثارها قائمة في بلاد المغرب العربي[5]. و لقد إنطلق الشاعر من ظاهرة صغيرة جدا، من كتابة منقوشة في وحشة الصحراء على آجرة حمراء عند بقايا قبر. هذا الشئ الصغير فتح بابا عريضاً أمام السيّاب على مدى آفاق شاسعة من تاريخ الأمة العربية و قضاياها و جوهر وجودها ماضياً و حاضراً و مستقبلاً و كان مفتاحه حيرة إستبدلت به أمام إسمه المنقوش على حجارة القبر. فهو من جبهة يرى قبره بعينه، و اسمه و تاريخ وفاته، مما يوحي إليه بأنه حيّ ، فيتساءل «أحيّ هو أم ميت»؟ و كأنه في غمرة هذا الإرتياب، يريد أن يطرح السؤال الجوهري على أمّته من خلال ذاته: «أحيّة هي أم ميّتة» فالإسم المنقوش على آجرة القبر هو في الحقيقة إسم الأمة العربية، و القبر هو ماضيها و أمجادها التاريخية فالسيّاب لا يكفيه أن يكون له ـ و بالتالي لأمته ظلّ وجود، و إنّما هو يريد له و لها وجوداً حقيقياً حياً فاعلاً، لذلك نراه كمقبره ... كمجد زال... كمئذنة تردّد فوقها إسم الله . ... و خطّ إسم لها فيها. لأنّ ذلك هو مثابة ظلّ للوجود، و ليس وجدوا حقيقيأ، رغم أن المئذنة ترمز بشموخها إلى شموخ ذلك الماضي، و في أعلى الشموخ تردّد من قبل اسم الله الذي يرمز الى العظمة و القدرة والقداسة و روعة الخلق و الإبداع، و الى قيم الخير والحق والجمال و سوى ذلك ما يترجم على الصعيد البشري تراثاً حضارياً:
و كان محمّد نقشاً على آجرّة خضراء
يزهو في أعاليها...
فأمسى تأكل الغبراء
والنيّران من معناه
و يركله الغزاة بلا حذاء
بلا قدم
و تنزف منه دون دم
جراحٌ دونما ألم
فقد مات ...
و متنا فيه، من موتى و من أحياء.
فنحن جميعنا أموات
أنا و محمّد و الله
و هذا قبرنا: أنقاض مئذنة معفّره
عليها يكتب إسم محمّد و الله
على كسر مبعثرة
من الآجر و الفخّار[6]
و قد يبدو من المستغرب ـ أوّل الامر ـ أن تعلو هذه النغمة الألوهية و الإنسانية في قصيدة السياب التي تتحدّث عن النضال العربي أوعن الأوضاع العربية عامة، و لكن حسب إعتقاد الناقد و أبحاث الدكتور إحسان عباس؛ بأنّ هذه القصيدة (المغرب العربي) و خصوصاً هذا المقطع يؤكد الحقيقة نفسها بأنّ هذه الظاهرة الألوهية و الإنسانية في شعر السيّاب كانت ذات دلالة عكسية نعني أنّها قول على الألم الدفين لإندحار الإنسان و ما يؤمن به من مثل دينية. و تفسيراً لهذا الأمر الذي يبدو محيّدا نقول أنّ الناس الذين يتحدث عنهم الشاعر في هذه الفقرة ينقسمون في ثلاث فئات ؛لا في فئتين قوية و ضعيفة): فئة الغزاة الذين يؤمنون بآلهة جديدة تحمل أسماء «فحم» و «حديد» و ما أشبه، و هم الذين يولّهون قولهم تحت أسماء ترمز الى تلك القوة، و هؤلاء هم الذين يسلّطون «طائر الحديد» ليرمي الحضارة بحجارة من سجيّل، و قد سمّوا أحياناً «التتر» و أحيانا أخرى «الصليبين» و هم يعودون في تاريخ الإنسانية تحت أسماء مختلفة، و قد ظهروا في المغرب العربي يحطّمون و يقتلون، كما تدفّقوا تحت اسم «الصهايّنة» إلى المشرق العربي كطوفان من الظلام. و الفئة الثانية هم الثائرون الذين مايزال إلهم فيهم يحمل في مقدمتهم راية الثورة، إلهم العربي رمز الحياة و القوة و تحطّم على أيدي أولئك الثوّار ما عداه من إلهة كانت تعبد لأنّها ترجى أو تخشى. و أما الفئة الثالثة فهي جماعة المغلوبين والمستسلمين إلى سبات عميق، و هؤلاء هم جميع الشعوب العربية، كما يصفه الشاعر و هم سكان القبور التي لا تثور ـ و ربّما أنّ هؤلاء موتى، لهذا مات محمّد فيهم كما إندثرت معاني الألوهية بينهم[7].
و لكن التراث الحضاري العربي، و شخصية الأمة العربية، و أمجادها ، لها قلب ينبض و يبثّ فيها حرارة الحياة هو النبي محمّد فمن اسم الله في أعالي المئذنة، كان إسم محمّد منقوشاً على آجرة خضراء «يزهو في أعاليها» و ليس محمّد على المستوى القومي عند العرب نبياً فحسب، مبشراً بالإسلام، و ناظراً لتعاليمه. و إنما هو إنسان عربي، و قيمة عربية فاعلة، و ذروة في عطاء هذه الأمة، و إبداعها. و بقدر ما هو عنصر روحي إصطفته الإرادة الإلهية ليكون رسول الله إلى العالمين، هو أيضاً عنصر قومي عربي، و حصيلة إنسانية و حضارية في تاريخ الأمة لذلك إقترن إسمها بإسمه، ما اقترن اسمه باسم الله، و شاع بين العرب اسم محمّد تدعو به أبناءها تيمناً و تقديساً و تخليداً لرمز حضارتها و وجودها القومي. لكن الزّمان قد إنقلب في الحاضر الراهن و انقلبت معيارالمقاييس و القيم، فغدا المجد العربي عرضة للعبث و المهانة. «تأكل الغبراء والنيران من معناه، و يركله الغزاة بلا حذاء، بلا قدم» . و «تنزف منه دون دم، جراح دونما ألم». إزاء ذلك يشعر السيّاب بموت هذا المجد في عناصره الثلاثة المتلازمة: الإنسان العربي، و العبقرية العربية التي أضحى محمّد رمزاً لها، والقيم الخلّاقة المبدعة خيراً و حقاً و جمالاً و قداسةً و عظمة و المتمثّلة في اسم الله.
