أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اخر الاخبار, المقالات والبيانات - يعرب العيسى - تحديثيو التلفزيون السوري يسلبونني موفق الخاني















المزيد.....

تحديثيو التلفزيون السوري يسلبونني موفق الخاني


يعرب العيسى

الحوار المتمدن-العدد: 1035 - 2004 / 12 / 2 - 07:44
المحور: اخر الاخبار, المقالات والبيانات
    


على قلق كأن الريح تحتي

لا أدري أي خميس منها بالضبط لكنه واحد من خميسات كانون الأول عام 1976، كانت الساعة الرابعة والنصف مساءً، وكان للسماء لون الخاكي العسكري الداكن، والهواء كان أسود تماماً، لا شئ يبدو من الحياة سوى مداخن تعج بالهباب ووجوه بلا ملامح من شدة البرد، الطريق من المدرسة للبيت بدا لكآبته كأنه يمر في نفق.
عند باب البيت تماماً أتاني صوت أمي: (ألق حقيبتك وحذائك وتعال إلى الحمام) بعد ربع ساعة كنت مصفوفاً وأخوَي بجانب بعضنا مثل شخصيات عبد اللطيف عبد الحميد بأنوفنا المتشابهة وبيجاماتنا الموحدة.
مع خروجي من الحمام كان عمي خضر قد وصل من دمشق حيث يؤدي خدمته العسكرية، حاملاً معه علبة برازق، رأيت في تلك العلبة كل مباهج الدنيا، أكلت منها وأكلت، تاركاً لكل تفصيل في طعمها أن يجاور مفردات تلك الليلة البهية ويحجز مكاناً لنفسه في ذاكرتي إلى الأبد، وما زلت بعد أكثر من ربع قرن أذكر تلك الحلاوة ونكهة السمسم ومتعة طحن قطع الفستق المباغتة بين الفينة والأخرى.
بعد ساعتين لا أذكر منهما شيئاًَ كنت محشوراً بين مقعد خشبي ومدفأة مطمورة بغسيل أمي ذي الرائحة الذكية، أبي وعمي يتعاذبان الذكريات متكئين على أكتاف بعضهما في غرفتنا الصغيرة المستطيلة، أخوتي وأخواتي يأخذهم استرخاء الغرفة الدافئة ورائحة الاستحمام التي يعبق بها البيت.
رأسي في حجر أمي وجسدي قرب المدفأة، رائحة الغسيل في أنفي وطعم البرازق في فمي، كل من يخصني في هذا العالم كان آمناً حولي، أغمضت عيني ، كانت الثامنة مساءً من ليلة الخميس، كنت أسمع أجمل صوت سمعته في حياتي، لتكتمل متعي كلها، كان صوت موفق الخاني في أذني بكل ما يحمل من وداعة وسكينة، على إيقاع برنامج من الألف على الياء غفوت.
آآآآآآآآآآآآه يا وطن.... لك المجد...كانت تلك آخر لحظة شعرت فيها بالأمان.
بعد ستة عشر عاماً تعرفت ـ شاباً وحيداً وذاهلاً ـ على جثة أبي في براد مشفى المواساة، تفرق أخوتي وانشغلوا ببطون أبنائهم التي يجوعون هم انفسهم منها، صارت غرفة أمي باردة حزينة، ولم تعد خميساتها تزدان برائحة الغسيل الذكية، فليس لدى الأرامل المتوحدات ما يحتاج لتعطير الغسيل، لم أر عمي خضر منذ ثلاثة أعوام، ودخل البلاستيك كمادة أساسية في صنع البرازق.
لم يبق لي من الطفل الآمن الذي كنته سوى صوت موفق الخاني، تعاملت لسنوات معه (الصوت) كمنشور سري لم تضبطه دورية المداهمة التي اعتقلت فرحي، كنت أتلذذ خميساً بعد خميس ليس بالصوت بحد ذاته، بل بفكرة أن قطعة من فردوسي المفقود قد أفلتت من براثن الزمن، وأن أحرفي السحرية المديدة لن تصل إلى الياء أبداً.
لكن ها هو التلفزيون يصدر قراراً حكيماً وشجاعاً، عادلاً وشاملاً بإلغاء برنامج من الألف إلى الياء.
ربما كان من حقكم أن تحدثوا برامج وتلغوا برامج في سعيكم (اليائس) لإثبات أنكم تطويريون تحديثيون تشفيفيون، لكن موفق الخاني ليس برنامجاً، من حقكم تغيير ألوان جواربكم، لكن ليس من حقكم العبث بألوان العلم الوطني، وإن بدا في الجملة بعض الشطط لكن إلغاء برنامج كهذا يحتاج لتصويت شعبي.
من الطبيعي إلغاء البرامج، ومن الطبيعي أن يلتهم الزمن ألق "من الألف إلى الياء" لكن ألا يوجد في التلفزيون السوري مئة وسبع وستون ساعة و ثلاثون دقيقة أسبوعياً تحتاج لإلغاء قبل برنامج من الألف إلى الياء؟، ألا يوجد في سورية سبعة آلاف تفصيل تحتاج لتغيير قبل موفق الخاني؟
طوروا وحدثوا، لكن رتبوا أولوياتكم، هناك مئات القوانين ومئات المفاهيم، المدراء العامون، الخاصون، طوابير الحالمين بالهجرة على أبواب السفارات، فريق كرة القدم الذي لم يحقق فوزاً منذ سبعة عشر عاماً، القطاع العام الذي لم تجدوا بعد حفرة تلقون جثته بها.
