أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أديب كمال الدين - حوار القرآن والشّعر في -نون- أديب كمال الدين - القسم الثالث















المزيد.....


حوار القرآن والشّعر في -نون- أديب كمال الدين - القسم الثالث


أديب كمال الدين

الحوار المتمدن-العدد: 3491 - 2011 / 9 / 19 - 11:49
المحور: الادب والفن
    


حوار القرآن والشّعر في "نون" أديب كمال الدين - القسم الثالث

د. حياة الخياري - تونس
القسم الثالث



نون عيسى ونون يوسف: مياه الرّحم وتَوَهان نقطة "النّاسوت":
بالموازنة بين تجربة عيسى وتجربة يوسف تبدو قصّة يوسف أكثر نزوعا إلى ما هو إنسانيّ، ناهيك عمّا تميّزت به سورة يوسف من خصائص فنيّة جعلت منها مركز اهتمام مكثّف من قبل المبدعين عموما والشّعراء على وجه الخصوص. ففي سيرة النبيّ يوسف ملامح كثيرة قرّبته من شواغل الشّاعر المعاصر ورؤاه الفنيّة.
يوسف هو الذّات الواحدة ذات الحضور المتنوّع المتعدّد، فهو الأخ المغدور، والمعشوق العفيف، والسّجين البريء، والعارف الرّائي. وجميعها صفات بشريّة تصوّر ملامح "شخصيّة مأزومة" تحتفظ بقيمها الأصيلة لا بمحاربة "الواقع المتدهور" ومضادّاته على حدّ عبارة "غولدمان"، بل بالتّعالي عليه. وهي في جوهرها أقرب إلى ملامح "البطل الوجوديّ" منها إلى ملامح النبيّ، حتّى أنّ الله بدا أكثر تعاطفا مع نبيّه، إذ احتلّ موقعا قريبا من الأرضيّ البشريّ. فلم يحمّل سورة يوسف لهجة الإنذار والوعيد التي هيمنت على سور أخرى خوطب بها محمّد من قبيل سور "يونس" و"نوح" و"الأنبياء"، بقدر ما نزع إلى مخاطبة نبيّه بأسلوب المرشد الواعظ، والأهمّ من كلّ ذلك المنبّه إلى ما في القرآن من بيان وفصاحة وإعجاز لغويّ شحذت جميعها أسلوب القَصص القرآنيّ المكثّف، والذي ألمحت إليه سورة يوسف منذ آياتها الأولى في قوله تعالى: ﴿إنّا أنزَلْناهُ قُرْآنا عربيّا لعلّكُمْ تَعقِلونَ. نحْنُ نَقُصُّ عليْكَ أحْسَنَ القَصَصِ بما أوحينا إليكَ.﴾ (سورة يوسف ، الآيتان 2-3 ).
إنّ المميّزات المضمونيّة والفنيّة اللاّفتة في قصّة النبيّ يوسف والمبثوثة تفاصيلها أيضا في الإنجيل والتوراة جعلتها حمّالة أوجه دلاليّة متعدّدة وبنى رمزيّة لغويّة عميقة.
لتلك الاعتبارات المختلفة نرى سورة يوسف جديرة بأن تُقرأ أدبيّا وحروفيّا أيضا انطلاقا من رمزيّة نون الأنثى التي مثّلتها زوجة فرعون، وما خلقته من ازدواجيّة في النظرة إلى الزمن الخارقيّ للنبيّ بتشتّته بين اللذّة العاجلة والجنّة الآجلة، غير أنّ الاقتباس الشعريّ لرمزيّة نون الأنوثة عند الشّاعر أديب كمال الدين لم يتمّ بمعزل عن السّباحة في رحم آخر احتضن مياه النّبوّة في امتزاجها بمياه الألوهة ألا وهو رحم مريم حيث احتلّ النّبيّ عيسى موطنا أنثويّا ضديدا لموطن النّبيّ يوسف.