فيعبّر عن هذا الشعور بقوله «فنحن جميعنا أموات؛ أنا، و محمّد والله». غير أنه يستدرك بعد ذلك أن ما يراه من موت ليس حقيقياً، فالأمة التي صنعت ماضي العرب و تاريخهم و أمجادهم لا يمكن أن تموت. فهي منذ أيام أبرهة الأشرم و مهاجمته الكعبة قبل ظهور الاسلام ، في صراع قومي ضد الموت و الفناء. فمنذ ذلك الحين قد أخذت تدرك وجودها القومي، و تتصرّف بوحي منه، في مواقفها الحرجة، و ظروفها التاريخية المتأزّمة لتخرج بفضله منتصرةً على ما يحيط بها من الأخطار. هكذا فعلت في عام المقبل يوم تصدّت لأبرهه الأشرم و جنوده و أفياله، و ردتهم عن الكعبة رمز كرامتها و وجودها و قيمها، و هكذا فعلت يوم ذي قار، و في كل فترة من فترات التاريخ التي تألّق فيها مجد العرب، فكانت ثورة دائمة في سبيل الحق و الكرامة والقيم الانسانية العليا.[8]
و من الجدير بالذّكر إن يأس الشاعر في المرحلة التموزية لم يكن يأساً من الحياة أينما كان يأسا من الثورة و من مخاضها، إنّه يأسٌ من تغيير حالة القهر التي كان يعيشها العرب. و كذلك الشاعر يحسّ بأنّ كل شيء كان في عدد الأموات ... الشعب ... التراث ... الدين. فيكف إذن يمكن تغيير الواقع؟ يمكن أن نجيب على هذا السؤال ؛ بأنّ الثورة معجزة، لأنّ حدوثها لا يمكن أن يتمّ على أيدي الموتى. لكنّ هذا اليأس من الحياة في المرحلة الذاتية يقود الشاعر إلى طلب الموت.[9]
"والمغرب العربي هي من أوّل القصائد التي تصوّر الشاعر فيها، تصوّر إنساناً ميتاً و لكنّه حين إستيقظ رأى قبره، و هذا رمز الإنسان الشرقي العربي الذي تحطّمت حضارته (رمزها) المئذنة التي كان قد كتب عليها إسم الله و محمّد و إندثرت، و أخذ الغزاة الحفاة (لأنه لا حضارة لهم) يركلون ذلك الحطام بأقدامهم دون أي إهتمام بقداسة تلك الرموز الحضارية، و على مقربة من قبر هذا الميت العائد كان هناك قبر جده الذي صنع تلك الحضارة، و صوته ينبعث من وراء القبر"[10].
و يستعيد المقطع الثاني، المطلع الأول ليعود من خلال ذلك إلى مبتدأ القول، إنّما متصلا بما إنتهى اليه من رجوع الى الماضي و التاريخ يذكر بأوضاع مماثلة لتلك المأسويّة الراهنة. لذلك تتقدّم الوعي بهذه المأسوية و قد أضحى تاريخيا الدّالة ليستقرئها في بعديها الحاضر و الماضي عبد القبر، الصورة الرمزيّة. عليها و قد أصبح قبرين نظراً إلى ما يمثّله الإندحار من تقريب بين الأمس و اليوم، على الرغم من الفاصل الزمني المديد بينها. و لمّا كان القبر الأول تجيسماً لإنهيار الحضارة العربية الاسلامية في المغرب العربي اليوم و لتهشيم الكيان الوجودي بأبعاده المتعددة لشعبه كما أتيحت معاينته أعلاه، فإنّ القبر الثاني تجسيمٌ لما تعرّض له هذا الكيان و تلك الحضارة تاريخياً من مآس و نكبات. فهما رغم التباعد الزمني يجتمعان في الإنهيار المأسويّ الذي يتجسّم في حفرة تضمّها معاً: الماضي المتمثّل بجد الأب و الحاضر المتمثّل بالمتكلم، حيث لا يعدو الجد أن يكون رملاً و نثارة سوداء دلالة على الخراب و الدمار الذي أصاب ذلك الماضي، و حيث يتقدّم المتكلم إبناً له في هلاكه و تفتّته، فتلتحق صورته طينا يابسا بصورة الجد رمادا رمليا اسود لتولفا سلاله من الهزائم و الإنكسارات تجد في الحفرة اللّحديّة الجامعة قبرا جماعياً تاريخياً يرمز إلى ذلّها و إنطماسها، و لتسعيد معاً صورحطام الآجر و الفخّار لأنقاض المئذنة المعفّرة، رمز الإنهيار الحضاري كما تبدي في المقطع الاول.
لكن الصورتين المذكورتين لا تحيلان على هذا الحطام و حسب، بل تحيلان أيضاً على ذلك الموت المزدوج الذي أثار قلق و حيرة المتكلم في البداية، ذلك أنّ المأسوية التي ظهرت هناك في موت لا معقول يضاف إلى موت فجائعي متّخذة من الإنهيار الحضاري منطلقها، تجد هنا في ما آلت إليه القرابة الدّمويّة، أساس العصبية القبلية و واحدة من أبرز مقومات السلطة العربية الاسلامية، تعبيرها المميّز حيث يماثل طرفاها الجدّ الأكبر وسيلة الأصغر في الموت والإنهدام. هكذا يعي المتكلّم وضعه الراهن : موتاً ذاتياً و جماعياً سلاليّاً و عرقياًً و تاريخياً في الوقت نفسه، يعلنه اسمه المكتوب على القبرين المجتمعين في حفرة البؤس والإنحطاط و الإنكسار.[11] و يربط الشاعر بين السلف؛ أمة العرب و بين الخلف، فالاسم الذي قرأه على صخرة القبر إنّما قرأه في الحقيقة على قبرين: قبرٌ لجد أبيه الذي مازال يحنّ إليه، و الذي لم يبق منه سوى «محض رمال» و «محض نثارة سوداء». و به تتمثّل معنويات القوم و روابطهم التاريخية، و قيمهم الإنسانية، و قبره هو، بما يمثّله من موت حضاري، و ضعف و تفلّك، و واقع متصدّع منهار، و بقايا نبض و تحرك و تطلع إلى الحياة مما إعتبره الشاعر ظلاً للوجود، و تساءل بسببه عمّا إذا كان حياً أم ميّتاً. و كأنه يريد أن يجعل من الحياة العربية العصرية في بعض وجوهها على الأقل إمتداداً لتلك الحياة السالفة، و إستمراراً لحركتها و تفجّرها و إندافاعها[12]:
و كان يطوف من جديّ
مع المدّ
هتاف يملأ الشطآن «يا ودياننا ثوري».
و يا هذا الدم الباقي على الاجيال
يا إرث الجماهير
تشظّ الآن و اسحق هذه الأغلال
وكالزلزال
هزّ النير، او فأسحقه، و أستحقنا مع النير»
و كان إلهُنا يختال
بين عصائب الأبطال
من زند الى زند
و من بند الى بند[13]
ففي المقطع الثالث حديث المتكلم عن جده، فيظهر أنّ هذا الأخير ليس نثارة رمل و رماد فقط، ما أوحي المقطع الثاني بذلك، فما خلّفه الأسلاف إلى الأجيال اللاحقة ليس هزائمهم وإنكساراتهم و حسب، بل، و هذا هو الأهم، نضالهم في وجه الإستعباد وثورتهم على القهر و الإستغلال كما يدلّ على ذلك هتاف الجد يستصرخ الأرض و يستحدث سلالة المناضلين من الشعب لتحطيم ما يكبّلهم والتضحية بالذات و حتى بالجميع في سبيل ذلك إن اقتضى الأمر و كما يتّضح البعد الرمزي لله في هذا المقطع، فهو هنا جزء لا تجتزأ من هؤلاء المناضلين في سبيل الحرية و من مآثرهم و إنجازاتهم على هذا الطريق. كان موته هوالآخر الملاحظ آنفاً لم يكن و كما حال الجدّ و الأسلاف، إلا نتيجة إنغماسه في هذا الكفاح التحريري ضمن هذا المنظور لا يعود الله ذلك المفهوم الديني التقلييدي الغيبي المتعارف عليه، إنّما يتقدم كمفهوم جديد إنساني حضاري أنّه و رمز الإنسان العربي حضارته التّليدة الراقية و كفاح من أجل القيم النبيلة كالحرية و العدل ...يزهو إنتصاراته و يكبو بهزائمه.[14]
" فقد حقق هذا الجدّ إنتصارات في ذي قار، ولكن أبناء إنقسموا فريقين، فريق حمل راية الثورة في جبال الريف و فريق عرف عار الهزيمة في يافا ترى ما الذي حطم هذه الحضارة؟ إنها غارات الجراد من التتر و الصليبين و هما سيّان، فلمّا إندحر الصليبيون بالأمس جاء و اليوم ينتقمون لأنفسهم من قوتنا و إنتصارنا و إنتصار إلهنا؛ و هكذا إرتبط الماضي و الحاضر بإرتباط قبرين (كهفين متجاوزين يعيش فيها الجدّ و حفيده)"[15].
