فاسفاليس ديميتريس
الحوار المتمدن-العدد: 3499 - 2011 / 9 / 27 - 09:01
المحور:
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
إن الذين يحكمون العالم يوجدون اليوم في مأزق استراتيجي: هل المخرج في التقشف أو في حفز الاقتصاد بواسطة الميزانية؟ يستعر النقاش في الصحافة المالية منذ يوم 5 أغسطس الأخير، وما من شيء يشير إلى أن الطبقات الحاكمة بالبلدان الرأسمالية المتطورة ستتوصل إلى تنسيق سياساتها قبل قدوم انحسار اقتصادي عالمي جديد.
واليوم، يبدو الزمن الذي كان فيه صندوق النقد الدولي يصرح بنبرة مطمئنة أن الأزمة انتهت، قد ولى منذ أمد بعيد. و الحال أن ذلك كان في شهر ابريل/ نيسان الأخير. ويسكن التخوف من انحسار عالمي جديد نفوس كل الحاكمين. ويشهد على ذلك مارتين وولف Martin Wolf ،كاتب افتتاحيات بجريدة فاينانشال تايمز ، حين كتب يقول:" ثمة فعلا خطر حلقة مفرغة تفضي إلى انكماش اقتصادي جديد" ( لوموند ، 6 سبتمبر). لكنهم ليسوا متفقين جميعا على التكتيك الواجب بوجه هذا الخطر. فبينما تكيف الشركات الكبرى و المستثمرون إستراتيجيتهم في الأسواق بافتراض الانكماش القادم، صرح رئيس البنك العالمي روبير زوليك يوم 6 سبتمبر انه " لا يظن أن الولايات المتحدة الأمريكية و العالم سيسقطان من جديد في انكماش اقتصادي".
بوجه شبح الانكماش، أبدت البلدان الرأسمالية المتطورة،منذ شهر، عجز سياستها الاقتصادية وتنافسها الأعمى في الآن ذاته. و رغم توفر حكومات عديدة على احتياطات مالية لتطبيق سياسة إنعاش اقتصادي حقيقية، " فان الدول [منها الولايات المتحدة و ألمانيا] القادرة على إنفاق اكبر ترفضه، و الذين يريدون إنفاقا اكبر لا يقدرون عليه" (مارتين وولف، جريدة لوموند ، 6 سبتمبر). و الأمر عينه بالنسبة للبنوك المركزية. ما سبب هذا الرفض؟ السبب أنهم جميعا يخشون هجوم المضاربين و المالية عليهم بتهمة "الإفراط في التساهل" في الميزانية. النتيجة أن العالم يواصل نزوله إلى الجحيم لأن الدول الرأسمالية القوية، على غرار ألمانيا انجيلا ميركل، تدافع عن "مصالحها الوطنية" ضد تلاميذ التقشف السيئين مثل اليونان و ايطاليا و اسبانيا. يا لها من عقلية عجيبة لدى هؤلاء "المسؤولين" الذين لم يرق يوما شك إلى مصداقيتهم: ترك المركب يغرق بدل توحيد جهور راكبيه من طبقة الأعمال و راكبيه من الطبقة الاقتصادية. يتمثل المشكل كله في صياغة إستراتيجية من شأنها أن تلاقي فيما بينها سياسات الدول الرأسمالية. هذا مضمون النص البرنامجي للمديرة العامة لصندوق النقد الدولي، كريستين لاغارد، المنشور بجريدة فاينانشال تايمز يوم 16 أغسطس الأخير. تحذر لاغارد ، مستعملة لغة الرأسمال الجديدة، الطبقات الحاكمة من أن تعميم خطط التقشف قد يؤدي إلى لهاث انتعاش اقتصادي بات فاقد الحيوية.