أن يتّخذ الشاعر جسد الأنبياء آليّة فنّية في تشفير رموزه الحروفيّة يقتضي إشرافا على مرجعيّات معرفيّة متباينة تحقّق تعدّدية المعنى هذه النظرة تحيلنا على روافد مختلفة نهل منها الشعر الحديث في استثماره لرمزية الجسد، وأهمّها المرجعيّة الفلسفيّة التي اجتهدت في إيجاد مكان للجسد بين المفاهيم الجوهريّة المحدّدة للمعرفة والحقيقة، حيث ذهب "ميشيل فوكو" (M.Foucault) إلى أنّ "الجسد ليس لعبة وإنّما هو مكان استثمار... إنّه موقع المعرفة والرّغبة والمصلحة فلابد أن يكون محلّ نزاع وصراع." (33)
ولو بحثنا عن منطقة تَنازع بين القرآن والشّعر لما وجدنا مساحة أرحب من اللّغة وحروفها، فما بالك إذا التبست تلك الحروف بأجساد الأنبياء وما علق بها من نقاط ونونات، تضعنا حيال تجربة الإبحار في مياه الجسد حيث نون الرّحم ونطفة الإنسانيّة الموقوفة على شرطها الموضوعيّ: شرط الجِماع والزّوجيّة، وبيانه في قوله تعالى: ﴿ألَمْ يَكُ نُطفةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى، ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فخَلَقَ فسَوَّى، فجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ والأُنْثَى.﴾ (سورة القيامة ، الآيات 37- 38- 39)
بذلك تكون أبسط مظاهر "التكثيف" متجليّة في "إثنيّة الواحد" و "زوجيّة الفرد"، وهي الصّورة التي طالما استلهمها الصّوفيّة من السّور القرآنية ليثبتوا أنّ الرّحم هو الموطن، ولولا الموطن لم تكن حياة، لذلك استدلّوا بالواحد والفردانيّة على ضعف الرّجل وقوّة المرأة حين استشهدوا بقصّتي النّبيين يحيى وعيسى، صورة دقّق ابن عربي شرحها قائلا: " ولمّا كان الفرد لا يكون إلاّ بعد ثبوت الاثنين ضعف عن عزّة الوحدانيّة فقال:﴿لاَ تَذَرْنِي فَرْدًا.﴾ (سورة الأنبياء،89) ﴿فاسْتجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَ.﴾(سورة الأنبياء، 90).. (34) ، "ولو لا هذا الواحد الذّي أعطى الفرديّة لهذين الاثنين ما صحّ نتاج أصلا، وكذلك الذكر والأنثى لا ينتجان أصلا ما لم تقم بينهما حركة الجِماع وهي الفرديّة. (35)
لقد تبَيَّن الصوفيُّ عقمَ الواحد وخصبَ الزّوج ولكن في فضاء الإعجاز الإلهيّ. ومثلما تدخّلت القدرة الإلهيّة لتفعيل الزوجيّة في سِير بعض الأنبياء فإنّها قد تدخّلت للحيلولة دونها مع البعض الآخر ومنهم سيّدنا يوسف. وهنا لا مفرّ من أن يتلبّس الشّاعر بشيء ممّا وُسِم به من "غواية"، فيحوّل الزّوجيّة من الإمكان إلى التحقُّق.
وهي الصّفة التي لم تلتصق بنبيّ القرآن فحسب بل بنبيّ الإنجيل أيضا إذ توهّم أهل "أورشليم" أنّ يوسف هو زوج مريم وأب يسوع. فقد ورد في الإصحاح الأوّل: ﴿وكان يسُوع حين ابْتدأ يبشّر في الثّلاثين مِن عمره. وهو على ما كان النّاس يظنّونه ابنَ يوسف.﴾ (36)
من ثمّ، تصل بنا رحلة إبحار الأنبياء إلى مياه نونين أنثويّتين : نون تركت نقطتها بهويّة مستَلَبة هي نون "امرأة العزيز" ونقطة يوسف، ونون لفظت نقطتها بهويّة ملْتبِسة (37) هي نون رحم مريم ونقطة عيسى..
بين نقطة اللّذّة ونقطة الهويّة يوضع حرف آخر على محكّ الاختبار ألا وهو حرف الألف، لتقع الموازنة ضمنيّا بين فاعليّة ألِف أُقصِيَ عن نون ناسوتيّة "هي له"، وفاعليّة ألِف اقتحم نونا نِسويّة "ليست له".