"و من ثنيات الماضي عبر المراحل التاريخية المتعاقبة كان ينبعث الشاعر الهتاف من غبار الأجداد، فيطوف مع مدّ البحار لميلأ الشطآن بدوية، منادياً كلّ أرض عربية لأن تثور، مخاطباً «هذا الدم الباقي على الأجيال إرثاً للجماهير» داعياً إيّاه لأن يتشظّى و ينقضّ على الأغلال التي تكبّل الأمة العربية فيسحقها و يسحق معها الإستعمار والذل والعبودية، و إذا إقتضى ذلك أن يسحق جيلاً من أجيال الامة ، كي يحرّرها، فلا بأس بسحق الجيل الحالي ، ليكون له شرف الفداء و كأنّنا بالشاعر، حين يشير إلى هذا الهتاف الداعي إلى الثورة و يركّز عليه و يبرزه، يبارك في الإرث العربي هذه النزعة الدائمة إلى التحرر، و إلى تحطيم القيود و الإنحلال، و محافظة على الإستقلال و الحياة الكريمة و كرامة الأمة و كيانها و حقوقها، و ترسيخاً لوجودها في أرضها، و حضورها بين الأمم العريقة في الحضارة والقيم الإنسانية. ناهيك بدعوة الأمة العربية في المغرب العربي و في فلسطين، و كل قطر من أقطار العرب، إلى معمودية الثورة ليتجلى الدم العربي و الإرث العربي رائعين مباركين كما تجلّيا من قبل في يوم ذي قار حيث دارت حرب بين العرب و الفرس لأسباب قومية، فإنتصر العرب على الفرس رغم ما كان للأمة الفارسية يومذاك من قوة و عظمة و سيطرة و مجد. ولاغرابة فالحق هو الذي ينتصر دائماً مهما يتألب عليه من قوى الباطل في جيوش المغتصبين و المستعمرين. ان الإله العربي الذي كان يختال على مر التاريخ بين عصائب الأبطال «من زند إلى زند، و من بند إلى بند» هو نفسه إلى الكعبة الجبّار، الذي نصر العرب في ذي قار، و إله الأمة العربيه في نضالها القديم و نضالها الحديث"[16]:
إله الكعبة الجبار
تدرّع أمس في ذي قار
بدرع من دم النعمان في حافاتها آثار
إله محمّد و إله آبائي من العرب،
تراءى في جبال الريف يحمل راية الثوار
و في يافا رآه القوم يبكي في بقايا دار
و أبصرناه يهبطُ أرضنا يوماً من السُّحُب:
جريحاً كان في أحيائنا يمشي و يستجدي،
فلم تضمدُ له جرحاً
ولا ضحيّ
له منّا الخبز والأنعام من عبد[17]!
" تلك هي الصورة العامّة التي تتمثّل للألوهية في قصائد هذه الفترة و مع أننا لا نفي الجرأة التي صاحبت التعبيرهنا، كما لا ننفي إيمان الشاعر بأنّ إله كل قوم يكون على شاكلتهم، فإننا نرى أنّ الدافع لهذا التصوّر إنّما يمثّل غيرة دينية على ما أصاب الشعوب العربية و الإسلامية من ضعف شديد، و لهذا ذهب في تيار هذه الغيرة المقترنة بروح الثورة بطلب أن يعيد العرب ـ كما أعاد عرب المغرب فيهم ـ محمّد و الاله العربي"[18].
و في المقطع الرابع يكتمل معنى الله فيه إستكمالاً و تحقيقاً و تمثيلاً صريحاً لما إنتهى إليه و ثمّ الايحاء به في المقطع السابق، في أوضاع ثلاثة؛ فارساً قاتل في ذي قار، و ثائراً يناضل في جبال الريف، و مهزوماً في يافا يلجأ جريحأ إلى البلاد العربية. في الأول يجري إستلهام التاريخ القديم في بعض وقائعه التي إنتصر العرب فيها على الفرس في ذي قار أوائل القرن السابع قبل بدء الدعوة ال
الإسلامية.
و إعتماد الرمز التاريخي هنا يتعدى الاشارة إلى إنتصار العسكري فهذا الإنتصار لقيم معطيات المختلفة التي واكبته هو إنتصار للقيم العربية من وفاد و شجاعة و كرامة و تآزر و حسن تخطيط و تدبير... على صفات الغدر و ظلم والإستبداد التي واجهتها. تأتي صورة الله هنا للإيحاء بهذه الدلالة و للتأكيد على قدرات العربيّ الفريدة التي تمكّنه من الإنتصار على عدو يفوقه قوة و عدداً و عتاداً.
و هكذا فإنّ رمز الله في هذا المقطع بشكل حاسم يدلّ إعتماد الشاعر رمزاً دالاً على الإنسان العربي الحضاري. [19]
"هذا الإله الذي إنتصر في حرب ذي قار، و حمل راية الثوّار في جبال الريف المغربي إن هو إلا القومية العربية التي تربط ما بين الأجيال السالفة من عهد الجاهلية، والأجيال الحاضرة في القرن العشرين و هي التي نكبت في فلسطين، و أضحت جريحة تمشي في أحياء العرب فلا تجد من يتحرك لنجدتها، أو يضمّد جراحها. و كان العرب قد أصابهم الذهول من هول الضربة، و سيطر عليهم الخوف من معالجة الأمة الجريحة، و مداواتها بالثورة، و البعث و الإحياء، فراحوا يصلّون في إرتعاش"[20]:
بآيات يغصّ الجرح منها خير ما فيه
تداوي خوفنا من علمنا أنّا سنحييه
إذ ما هلّل الثوارمنّا: نحن نفديه[21]
فالشاعر يستمر الحديث عن موضوع الإله في المقطع الخامس، فالإله (الإنسان) العربي (الفلسطيني) الجريح يعرف هنا مع المؤمنين به وجهاً آخر من العلاقة مختلفاً عن ذلك القريب من التخلّي الذي إنتهى اليه المقطع السابع فصلواتهم تعبّرعن لوعة تأثّرهم بمصابه حتى لتكاد تكون نوعاً من الرثاء له، كان موته واقع لامحالة و جرحه قاتل و شفاءه ميؤوس منه. بل يبدو إنفعالهم بمصابة حادّاً إلى درجة يصبح الجرح عندها في كيانهم، و لا يملكون لعلاجه رغم إهتمامهم العاجل بذلك غيرآيات قرانيّة إن كانت لا توقف النزف فإنها مع ذلك تمنع خيرما في الدم أن يتسرّب و يزول، كما تعالج خوف العرب جميعا الذي يتملكهم إزاء حقيقة معرفتهم أنّ إفتداء الثوّار لهذا الانسان هو الطريق اليقينيّ لشفائه و خلاصه.[22]
النكبة العربية في فلسطين ليست وليدة مصادفة، و إنما هي وليدة قحط عام، حل ببلاد العرب طوال قرون متعددة. قحط حضاري إستبد بمعظم أوطانهم، فباتوا يتخبّطون في ظلمة الإنحطاط، و قد قلّ الخير في أرضهم كأنّما إحرقتها أسراب الجراد، حتى الحبالى من النساء و الأنعام ما عادت تلد سوى الرماد. و قد انتهكت المقدسات و ذللّت النفوس و صنع من أهلّة المآذن نعال لسنابك خيل المستعمرين. و عضّ الجوع أبناء البلاد نصارى و مسلمين، فدبّ الفناء فيهم و سكنت ريحهم حتى إذا جاء العصر الحديث بدأوا يتحركون لينهضوا من كبوتهم و ينفضوا عنهم غبار الإنحطاط و يثوروا على واقعهم الزريّ، و ينفروا للجهاد[23]:
