يعرب العيسى
الحوار المتمدن-العدد: 1014 - 2004 / 11 / 11 - 08:29
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
حين تهب العاصفة ينحني البعض أمامها منتظراً، أولئك هم الحكماء، وينحني البعض متظاهراً أنه يبحث عن شئ ما سقط منه، أولئك هم الظرفاء، ويلصق البعض الثالث كامل جسده بالتراب، ويشمخ برأسه بين الفينة والفينة مصدراً ضجيجاً يوهم من حوله أنه لن ولم ينحن للعاصفة، أولئك نحن السوريون، نعرض رأسنا للخطر ولا نجد أحداً يصدقنا.
بعد يوم واحد من قيام أكثر من عشرين مراسل برحلة إلى الحدود العراقية نظمتها وزارة الإعلام السورية، لإطلاع مراسلي الصحف الخارجية ووكالات الأنباء والفضائيات على جدية الإجراءات التي تقوم بها سوريا لضبط الحدود، ولينقلوا للعالم ـ تحديداً لبضعة أشخاص في العالم ـ ما رأوه بأم أعينهم من جرافات وآليات تصنع ساتراً ترابياً، لضبط الحدود و ل " التقدم الحقيقي وليس إطلاق الشعارات" وهو ما قاله وليام بيرنز مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأوسط، في زيارته الأخيرة لدمشق والتي قال في نهايتها: " ولقد ناقشنا ضمن جملة من المواضيع طرائق عملية يستطيع من خلالها خبراؤنا العسكريون التعاون مع نظرائهم السوريين والعراقيين لتأمين الأمن على الحدود السورية– العراقية".
في اليوم التالي للرحلة (المفيدة والذكية) نشرت صحيفة الثورة السورية (الحكومية) في عدد 8/11/2004 تحقيقاً لمراسلها في الحسكة حول الحياة اليومية لسكان القرى الحدودية (المتاخمة للعراق)، تضمن هذا التحقيق العبارة التالية: "وعلى امتداد الشريط الحدودي تبدو بوضوح ..... آليات هندسية ـ حفارات وتركسات ـ منتشرة على طول الحدود لرفع الساتر الترابي وتحصينه، والكلام الذي اجمع عليه كل من التقيناهم من فعاليات حكومية أو من سكان القرى الحدودية هو أن هذه الإجراءات لتحصين الحدود ليست جديدة وليست لإرضاء أحد كما يعتقد البعض أو كما يحاول أن يروج، وإنما هي ضرورية لمصلحة الجانب السوري أولاً فرضتها ظروف الفوضى والفلتان الأمني من الجانب العراقي" وفي فقرة أخرى يقول التحقيق: "المسؤول الذي شرح لنا أشار إلى أن الساتر الترابي أحدث في الثمانينات والعمل من أجل حماية الحدود كان قائماً قبل احتلال العراق، لكن الآن أصبحت الظروف تتطلب مزيداً من التشدد لأنه لم تعد هناك ضوابط محددة لأمن الحدود وحمايتها من الجانب العراقي".
لست في صدد مناقشة مهنية للتحقيق الصحفي (رغم رداءته المغوية)، ولكن أسوقه مثالاً طازجاً لعقلية سورية في التعامل مع الحدث السياسي، وعدم القدرة على استثماره، ففي الوقت الذي بدا فيه السياسيون السوريون وكأنهم يعودون للبراعة التي اشتهرت بها المدرسة السياسية التي تخرجوا منها، والتي وصفها باتريك سيل بجملة بليغة: "النظام السوري يستطيع أن يدفع الرجل للجنون كي يقبض من أمريكا ثمن إدخاله العصفورية" وفي الوقت الذي تبدو فيها سوريا وكأنها ستقبض ثمناً سياسياً ـ وربما مادياً كما أشارت تقارير صحفية ـ للإجراءات التي تتخذها على الحدود العراقية، يأتي من يعتقد بأنه يقدم خدمة جليلة لبلده بنفي كل ذلك، وليست الصحيفة وحدها من يفعل، بل تكررت هذه العقلية مرات ومرات، وعلى أكثر من لسان وفي أكثر من مناسبة، فوزير الإعلام السابق اعتبر قانون محاسبة سورية فارغاً ومضراً بالمصالح الأمريكية، ووزير الخارجية اعتبر ال 1559 تافهاً.
بواقعية سياسية، وبالنظر لكل ما جرى، يفرض علينا المنطق أن نستفيد حتى القطرة الأخيرة مما قاله كولن باول في الخامس من الشهر الماضي حين امتدح سوريا، وأكد أنها أصبحت مستعدة للتعاون مع الحكومة المؤقتة في العراق والتحالف الدولي لضمان أمن الحدود السورية العراقية. وقال أنه يشعر أن هناك موقفا جديدا من جانب السوريين للتصدي لهذه المهمة السياسية والعسكرية الصعبة. و السوريين بدؤوا يدركون أهمية التحرك لوقف أي عبور غير قانوني أو غير مرغوب فيه للحدود.
فبلد تجاوز معدل التزايد السكاني فيه معدل النمو الاقتصادي (2.6 و2.5 على التوالي) ويمتلك واحداً من أعلى معدلات البطالة (22%) لا يمكن له ألا يكون حكيماً، مثل أي رب أسرة يحتاج لحكمة أكبر كلما امتلك مالاً اقل وأبناء أكثر.
أذكر حادثة مضى عليها أكثر من عشر سنوات وكنت شاهد عيان عليها، فبعد مؤتمر مدريد ببضعة أشهر وفي جو ملئ بخطاب سوري جديد، يؤكد قرار سورية باعتماد السلام خياراً استراتيجياً، ومحاولات سورية لإظهار وجه إسرائيل المعرقل للسلام أمام العالم، عقد مؤتمر طبي في سورية، ورعى حفل افتتاحه توفيق صالحة عضو القيادة القطرية ورئيس مكتب النقابات آنذاك، وخلال إلقاء كلمته، (التي شرح فيها الموقف السياسي وأكد على الثوابت والرواسخ كما تقتضي العادة) حرك كلتا يديه بصرامة متوجها للصفوف الأمامية التي تضم وفوداً طبية من دول مختلفة، خاطب الضيوف بحزم مؤكداً: "اطمئنوا ـ رفاق ـ حتى لو ذهبنا لمئة مدريد ولألف مدريد، لن نوقع اتفاق سلام مع إسرائيل، إننا نقوم بتكتيك سياسي، بمناورة، وكل ما ترونه لا يؤثر على ثوابتنا الوطنية....."
كان أساتذة الرياضيات يعلموننا في الثانوية، أنه حين نكتشف نتيجة خاطئة أثناء حل المسألة وبغض النظر عن صحة مقدماتنا أو خطئها، علينا كي نوقف نزيف الدرجات ونخفف خسائرنا ما أمكن أن نثّبت نتيجة افتراضية ما رغم معرفتنا بخطئها، ونتابع حل المراحل التالية وفق الطريقة الصحيحة، وأننا سننال علامة أعلى كلما كان قرار التوقف مبكراً.
تبدو سورية الآن وكأنها تثبت نتيجة خاطئة لتتابع الحل على أسس صحيحة، لكن حتى هذه الأسس يشوش البعض عليها ـ ربما دون قصد ـ وهذا ما قد يكلفنا خسارة كل علامات السؤال، إن لم يكن علامة الرياضيات كلها.
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