إنّه في الحالتين إبحار في نون أنوثة الكون يتنازعه الإنسان والله ويراه الشّاعر المجال الحيويّ الأرحب لألف قلمه ونون دواته.
اعتمادا على تلك المنطلقات، حملت ثنائيّة نون مريم ونون "امرأة العزيز" معادلات ترميزيّة متنوّعة ردّدت القصائد الحروفيّة أصداءها القرآنيّة على إيقاعات معرفيّة مختلفة مشدودة إلى سيمياء الجسد وكيمياء الحرف أوما يمكن أن نعبّر عنه بـ"الحرف المُجَسْدَن" والذي لا يعتبره أديب كمال الدين جديرا بالنبوّة إلاّ بقدر تنقيته من الشوائب الأنثويّة، لذلك فهو لا يكتفي بتحويل لوح النّون من قارب نجاة لنوح إلى خشب صلْب لعيسى، بل يتخّذ من نقاط التأنيث مسامير تُدقّ على ذاك الجسد السّماوي المقدّس الذي باركته السّورة نبيّا ورَثتْه القصيدة شاعرا، في "خطاب الألف":
" سحْقاً لزمن أحببتُكِ فيه
ووَضعتُ جسدي الطيّبَ
على المسامير والخَشَب.." ( 38 )
نون أنثى أديب كمال الدين هي نون حوّاء التي سلبت آدم جنّته، ونون زوجة فرعون التي غرّرت بيوسف، هي النّون المتشهّية اللّعوب التي يقف الألف حيالها مظلوما عاجزا، يدفع وقته بل زمنه ثمنا لـ"حسن نيّته"، وطيبة قلبه، وعفّة جسده، ونبوّة روحه.
غير أنّ كلّ مظاهر المعاناة لا يمكن أن تشكّك في كون أوضح التّمظهرات العيانيّة الحسّية لحقيقة الأنوثة إنّما تتجلّى في المرأة دون سواها. ولأنّ الطّبع في احتياج أبديّ إلى ضدّه، فإنّه لا حرف يطفئ نار الألف غير مياه النّون، لذا كثيرا ما يتداعى "الألف المتصعلك" أمام "إمبراطورة النّون".
ولكن بمجرّد أن "تذهب السَّكرة وتأتي الفَكَرة"، تنقلب لهجة "خطاب الألف" من العشق إلى اللّعنة، حتّى أنّ استدعاء النّون إلى قصيدة الشّاعر النبيّ يستحيل استدعاء استجواب ومحاسبة، يبدآن بالتّذكير بخطيئة آدم المغموسة في تفاحة حوّاء، وينتهيان عند خطيئة يوسف التي انزاح بها الخطاب الشّعريّ عن السّياق القرآنيّ فأخرجها من جنّة الإمكان إلى جحيم التّحقّق.
إنّها النّقطة بكلّ ما فيها من إغواء ومكر ومخاتلة، وهو الحرف بكلّ ما فيه من عفّة وبراءة وسذاجة.
كيانان رمزيّان أفصحت عنهما النقطة في اعترافاتها: "اعترافات النّقطة":
" نعم ، أيّها الحرف ،
هلاّ تذكّرتَني
هلاّ تذكّرتَ يوم كنتُ أنفخُ فيكَ الرّوح
روحَ اللذّة.
وما كنتَ تعرفُ معنى الرّوح
ولا معنى اللذّة.
هلاّ تذكّرتَ يوم جعلتُكَ تتلمّس المعنى
وتَدخل بابَ المبْنى.
وكنتَ غرّاً غَرِيرًا
وكنتُ أفعَـى! (39)
تحتلّ المركّبات الفعليّة الدّالة على التّحضيض، والنّواسخ الفعليّة الموظّفة للسّرد الاسترجاعي مكانة بارزة من القصيدة "هلاّ تذكرتني...هلاّ تذكرت يوم كنت". لكأنّها محفّزات على استنهاض الذّاكرة حتى تستحضر المتناصّ القرآنيّ لتكرّس التماهي بين الشّاعر ويوسف في تقمّص شخصيّة الحرف وسرعان ما تتكشّف خبايا الحرف ونقطته. ففي حين يتراءى الحرف سابحا في مدار "لذّة المعرفةّ التي ميّزه بها الله تحتلّ النّقطةُ المركزَ محتكرة "معرفة اللّذة" التي كان يوسف بها غشيما: "ما كنتَ تعرف معنى الرّوح ولا معنى اللّذة."