أغار من الظلام على قرانا
فأحرقهنّ سرب من جراد
كأنّ مياه دجلة حيث ولّي
تنمّ عليه بالدم والمداد
أليس هو الذي فجأ الحبالى
قضاه، فما ولدن سوى رماد؟
و أنعل بالأهلّة في بقايا
مآذنها سنابك من جواد؟
و جاء الشام يسحب في ثراها
خطى أسدين جاعا في الفؤاد؟
فأطغم أجوع الأسدين عيسى
ويل صداه من ماء العماد
و عضّ بني مكّه ... فالصّحارى
و كلّ الشرق ينفرّ للجهاد؟[24]
و في المقطع السادس: و بدون مقدمات و بشكل مفاجئ ينتقل المقطع السادس إلى تناول الغزو الفرنسي والأوروبي للبلاد العربية و يجري تعقّب أحداث الغزو و آثاره في مشاهد متعاقبة تبرز الأوضاع والحالات المروعة التي نشأت عنه. المشهد الأول عام و شامل و إنّما مدمّر و مبيد بشكل حاسم، يتقدم فيه الغزاة سرب جراد، تلك العناصر التي أضحت مثلاً في الإجتياحات الدراسة و رمزاً للبلاء المدمر. و يأتي تعيين مصدرها بالظلام ليدلّ على الموقع الجغرافي الذي جاءت منه، على الغرب (فرنسا و أوروبا) وعلى الموقع الحضاري الذي تنطلق منه، على الجهل والبدائية و الإنغلاق و التعصّب والظلم و الظلامية. إنها تجعل من القرى الدالة ـ على الأمن و الإستقرار و التحضّر أهداف تخريبها و موضوعات إجتياحها اللذين يتذخذان الشكل الأكثر شراسةً و إيذاءً و رعباً. بالمقابل تتّخذ العذابات و المصائب المتولدة من هذا الغزو الشكل المائي، شكل الدم المراق لأبناء البلاد و الحبر المتلف في خزائهنم و مكتباتهم، اللذين بتدفّقهما نهراً عظيماً (دجلة) يدلان على ما بلغه التقتيل للأنفس و التبديد للثروات الحضارية في البلاد العربية على أيدي هؤلاء الغزاة البرابرة الغربيين من تعسّف و هول فاقا كلّ حد.[25]
و بعد أن يعرض السيّاب هذه الصور من الواقع العربي الأليم، يتساءل ـ و هو أميل إلى النفي ـ عمّا إذا كانت أمّته تستحق هذا البلاء العظيم . فهي في الواقع أمّة مسحوقة مقهورة، مغلبوة على أمرها، قوي عليها المستعمرون و إستبدوا بها، و عبثوا بمقدوراتها، و إستغلوها، و تركوها فريسة للجهل و الجوع والعجز. لكنها رغم المصائب التي حلّت بها. و الفقر الذي مزّق أحشاءها، مازالت تحافظ على إصالتها و على قيمها و مثلها العليا، و لم تفعل مافعله غيرها من فحش و ظلم و شر فهل ينبغي أن يقتص منها[26]؟:
أعاد اليوم كي يقتصّ من أنّا دحرناهُ
و إنّ الله باق في قرانا، ما قتلناهُ ؟
ولا من جوعنا يوما أكلناهُ ؟
و لا بالمال بعناهُ
كما باعوا
إلههم الذي صنعوه من ذهب كدحناهُ ؟
كما أكلوهُ إذ جاعوا
إلههم الذي من خبزنا الدّامي جبلناهُ ؟
وفي باريس تتخذ البغايا
و سائدهنّ من ألم المسيح...[27]
و في هذا المقطع، فضلاً عن ما ذكرناه، إشارة الى علاقة الشعوب القوية بالشعوب الضعيفة، و علاقه الأغنياء بالفقراء، و المستعمرين بأهل البلاد التي إستعمروها. كما أن فيه نفحة من الواقعية الاشتراكية التي تنتصر للضعفاء والفقراء والكادحين ممن يأكلون خبزهم بعرق الجبين، و يشقّون في انتاج ما يستغله بالباطل اهل القوة والثراء والجشع الرأسمالي. و على هذا يكون الفقراء الكادحون اهل الفضل والعطاء. و يكون الاغنياء المستبدّون اهل الشر و الفساد و الاستغلال. و إذ كان لهذه الاحوال من علاج، فالثورات الشعبية، و ضروب النضال القومي هي العلاج الفعّال و هي الطريق الوحيد الى الخلاص والتحرر من كل نير... .
"و يتوقّف السيّاب امام نموذج من هذه الثورات القومية في المغرب العربي، متوسّماً فيه الخير، معلقاً عليه الآمال، مطمئنا الى أن أمّة العرب لم تمت، و إن إلهها المتمثّل في القومية العربية مازال مقيماً فيها ليدرأ عنها كل خطر يهدّدها بالفناء"[28].
و تتعدّد المشاهد الشواهد على الدمار المتعدّد الأوجه الذي حمله الغرب الى بلاد العرب في هذا المقطع من القصيدة. فهو دمار إنساني قبل أي شيء آخر، يقضي على الحياة و يحوّل دون إستمرارها محوّلاً الخصب (الحبل) إلى عقم (رماد) و دمار حضاري يهدم الصروح الدينية (الجوامع) رموز التآلف والإنسجام و يمتهن شعائرها المقدسة (أهلّة المآذن) فيما هو يصطنعها وسائل مبتذلة (نعال خيل) لأعمال الحربية و غاياته العدوانية. يحتاج بلاد الشام وحشية تجمع الى العنف التدنيس و التخريب دون أن تميّز بين مسيحيته أصلية تدعو الى المحبة والتسامح و مساعدة الآخرين (فتشبع جوعها بعيسى المسيح و تروي ظمأها بما العمادة) و بين الإسلام وطيد الكيان والعصبية (فتعضّ نبيّه) فيأتي نهوض العرب و الشرق للجهاد دفاعاً عن الخصب والحياة، عن الدين و الحضارة، عن تراب الأرض و مائها ضد ما يصيبها من مكروه و من يتعرض لها بالأذى.
على أن الجهاد هنا، مثله مثل الصلبيّة ليس مفهوماً دينياً. فكما أنّ الغزوات الصلبية لا تقدّم هنا حملات دينية (مسيحية) إذ لا يتعيّن هدف ديني من ذلك التدمير الذي عوين أعلاه، والذي كان من ضحاياه عيسى المسيح نفسه، لايأتي الجهاد إجراءً دينياً (إسلامياً) إذ يضمّ الشرقيين كلهم لكفّ أوجه العدوان المختلفة عليهم، ليبقى البعد الحضاري الإنساني للصراع بين الغرب (المعتدي) والشرق (المقاوم) هو البعد المهيمن و الطاغي فيه، و إن كان الدين (الإسلامي ) أحد عناصره البارزة الأمر الذي يتيح تقديمه مجازاً رمزاً دالاً على الكل الذي ينتمي إليه[29]:
قرأت اسمي على صخرة
تنفّس عالم الأحياء
كما يجري دم الأعراق بين النبض و النّبض
ومن آجرة حمراء ماثلة على حفره
أضاء ملامح الأرض
بلا ومض
دمٌ فيها فسمّاها
لتأخذ منه معناها
لأعرف أنّها أرضي
لأعرف أنّها بعضي
لأعرف أنّها ماضي، لا أحياه لولاها.
و أنّي ميتٌ لولاه، أمشي بين موتاها.