وفي تلفزيونكم (بالمعنى الحرفي للكلمة) وقبل أن تتوقفوا عن تخصيص نصف ساعة في الأسبوع لواحد من أشرف البرامج التي عرفتها شاشتكم، توقفوا عن تغذية مذيعاتكم بالنشويات، ومحرريكم بالأصفاد.
توقفوا أولاً عن مقاسمة الناس قطرات عرقها، ففي كل برنامج يقدمه التلفزيون ل "مشاهديه الأعزاء" هناك ثلاثة أو أربعة أشخاص يعملون وهناك عشرة أضعافهم يقبضون، وعلى رأس الثلاثين يأتي المدراء ليأكلوا من كل وليمة أطيبها ومن كل وضيمة أشمتها، ويمكن لأي مهتم أن يراجع جداول صرف البرامج الدسمة (وهو مصطلح خاص بالتلفزيون ويعني البرامج التي لا تدخل في خانة البونات المسقوفة، وتسمى إما عقود أو أفلام، او برامج الرعاية) ليكتشف حجم المبالغ التي قضمت من جهود العاملين الحقيقيين كي يقبضها المدراء الذين لا يعرفون عن تلك البرامج سوى اسمها والمبلغ المخصص لهم فيها.
توقفوا عن تقاسمكم الطائفي للإدارات والأقسام والشعب وحتى البرامج، توقفوا عن اعتقادكم بأن مذيعة غلبها النعاس في مكتب رجل مهم، تؤهلها غفوتها لتجلدنا بطلتها البهية، اخبروا وجيه شويكي أن الأرضية الزاحفة لا يمكن أن تعلو العارضة بقليل، وقولوا لماريا ديب أن تغير هذا السؤال.
يمكنكم أن تفعلوا ما تشاءون فهذه مزرعتكم، ولكن أي وقاحة تسمح لكم بإلقاء "تحية المساء" على سكرتيراتكم، وانتم تلغون برنامج من الألف إلى الياء وتبقون برامج الأيدي الماهرة، ومع العمال، وعالم الأسرة وأرضنا الخضراء وحماة الديار والطلبة والشبيبة ومعتوهي الحصن الحصين.
محنتنا الكبرى أننا محاطون برجال يعتقدون أن من حقهم تقرير متى يستحق الآخرون الموت، الاعتقال، قطع اللسان، تغيير المزاج، تغيير القيم، بل وحتى التكريم.
أجل فقرار إلغاء البرنامج يتضمن دعوة للتكريم، وهو القرار الذي سعيت حثيثاً لمعرفة ظروف صدوره وأسبابه الموجبة ومن أصدره ولم أتمكن رغم الاستعانة بمجموعة من الأصدقاء (سأخسرهم في هذه اللحظة تماماً) من داخل الهيئة، فكلهم قد تماهوا مع الحالة وقالوا: "ارتأت الإدارة" وحصلت عبر شخص لا يمت للتلفزيون بصلة على القرار الذي أصدره توفيق أحمد مدير التلفزيون، ودعا في نهايته لتكريم موفق الخاني، وسأساهم معه وسأصيغ الدعوة بطريقة تليق بهذا الزمن ـ المحنة ـ الذي نعيشه:
الأستاذ توفيق أحمد يكرم شخصاً يدعى موفق الخاني، وكان المدعو الخاني قد ساهم في تأسيس التلفزيون السوري (الذي يديره الاستاذ توفيق أحمد بتوجيهات سديدة من الأستاذ معن حيدر) وعمل لحوالي أربعين عاماً فيه، وكان قد أثبت كفاءة جيدة وقدرة على التطور والتعلم بالنسبة لشخص قادم من خارج الوسط الإعلامي حيث كان المدعو موفق قد أسس سابقاً شركة الطيران السورية وكان أول مدير لها، ويذكر أرشيف منظمة الطيران العالمية (الآياتا) أن أحرف الاختصار التي تعرف بها مؤسسة الطيران السورية عالمياً هي الأحرف الأولى من اسم مساعده.
هناك قول مأثور أضطر لاستخدامه دوماً: "احذروا شر بعثي خلع بدلة السفاري وأخفى كأس المتة تحت الطاولة"
مشكلة توفيق أحمد أنه جاء متأخراً خمساً وعشرين عاماً عن زمنه المنطقي، فمن المؤسف حقاً ـ بالنسبة لمواهبه ـ انه لم يكن إعلامياً في بداية الثمانينات وإلا لكنا نرتعد خوفاً منه، إذ سيكون كما هو الآن مع فارق بسيط، أنه سيكون إعلامياً ببدلة مرقطة لأنه بالتأكيد سيكون آنئذٍ النائب الأول للمستشار الإعلامي لسرايا الدفاع، أتمنى ألا أكون أظلم هذا الرجل، لكن مذيعاً على شاشة وحيدة، وشاعراً بأربعة دواوين (لا تزيد شاعريته فيها عن شاعرية مفيد خنسة) ومديراً للتلفزيون بمحطاته الثلاث، يفترض أن يكون في أي بلد في العالم شخصية عامة، وليخبرني ألف شخص أنهم سمعوا باسمه وأقسم أنني لن أمسك قلماً بعدها.
شاركت في إعداد برنامجين رديئين خلال الشهر الماضي وتقاضيت عنهما أكبر مبلغ قبضته في حياتي، وتمكنت بفضله لأول مرة من تعبئة خزان المازوت حتى آخره، ولدي دعوة صريحة للاستمرار في العمل، لكني اكتب هذا المقال دون أن ترتجف يدي وأتنازل لكم عن كل ذلك وعن الدخول لمبناكم المهيب، لعلي أكفر عن ذنبي بخوض هذا المستنقع، وذنبي الأكبر بإلقاء التحية على أردئكم.
اسمعوا... أرجوكم اسمعوا بحة صوت موفق الخاني، وانظروا.. أرجوكم انظروا في عيون اليمامات التي تطير وتحط فوق بيوت دمشق، دققوا السمع والنظر جيداً، لتعرفوا كم من الحزن في هذي البلاد.