تستحوذ النّقطة على مخوّلات الألوهة لتعمّق في الشاعر النبيّ الإحساس بالحرمان حينما تقتنص معجزة النّفخ الإلهيّ من نون مريم وتزرعها في نون "امرأة العزيز"، الأوّل محكوم بالمفعوليّة التي وجّهتها الحركة العموديّة من ألف الله صوب رحم محصّن بروح القُدس وصّفه قوله تعالى: ﴿والتي أحْصَنَتْ فَرْجَها فنَفَخْنَا فيها مِنْ رُوحِنَا وجعَلْناها وابنَها آيَةً للعالَمينَ.﴾ (سورة الأنبياء، الآية 91)، والآخر واقع في مهبّ اختلاجات الشّغف، مدفوع بالفاعليّة التي مارستها حركة النّفخ الارتداديّة من نقطة النّون باتّجاه الألف، ووصفتها سورة يوسف في قوله تعالى: ﴿ورَاودَتْه التي هُوَ في بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ، وَغَلَّقَتِ الأبْوَابَ وقالَتْ هَيْتَ لَكَ.﴾ (40) (سورة يوسف،الآية23)
أمّا الصّورة الشعريّة فقد محت الحدود المفهوميّة الفاصلة بين نفخ الرّوح ونفخ اللّذة في تماسّ بين النقطة المقدّسة والنقطة المدنّسة، وهذا ما يضعنا حيال مقابلة أخرى بين حرف عيسى المحصّنة أبوابه بعناية إلهيّة (إسلاميّا)، المعمّد بمياه الرّب وروحه القدسيّ(مسيحيّا) (41) ، وحرف يوسف المزعزعة أبوابه بأعاصير الرّغبة.
إنّ الباب الذي دخله يوسف، إذن، هو ذاته الباب الذي دخله الحرف. إنّه باب مبنى الأنثى المؤدّي إلى معنى نقطة اللّذة التي تلمّسها يوسف دون أن يدركها، وقد عبّر عنها الشاعر رمزيّا في المقطع الأخير من قصيدة "اعترافات النقطة" في تناصّ مباشر مع سورة يوسف:
"هلاّ تذكّرتَ يوم جعلتُكَ تتلمّس المعنى
وتَدخل بابَ المبْنى
وكنتَ غرّاً غريرا
وكنتُ أفعى."
تطالعنا ثنائيّة المبنى والمعنى بانفصام آخر يعكس حال التشظّي التي يعيشها النبيّ بين ما يُفترض فيه من عصمة وما يعتور حاله من انقياد نحو الزّوجيّة تمليها فطرته البشريّة. وقد صوّرت السّورة حال الارتباك والتشتّت التي عاناها يوسف بين "باب مبنى" امرأته و"نقطة معناها"، وهو ما تجلّى في تسارع الأحداث وتوتّر حركة الشّخصّيّات بين الأقوال والأفعال وردود الأفعال في سياق الآيات التّالية: ﴿واسْتَبَقا البابَ وقَدَّتْ قميصَه من دُبُرٍ، وألْفَيَا سيّدَها لدى البابِ، قالتْ ما جزاءُ مَنْ أرادَ بكَ سوءًا إلاّ أن يُسْجَنَ أوعَذابٌ أليمٌ.﴾( سورة يوسف، الآية 25
وهنا تتراءى ملامح "الأنثى الأفعى" التي رمّزها الشّاعر نقطةً، أمّا "الحرف الغرير" فتستنطقه الآية على لسان يوسف: ﴿هي راودَتْني عن نَفْسي.﴾( سورة يوسف، الآية 27)، ثمّ تضيف الآية التّالية ما به تفارق امرأة العزيز صفاتها الفرديّة لتستحيل رمزا جمعيّا لما التصق بالنساء من كيد وغواية ورثنها عن أمّهنّ حوّاء، فيفارق خطاب يوسف في الآية التّالية ضمير "هي" ليُعَمَّم على ضمير "أنتنّ": ﴿فلمّا رأى قميصَه قُدَّ مِنْ دُبُر قال إنّه من كيْدِكنّ، إنّ كَيدكُنّ عظيمٌ.﴾( سورة يوسف، الآية 28)
غير أنّ الشّاعر، بالحوار الذي فتحه بين السّورة القرآنيّة والصورة الشعريّة، لم يتوقّف عند الرّمز إلى يوسف "بالحرف الغرّ الغرير" وإلى امرأته بـ"النّقطة الأفعى"، ولم يقتصر على تبئيره لرمزيّة "باب امرأة العزيز"، بل تجاوزه إلى وصف حال التّداعي التي عاشها النّبيّ الشّاعر أمام إغواء أنثاه في قصيدة "أخطاء المعنى":
" هبطَ البحرُ إلى موْجي..