أذاك الصاخبُ المكتظّ بالرايات وادينا ؟
أهذا لونٌ ما فينا
تضوّأ من كُوي «الحمراء»
و من آجرة خضراء
عليها نكتب إسم الله بُقياً من دم فينا؟
أنبرٌ من أذان الفجر؟ أم تكبيره الثّوار
تعلو من ماضينا...؟
تمخّضت القبور لتنشر الموتى ملايينا
وهب محمّد، و إلههُ العربي و الأنصار:
إنّ إلهنا فينا[30]
هذا البعد الذي يتراءى في المقطع السابع حيث تحاول الصيغة الإستفهامية بتعدّد أسئلتها المركّبة أن تحيط بمعطياته الجديدة في خضم الصراع المحتدم آنذاك مع الهجوم الإستعمار الفرنسي على المغرب العربي (و البلاد العربية) فيبدو هذا الهجوم للمتكلّم محاولة من الغرب للثأر من الإندحار الذي انتهيت اليه حملاته الصليبية على الشرق من ناحية، نتيجة للتناقض القائم بين حضارة عربية قائمة على الايمان والوفاء والقيم الاخلاقية السامية و حضارة غربية قائمة على المنفعة المادية والنهب والاستغلال من ناحية ثانية. إن الصراع الراهن بين الغرب الذي يغزو العرب اليوم و من هؤلاء يتحدّد إذاً بوجهيه غيرالمنفكّ أحدهما عن الآخر، التاريخي والحضاري. إذا كانت الإشارة الى التاريخي تتّخذ صورة الإنتقام لهزيمة سابقة فإن التعبير عن الحضاري يتّخذ صورة الموقف المتناقض من الله كرمز اختزالي دال على رؤية حضارية شاملة. فالعرب إذا يصونونه و إلا يرتدّون عليه أو يخونونه أو يخضعونه لحاجاتهم العابرة و مصالحهم المادية المتقلّبة إنما يحافظون على القيم و المبادئ المرتبطة به أو الممثلة فيه كالخير والعدل و الصدق والوفاء في حين لا يحفل أهل الغرب بذلك كلّه، فهم لا يتورعون عن المتاجرة بالله و تسخيره لمصالحهم و إحتياجاتهم، على أنّ الهمّ ليس إلا إله الربح و النهب و القمع والإستغلال، كوّنوه من كدح و تعب و بذل شعوب البلدان التي غزوها أو إستعمروها، أو أنه ليس إلا مجموعة القيم و المبادئ المعبّرة عن هذا كله[31].
و هكذا يصوغ السيّاب من إلتزامه القومي العربي، و من الثورة العربية المغربية في شمالي أفريقيا، أنشودة قومية تمجّد مآثرالعرب في اللغة و الدين، و لا عمران و الحضارة، و القيم الإنسانية، وتربط ربطاً قوياً لا ينفصم بين ماضي الأمة العربية و حاضرها و مستقبلها، و بين شخصيتها و أرضها وحياتها بصورة عامة في إلتحام قومي متماسك تزيده الأيام نمواً و صلابة و حيوية، و خلوداً مدى الدهر. من الإسم العربي المنقوش على الصخرة في وحشة الصحراء المغربية الى الاسمين اللذين يقترن بهما. إسما محمّد و الله، واللذين يتنفّس بينهما عالم الاحياء على نحو ما «يجرى دم الأعراق بين النبض و النبض».
"« و من آجرة حمراء مائلة على حفرة». ينبجس دم عربي يضيء ملامح الارض بلا ومض.و من هذا الدم العربي تأخذ الأرض معناها لإلتصاق الإنسان بأرضه و إرتباط هويته بها فتعرف الأمة أنها أرضها، و أنها جزء منها، تمثل لها الماضي الذي تحيا به حاضرها، و تسمتدّ منها كيانها. و من ذلك كلّه تشكلّت ثورة العرب في شمالي أفريقيا، و إستمدت نورها من كُوي «الحمراء» في تاريخ بلاد الأندلس حيث تتجلى الحضارة العربية بأبهى حللها، و من الآجرة الخضراء المكتوب عليها اسم الله بدماء عربية مجاهدة في سبيل الإسلام. و يتساءل الشاعر في ختام القصيدة عما إذا كان هذا الصخب الثوري نبراً من أذان الفجر، أم تكبيره تنطلق بها ألسن الثّوار منادية: «الله اكبر» لتنشر القبور الملايين من موتاها العرب، و لتؤكد مع «محمّد، و إلهه العربي، و الأنصار»: «أن إلهنا فينا»"[32].
إن كان الصدام بين الطرفين: الإستعمار الغربي و البلدان العربية إتخذ شكل الصراع بين الصلبية و الإسلام في الماضي فإنه اليوم يتّخذ شكل الصراع بين الرأسمالية الملحدة و العروبة المومنة. لعلّ هذا الشكل الأخير هو الذي يومئ اليه المقطع الثامن الذي يمضي إلى واحد من أبرز مراكز الحضارة الغربية، ممثلاً في واحدة من حاضراتها الأكثر رقياً (باريس) والمعنيّة أكثرمن سواها على كل حال بالغزو الجديد الذي كان الغرب (الرأسمالي) على البلاد العربية (في المغرب) آنذاك. فيستعرض من مشهد واحد يكاد يحتل بأكمله وضع هذه الحضارة فيه ليبيّن فيه مصدرها العوامل الفاعلة فيها و الدامغة لها في الإعتداء على الحضارة العربية، فيتمّ التركيز على الإنهيار الخلقي والديني في هذا الوضع حتى ليعدّ التهتك والإنحلال و الفجور التي تعمره مصدراً و سبباً للغزوات التي يشنّها الغرب على هذه الحضارة يتقدّم هذا العرض تأكيدا للطرح الذي سبق التّعرض له في المقطع السابق بصدد الصراع الحضاري بين الغرب و العرب ـ فباريس البغيّ الكافرة العقيم لاتلد إلا مسوخ الشر التنينية الحديديّة التي تهاجم صروح الخير و الحضارة الاسلامية العربية. (فبغايا هذه الحاضرة الغربية يعتمدان هنا رمزاً لمجتمع الغرب و حضارته، و هنّ إذ يتّخذن من عذاب المسيح وسيلة راحة يشرن الى إنقلاب القيم المسيحية في المجتمع المذكور و حضارته، و هو إنقلاب يمثّل كذلك في رحم هذا المجتمع، كما تقدّمه حشايا البغايا، تكاثراً لقوى تدمير و إهلاك تنطلق للقضاء على رموز الحضارة الاسلامية العربية.
تنكشف الحضارة الرأسمالية الغربية في موطنها عن إستلاب فظيع للإنسان و تحطيم وحشي للقيم النبيلة يعطّلان سلوكها خارجها. تتّخذ البغايا نموذجاً لتصوير هذه الحضارة لانّهن يجسّدن أكثرمن سواهن خضوع الإنسان فيها، في كيانه و سلوكه و علاقاته الأكثر حميمية، لعلاقات السوق و التبادل السلعيّ فحيث تعمّ قيم الريح و النهب و الإحتكار ليس الله هوالذي يصبح سلعة، أو المسيح الذي يتحوّل بضاعة، بل الإنسان نفسه، ولا يعود الدين إلا مظهراً متقلّباً و مطيّة مبتذلة للمآرب الخاصّة مهما كانت تافهة او مؤذية. في غياب القيم الرفيعة يغيب الحبّ و الخير والخصب، و تعمّ الكراهية والشر والعقم و تتنامى في رحم الأسلاب المهين، ليتولد عنها قوى لا إنسانية ، متعاظمة البشاعة تجد في حضارة العرب و المسلمين الإسلامية نقيضها و عدوها الذي تلاحقه لتبيده.