#يعرب_العيسى (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- جمال سليمان ..نجم محبوب بموجب المادة 8 من الدستور السوري
- ولا نتقن دور الضحية أيضاً؟
- الاسلام متخرجاً من مدرسة أحمد عدوية


المزيد.....




- -قناع بلون السماء- للروائي الفلسطيني السجين باسم خندقجي تفوز ...
- شاهد.. آلاف الطائرات المسيرة تضيء سماء سيول بعرض مذهل
- نائب وزير الدفاع البولندي سابقا يدعو إلى انشاء حقول ألغام عل ...
- قطر ترد على اتهامها بدعم المظاهرات المناهضة لإسرائيل في الجا ...
- الجيش الجزائري يعلن القضاء على -أبو ضحى- (صور)
- الولايات المتحدة.. مؤيدون لإسرائيل يحاولون الاشتباك مع الطلب ...
- زيلينسكي يكشف أسس اتفاقية أمنية ثنائية تتم صياغتها مع واشنطن ...
- فيديو جديد لاغتنام الجيش الروسي أسلحة غربية بينها كاسحة -أبر ...
- قلق غربي يتصاعد.. توسع رقعة الاحتجاجات المؤيدة للفلسطينيين
- لقطات جوية لآثار أعاصير مدمرة سوت أحياء مدينة أمريكية بالأرض ...


المزيد.....

- فيما السلطة مستمرة بإصدار مراسيم عفو وهمية للتخلص من قضية ال ... / المجلس الوطني للحقيقة والعدالة والمصالحة في سورية
- الخيار الوطني الديمقراطي .... طبيعته التاريخية وحدوده النظري ... / صالح ياسر
- نشرة اخبارية العدد 27 / الحزب الشيوعي العراقي
- مبروك عاشور نصر الورفلي : آملين من السلطات الليبية أن تكون ح ... / أحمد سليمان
- السلطات الليبيه تمارس ارهاب الدوله على مواطنيها / بصدد قضية ... / أحمد سليمان
- صرحت مسؤولة القسم الأوربي في ائتلاف السلم والحرية فيوليتا زل ... / أحمد سليمان
- الدولة العربية لا تتغير..ضحايا العنف ..مناشدة اقليم كوردستان ... / مركز الآن للثقافة والإعلام
- المصير المشترك .. لبنان... معارضاً.. عودة التحالف الفرنسي ال ... / مركز الآن للثقافة والإعلام
- نحو الوضوح....انسحاب الجيش السوري.. زائر غير منتظر ..دعاة ال ... / مركز الآن للثقافة والإعلام
- جمعية تارودانت الإجتماعية و الثقافية: محنة تماسينت الصامدة م ... / امال الحسين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - اخر الاخبار, المقالات والبيانات - يعرب العيسى - تحديثيو التلفزيون السوري يسلبونني موفق الخاني