ركب الأزرَقُ أبيضَ رُوحي..
وابيضّت عيناي من الذّلِّ
قمتُ إلى ثدْييْكِ أناشدُكِ الرّحمةَ..
كانت كلماتُكِ جثثا تتساقط من سعفات الرّطبِ الأحمر
كانت كلماتُكِ أطيارا مَوتَى فضَحتْ جسدي..
من أقصى جسدي حتّى أقْصاه
كان اللهُ يراقِب خيبة أخطائي..
ويناشدُني أن أصْمدَ وسط الرّيح وأنْ..
لا أنْهَارَ كَسدٍّ مِنْ طِين.. " ( 42)
كيمياء عناصر ممتزجة، وفسيفساء ألوان مختلطة، تنصهر جميعها في كينونة حرف يتقلّب على لظى الرّغبة ويعايش أوج المحنة: محنة "أخطاء المعنى."
كذا كان حال يوسف الشّاعر مع امرأته و﴿ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا.﴾ (43) ( سورة يوسف، الآية30).
لكأنّ الكلمات المتساقطة من فمها كلمات امرأة العزيز: ﴿هَيْتَ لكَ..﴾(سورة يوسف،الآية23)
لكأنّها ﴿ قدْ هَمَّتْ بهِ وهمَّ بِهَا..﴾ (سورة يوسف، الآية 24.)
لكأنّ الله يناشده: ﴿ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا..﴾(سورة يوسف، الآية 29)
هنا بالذّات يحتاج الشّاعر أن يعيد صياغة السّورة القرآنيّة ويوزّع أدوار المشهد المسرحيّ بحسب ما يراه هو لا بحسب ما رآه الله فيعير عيني النّبي يعقوب- اللتين وصّفهما قوله تعالى: ﴿وابيضّتْ عيناه من الحُزْن فهو كَظِيم.﴾ (سورة يوسف، الآية 84)- لعينيْ ابنه يوسف. ولئن ابيضّت عينا يعقوب حزنا على المفقود، فإنّ الشاعر قد استبدل الحزن بالمذلّة، إقرارا بالعجز عن الإعراض عن المرئيّ المرغوب.
لقد غشي نظر نبيّ السورة من كثافة الغياب، في حين غشي نظر نبيّ القصيدة من كثافة الحضور حينما اجتاحت أمواجُ الشهوة الزرقاء نونَ النفس النقية البيضاء فأصابت العينين بعمى الألوان:
"هبطَ البحرُ إلى موجي..
ركب الأزرَقُ أبيضَ روحي..
وابيضّتْ عيناي مِن الذُّلّ."
أمام جسد يشتهيه وتقف النبوّة حائلا دون إدراكه، خيّر الشّاعر أن يفقأ عينيه على أن يرتكب المحظور، فيقرّر "أديب" تقمّص شخصيّة "أوديب"، غير أنّه يعمد إلى تغيير مسار المأساة ويقرّر تدارك الفاجعة قبل حدوثها، فيستبق الإجراء الذي اتخذه البطل التراجيديّ متأخّرا بإجراء احترازيّ يطهّر النفس من الشّوائب السّفليّة تشبّها بالأنبياء، حتّى يعلو صوت الدين على صوت الأسطورة، وحتّى تتسامى تجلّيات الرّوح على نداءات الجسد.