" و هكذا يجري هنا دحض واضح للإدعاءات «الانسانية» للحضارة الغربية الرأسمالية و تأكيد على تحقيرها للقيم و تشويهها للإنسان، و على سعيها إلى تعميم هذا التشويه الإستلابيّ على العالم (العربي والإسلامي) بالحديد و النار (الإستعمار ـ البربرية الجديدة) "[33].
"و ما ذكرنا أنّ الماضي و الحاضر إرتبطت بإرتباط قبرين (كهفين يعيش فيهما الجد و حفيده)، و ما كاد هذا الرابط يتمّ حتى تنفسّ عالم الأحياء، و علت تكبيرة الثوار و أطلعت شمس النهضة من كُوي الحضارة العربية في قصر «الحمراء»"[34]:
وهب محمّد و إلهه العربي و الأنصار[35]
و ينطلق المتكلم، هنا من وعيه لواقع موته الحضاري الوجودي نحو وعي يتخطّاه إثرما تبيّنه من أبعاد الصراع بين العرب و الغرب في المقاطع السابقة، فيكشف في تلاحق القتلى و القبور في بلاده شرط الحياة و تجددها. بل أنّ الموت في مواجهة الغزاة (الفرنسيين) هو الذي يحدّد الإنتماء الجغرافي و التاريخي و بالتالي الوجود الفعلي للذات التي بدون ذلك يصبح وجودها سدى، مسأوياً للعدم، هكذا يتقدم المقطع منقطعاً عن سابقه والقسم الثاني ليتّصل بما أرهصت به نهاية المقطع الخامس و القسم الأول (البيتان السادس و الستّون و السابع و الستّون) و بالتالي لهذا القسم ليكمله و ليعيد كتابته في آن.
و كذلك نشير بأن القصيدة (المغرب العربي)، تفتح بصورة كهفية بطل منها الإنسان المشرق العربي ـ يقوم من قبره ليرى كيف كان القبر المجاور له سر تلك الحضارة التي تتمثّل في آجرة نقش عليها اسم الله و محمّد، ثم ليبصر الشمس ـ شمس الثورة الجديدة ـ تطلع من المغرب إن هذه القصيدة من أشد القصائد التي لايعتور بناءها إفتعال أو ضعف، و كأنها قد وضعت عفواً، فجاءت العفوية في خظتها أجمل من البناء المتعمد، وبين الحفيد و الجد (و تغير معنى الواقع و الرموز، و تعدّ المقارنة بين الحاضر و الماضي و بين الحفيد والجد (و تغيير معنى الألوهية بين ذي قار و يافا) و بين المشرق العربي والمغرب العربي و بين صلبية القديمة و الجديدة من أجمل ما استطاع السيّاب أن يكتبه في محتوى شعري، أما الخاتمة التي تستشرف اليقظة الكلية لشقيّ العالم العربي فإنها من أشد النهايات إرتباطاً بكل ما تقدّمها. لقد نسج السيّاب تاريخ الأمة العربية من خلال بضع لمحات و رموز، و كان رحاب النفس رحب الأفق طلقاً على القاعدة الكهفية، و ما ذلك إلا لأنه إنحاز في النهاية إلى الشمس، إلى اليقظة على الأضواء المنبثقة من كُوي الحمراء[36].
أما وعي الذات لموت الحضارة العربية في قصيدة المغرب العربي لم يعد مصدر اضطراب و قلق (كما في المقطع الأول) و إن وعيها لموت كيانها التاريخي لم يعد يقف عند حدود التماثل والتماهي بين الموتين المذكورين (ما في المقطع الثاني). فما بدا هناك لا معقولاً و مرتجاً يظهر هنا طبيعياً و متفتحاً، والإنتقال من إسم المتكلّم الى تعدد الاسماء في نطاق الموت يكشف مدى لم يكن يتيحه التلبّث عند الإسم الواحد (في الأبيات 33 و 34 ...) ان الموت الذي يضاف الى موت آخر لم يعد يدلّ على تفاقم الموات بل على عالم الوجود الحي الذي ينبثق هذا الموت منه، بل الذي ينبثق هو من هذا الموت بالذات، بقدر ما يكون هذا الموت ضامناً للحياة و مؤمناً لإستمراريتها كما يؤمن النبض تدفّق الدم المستمر بعده فيكون الموت بعد الآخر إستشهاداً متواصلاً، كفاحاً مستمراً يعطي الحياة زخمها و تحكم وتيرته بالذات جيشانها و حيويتها. لم يعد الموت تدميراً كيانياً و حضارياً ساحقاً تجسّده الآجرة الحمراء قبراً في الخلاء الجديب. (في الأبيات الاربعة الاولى) إنّه هذا الإستشهاد النضالي الذي يحمي الكيان القومي و يصون الحضارة القومية تجسّده الآجرة الحمراء شاهده تدّل بالدم الذي يهبها لوناً على إنتماء المدافعين عنها إلى الأرض القائمة فيها، إنتماء يعطي هذه الارض هويتها و يعطي أبناءها شخصيتهم و يعيّن في الإرتباط التاريخي والحضاري بينهم و بينها شرط الحياة الذي يتولّى تحقيقه، فيحوّل دون خروجهم من الحضارة و التاريخ والارض الى هامش الغفلة و الإندثار.
"وهكذا تتّخذ الآجرة الحمراء هنا دلالة نقيض تلك التي عرفتها في مطلع القصيدة. إنها دليل النبض الحي للأمة و حضارتها و علامة على إلتحام، لا إنثلام فيه بين الأرض و التاريخ و الإنسان، يعطيها جميعاًً هويتها القومية و الحضارية و الإنسانية، و يحقّق لها وجداً راقياً فعالاً "[37].
"و قد مجّد السياب في قصيدة المغرب العربي، ثورة الجزائر، فعاد يتصوّر نفسه في داخل الكهف (القبر) و هو يصيح، رمزاً بذلك الإنسان المشرق العربي الذي تغيّر كل شيء في حاضرة حتى صحّ أن يسمّى عالمه قبراً، فالنّور فيه دجى، والشمس كرة جامدة، الدود ينحزّ تلك الكرة"[38]، والناس في هذا الكهف في الحقيقه ميّتون.
بناء على ذلك يمضي الشاعر أخيراً الى متابعة ظاهرة النّضال العربي ليتمّثل في إتساع مداها و قوة إندافاعها حيوية الامة العربية و عظمة حضارتها.
"تتلاحق المشاهد المعبرة عن هذا النضال في الأرض الممتلئة ثواراً و مقاتلين، في مآثر هؤلاء و تضحياتهم التي تصل عظمة الحاضر بالماضي، في تداخل البعد الديني والحضاري في المسيرة القومية التاريخية ... بل إنّ النضال العربي يبلغ من زخوره و إضطرامه أن يحيي الموتى و يبعث حتى الإله و الأنبياء، إنّه الإله المقيم في الذات القومية يحقّق معجزات يتجاوز فيها كل معقول و غيرمعقول"[39].
"و تبدو هنا محافظة السيّاب على رمزي الكهف والشمس و على صلة الأول منهما بالرحم، إلا أنّ هذه القصيدة نسجت على منوالها، أي هذه القصيدة كانت في قصائد سياب الأقرب إلى العفوية، و هي نموذج للنتائج الطبيعي بين المقدمة و الخاتمة و لا تذهب روعتها بتاتاً، لأن فيها البناء المعقّد الذي تمتاز بالتّلاحم القوي و التدرّج الحكم في المدى القصير، فهي لا تكلّف القارئ شيئاً من جهد لاستيعابها"[40].