ثمة مسلكان جرى تخطيطهما للخروج من هذا المأزق. أولها توحيد سياسة البلدان المتطورة وفق توجه استراتيجي واحد. كتبت بهذا الصدد:"بعد انفجار الأزمة في متم العام 2008، وحد المسؤولون العالميون جهودهم ضمن هدف مشترك. وقد جنبنا ما أقدموا عليه تكرار الأزمة الكبرى لسنوات 1930، بدعم النمو، و بالتدخل ضد تصلب الشرايين المالية، وبرفض النزعة الحمائية، و بمد صندوق النقد الدولي بموارد. لقد آن وقت إعادة تنشيط هذا المنطق، ليس لتفادي كل خطر انتكاس وحسب، بل أيضا لوضع الاقتصاد العالمي على طريق نمو قوي، مستمر و متوازن".
ليس منطق 2008 غير ذلك الذي يضع المالية العامة في خدمة الرأسمال المريض، و الذي يلقي عبء الأزمة على الشعوب، و الذي ينضم إلى الالتزام النشيط من الدولة بتأمين تراكم الأرباح وفق المنطق النيوليبرالي.
بوجه نظائرها الذين يعتبرون أن الدول باتت عاجزة ماليا عن "إعادة الوصل مع منطق 2008"، تفصل لاغارد إستراتيجية طبقية للخروج من هذا المأزق، بتمييز تكتيك على المدى القصير من اجل انتعاش قوي و سياسة على المدى المتوسط لتجريد المواطنين من حقوقهم ومكاسبهم الاجتماعية. "يجب مواصلة السعي إلى هدفين في الآن ذاته: تطهير على المدى المتوسط، و دعم على المدى القصير للنمو و التشغيل. قد يبدو هذا متناقضا، لكن الهدفين يعزز احدهما الآخر. فالقرارات المتخذة لإعادة توازن المالية العامة تخلق على المدى القصير، بتوفير شروط تحسين مستمر لحسابات الدولة، مساحة تتيح دعم النمو و التشغيل. "
إنها إستراتيجية متماسكة لان الإصلاحات النيوليبرالية المضادة على المدى المتوسط لن يكون له اثر على الطلب اليوم:"بالإقدام مثلا على إصلاح التعويضات الاجتماعية أو إعادة هيكلة نظام الضريبة". أما على المدى القصير فالمطلوب تدابير " ترمي إلى إعادة رفع الإنتاجية، و النمو، و التشغيل"، أو "تسريع تنفيذ مشاريع البنية التحتية المقررة". إذا ترجمنا أقوالها، نجد أنها تدافع عن تحطيم الدولة الاجتماعية المصحوب بسياسة ترمي إلى تكثيف رفع شدة استغلال العمل، بقصد إقناع المقاولات بالاستثمار في الإنتاج. إنها اجمالا مواصلة الحرب الطبقية الجارية ضد الطبقات الشعبية منذ 30 سنة.
أما الذين يتطلعون إلى تحرر البشر، و ليس إلى " الثقة في الأسواق"، ما محلهم من هذا النقاش؟
ما من خطأ اكبر من الظن أن التقشف، و الإصلاحات النيوليبرالية المضادة، علاج لا مفر منه للمريض، وانه ما من بديل ممكن. كما كان دانيال بنسعيد يكرر: نطاق الممكنات غير محدد سوى بالنضال. و دائما لجأ المالكون وأنصار النظام القائم إلى هذا الفخ المتمثل في قول و تكرار إننا محكومون بتلقي سياستهم، مضيفين إن في الأمر مصلحتنا، وأنه علاوة على ذلك سنفهم ذات يوم أنهم كانوا على حق.
بالنسبة لنا، أولئك الذين يشعرون بالظلم المقترف في العالم بما هو ظلم بحقنا، ليست قدرية الاقتصادوية النيوليبرالية غير قناع إيديولوجي لتوطيد سلطة أوليغارشية رأسمالية. و لسنا وحدنا: فالمستاءون في بويرتا ديل سول، و سانتاغما، و ميدان التحرير، و ساحة القصبة، و تل ابيب، و سانتياغو، يتكلمون اليوم نفس اللغة – لغة التمرد السياسي- وهذا أمارة تلاقيات و ممكنات جديدة فتحتها كل هذه النضالات. وان تباعد الشكل الذي اتخذته هذه النضالات ونقاشات اليسار الحكومي في الحملات الانتخابية الجارية يشير إلى كل العمل السياسي المطلوب.
فاسفاليس ديميتريس
تعريب: المناضل-ة
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