يفعل الشّاعر كلّ ذلك تمسّحا على عتبات الله عسى أن يتكرّم بمعجزة. لكنّ استجابة الله كانت نظريّة لا عمليّة، فلم تتجاوز التعاطف المعنوي ليس إلاّ:
" كان الله يراقب خيبة أخطائي..
ويناشدني أن أصمدَ وسط الرّيح وأنْ..
لا أنهار كسدّ من طين.."
لقد اكتفى اللّه بمجرّد المناشدة ولم يمنّ على الشاعر بما منّ به على النّبيّ الذي كان له السّبق في معايشة هذا التشتّت بين مبنى النّون ومعنى نقطتها وبلغ أوجه في الآيات التالية من سورة يوسف: ﴿ولَقدْ هَمَّتْ بهِ وهمَّ بِهَا لولا أنْ رَأى بُرْهانَ ربّه، كذلك لِنصْرِفَ عنه السُّوءَ والفحْشاء، إنّه مِن عبادنا المُخْلِصينَ.﴾(سورة يوسف، الآية 24.)
وهنا لا بأس في أن نعرّج على بعض ما جاء في كتب التّفسير لعلّنا نستجلي الملمح الإنسانيّ في ألف النبوّة كلّما اختُبرت على محكّ نون الغواية، فنتبيّن مدى انعكاس الشّحن العاطفيّ الذي ميّز أسلوب القصص القرآنيّ على تعدّدية القراءة لسورة يوسف واختلاف التأويل لبعض آياتها. والآية السّابقة من أبرز الآيات التي أثارت جدلا لدى المفسّرين، إذ قال ابن كثير: "اختلفت أقوال النّاس وعباراتهم في هذا المقام، فقيل المراد بـ"همَّ بها" خطرات حديث النفس، وقيل تمنّاها زوجة، وقيل "هَمّ بها لولا أن رأى برهان ربّه." أي فلم يهمّ بها... أمّا البرهان الذي رآه ففيه أقوال منها أنّ يوسف رفع رأسه إلى سقف البيت فإذا كتاب في حائط البيت: "ولا تقربوا الزّنا إنّه كان فاحشة وساء سبيلا." (سورة الإسراء، الآية 32)."
( 44) ولم تكن الآية التّالية أقلّ إثارة للجدل إذ قال يوسف: ﴿ ذلكَ ليعْلَمَ أنّي لمْ أخنْهُ بالغيبِ. ﴾( سورة يوسف، الآية 52) فقد اختلف المخيال الجمعيّ في فهم الآية وكيفيّات تأويلها، حتّى أنّ بعضهم ذهب إلى حدّ القول بأنّ يوسف قد انقاد فعلا لإغواء امرأته. وهم من عناهم الزّمخشري بالتعليق التالي: "ولقد لفّقت المبطلة روايات مصنوعة فزعموا أنّ يوسف حين قال "إنّي لم أخنه". قال له جبريل: "ولا حين همَمْتَ بها؟" وقالت له امرأة العزيز: "ولا حين حلَلْتَ تكّةَ سراويلكَ يا يوسف؟" ( 45 )
قد يرمينا البعض بالزّيغ متّكئا على قوله تعالى: ﴿فأمّا الّذين في قُلُوبِهمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الفِتْنَةِ وابتِغاءَ تأْويلِهِ، وما يَعْلَمُ تأْويلَه إلاّ الله..﴾ (سورة آل عمران، الآية 7)، وإن كنّا ممّن يبتغون تأويله، فلسنا ممّن يبتغون الفتنة، وحسْبُنا حُجّةً أنّ آيات سورة يوسف المعنيّة بدراستنا لم تُصنّف عند علماء القرآن (46) ضمن "المتشابه" ولا "الغريب" ولا "المُشكل"، بل صُنِّفتْ ضمن "المحْكَم" المقصود بقوله تعالى: ﴿هُوَ الّذي أَنْزَلَ عليْكَ الكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتابِ.﴾ (سورة آل عمران، الآية 7). ناهيك عن كون دراستنا، وإن تقاطعتْ مع النّصّ القرآنيّ فإنّ مقصدها أدبيّ أوّلا وأخيرا. لذلك فإنّ ما استوقفنا في تلك الآيات إنّما هو كثافتها الإنشائيّة التي وُظّفت توظيفا بليغا للتّعبير عن تدخّل القدرة الإلهيّة حتّى تخلّص النّبيّ من شوائبه الإنسانيّة بأن تمدّ له طوق النّجاة كلّما بلغت به المحنة مبلغا يسلبه نقاءه ويشكّك في قدسيّته.