بيد أن هذه المشاهد المفعمة بالمعاني في قصيدة المغرب العربي الدالة على صحوة نضالية جماعية لاتأتي متعلّقةً بالمقطع السابق عليها و حسب، بل إنّها تجئ كذلك متعلقة بمقاطع و أقسام النص السابقة كلّها حتى لتبدو و كأنها سلافة هذه المقاطع جميعاً أو خلاصتها الجوهرية. فالوادي المترع برايات الثّوار (بيت المئة) إستجابة لنداء الجدّ الداعي وديان البلاد إلى الثورة و تطوير لبنود الأبطال فيها (المقطع الثالث) و تعبير عن إمتداد الثورة الطافح من الجبال إلى الوديان، و بلورة لمفهوم الألوهية فيها بإلإعتباره طليعة ثورية مناضلة (المقطع الرابع) والضوء المنتشر من منافذ قصرالحمراء و من الآجرة الخضراء التي يخطّ عليها دم الشهداء رمز حضاراتهم العربيّة الاسلاميّة (في الأبيات 101-104) يعلن تألق هذه الحضارة التي عرفت مجدها المشع في غرناطة ـ الأندلس، و التي عرفت أيام غرّها زهو النقوش الإسلامية على آجر مآذنها الشامخة (المقطع الأول) تألقاً يصل دم المناضلين العريق المتحدر من الأسلاف، ذخر الشعوب و إرثها الغالي الثمين (المقطع الثالث) مجد الماضي بالحاضر و يضمن إستمرارية الحضارة العربية ... و إذا يختلط أذان الفجر بتكبيرة الثوار من الحصون العربية (في البيتين 105 و 106) فتلازم و تداخل البعدين الديني و الحضاري في مسيرة النهوض الثوري للقومية العربية، و إعتماد الرّمز الديني للدلالة على الوضع الحضاري للأمة العربية كما في حمل الله راية الثوار (المقطع الرابع) و إحيائه من قبل الثوار بإفتدائه (المقطع الخامس) و اقامة مكة في حصون منيعة (المقطع الثامن) ... فمن هذا المنظور ينبغي فهم المعجزات التي يأتي بها هؤلاء الثوار. فهم لا يكتفون، بتضحياتهم، بتخليص الأحياء من الموت الذي كان يتربّص بهم (المقطع التاسع) بل إنهم ينشرون الموتى من القبور (البيت 107) أو أن القبور معهم تتحول إلى نساء بالغات الخصب بعد أن كانت الحوامل في غيابهم يجهضن ولا يلدن غير الرماد (المقطع الرابع) و ذلك بقدر ما يحيون الماضي في الحاضر، ما يحفظون الحضارة العربية العريقة و يتابعون انجازات أجدادهم الذين يندثرون بقدر ما يتردّى ابناؤهم في الحاضر (المقطع الثاني).
و هم يبعثون الله و محمّدا و الأنصار (البيت 108). لأنّهم بالإنتصارات التي يحقّقونها يتخطّون أوضاع الإنهيار والذل التي عرفتها الحضارة العربية و التي إتخذ موت الله و محمّد تعبيراً رمزياً عنها (المقطع الأول). ليكون هذا البعث و ذاك النشور دليلاً على إنتصارهم على الغزاة الأروبيّن الذين إرتبط حضورهم بالإجهاض و إغتيال الأنبياء و إيذائهم (المقطع السادس) و بالعقم والموت (المقطع الثامن).
إن كانت إنجازات الثوّار تبدو على هذا النحو معجزات تضاهي إن لم تتجاوز المعجزات الإلهية فإن الجملة الأخيرة (في البيت الأخير 109)؛ «إن إلهنا فينا» تأتي لتفسّر حقيقة أمر هذه المعجزات و لتوضح مغزى التناقض بين الحضارتين الغربية و العربية (المقطع السابع)، بل مغزى جملة الرموز الدينية التي تعمّر القصيدة. فليس هناك من قوى غيبية أو ماورائية يعتمد عليها لا شرقاً و لا غرباً. الرهان في الصراع بين العرب و الغزاة هو على الإنسان العربي المناضل الذي يبذل دمه لجبه هؤلاء الغزاة المستعمرين و لوقف الإنهيار الحضاري . و كما مات الله و محمّد مع الذات العربية المنهزمة المحطمة (المقطع الأول)، يبعثان هنا مع انتفاضتها الثائرة المجلجة . ما تصرّح به القصيدة هنا في نهايتها لم تكفّ مقاطعتها المختلفة عن التلميح إليه و الإيحاء به :
إنّ الألوهية نضاليّة إنسانيّة، الرموز الدينيّة هي رموز حضارية إنسانيّة، الإنسان العربي الذي صنعها في الماضي قادر على صنع أمثالها بل أفضل منها في الحاضر و المستقبل.
في هذه الخلاصة طرح لتصوّر ثوري لا يكتفي بالتهليل لنضال العرب ضد الإستعمار، و إنما يقدم مساهمته الخاصة في هذا النضال ساعياً كي تكون بمستوى الحدث، طليعيّة في مقاربتة ما أمكن ينطلق من الوقائع و الأوضاع و المعتقدات السائدة دون أن يرتهن بها.إنّه على العكس من ذلك يتجاوزها و يسعى إلى دفعها نحو آفاق أكثر جذرية و تقدميّة لعلّ في هذا الطرح يمكن أحد أهم الأوجه الثوريّة والجماليّة للعنصر الدلالي في هذا النص. من جهة أخرى يبدو المقطعان الأخيران من القصيدة و كان كلاً منهما يختص بمعالجة جانب مختلف عن الآخر.[41]
يتناول القسم الأول إنهيار الحضارة العربية الإسلامية تحت وطأة غزو وحشي والمسؤولية الخاصة لأبنائها في ذلك، و هو يشغل المقاطع الخمسة الأولى (من السطر الأول حتّى 68)، حيث يعبّر عن هذا الإنهيار بالدّّمار و الموت الشاملين و المتعددي الأشكال، و حيث تقدّم إنهيار نتيجة غزو جارف، و يبرز النضال لصدّه رهاناً وحيداً على صون الحياة و الحضارة كما يثبت ذلك التاريخ العربي و كما يدرك ذلك الجيل الحاضر كأنّ هذا الطرح يدفع إلى متابعة كلّ من الطرفين المتواجهين: الغزاة الغربيين و المناضلين العرب ـ فيتابع القسم الثاني (في المقاطع الثلاثة التالية من السادس حتّى الثامن، من إلى سطر 96 إلى 98) أوضاع هؤلاء الغزاة في أوضاع هؤلاء الغزاة في حملاتهم البربرية تاريخياً على المنطقة العربية، و في تناقض قيمهم المادية الرأسمالية اليوم مع قيم العرب الروحية الدينية، و مواقفهم كمستغلّين مع مواقع العرب ككادحين، و عهرهم الخلقي والحضاري الذي يتفجّرعدواناً إثماً على البلاد العربية. بينما يتناول القسم الثالث (في المقطعين الأخيرين من القصيدة من السطر 99 إلى 131): أحوال الثوار الفدائيين من العرب وجودهم فيبعثون بنضالهم البطولي حيوتيّهم المتحددة وتراثهم الراقي و قيمهم النبيلة. على هذا النحو تنظّم هيكليّة النص في أدائه للرؤية العامة فيه عبر طرح أوّليّ يتّجه إلى تفصيل و تطوير وحدتيه الأساستين بالإتجاه النامّ عن الموقف الخاص الذي يتبلور من خلاله. ولا يفتقر هذا الأبناء إلى قرائن تميّز وحداته الكبرى الثلاث و تعللّ تركيبها الداخلي في ترابط عناصرها المكوّنة من المقاطع المختلفة.[42]
و نضيف أخيراً بأنّنا نجد في هذه القصيدة التي يجوز تسمـيتها بالقصائـد العـربية ميـزة فارقـة من السهـل تمثّلها إذ نحن تذكـرنا حديث أفلاطـون في الجمهورية عن «الكـهف» الذي فيه بنو الإنسـان أسرى و من ورائهم نار تنعكس عن ضوئها أشباح الحقائق الخارجـية في ظنـونها، حتّى إذ قيّـض لأحد منهم أن يخرج إلى النور الحقيقي بهره ضـوء الشـمـس (رمز المثـال الأسمى ) نقــول : إنّ هذه القصائد «الكهفية» تمثّل مسير الشاعر من خلال المفهومات الجمـاعية إلى حــومة لـذات، إلى الكهف القديم المريح الذي يمثّل في الرحم أو القبر، فهو ـ على نحو ما ـ يجد الـرّاحة في أن يكـون بين الموتى و يرى نفسه دائماً دفيناً ؛ لقد عاد إلى مشكلة الموت و لكن لا ليكـون وحـده بل ليكـون مع موتى كثيرين من أمته، و تخايله فكرة الولادة الجديدة أو الإنطلاق من الكهف عن لمعـان أسنة الثائرين في المغرب، و لهذا نراه يتلذّذ بتعذيب الذات في المقارنة بين موته و موت من هم علـى شاكلته و بين الأحـياء، و يتملـكه الشعور بالخجـل بل بالخـزي من أنه لم يستطـع بعد أن يهـبّ من رقدة القبر، أو أنّ ينطلق من ذلك الرّحم المظلم ـ إنّ الصراع بين الحقيقة الداخلية في الكهف ـ أي المـوت ـ و بيـن الحـياة فـي خارجـه هو لحـمة تلك القصـيدة .[43] و هذا ما كـان يتّضـح إلا عرضـنا هذه القصيدة (المغرب العربي ) بشيء من التحليل.
المصادر و المراجع :
[1] أنظر: م.ن، ج 1، ص 395، 396.
[2] بلاطة، عيسي، بدر شاكر السياب حياته و شعره، ص 89 ، بتصرف.
[3] أنظر: أبوحاقة، أحمد؛ الإلتزام في الشعر العربي، ص 432.
[4] السياب، بدر شاكر السياب؛المجموعة الشعرية الكاملة، ج 1، ص 172.
[5] أنظر: أبوحاقة، أحمد؛ الإلتزام في الشعرالعربي ، ص 432، 433.
[6] السياب، بدر شاكر؛ المجموعة الشعرية الكاملة، ج 1، ص 172، 173.
[7] أنظر: عباس، حسان؛ بدر شاكر السياب دراسة في حياته و شعره، ص 196- 198.
[8] أنظر: أبوحاقه؛ أحمد؛ الإلتزام في الشعر العربي، ص 434، 435.
[9] أنظر: علي، عبد الرضا، الأسطورة في شعر السياب، ص178، 179.
[10] عباس، إحسان، بدر شاكر سياب دراسة في حياته و شعره، ص 199 ، بتصرف.
[11] أنظر: سويدان، سامي؛ بدر شاكر السياب و زيادة التجديد في الشعر العربي الحديث، ص 162، 163.
[12] أنظر: أبوحاقة، أحمد؛ الإلتزام في الشعر العربي، ص 434، 435.
[13] السياب ، بدر شاكر؛ المجموعة الشعرية الكاملة، ج 1، ص 174.
[14] أنظر: سويدان، سامي؛ بدر شاكر السياب و ريادة التجديد في الشعر العربي الحديث، ص 164، 165.
[15] عباس، إحسان؛ بدر شاكر السياب دراسة في حياته و شعره، ص 199.، بتصرف.
[16] أبوحاقة، أحمد؛ الإلتزام في الشعر العربي، ص 436، 437 ، بتصرف.
[17] السياب، بدر شاكر؛ المجموعة الشعرية الكاملة، ج 1، ص 174، 175.
[18] عباس، إحسان، بدر شاكر السياب دراسة في حياته و شعره، ص 198، بتصرف.
[19] أنظر: سويدان، سامي؛ بدر شاكر السياب و ريادة التجديد في الشعر العربي الحديث، ص 165، 166.
[20] أبوحاقة، أحمد؛ الإلتزام في الشعر العربي، ص 437، 438، بتصرف.
[21] السياب، بدر شاكر؛ المجموعة الشعرية الكاملة، ج 1، ص 175.
[22] أنظر سويدان، سامي؛ بدر شاكر السياب و ريادة التجديد في الشعر العربي الحديث، ص 167، 168.
[23] أنظر: أبوحاقة، أحمد؛ الإلتزام في الشعر العربي، ص 438.
[24] السياب، بدر شاكر؛ المجموعة الشعرية الكاملة، ج 1، ص 175، 176.
[25] أنظر: سويدان، سامي؛ بدر شاكر السياب و ريادة التجديد في الشعر العربي الحديث، ص 174، 175.
[26] أنظر: أبوحاقة، أحمد؛ الإلتزام في الشعرالعربي، ص 439.
[27] السياب، بدر شاكر؛ المجموعة الشعرية الكاملة، ج 1، ص 176، 177.
[28] أبوحاقه، أحمد؛ الإلتزام في الشعر العربي، ص 440.
[29] أنظر: سويدان، سامي؛ بدر شاكر السياب و ريادة التجديد في الشعر العربي الحديث، ص 175، 176.
[30] السياب، بدر شاكر؛ المجموعة الشعرية الكاملة، ج 1، ص 177، 178.
[31] أنظر: سويدان، سامي؛ بدر شاكر السياب و ريادة التجديد في الشعرالعربي الحديث، ص 176، 177.
[32] أبوحاقة، أحمد؛ الإلتزام في الشعر العربي، ص 441، 442 ، بتصرف.
[33] سويدان، سامي؛ بدر شاكر السياب و ريادة التجديد في الشعر العربي الحديث، ص 179 ـ 181 ، بتصرف.
[34] عباس، إحسان؛ بدر شاكر السياب دراسة في حياته و شعره، ص 199.
[35] السياب، بدر شاكر؛ المجموعة الشعرية الكاملة، ج 1، ص 178.
[36] أنظر: عباس، إحسان؛ بدر شاكر السياب دراسة في حياته و شعره، ص 199-200.
[37] سويدان، سامي؛ بدر شاكر السياب و ريادة التجديد في الشعر العربي الحديث، ص 183، 184.
[38] إحسان، عباس؛ بدر شاكر السياب دراسة في حياته و شعره، ص 201، 202.
[39] سويدان، سامي، بدر شاكر السياب و ريادة التجديد في الشعرالعربي الحديث، ص 184 ، بتصرف.
[40] عباس، إحسان؛ بدر شاكر السياب دراسة في حياته و شعره، ص 202 ، بتصرف.
[41] أنظر: سويدان، سامي؛ بدر شاكر السيّاب و ريادة التجديد في الشعر العربي الحديث، ص 184-187.
[42] أنظر: عباس، إحسان، بدر شاكر السيّاب دراسة في حياته و شعره، ص 198، 199.
[43] أنظر : عباس ، إحسان ؛ بدر شاكر السيّاب دراسة في حياته و شعره ، ص 198، 199

بقلم : فاطمة فائزي – ماجيستر اللغة العربية – جامعة العلامة الطباطبائي – طهران
[email protected]



#فاطمة_فائزي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الشاعر والأديب خليل حاوي؛ حياته و شعره
- أشهر القصائد التّموزية لروّاد الشعر الحديث في سورية و العراق
- «المسيح بعد الصلب » للشاعر بدر شاكر السيّاب


المزيد.....




- 1.8 مليار دولار، قيمة صادرات الخدمات الفنية والهندسية الايرا ...
- ثبتها أطفالك هطير من الفرحه… تردد قناة سبونج بوب الجديد 2024 ...
- -صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...
- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...
- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فاطمة فائزي - «في المغرب العربي» للشاعر بدر شاكر السيّاب