إلاّ أنّ حال التشتّت التي عايشها يوسف وانتهت بأن "رأى برهانا من ربّه"، قد توقّفت مع الشّاعر عند نهاية مفتوحة مآلها حتما البكاء على جسد مظلم حجب الله عنه ومضة المعجزة بعد أن حرمه ومضة اللّذة فترسّب في "جنّة الفراغ":
" يا نقطة نوني ...
تركتِني أبكي أبجديّتي المتناثرة
على ظلمة جسدِي . ( 47 )
إنّ غياب نقطة المعجزة وتناثر خشب النّون ينذران بحرمان الجسد من الجنّتين، لكنّ الأنثى تظلّ المسؤول الأوحد، ذلك أنّ عذابات الجسد متأتية أساسا من عدم ثقته بأمومة النّون فهو الحرف الجامع بين متناقضين: هلال مشرك ونقطة نبيّة في قصيدة "خطاب الألف":
" نقطتكِ قِبْلة
وهلالكِ إبحار في القارّة الحامضة ...
نقطتكِ نبوءة
وهلالكِ شِرْك .( 48)
تختزل صورة النّون المنفصمة بين نقطتها وهلالها الرّمز إلى رحمين بحرف واحد يحتكر أحدهما النقطة ويستقلّ الآخر بالقوس: رحم يحتفظ بنقطة النبوّة المقدّسة هو رحم مريم، ورحم مبحر في "اللّذة الحامضة" بقوسه المشرك وهو رحم امرأة يوسف.
بين النقطة والقوس يمارس الشّعر طقس الإبحار للتّجديف ضدّ كلّ الشوائب النونيّة الأنثوية.
^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^
المصادر والمراجع
33 - فوكو، المعرفة والسّلطة ، ترجمة مطاع صفدي ، مركز الإنماء القومي، 1992 ، ص 84
34 - محي الدين بن عربي، رسائل، تقديم محمود الغراب، ضبط محمد شهاب الدّين العربي ، دار صادر، بيروت 1997 (كتاب الألف وهو كتاب الأحديّة)، ص53.
35 - رسائل ابن عربي ، كتاب الميم والواو والنّون ، ص107.
36 - إنجيل القدّيس لوقا ، دار المعارف ، القاهرة – 1978، ص 36.
37 - تورد كتب التفسير خبر "المباهلة" الذي دوّنه أبو الفرج الأصفهاني في "خبر المواجهة بين الرّسول محمّد وأسقف بني نجران" حول طبيعة عيسى وهويته على شكل مناظرة بين الإسلام والمسيحيّة. وفحواه: "قال الأسقف: يا أبا القاسم، موسى من أبوه؟، قال النّبي: عمران. قال: فيوسف من أبوه؟ قال: يعقوب. قال: وأنت من أبوك؟ قال: أبي عبد الله بن عبد المطلب. قال: فعيسى من أبوه؟ فسكت رسول الله، فانقضّ عليه جبريل وقال: "إنّ مَثَل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثمّ قال له كُنْ فيكونُ."(سورة آل عمران/59) فتلاها الرّسول، فنزا الأسقف مغشيّا عليه ثمّ رفع رأسه إلى النّبيّ، فقال: أتزعم أنّ الله جلّ وعلا أوحى إليك أنّ عيسى خُلق من تراب؟ ما نجد هذا فيما أوحِي إليك ولا نجده فيما أوحي إلينا، ولا تجده هؤلاء اليهود فيما أوحي إليهم. فأوحى الله إليه: " الحقّ مِن ربّك فلا تكن من الممترين، فمَن حاجّك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندْعُ أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم، ثمّ نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين." (سورة آل عمران/ 60-61)." كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني في "خبر وفد بني نجران على النّبيّ"، ج10- ص 143-144.
38 - نون ، ص 58
39 - ما قبل الحرف.. ما بعد النقطة ، ص 38
40 – "هَيْت لك" :"تهيّأتُ لَكَ" . أبو القاسم الزّمخشري، تفسير القرآن الكريم: الكشّاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، تحقيق محمّد عبد السلام شاهين، دار الكتب العلميّة، ط3 بيروت 2003، ج2 ص 442.
41 - ورد في الإنجيل: ﴿ فدخل الملاك [جبرائيل] وقال لها: "السّلام لكِ أيّتها المباركة الممتلئة نعمْةً. الربّ معكِ، مباركة أنتِ في النّساء.".. فلمّا رأته اضطربت، فقال لها: "لا تخافي يا مريم، لأنّك قد نلتِ نعمة الله، وها أنتِ ستحْبلين وتلدين ابنا تسمينه يسوع".. فقالت مريم للملاك: "كيف يكون لي هذا وأنا لا أَعْرِف رجلاً." فأجاب الملاك وقال لها: "إنّ روح القُدُس سيحلّ عليكِ وقوّة العَليّ ستظلِّلُكِ. ولذلك فإنّ القدّيس الذي سيولَدُ منكِ يُدعَى ابنَ الله." ﴾ إنجيل القدّيس لوقا ، دار المعارف ، القاهرة – 1978، الإصحاح الأوّل ص 32.
42 - أخبار المعنى ، ص 12
43 – "شغفَها" :" خرَق شغاف قلبها حتّى وصل إلى الفؤاد." ، تفسير الكشّاف ، ج2 ص 444.
44 - تفسير ابن كثير ، تحقيق محمّد علي الصّابوني ، دار القرآن الكريم ، ط8 بيروت 1981 ج2 ص 246.
45 - الزمخشري، تفسير الكشّاف، ج2 ص462.
46 - بالإضافة إلى كتب التّفسير نعوّل في فهمنا للمعجم القرآنيّ أبرز مصنّفات علوم القرآن، ومن أعلامها: جلال الدين السّيوطي ،الإتقان في علوم القرآن، المكتبة العصريّة ، بيروت 1988/ و القاضي أبو بكر الباقلاّني، إعجاز القرآن ، دار الكتب العلميّة ، ط1 بيروت 2001 / و بدر الدين محمّد بن عبد الله الزركشي ، البرهان في علوم القرآن، دار المعرفة، ط1 بيروت 1990/ و أبو حامد الغزالي، المسْتصْفَى في علم الأصول ، دار الكتب العلميّة، ط2 بيروت 1983.
47 - نون ، ص 41.
48 - نون ، ص 60

^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^^
لقراءة الدراسة كاملة يرجى استخدام الرابط :

http://www.adeebk.com/plaz/223.htm
يتبع

د. حياة الخياري - تونس



#أديب_كمال_الدين (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حوار القرآن والشّعر في -نون- أديب كمال الدّين - القسم الثاني
- حوار القرآن والشّعر في -نون- أديب كمال الدّين- القسم الأول
- موقف البياض
- موقف دُعاء كُمَيْل
- موقف قَسوة القلب
- موقف الأنا
- موقف الجسد
- ملكة؟ عارفة؟ ساحرة؟
- موقف السجن
- موقف الشوق
- قراءة في مجموعة أديب كمال الدين (أقول الحرف وأعني أصابعي): ش ...
- موقف الحجاب
- موقف المطر
- موقف الدائرة
- كتاب جديد للدكتور الناقد صالح الرزوق عن تجربة أديب كمال الدي ...
- موقف عيسى
- موقف العِزّة
- موقف الخوف
- موقف نُوح
- موقف السَلام


المزيد.....




- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أديب كمال الدين - حوار القرآن والشّعر في -نون- أديب كمال الدين - القسم الثالث